الفوز بالمراد في تاريخ بغداد

سليمان الدخيل

الفوز بالمراد في تاريخ بغداد

المؤلف:

سليمان الدخيل


المحقق: الدكتور محمّد زينهم محمّد عزب
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الآفاق العربيّة
الطبعة: ١
ISBN: 977-344-046-X
الصفحات: ٣٥٣

الباب الثالث

فى دولة التركمان القوينلية

٢٦١

الفصل الأول

دولة قره قويونلى

قره قويونلى واق قوينلى (ومعناهما الخروف الأسود والخروف الأبيض) طائفتان من بادية الترك المعروفين بالتركمان. وكانت مساكنهم القديمة بلاد تركستان ثم تحولوا عنها فى زمن أرغون خان الملك إلى بلاد آذربيجان ثم طعنت طائفة قره قويونلى إلى نواحى أرزنكان وسيواس واستفحل فيها أمرهم وأما طائفة آق قوينلى فظعنت إلى ديار بكر واستولت.

فلنبدأ بالطائفة الأولى التى جاءت ديار العراق أى قره قوينلى. وقبل أن نشرع بالبحث يحسن بنا أن نذكر هنا حادثين وقعا فى نحو تلك السنين وأولهما الغلاء الذى وقع فى سنة ٨٣٤ ه‍ وكان سببه تتابع الحروب فأنه عم ديار بكر وماردين والموصل وبغداد وشهر زور وهمذان وأذربيجان وبلاد الروم (أسية الصغرى) وأضر بالخلائق ضررا عظيما.

وفى سنة ٨٣٥ ه‍ (١٤٣١ م) شمل الخراب من تبريز إلى بغداد وكان سببه الجراد الذى ظهر فى تلك الديار فإنه آكل الزروع حتى أوراق الأشجار ولم يبق شيئا ولم يذر وارتفعت أسعار الأطعمه أرتفاعا فاحشا حتى بيع رطل اللحم بنصف دينار ذهب ولحم الكلب بستة دراهم. ومن أغرب ما ذكر من وقائع هذه السنة ما أورده صاحب عمدة البيان قال ما حرفه «وطلق رجل زوجته فتزوجت قبل العدة ثم طلقت وتزوجت ثالثا فولدت ضفدعة بقدر الطفل» ولا يخفى ما فى هذه الحكاية من سوء التعبير فلو قال الكاتب أن المرأت ولدة أبنا مشوه الخلقة فيه بعض الشبه للضفدع لما كان على كلامه غبار وأما كلامه هذا بالصورة المذكورة

٢٦٢

فلا يخلو من غرابة بعيدة والله أعلم بحقائق الأمور. هذا فضلا عن أن المؤرخ لم يذكر محل الواقعة ولا فى أى بلاد وقعت.

وإذ قد قدمنا ما وقع من غرائب الأحداث نقول : أن دولة قره قوينلى نشأت تحت كنف الدولة الإيلخانية نشوء أمكنها من أن تحل محلها بعد عهد مقدر.

ففى عهد السلطان أويس كان بيرم خواجه وهو رأس جماعة البهارلية فى عدة مواقع. ولما مات هذا السلطان أخذ هذا الشيخ أى «بيرم خواجا» الموصل وسنجار وارجيش (أرجيش مدينة قديمة من نواحى أرمينية الكبرى قرب خلاط وأكثر أهلها أرمن نصارى وقد أغرقها مياه بحيرة وإن قيل ستين سنة وأراد ابنه محمد أن يستقل بالملك فلم يوفق فجاء بعده حفيده قره يوسف وشيد دولة على أنقاض الدولة الجلائرية كما اسلفنا الكلام عليه فى وقته.

