الفوز بالمراد في تاريخ بغداد

سليمان الدخيل

الفوز بالمراد في تاريخ بغداد

المؤلف:

سليمان الدخيل


المحقق: الدكتور محمّد زينهم محمّد عزب
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الآفاق العربيّة
الطبعة: ١
ISBN: 977-344-046-X
الصفحات: ٣٥٣

الحالة الإقتصادية فى بغداد

فى العصر العباسى الأول

١ ـ الثروة الزراعية.

٢ ـ مظار تقدم الصناعة.

٣ ـ النشاط التجارى.

٤ ـ الإدارة المالية.

٥ ـ المعاملات المالية والتجارية.

٦ ـ الدواوين المالية.

٢١
٢٢

الحالة الإقتصادية فى بغداد

فى العصر العباسى الأول

١ ـ الثروة الزراعية :

عنى الخلفاء العباسيون الأوائل بتنمية الثروة الزراعية فى منطقة بغداد ، فعملوا على تيسير الرى حتى يتمكن الزراع من زراعة الأرض دون جهد ومشقة ، من ذلك أنهم شقوا للترع وأقاموا المصارف وشيدوا القناطر ، ولما كانت الأرض الواقعة بين نهرى والفرات خصبة ، زاد إنتاجها بمد تحسين ريها.

استغل الخليفة المنصور نهر دجلة الغزير المياه ، فأمر بشق عدد من الجداول والترع تستمد مياهها منه ، تيسر رى الأراضى القريبة منه مثل قناة دجيل ، كما أحسن أستغلال نهر الفرات ـ على الرغم من قلة مياهه ، وذلك بإقامة قناة تخذ من كرخايا ـ إحدى روافد الفرات ـ وتجرى فى عقود وثيقة من أسفلها محكمة بالآجر من أعلاها ، وتنفذ فى أكثر شوارع بغداد صيفا وشتاءا ، وصممت بحيث لا ينقطع ماؤها فى وقت من أوقات السنة ، كما أمر المنصور بشق قناة تجرى إلى الكرخ وما اتصل به ، سميت نهر الدجاج ، ونهر يسمى نهر طابق ، ونهر عيسى الأعظم الذى يستمد معظم مائه الفرات ، ويتفرغ منه أنهار تحترق بغداد ـ ومن بينها الصراة ـ ويصب فى دجلة (١). وكذلك شق المنصور فى الرصافة نهر المهدى (٢). وكان لتوفر المياه فى منطقة بغداد أكبر الأثر فى وفرة إنتاجها الزراعى.

__________________

(١) ياقوت : معجم البلدان ج ٢ ص ، ٢٣٦

(٢) اليعقوبى : البلدان ص ، ٣٥٣

٢٣

واستخدم العباسيون الأسلوب العلمى فى الزراعة ، فدرسوا الوسائل التى تؤدى إلى خصوبة الأرض ، وأنواعه النباتات ، ونوعية التربة التى تصلح لكل نبات (١) ، ورشحت المستنقعات بنظام دقيق (٢).

كانت أرض العراق من الناحية القانونية ملكا للدولة ، وأبقاها الخلفاء فى أيدى أصحابها يزرعونها ويؤدون خراجا عنها ، وقد حرص الخلفاء العباسيون على عدم اثقال كاهل الأهلين بضريبة الأرض الأمر الذى شجعهم على بذل الجهود لزيادة إنتاج الأرض ، وبذكر الجهشيارى (٣) أن الخليفة المهدى نهى عمال الخراج عن التعسف وإلحاق الجور بالمزارعين وكان الوالى الذى يلحق الأذى بأهل الخراج يعزل أو يعاقب (٤).

وكانت الحكومة تمتلك أرضا آلت إليها من الأمويين الذين صودرت أملاكهم ، أو مات أصحابها دون أن يتركوا من يرثهم ، أو أراضى صادرها الخلفاء عقوبة لأصحابها ، وأرض الدولة هذه يقطعها الخلفاء إلى رجال يثقون بهم ، أو ممن أدوا خدمات جليلة لأمتهم ، وقد عمروا هذه الإقطاعات ، وسميت بأسمائهم ، من ذلك أن المنصور أقطع العباس بن محمد بن على الجزيرة بين الصراتين ، فجعلها العباس بستانا ينمو فيه مختلف الزروع ، ولا تنقطع غلاتها صيفا ولا شتاءا ، وسميت بالعباسية (٥) ، وأقطع المأمون وزيره الحسن بن سهل الصلح ، وهى كورة فوق واسط لها نهر يتفرع من دجله على الجانب الشرقى يسمى فم الصلح (٦).

ولم يكن إقطاع الأرض مقصورا على الخليفة وحده ، بل إن صاحب الأرض الواسعة كان يقطع أحيانا بعض المزارعين جزءا من أرضه فيقومون بزراعتها.

__________________

(١) حسن إبراهيم حسن : تاريخ الإسلام السياسى ج ٢ ص ، ٣٠٧

(٢) سيد أمير على : مختصر تاريخ العرب والتمدن الإسلامى ص ، ٣٦٤

(٣) الوزراء والكتاب ص ، ١٤٣

(٤) الجهشيارى : الوزراء والكتاب ص ، ٢١٩

(٥) اليعقوبى : البلدان ص ، ٢٥٩

(٦) الطبرى : تاريخ الأمم والملوك حوادث سنة ٢٢١ ه‍.

Hitti : Hist. of the Arabs p. ٠٤٣.

٢٤

ويمدهم بما يحتاجون إليه من مواد وأدوات فى الزراعة ، وييسر لهم سبل الرى ، ويمنحهم جزءا من المحصول ، ويقوم المقطع بأداء الخراج عن الأرض المقطعة بواقع العشر فقط ، وتظل الأرض ملكا له يتوارثها أبناؤه من بعده (١).