قلنا قبيل هذا تملك الشاه محمد على بغداد والأن نزيد على ما تقدم أن ملكه دام فى الزوراء ثلاثا وعشرين فلما خرج على أخيه الأمير اسيان وردى بعض الكتاب المتاخرين كحبيب أفندى شيحا ومن أخذ عنه الأمير اسيان وهو خطأ شنيع خاف على حياته ففرها ربا إلى الموصل وهناك استنفر جيشا عرمرما وتهيا للحملة على بغداد وبينما هو على أهبة الزحف إذ بالأمير الحاج همذان هجم عليه واختاله سنة ٨٣٧ ه‍ (١٤٤٣ م ـ ١٤٣٤ م) وذلك على تخوم الشيخان. وكانت قد مضت سنة واحدة منذ أخذ الأمير اسيان بغداد فحكم عليها بدون معارض إلى وفاته التى وقعت فى نفس بغداد سنة (١٤٤٤ م ـ ١٤٤٥ م).

أما قره يوسف فأنه كان عظيم النفس كثير المطامع طامح البصر يؤذان لملك الدنيا كلها وتخضع له الأكابر والأصاغر ولهذا قضى أياما لم ير فيها راحة إذا كان لا يحلم شيئا إلا توسيع نطاق مملكته وتدويخ البلاد وارقاق العباد ولما كان يعلل نفسه بهذه الأمانى الأشعبيه حاول أن يحققها فذهب لمناجزة الشاه رخ بن تيمور وجيش لذلك جيشا جرارا إلا أن الله توفاه فى مدينة أجان مصيف المغول قرب

٢٦٣

تبريز سنة ٨٤٣ ه‍ ـ ١٤٤٠ م ولم يكن يومئذ بجانب المحتضر أحد من أبنائه ليختلفه فنهب عسكره كل خزائه ثم ما أعموا أن تفرقوا ايدى سبابل وتحت كل كوكب وتركوا جثه هامدة باردة عارية ليس عليها ما يستر عورتها فى مربط دواب ولم تدفن إلا بعد ثلاثة أيام. وكان قد أستوى على العرش مدة أربع عشر سنة.

فسبحان من يعامل الطامعين الطامحين معاملة يرجح عنها القلم حافيا نافيا وتكون عاقبتهم آية القوم يعقلون. وما أحرى بكل طامع أن يتمثل بقول عمر بن مالك الحارتى.

من كان منه الحرص يوما لحظه

يؤمل أن تاتيه منه رغائبه

فانى رأيت الحرص انكد سددت

عن النجح فى كل الأمور مذاهبه

موارده فيها الردى حياضه

وأن اترعت لم يحظ بالرى شاربه

وان هيجته المطمعات يجدنه

إلى انعى تحدى كل يوم ركائبه

فلم ارحضا لأمرى كقناعة

ولا متل هذا الحرص أفلح صاحبه

وفى أوائل سنة ٨٤٤ ه‍ (١٤٤٣ م) قبض على عنان الملك بعد قره يوسف ابنه إسكندر. واتفق مع أخيه من أمه جهان شاه أو جهانكير شاه بن على بك ومستنفر جيشا لهاما وبادى شاه رخ بعداوة لا تطغا جذوتها وظهر بريقها وبصيصها حينما تلاقى الفريقان قريبا من أرجيش. فنصر الله المعدى عليه شاه رخ إذ ليس للظالمين من نصير. هذا ولم يحاول أحد من أصحاب الشاه رخ ثائر الأعداء ومطاردتهم مع أن هؤلاء الأعداء حملوا على مناوئيهم ثلاث حملات منكرة وفى كل حملة كان الخزى لأولئك الظالمين.

وبعد أن مضى ردح من الزمن والأمور تجرى هذا المجرى سئمت نفس جهانكير شاه وأغلب الأمراء التركمان من معاملة إسكندر لهم وتحموا منه ملتجئين بعسكر الشاه رخ فرحب بهم هذا كل الترحيب وعهد إلى الأمير الطريد الحكم على بلاد ديار بكر وآذربيجان بشرط أن يفتتحها ويستحوذ على أخيه. فلما

٢٦٤

رأى إسكندر أن لا مناص من هذا التضييق لجأ إلى حصن النجق. فحاول جهانكير شاه أخذه فلقى منه الأمرين. واضطر إلى استعمال الغدر والخيانة للبلوغ إلى وطره فنجح. ولما كان يعلم أن قباد بن إسكندر قد هام بجارية من جوارى أبيه دفعها إلى أن تقتل إسكندر فقتلته وكان ذلك فى سنة ٨٤١ ه‍ (١٤٣٧ م ـ ١٤٣٨ م) وكانت مدة ملكة ١٦ سنه وجاء فى نخبة التواريخ أن جهانكير شاه قتل بنفسه قباد الفاتك بأبيه ليعاقبه على ما جنت يداه. ولا سيما لأن فى قتله منفعة عظيمة لنفسه.