وقد يحدث أحيانا أن يرغب صغار ملاك الأراضى الزراعية فى الإفلات من عبء الخراج العادى ، فدونوا ضياعهم مع ضياع كبار ملاك الأراضى الأقوياء ، فكانوا يدفعون عنها العشر فقط ، كما هو الحال فى الإقطاعات ، على أن هذا التصرف لم يمنعهم من ممارسة حقوق ملكياتهم لأراضيهم ، فظلوا يتبايعونها ويتوارثونها ، وإن كانت بأسماء كبار الملاك المدونة مع ضياعهم (٢) ، فالجهشيارى (٣) يذكر أن رجلا من أهل الأهواز قدم إلى أبى أيوب الموريانى ـ وزير المنصور ـ وقال له : إن ضيعتى بالأهواز قد حمل على فيها العمال ، فإن رأى الوزير أن يعيرنى اسمه أجعله عليها مقابل قدر من المال ، فوافق الوزير على أن يهب اسمه للرجل.

شاع نظام الضمان على جباية الخراج ، فكان على الضامن أن يقدم للحكومة مبلغا معينا من المال سبق أن اتفق مع الحكومة عليه ، وإذا ما أخل الضامن بالتزامه ، فإن الحكومة تفرض عليه عقوبات ، وقد ألحق الضمان ضررا كبيرا بأهل الخراج من المزارعين وبالأرض ، لأن الضامن كان يلجأ فى بعض الأحيان إلى استخدام العنف للحصول على المال المحدد بالضمان فيسلمه إلى الحكومه فضلا عن الربح الذى يحرص على جمعه من أهل الخراج ، فيضر ذلك بهم ، فيخربوا ما عمروا (٤).

وكانت المزارع سيحا أو بواسطة الآلات الرافعة ، وأكثر هذه الآلات شيوعا ، الدالية والناعورة والدولاب (الساقية) قالدالية دولاب يجره ثور أو بقرة ، أما

__________________

(١) أبو يوسف : الخراج ص ، ٣٣

(٢) عصام الدين عبد الرءوف : تاريخ الإسلام فى جنوب غرب أسيا فى العصر التركى ص ، ١٨٢

(٣) الوزراء والكتاب ص ، ١١٨

(٤) أبو يوسف : الخراج ص ، ٦٠

٢٥

الناعورة دولاب يديره تيار النهر ، والدولاب أكثر الثلاثة تعقيدا يديره حصان أو ثور (١).

وتقع بغداد فى منطقة خصبة ، تضم قرى تنمو وتزدهر فيها الكثير من الغلات ، وشجع توفر المياه أهل بغداد على غرس النخيل الذى حمل من البصرة ، حتى صار فى بغداد أكثر منه فى البصرة والكوفة ، كما غرسوا الأشجار ، وأنتجت أجود الثمار ، وانتشرت الحدائق والبساتين فى كل ناحية من نواحى بغداد (٢).

وازدهرت قرى بغداد التى توفر فيها المياه ، فكانت بلدة المحول التى تقع عند الموضع الذي يتفرع منه نهر الصراة ونهر عيسى بها سد على النهر الرئيسى ـ عيسى الأعظم ـ لتنظيم المياه فيه ، وتقسيمها بين فرعى الصراة وعيسى الذين ينحدران شرقا إلى بغداد ، لذا اشتملت على البساتين الرائعة التى تنمو فيها مختلف المزروعات (٣) ويذكر الأصطخرى (٤) أن بادوريا ـ إحدى قرى بغداد ـ كانت خصبة الأرض غنية بمزارعها لحسن ريها ، وجودة أرضها.

ومن المزروعات التى أنتجتها بغداد الحنطة والشعير والتمر والأرز والفواكه كالعنب والمشمش ، والخضروات والرياحين وأنواع الأزهار كالنرجس والياسمين والورد ، وكذلك الجوز والموز واللوز والقرنفل (٥) وكان ببغداد سوق البطيخ يباع فيه الفواكه (٦) وجلب إلى بغداد النارنح من الهند ، وحسنت زراعته فيها.

٢ ـ مظاهر تقدم الصناعة :

عنى الخلفاء العباسيون بتحسين الصناعات فى بغداد وتيسير أمرها للعاملين

__________________

(١) الدورى : تاريخ العراق الاقتصادى ص ، ٥١

(٢) اليعقوبى : البلدان ص ، ٢٩٣

Hitti : Hist. of the Arabs p. ٠٤٣

(٣) ياقوت : معجم البلدان ج ٤ ص ، ٢١٤

(٤) المسالك والممالك ص ، ٨٥

(٥) الدورى : تاريخ العراق الاقتصادى ص ، ٥٣

(٦) اليعقوبى : البلدان ص ، ٢٦٤

٢٦

فيها ، فشيد الخليفة المعتصم مصانع فى بغداد لصناعة الصابون بالدهون والعطور ، وكانت بغداد تنتج أنواع الزيوت (١). كذلك أنشأ العباسيون مصنعا للورق فى بغداد ، وجلبوا له الصناع وأرباب الحرف من مصر التى اشتهرت بهذه الصناعة منذ وقت بعيد (٢) ، وكان ببغداد عدد كبير من المصانع حتى قيل أنه كل بها أربعمائة رحى مائية وأربعة آلاف معمل لصنع الزجاج ، وبضعة آلاف معمل لصنع الخزف ، وكان لكل صناعة سوق خاص (٣).

وازدهرت فى بغداد صناعة الأدوات الجديدية والخشبية المختلفة فى سوقى الحدادين والنجارين ، كذلك كانت تصنع السفن والقوارب فى بغداد سواءا الحربية أو التجارية أو الترفيهية. ويذكر الطبرى (٤) أن الأمين أمر بعمل خمس حراقات فى دجلة على خلقة الأسد والفيل والعقاب والحيه والفرس ، وأنفق فى عملها مالا عظيما ، كما ابتنى سفينة عظيمة أنفق على بنائها ثلاثة آلاف درهم ، واتخذ أخرى على شكل دأبه بحرية قيل إنها تنقذ الغريق أسمها الدلفين.