لما تبوأ جهانكير شاه عرش المملكة قبض أيضا على أعنة بلاد ديار بكر وآذربيجان مدة أثنتى عشر سنة بمقام نائب عن شاه رخ بن تيمور. ولما قضى نحبه الشاه رخ سنة ٨٥٠ ه‍ (١٤٤٦ م) استقل حينئذ جهانكير بالملك أتم الإستقلال وبقى مدة ٣٢ سنة سيدا مستبدا مادام صولجان ملكه على بلاد ديار بكر وآذربيجان وبغداد والبصرة وفارس وكرمان وليس من مناوى يناوئه.

فى سنة ٨٥٤ ه‍ (١٤٥٠ م) فاضت دجلة فيضا فاحشا وأمتلأ الخندق المحيط ببغداد فحصر أهل المدينة حصر أهل الحرب لهم. اندفعت المياه فغرقت الزوراء وتهدمت دور كثيرة وكان أهل المدينة يستغيثون بالله صباح مساء ويكثرون من الصلاة والتردد إلى المعابد والمساجد. ولم يسمع الله فى المدينة حديث آخر إلا حديث الماء انكسار الأسداد ودخول المياه فى بيت فلان وفلان أو فى المحلة الفلانية والفلانية وجامع هذا الصوب. وكثيرون من الناس ماتوا تحت الهدم الردم. ومن لم يمت كان يرتبط مع من يجاوزة من أهل محلته لينجوا من الغرق البيوت التى لم تدخلها الماء. وكانت مياه دجلة قد علت المدينة ودويها يفعل فى المسامع ما تفعله آلت الجذب فى أيام المعامع. إلا أن هذه الحالة لم تدم أياما طويلة فإن ربك رحيم بعباده فرأف بهم وأخذت لمحمة السيل تغتر شيئا فشيئا حتى خمدت شدتها. بيد أن الأهالى كانوا يتخوفون من عاقبة المياه المستنقعة ووحامة بقائها فى مواطنها حتى أخذوا يتشاءمون بفتك الطاعون عن قريب. ولم يحقق سوء الظن هذا فى بغداد وأن كان يتفك يومئذ فى بلاد الكرج.

٢٦٥

وفى تلك السنة خسف القمر خسوفا تاما وظهر كوكب فى السماء يجرم القمر وخر فهلعت القلاب واقشعرت الجلود واصطكت الركب وتزلزلت الأقدام وعلا العويل والنحيب وأخذ الناس على اختلاف الأعمار والطبقات والمذاهب والإيان يقرعون أوانى النحاس والدسوت والطشوت والمواعين حتى خاف الناس من هذه الجلبه والضوضاء أكثر من خوفهم من الخسوف نفسه. وكان السامع لهذه الأصوات يتخيل أن قد حانت الساعة وأن الأموات تتململ فى الأحداث وأنهم هم الذين يحدثون تلك الأحداث. والحقيقة أن ذلك الشهاب كان رجماصات صوتا عظيما عند ما تقرقع فى الجو وما أنحل وجه البدر الصبيح بعد ذلك الظلام القبيح على الناس إلى أفراحهم ونشعروا تلك الساعة الهائلة وكل اتراحهم.

وفى سنة ٨٥٩ ه‍ (١٤٥٤ م) سمع أهل بغداد بظهور الطاعون فخافوا على أنفسهم خوفا عظيما لأنهم كلما سمعوا بذكر هذه الوافدة وظهورها فى دار من ديار الله ظنوا أنها تأتيهم شاؤوا أم أبوا. إلا أن ظنونهم لم يتحقق.

بيد أن الطاعون فتك فى السنة التالية فى ديار بكر الجزيرة وماردين نصيبين والموصل ولم يجسر على القدوم إلى دار السلام وما ذلك إلا الصعوبة العدوى المتولدة من صعوبة التنقل والترحات فى ذلك العمد وانقطاع الطرق. فراق الله بعبادة متخذا الوسائط البشرية والطبيعبة وسيلة لإظهار أعماله بين الناس.

فى سنة ٨٦١ ه‍ (١٤٥٦ م ـ ١٤٥٧ م) انتقل إلى دار القرار باى سنقر بن شاه رخ ملك خراسان فتنازع أولاده المملكة. فلما رأى جهان ما وقع من الأنقسام بين أبناء الملك انتهز هذه الفرصة فأخذ هراة ، فلما سمع بهذا الخبر أبو سعيد عملت فى نفسه عوامل الغيرة على آل تيمور وتنبهت شواعره الباطنة فالى على نفسه أن يتأثر هذا الفائح الجسور. ولا سيما لأنه كان قد شهر نفسه ملكا على سمرقند قبل مدة وجيزة فخسف فى الزحف على التركمانى ليقمع ناهض طمعه. فلما رأى جهان شاه ما فى صدر منائه من محكم القصد ولم يستطع أن يقاومه فى السهل

٢٦٦

ذهب للحال وتحسن فى حرز منبع من ذلك الصقع وبعث إلى ابنه «بيريودق» حاكم شيراز يطلب إليه أن يعجل فى انجاده. فى كذب ابنه أن استنفر جيشا عظيما فى أسبوع واحد وفيه أثنا عشر ألف مزاتل صنديد.

ولسوء الطالع لم تغد هذه العساكر جهان شاه فائده عظيمة فإن أبا سعيد خضد شوكته وكسر جنده الأبطال. وفضلا عن هذا شاع الخبر فى ذلك الأوان أن ابنا آخر من أبناء التركمانى جهان شاه وهو «حسن على مرزا» لما رأى أن مدينة تبريز تركت وشانها وانتهز هذه الفرصة ليتخمدها لنفسه ففعل ولم يقاومة أحد واستقل فيها أحسن استقلال. وما كنت هذه الأمور إلا لتزيد حسن جهان شاه فصبر على مجامر الكرام وعقد عرى السلام مع أبى سعيد الهمام ثم عاد ادراجه إلى تبريز والقى فى السجن ابنه «حسن على مرزا» وعهد إلى ابنه الآخر «بيريودق» حكم العراق العوبى مكافأة له على حسن خدمه.

وما كادت قدما «بيربودق» تستقران ببغداد إلا ورفع راية العصيان على أبيه كان الله اراد أن يبين لهذا الأب المنكوب المبتلى بأنواع المحن أن الإنسان إذا اقتنى شيئا بالحرام لا يتهنأ به وكيف يتهنأ بمملكة سفكت فيها الدماء زورا وظلما واتسئت بأخذه من قتل قباد بحيلة دبرها هو بنفسه ونصف ولم يزل مثابرا على عزمه حتى افتتحها. ثم قبض على بيريودق وقتله فى سنة ٨٧٠ ه‍ (١٤٦٥ م ـ ١٤٦٦ م) إذ ليس بظالم إلا ويبلى بأظلم وكل كانوا ظالمين.

وكان بيريودق فى حياته قد جرى على نفسه عداوة حسن الطويل وحسن هذا هو مؤسس دولة التركمان المعروفة بآق قوينلى أى دولة الخروف الأبيض فلما قتل بيريودق فرح حسن الطويل فرحا لا مزيد عليه شاشا بموته. فأثار هذا التصرف الذميم ثائر الغضب فى نفس جهان شاه فباداه بالحرب وزحف عليه للحال معه خمسون ألف مقاتل. فلما رأى حسن الطويل هذا الجيش الجرار ولى هاربا إذ رأى من نفسه إذ لا قبل له به إلا أنه بينما كان جهان شاه مع خمسمائة أو ستمائة من رجاله يستريح على ضفة نهر أنتهز حسن الطويل هذه الفرصة فى قابل عدوه