وتقدمت صناعة حياكة الثياب الحريرية والقطنية والأقمشة بأنواعها فى بغداد ، وكان ببغداد سوق للبزازين ، ويباع فيه بالإضافة إلى الأقمشة والمنسوجات ، للعمائم الدقيقة من صنع بغداد والمناديل ، وكان السقلاطون وهو نسيج حريرى سميك ـ يصنع فى بغداد ، وفى محلة العتابية تصنع الثياب العتابية ، وهى ثياب مخططة تصنع من خيوط قطنية وحريرية (٥) ، وتقدمت صناعة البسط فى بغداد ، ويصنعونها من القطن والكتان (٦) ويذكر صاحب كتاب الفخرى (٧) أن الحسن بن

__________________

(١) الخطيب البغدادى : تاريخ بغداد ج ١ ص ٧٥ ـ Hitti : Hist.of the Arabs p.٠٤٣

(٢) مقدمة : ابن خلدون ص ، ٢٤٥

(٣) أمين زكى : كتاب عمران بغداد ص ، ٥٠

(٤) تاريخ الأمم والملوك ، حوادث سنة ١٩٨ ه‍.

وقال أبو نواس فى ذلك :

قد ركب الدلفين بدر الدجى

مقتحما فى الماء قد لججا

فأشرقت دجله فى حسنه

وأشرف الشطان واستبهجا

خص به الله الأمين الذى

أضحى بتاج الملك قد توجا

(٥) Hitti : Hist.of the Arabs p.٥٤٣.

(٦) الدورى : تاريخ العراق الاقتصادى ص ٩٣ ، ١٤١

٢٧

سهل ، فرش للخليفة المأمون يوم زواجه من ابنته بوران حصيرا منسوجا من الذهب ، وصنع للسيدة زبيدة زوجة الرشيد بساطا من الدبياح ، جمع صورة كل حيوان وطائر من جميع الأجناس ، وأنفقت عليه نحوا من ألف ألف دينار (١) وأتخذ المأمون فى قصوره ثلاثة آلاف وثمانمائة بساط منها ألف ومائتين مزركشه بالذهب (٢).

وأنشأ العباسيون فى بغداد ـ كما فعل الأمويون فى دمشق من قبل ـ دور الطراز ، فكانت تنقش أسماؤهم أو علامة مميزة تختص بهم على الأثواب التى يرتدونها ، وكذلك ملابس أجنادهم ورجال دولتهم ، وعليها شارة الخليفة أو لقبه وبعض عبارات الدعاء (٣) ، والكتابة تحاك بخيوط من الذهب أو من خيوط ذات ألوان زاهية وكان القائم بالنظر فى دور الطراز يسمى صاحب الطراز (٤) وهو ينظر فى أمور الصباغ والحاكة ، ويشرف على أعمالهم ويجرى عليهم أرزاقهم ، وتنتج دور الطراز البسط والثياب والأعلام والبنود والفرش ، ويستعملها الخليفة أو يمنحها لكبار عماله (٥).

واشتهرت بغداد بالصناعات الزجاجية ، أخذوها عن الفرس ، وبلغت درجة كبيرة من الدقة والأتقان ، وبلغ من مهارة الصناع أن الزجاج كانوا يرصعونه بالجواهر ويكتبون عليه بالذهب المجسم ويصنعون أقداحا بديعة الصنع.

كذلك ظهر فن الصناعة على المبانى ، فكان على الجدران والسقوف نقوش فى رسم ملون أو فسيفساء من ذهب ، وعلى دائر الأبواب كتابة من الزجاجة الملون ويحوطونها بخشب أسود من الأبنوس وغيره ، ويعلق الصناع رسوما من النحاس تمثل غصونا وثمارا أو أزهار إلى غير ذلك من الأشكال التى تؤكد براعة الصانع وذوقه الفنى ودقته ومهارته (٦).

__________________

(١) ابن طباطبا ص ، ٢٠٣

(٢) ابن الابشيهى : المستطرف ج ١ ص ، ٨٩

(٣) المدور : حضارة الإسلام فى دار السلام ص ، ٩٥

(٤) مقدمة ابن خلدون ص ٢١٠ ـ ، ٢١١

(٥) الدمبرى : حياة الحيوان الكبرى ص ، ٧٩

(٦) Hitti : Hist.of the Arabs p.٥٤٣

٢٨

٣ ـ النشاط التجارى :

لم يأل الخلفاء العباسيون جهدا فى سبيل تشجيع التجارة على اعتبار أنها مصدر هام من مصادر الثروة.

وكانت التجارة داخل بغداد مركزها الأسواق ، وقد حرض الخليفة المنصور عند تأسيس مدينة بغداد على انعاش الحالة التجارية فيها فأمر المشرفين على تشييدها أن يراعوا فى تخطيط المدينة ما يحتاجه كل ربض من أسواق وحوانيت ، وأن يتوسعوا فى إنشاء الحوانيت ليكون فى كل ربض سوق جامعة تجمع التجارات ، «وكان لكل نوع من التجارة شوارع معلومة وصفوف فى هيئة الشوارع وحوانيت ، وليس يختلط قوم بقوم ولا تجارة بتجارة ، ولا يباع صنف مع غير صنف ، ولا يختلط كل فئة من التجار بغيرهم ، وكل سوق مفرده وكل أهل منفردين بتجارتهم» (١).

ازدهرت التجارة فى أسواق بغداد حتى أن الكبش كان يباع بدرهم والحمل بأربعة دوانق ، وينادى على لحم الغنم كل ستين رطلا بدرهم ، ولحم البقر كل تسعين رطلا بدرهم ، والتمر كل ستين رطلا بدرهم ، والزيت ستة عشر رطلا بدرهم ، والسمن ثمانية أرطال بدرهم ، والعسل عشرة أرطال بدرهم ، ولهذا الأمن والرخص كثر سكان بغداد ، وكثر الدارج فى أسواقها ، حتى أن المار لا يستطيع أن يجتاز أسواقها لكثرة زحام أهلها (٢).

على أن المنصور لم يلبث أن أمر التجار بالخروج من المدينة ، كما سبق أن أوضحنا ـ وأمر ببناء سوق للتجار ما بين الصراة ونهر عيسى (٣) ، وشيد بحيث يكون صفوفا ، ورتب كل أهل تجارة فى موضع ، وأمر بجعل سوق القصابين فى آخر السوق لأن فى أيديهم الحديد (٤). وهذا السوق الجديد يعرف بالكرخ ، وكان

__________________

(١) اليعقوبى : البلدان ص ، ٢٣٠

(٢) ابن كثير : البداية والنهاية ج ١٠ ص ، ٩٩

(٣) ياقوت : معجم البلدان ج ٧ ص ، ٢٢٣

(٤) اليعقوبى : البلدان ص ، ٢٥٠

٢٩

يباع فيها مختلف البضائع ، ولقد أعفا المنصور التجار من الضرائب تحقيقا عليهم ، وتشجيعا لهم على مواصلة عملهم ، ولما استخلف المهدى فرض الضرائب على الحوانيت (١) ، وبمرور الزمن كثر التجار فى الكرخ ، وضاق بهم ، فبنى التجار أسواقا من أموالهم حتى اتسع الكرخ (٢).

وكانت التجارة فى الرصافة تتركز فى محلة باب الطاق فى طرف الجسر المركزى ، ومن ساحة هذا الجسر يتفرع سوقان ، سوق الأساكفة وسوق الطيب حيث تباع العطور والزهور ، ويلى هذا السوقان سوق الخبازين وسوق القصايين ، وسوق الصاغة وسوق الوراقين (٣) وظلت التجارة مزدهرة فى هذه الأسواق حتى عهد الأمين فتعطلت بسبب الحصار ، وفى بداية عهد المأمون ارتفعت الأسعار بسبب الأضطرابات التى حدثت داخل بغداد.

كانت بغداد ملتقى التجارة فى العصر الساسانى ، وازدهرت التجارة فيها بعد تأسيسها مباشرة ، فقد سكنها أناس من مختلف الأمصار ، وآثارها السكان الجدد على أوطانهم «فليس من أهل بلد إلا ولهم فيها محلة ومتجر ومتصرف ، فاجتمع بها ما ليس فى مدينة أخرى» وأدى موقعها التجارى الممتاز ، وجريان دجله والفرات فى حافتيها إلى أن كانت التجارة تأتيها برا وبحرا بأيسر السبل حتى أجتمعت بها بضائع المشرق والمغرب من أرض الإسلام وغير أرض الإسلام ، فتأتيها التجارة من الهند والسند والصين والتبت وبلاد ما وراء النهر والترك والخزر والحبشة وسائر البلدان (٤).

ومن أسباب اختيار المنصور لموقع بغداد حاضرة لدولته موقعها التجارى ، رآها جزيرة بين دجلة والفرات ، دجلة شرقيها والفرات غربيها فتأتيها من دجلة تجارات واسعة ، من البصرة والأبلة والأهواز وفارس وعمان والبحرين واليمامة وما

__________________

(١) ياقوت : معجم البلدان ج ٧ ص ، ٢٢٣

(٢) Le Strang : Hist.of Baghdad p.١٨١.

(٣)

Ibid pp.١٧٢ ـ ٢٧٢.

John Glubb : The Empire of the Arabs, p ٠٣٣.

(٤) اليعقوبى : البلدان ص ، ٢٣٤

٣٠

يتصل بذلك ، وكذلك ما يأتى من الموصل وديار ربيعة وأذربيجان وأرمينية مما يحمل فى السفن فى دجله ، ويأتى من ديار مضر والرقة والشام والثعور ومصر والمغرب مما يحمل فى السفن فى الفرات من أهل الجبل وكور خراسان وأصفهان (١).

خرجت من بغداد رحلات تجارية من مختلف البلدان ، وبرز رحاله يسروا للناس أمر الوصول إلى البلدان المختلفة ، فابن خرداذبه وضع دليلا للمسافرين وصف فيه الطريق البحرى الذى يبدأ من مصب دجلة عند الأبله ، وينتهى إلى بلاد الهند والصين (٢).

وكانت رحلات العرب البحرية تبدأ من بغداد وتسير فى الخليج الفارسى حتى تصل إلى شبه جزيرة ملقا (الملايو) وكانوا يمرون بعدة موانى تمكنهم من إبتياع بضائع الهند والصين وغيرها (٣). وجدير بالذكر أن طرائف الصين كانت تباع فى سوق خضير بالرصاقة.

ويتفرع من بغداد طرق تجارية أبرزها طريق شرقى الى حلوان ومنها إلى إيران وأواسط آسيا ثم البصرة وطريق شمالى إلى الموصل والجزيرة وطريق جنوبى إلى واسط ثم البصرة وطريق جنوبى غربى إلى الكوفه ومنها إلى الجزيرة العربية حيث ينتهى عند الحجاز ، وطريق غربى إلى الرحبه ومنها إلى سوريه فمصر (٤).

قلنا إن التجار حملوا السلع من مختلف البلدان إلى بغداد فحملوا الحديد من خراسان والرصاص من كرمان والآنيه والتوابل من الهند والنسيج الملون من كشمير ، والعود والمسك وسائر العطور من الصين ، والعطر وأنواع الطيب من اليمن ، ومن إفريقية الذهب والأبنوس ، والكافور والعود والثياب والقطنية من السند ، ومن سرنديب اليواقيت المختلفة ، والماس والدر واللؤلؤ والمرجان من

__________________

(١)

Heyd : Hist du commerce de Levant au Moyen Age. I. p. ٧٢.

(٢) اليعقوبى : البلدان ص ، ٢٥٣

(٣) المصدر السابق ص ، ٢٥٣

(٤) Hitti : Hist.of the Arabs p.٥٤٣.

٣١

سواحل الخليج ، والجلود والرقيق من بلاد الروم ، والسلاح والحديد والجلود من بلاد الروس (١) ، وكانت السفن تأتى إلى بغداد محملة بالبضائع خصوصا الدقيق والخضراوات من سورية فى الفرات ثم تسلك نهر عيسى إلى بغداد (٢). ومن بلاد ما وراء النهر كانت بغداد تشترى القطن والمنسوجات الحريرية والملابس الصوفية والفرو والرقيق التركى والأسلحة والكاغد ، ومن أرمينية البسط والطنافس والسجاد وثياب الكتان والثياب الرقاق والطيالس من الصوف والقلانس (٣).

واشتهرت شمال فارس بجودة فواكهها ، وبصفة خاصة مرو التى كانت تنتج أجود أنواع البطيخ (٤) ، وكان يقدم ويحمل إلى العراق وكان يحمل هذا النوع من البطيخ إلى الخليفة المأمون ثم إلى الواثق فى قوالب الرصاص المعبأة بالثلج (٥).

وكان التجار فى عداد الطبقة المتوسطة ، لذلك أنف من الاشتغال بها عليه القوم ، فلما اعتزم يحيى بن خالد البرمكى الاشتغال بالتجارة واتصل ببعض التجار لهذا الغرض ، قال له أحدهم : أنت رجل شريف وابن شريف وليست التجارة من شأنك (٦) وكان وزير المعتصم محمد بن عبد الملك الزيات أبوه تاجرا موسرا ونشأ محمد وتأدب وكان ذكيا فبرع فى كل شىء ، وكان يقول : الحمد لله الذى نقلنى من ذل التجارة إلى عز الوزارة (٧)

٤ ـ الإدارة المالية :

حرصت الدولة العباسية على تحقيق التوازن بين مواردها ومصروفاتها ، ومن أهم الموارد الثابتة لبيت المال الجزية والخراج والمكوس.

١ ـ الخراج : هو ضريبة الأرض ، ويحدد طبقا للمحصول التى تنتجه الأرض ،

__________________

(١) المدور : حضارة الإسلام فى دار الإسلام ص ، ١١٦

(٢) اليعقوبى : البلدان ص ، ٢٥٠

(٣) الجاحظ : التبصر بالتجارة ص ٣٤٤ ـ ، ٣٤٦

Hitti : Hist. of the Arabs p. ٣٤٣.

(٤) الثعالبى : لطائف المعارف ص ، ١٢٩

(٥) محمد جمال الدين سرور : تاريخ الحضارة الإسلامية فى الشرق ص ، ١٢٨

(٦) الجهشيارى : الوزراء والكتاب ص ، ١٨٦

(٧) الجهشيارى : الوزراء والكتاب ص ، ٢١٣

٣٢

ونوع التربة. وطريقة ريها ، ونوع الزرع ، ومساحة الأرض ، وكانت سياسة عمر ابن الخطاب. كما رأينا من قبل ـ عدم تقسيم الأرض بين الغزاة الفاتحين ، فتركها فى يد أهلها يزرعونها يؤدون خراجها ، وقال : قد رأيت أن أحبس الأرضين بعلوجها ، وأضع عليهم فيها الخراج ، وفى رقابهم الجزية يؤدونها فتكون فيئا للمسلمين المقاتلة والذريه ولمن يأتى من بعدهم ، والمقاتلة الذين يذودون عن الثغور ويعسكرون فى المدن الكبرى وقال : فمن أين يؤتى هؤلاء إذا قسمت الأرضون والعلوج؟ (١). ويقول أبو يوسف (٢) : إن ما رآه عمر بن الخطاب من جمع خراج ذلك وقسمته بين المسلمين عموم النفع لجماعتهم ، لأن هذا لو لم يكن موقوفا على الناس فى الأعطيات والأرزاق لم تشحن الثغور ولم تقو الجيوش على السير فى الجهاد ، ولما أمن رجوع أهل الكفر إلى مدنهم إذا خلت من المقاتلة والمرتزقة.

عنى المنصور عناية كبيرة بالخراج ، فراقب عمال الخراج مراقبة شديدة وأمرهم ألا يقبلوا من الناس إلا النقد الموثوق بسلامته ونفاوته لمن يدفع نقدا ، والمكيال الصحيح لمن يؤدى الخراج عينا (٣) ولضبط الخراج العينى استحدث كيلا جديدا ، وأدخل المهدى نظاما جديدا فى جباية الخراج ، فبعد أن كان الخراج يؤدى على حسب مساحة الأرض ، بصرف النظر عن نوع المحصول وطرق الرى ، قرر المهدى إدخال نطام المقاسمة ، وبمقتضاه كانت الدولة تقاسم المزارعين المحصول بنسب معينة بغض النظر عن مساحة الأرض. وقد حدد المهدى نسبة المقاسمة بمقدار نصف المحصول (٤).

ومما لا شك فيه أن نظام المقاسمة ضمن للدولة الحصول على نصيبها من الخراج بعد تحديده ، وأراح الناس ، فنشطوا فى زراعة الأرض وأطمأنوا على

__________________

(١) أبو يوسف : الخراج ص ، ١٤

(٢) الخراج : ص ، ١٥

(٣) البلاذرى : فتوح البلدان ص ، ١٤٦٩

(٤) الفخرى فى الآداب السلطانية ص ، ١٩٨

٣٣

أحوالهم المعيشية بعكس نظام المساحة الذى كان يضر ببعض الزراع لأنه يفرض عليهم خراجا على الأرض زرعت أو لم تزرع.

كانت دواوين الخراج فى الدولة تقوم مقام خزائن الدولة ، فتستوفى من مال الخراج النفقات وأعطيات الجند ، ثم يحمل ما تبقى إلى بيت المال العام بمدينة بغداد ، ولذلك فإن بيت المال فى بغداد لم يكن يعنى إلا بدار الخلافة وحاجاتها وبشؤون الدواوين (١).

انتظم الخراج فى عهد الرشيد بعد الإصلاحات التى استحدثها البرامكة فى الزراعة والرى ، كما شعر الزراع بالأمان بعد أن نظر البرامكة فى ظلماتهم ، وألغوا المبالغ المتأخرة على الزراع العاجزين عن السداد وقد أوصى القاضى أبو يوسف الرشيد بأن تقوم الدولة بحفر الترع والقنوات وتيسير سبل الرى (٢). وكان الرشيد لا يتهاون مع عمال الخراج الذين يلحقون الأذى بالأهلين ، ويحملونهم فوق طاقتهم.

ظل نظام المقاسمة معمولا به حتى ولى الرشيد الخلافة فخفض المقاسمة بحيث أصبحت فى السواد ، كما حددها القاضى أبو يوسف (٣) على الحنطة والشعير خمسين والنخل والكروم والرطاب والبساتين الثلث ، وأما غلال الصيف فعليها الريع ، وتكون المقاسمات فى أثمان ذلك بعد تحديد قيمتها تحديدا عادلا لا يكون فيه إحجاف بأهل الخراج ، وظل الحال كذلك حتى أيام المأمون إلا أنه آحدث كيلا جديدا فى تقدير الخراج (٤).

وأما القطائع فيحدد خراجها تبعا لطريقة ريها فما كان ريها سيحا فعليها العشر ، وما سقى منها بالدلو أو بمشقة نصف العشر ، ويعفى بعض أنواع المحاصيل مثل الخضروات والبطيخ ، وما يكال الفقير ويوزن بالأرطال فهو مثل الحنطة والشعير

__________________

(١) متز : الحضارة الإسلامية ج ١ ص ، ١٤٣

(٢) أبو يوسف : الخراج ص ، ٢٧

(٣) أبو يوسف : الخراج ص ٢٧ ـ ، ٢٨

(٤) ابن كثير : البداية والنهاية ج ١٠ ص ، ٢٥١

٣٤

والذرة والأرز والحبوب والسمسم ، إذ عليه العشر إذا كان ريه سيحا ونصف العشر إذا كان ريه بمشقة (١).

وأما الإقطاعات التى كانت فى الأصل صوافى ـ وهى أرض كانت لكسرى ومرازبته وأعوانه وأنصاره ، أو التى فر أصحابها أو قتلوا فى الحرب وآلت إلى الدولة الإسلامية ـ فكان عمر بن الخطاب يقطعها لمن له مواقف فى الإسلام ، وعليها العشر ، ويلزم صاحب الأقطاع تيسير أمر ريها وإصلاحها ، ومن الناحية النظرية كان كل من يعتنق الإسلام تصبح أرضه أرض عشر بعد أن كانت أرض خراج (٢).

٢ ـ الجزية : الجزية واجبة على جميع أهل الذمة ، وتجب على الرجال منهم دون النساء والصبيان ، على الموسر ثمانية وأربعون درهما وعلى الوسط أربعة وعشرون ، وعلى المحتاج الكادح اثنى عشر درهما ، يؤخذ منهم ذلك فى أول كل سنة قمرية ، ولا تؤخذ الجزية من المسكين الذى يتصدق عليه ولا من أعمى لا حرفة له وكذلك المترهبون فى الديارات إذا كانوا فقراء ، ولا تؤخذ من الشيخ الكبير الذى لا قدره له على العمل.

وكان ولاة الخراج فى العراق يبعثون رجالا من قبلهم ينقون بدينهم وأمانتهم ، يأتون القرية فيأمرون صاحبها بجمع من كان فيها من اليهود والنصارى والمجوس والصابئين والسامرة ، فإذا جمعوهم أخذوا منهم الجزية على قدر طاقاتهم (٣).

٣ ـ الضرائب التى تفرض على تجار أهل الذمة وتسمى المكوس وقد حددت بمقدار ٢٠ / ١ من قيمة بضائع التجار ، إن كانوا يقيمون فى الدولة الإسلامية ، وتجبى مرة فى السنة ، بشرط أن تزيد قيمة التجارة عن عشرين دينار أو مائتى درهم ، وعشر قيمة بضائع التجار القادمين من خارج البلاد الإسلامية ، إن زادت

__________________

(١) أبو يوسف : الخراج ص ، ٢٨

(٢) المصدر السابق ذكره ص ، ٣٧

(٣) أبو يوسف : الخراج ص ، ٧٠

٣٥

القيمة على عشرين دينار أو مائتى درهم ، وكان جباة هذه الضريبة يتخذون أماكنهم فى طرق التجارة البرية والنهرية (١) ، ويمنح التاجر إيصالا بتأديته الضريبة يسرى لمدة سنة. وكان العراق كثير المراصد فى البر والنهر والبحر ، كذلك فرضت ضرائب على الأسواق وعلى الأوزان والمكاييل والطواحين ، ونظم الرشيد المراصد على الحدود ، وأمر بتفتيش التجار المارين بها تفتيشا دقيقا ، وعند ما حوصرت بغداد فى عهد المأمون ، عمد بعض قادة طاهر بن الحسين إلى فرض ضرائب على التجار (٢). وفرضت الدولة ضرائب على سك النقود فى دار الضرب بنسبة ١% عما يضرب بها من دنانير ودراهم (٣).

وكانت الدولة العباسية يرد إليها أموال من الدولة البيزنطية فى بعض السنوات التى تحرز انتصارات عليها ، فلما غزا الرشيد دولة الروم سنة ١٩٠ ه‍ طلب منه نفقور فوكاس ـ إمبراطور الروم ـ الهدنة مقابل جزية سنوية قدرها ثلاثمائة ألف دينار سنويا ، فوافق الرشيد (٤).

شكلت المصادرات موردا ماليا هاما ، فصادر الرشيد أموال البرامكة. فكانت ... ، ٦٧٦ ،. ٣ (٥) وصادرت أموال على بن عيسى بن ماهان ـ واليه. على خراسان ـ فكانت ... ، ... ، ٨٠ من الدراهم وصادر الأمين أموال أخيه المأمون وضياعه فى بغداد ونواحيها لما نشبت الفتنة بينهما (٦) ، وصادر المعتصم أموال وزيره الفضل بن مروان (٧).

تدفقت الأموال على بغداد فى العصر العباسى الأول بفضل استقرار الدولة الذى كفله لها الخليفه المنصور وخلفاؤه من بعده خصوصا الرشيد ، وامتلأ بيت المال بالذهب والفضة حتى بلغ دخل الدولة فى بعض السنوات المبكرة من الحكم

__________________

(١) سيد أمير على : مختصر تاريخ العرب ص ، ٢٦٢

(٢) البغدادى : تاريخ بغداد ص ، ٧٠

(٣) اليعقوبى : البلدان ص ، ١٢٢

(٤) ابن كثير : البداية والنهاية ج ١٠ ص ، ٢٠٣

(٥) الجهشيارى : الوزراء والكتاب ص ، ٢٣٥

(٦) المصدر السابق ذكره ص ، ٢٩٣

(٧) الفخرى فى الآداب السلطانية ص ٢١٢.

٣٦

العباسى خمسمائة ألف ألف درهم من الفضة وعشرة آلاف دينار من الذهب ما عدا الغلال والمصنوعات التى تشتهر بها البلاد العباسية (١) وجدير بالذكر أن المنصور خلف لأبنه المهدى قبل وفاته من الأموال ما إن كسر عليه الخراج عشر سنين كفاه لأرزاق الجند ، وسائر النفقات ، وكان ما خلفه فى بيت المال أربعة عشر ألف ألف دينار وستمائة ألف ألف درهم (٢). وبلغ دخل الدولة فى عهد الرشيد خمسة آلاف ألف دينار ، ومن الدراهم أربع مائة ألف ألف وأربعة آلاف ألف وسبع مائة وثمانية آلاف درهم (٣).

حرص الخلفاء العباسيون على التمييز بين أموالهم الخاصة والأموال العامة.

فلما شعر المنصور بدنو أجله ، استدعى ابنه المهدى وقال له : على دين أحب أن تقتضيه وتضمنه قدره ثلاثمائة ألف درهم ونيف وليست أستحلها من بيت المال ، فاضمنى عنها (٤).

كانت الدولة تنفق الموارد السابق ذكرها فى دفع أجور العمال والموظفين وقد بلغ رزق كل كاتب من رؤساء الكتاب ٣٠٠ درهم شهريا (٥) والكاتب المبتدئ عشرة دنانير (٦) وكاتب ديوان القضاء والجند ٢٠٠ درهم ، وأنفق المنصور أموالا طائلة فى تشييد مدينة بغداد ، وحدد أجور الموظفين والعمال الذين عملوا فى بنائها ، وبعد تشييدها مثل أئمة المساجد والمؤذنين الذين عملوا فى مساجد المدينة ، وكذلك الكتاب الذين اشتغلوا فى دواوينها (٧).

وكان الخلفاء يفرقون الأموال الكثيرة على أفراد البيت العباسى حتى أن المنصور أطلق فى يوم واحد لبعض أعمامه ألف ألف درهم ، وفى هذا اليوم فرق

__________________

(١) المسعودى : مروج الذهب ج ٢ ص ، ٢٤٣

(٢) الجهشيارى : الوزراء والكتاب ص ، ٢٨٨

(٣) الجهشيارى : ص ٢٨٢ وما بعدها :

(٤) الطبرى : تاريخ الأمم والملوك حوادث سنة ١٥٨ ه‍.

(٥) ابن كثير : البداية والنهاية ج ١٠ ص ، ١٠٠

(٦) الجهشيارى : الوزراء والكتاب ص ، ١٢٦

(٧) المصدر السابق ذكره ص ، ١٣٩

٣٧

فى بيته عشرة آلاف درهم (١) وازداد عدد أفراد البيت العباسى فى عهد المهدى ، فحدد لهم رواتب ومخصصات بلغت ستة آلاف درهم فى السنة غير المنح والهبات واستمر هذا الوضع من بعده ، وكان للخليفة حرس خاص من أهل بغداد لهم رواتب كبيرة (٢).

أنفق الخلفاء أموالا جليلة فى المنح والهبات والعطايا للأدباء والشعراء والعلماء والندماء ومن يلوذبهم من ذوى الحاجة.

كانت الدولة تنفق أموالا باهظة فى إعداد الجيوش وتجهيزها بالمؤن والعتاد ، ففى سنة ١٥٤ ه‍ أعد المنصور جيشا بقيادة يزيد بن حاتم ، وأمره بقتال الخوارج فى إفريقية وأنفق على هذا الجيش نحوا من ثلاث وستين ألف درهم (٣) ، وفى سنة ١٦٥ ه‍ جهز المهدى ولده الرشيد لغزو الروم ، وأعد له من النفقة مائة ألف دينار ، وأربعة وتسعون ألف دينار ، وأربعمائة وخمسون دينارا ، ومن الدراهم إحدى وعشرون ألف ألف وأربعمائة ألف وأربعة عشر ألفا وثمانمائة درهم (٤) وفى سنة ١٩٥ ه‍ عقد الأمين لعلى بن عيسى بن ماهان الأمارة على الجبل وهمذان وأصبهان وقم وتلك البلاد ، وأمره بحرب المأمون (٥) ، وجهز معه جيشا كثيرا ، وأنفق فيه نفقات عظيمة ، وأعطاه مائتى ألف دينار ولولده خمسين ألف دينار ، وفى سنة ٢٢٢ ه‍ جهز المعتصم جيشا كثيفا مددا الأفشين على محاربة بابك الخرمى ، وبعث إليه ثلاثين ألف ألف درهم نفقة للجند (٦).

كذلك كان العباسيون يعملون على استرضاء بعض الثائرين خصوصا ـ العلويين بالمال. ليكفوا عن مناوأة الدولة ، فأطلق الرشيد من بيت المال أربعمائة

__________________

(١) ابن كثير : البداية والنهاية ج ١٠ ص ، ١٢٦

(٢) البغدادى : تاريخ بغداد ج ٥ ص ، ٣٩٣

(٣) ابن كثير : البداية والنهاية ج ١٠ ص ، ١١١

(٤) المصدر السابق ج ١٠ ص ، ١٤٧

(٥) المصدر السابق ج ١٠ ص ، ٢٢٦

(٦) المصدر السابق ج ١٠ ، ٢٨٣

٣٨

ألف دينار ليحيى بن عبد الله العلوى (١) وأوصى المأمون أخاه المعتصم بالعلويين خيرا ، وأن يواصلهم بصلاتهم فى كل سنة (٢).

وكان الخلفاء العباسيون ينفقون الأموال الجزيلة على أهل مكة والمدينة. ففى سنة ١٦٠ ه‍ حج المهدى ، وفرق فى أهل مكة والمدينة ثلاثين ألف ألف درهم ومائة ألف ثوب ، ورد من مصر ثلاثمائة ألف دينار ومن اليمن مائتا ألف دينار ، فأعطاها كلها لأهل مكة والمدينة (٣).

وكانت الدولة تكافأ قوادها الذين أظهروا براعة وشجاعة فى التغلب على أعدائها ، فالخليفة المعتصم كافأ الأفشين عقب انتصاره على بابك وأسره والقضاء على ثورته بأن قلده وشاحين من جوهر ، وأطلق له عشرين ألف ألف درهم ، وكتب له بولاية السند (٤).

وكان تأخر رواتب الجند من الأمور التى تحدث الاضطرابات والقلافل فلما خلع أهل بغداد بيعة المأمون سنة ٢٠٢ ه‍ وبايعوا إبراهيم بن المهدى ، طلب منه الجند أرزاقهم فماطلهم ثم أعطى لكل واحد منهم مائتى درهم ، وكتب لهم بتعويض من أرض السواد ، فخرجوا إلا يمرون بشئ إلا انتهبوه ، وأخذوه حاصل على الفلاح والسلطان (٤).

حرص الخلفاء العباسيون على تحسين أحوال الدولة المالية ، فعرف عن المنصور الخبرة الواسعة فى إدارة المال (٥) حتى أنه فرض رقابة شديدة على عمال الخراج ، وأمرهم بعدم قبول الدنانير والدراهم من الناس إلا الموثوق بسلامتهما من الغش والتزييف ، وكان يقول : لو لا أن المال حصن للسلطان ودعامة للدين والدنيا ما بت ليلة وأنا أحرز منه دينارا ولا درهما لما أجد لبذل المال من اللذة ، ولما أعلم فى إعطائه من جزيل المثوبة (٦).

__________________

(١) المصدر السابق ج ١٠ ص ١٦٨

(٢) المصدر السابق ج ١٠ ص ٢٨١

(٣) المصدر السابق ج ١٠ ص ، ١٣٢

(٤) ابن كثير : البداية والنهاية ج ١٠ ص ، ٢٨٥

(٤) ابن كثير : البداية والنهاية ج ١٠ ص ، ٢٨٥

(٥) المصدر السابق ج ١٠ ص ، ٢٤٨

(٦) ابن كثير : البداية والنهاية ج ١٠ ص ، ١٢٩

٣٩

ومع حرص المنصور على المال إلا أنه كان ينفق الأموال الكثيرة فى تعمير البلاد وحماية الثغور وتحصينها وتجهيز الجيوش ، وقد عرف عنه الدقة الشديدة فى حسابات الدولة ، فأنفق فى بناء بغداد أربعة آلاف ألف وثمانى مائة وثلاثة وثلاثين درهما ، ولما فرقت حاسب القواد بما كان حول عليهم لعمارتها ، فألزمهم بالبواقى حتى استوفى من بعضهم ما أقتضاه الحساب خمسة عشر درهما (١) ، وكان يباشر بنفسه جميع العمال وأصحاب الحرف ويحدد لهم رواتبهم (٢).

ولم يكن المهدى كأبيه المنصور فى حرصه الشديد على المال ، بل عرف بسخائه ، وإجزاله والعطايا والمنح ، وعمل على تخفيف أعباء الناس المالية ، وأنتعشت الأحوال المالية فى عهد الرشيد بفضل كفاءة البرامكة وحسن إدارتهم للدولة ، وآخذت موارد الدولة المالية تتضاءل فى عهد الأمين بسبب الحروب التى نشبت بينه وبين أخيه ، وأنفقت الأموال الكثيرة فى إعداد الجيوش واستماله الأنصار كما أن بعض ولايات الدولة لم تعد تلتزم بإرسال ما عليها من أموال إلى بغداد فى خضم الفوضى التى عاشت فيها إبان الفتنه.

كفل المأمون للدولة الاستقرار والهدوء فتحسنت موارد البلاد المالية ، ولما ولى المعتصم الخلافة أنفق الأموال الكثيرة فى شراء الترك وإعدادهم للجندية ، ومع ذلك فقد حرص على المحافظة على حقوق الدولة المالية (٣) ، وأمر الواثق بعقوبة عمال الدواوين لاستخلاص الأموال منهم بعد أن ظهرت له خياناتهم ، وأخذهم أموال الدولة بدون وجه حق (٤).

٥ ـ المعاملات المالية والتجارية :

ظهرت بيوت مالية فى بغداد كانت تقوم مقام البنوك من تقديم القروض ، وإيداع الودائع ، والتوسط بين الناس ودار الضرب والإنجار فى المعادن النفيسة والنقود والسندات الممثلة للنقود ، وهذه البيوت المالية يمتلكها الجهابذة ، وكانت

__________________

(١) الفخرى فى الآداب السلطانية ص ١٤٥.

(٢) ابن كثير : البداية والنهاية ج ١٠ ص ٣٠٠.

(٣) المصدر السابق ذكره.

٤٠