٢٦٧

وقاتله حتى ظفر به وأماته فى سنة ٨٧٢ ه‍ (١٤٦٧ م ـ ١٤٦٨ م) فصالح هذا الكلام الماثور أن ما يؤخذ بالسيف فلسيف ينزع وعلى هذا الوجه نشلت هذه المملكة من القتيل وكان قد بذل فى سبيل توسيعها كل مرتخص وغال ولم يبال بحرام أو الحلال. وهكذا انتقلت برمتها إلى حسن الطويل راس الدولة التركمانية المعرفة بآق قوينلى وانقرضت تلك الدولة الأولى من بغداد بعد أن حكمت فيها نحوا من ستين سنة.

٢٦٨

الفصل الثانى فى دولة آق قوينلى

لما وقع بين حسن الطويل أو أوزون حسن صاحب ديار بكر وبين جهان شاه صاحب العراقين (العراق العجمى والعربى) حروب كثيرة استحر القتال والتحم النظال مدة سنتين لأنها ابتدأت فى سنة ٩٧١ ه‍ (١٤٦٦ م) وانتهت سنة ٩٧٢ ه‍ (١٤٦٧ م) وفى الأخر فاز حسن الطويل بنصر جليل على عدوه الذليل جهان شاه وقتله هو وأولاده وكثيرا من عسكره ومنذ ذاك الحين استولى على بلاد العراق واذربيجان بل وعلى كل أملاك قتله.

فلما كان لأوزون حسن هذا الفوز المبين ظن أن الجو قد خلا له ورق أديمه وراق ولم يبق له من ينزع من يده صولجان الملك. إلا أن الإنسان فى تفكير الرحمان فى تدبير وخال أوزون حسن أنه لا بد له من أن يدوح البلاد ويخضع له العباد فسأء ظنا لأنه بينما كان يفكر فى مثل هذه الأمور رأى فى أوفق السياسة ما يكثر عن قريب صفو سمائها وذلك على الوجه الذى نبين لك أصله كما يأتى :

كان قره عثمان جد أوزون حسن أو حسن الطويل فى خدمة تيمور وكان يحكم باسمه على عدة قرى من بلاد ديار بكر ثم توفى قره عثمان فى عهد شاه رخ وخلفه «على بك» ابنه ثم عقبه ابنه «أوزون حسن» وكان هؤلاء الأمراء معادين كل المعاداة للتركمان المنتسبين إلى قره قوينلى أو الخروف الأسود. فلما قتل جهان شاه كما المعنا إليه فويق هذا خلفه على عرش المملكة ابنه «حسن على» وما كادت قدماه تستقران حتى أرسل رسلا إلى أبى سعيد ابن مير شاه ابن

٢٦٩

تيمور ليطلعه على أعمال أوزون حسن فأراد أبو سعيد مساعدة هذا الأمير المستجير به لا سيما أنه من اتباعه فحمل على العدو ومعن سبعة وعشرون ألف مقاتل. فلما سمع بذلك أوزون حسن داخله الرعب فلجأ إلى التسويق ثم إلى حسن المعاملة. ومما أناه فى هذا الباب أنه لما علم بمجيئه إليه أرسل لاستقباله أمه العجوز ومعها هدايا والطاف كثيرة ثمينة نفيسة. ومن جملتها خيل تركمانية.

والخيل عند اولئك الأقوام من أجل الهدايا. إلا أن هذا التزلف لم يأت بفائدة أبدا. إذ أن أبا سعيد أبى قبول الهدايا ولم يقابل الأم العجوز. وكذلك خاب مسعى حسن الطويل لما حاول أن يهديه بغداد والبصرة وفارس وكرمان واعدا أياه أن لا يدخر لنفسه إلا بلاد آذربيجان وأن يذعن له النقود فى كل أمر يكون له من الأمراء الخاضعين لصولجانه ويضرب النقود باسمه ويذكر اسمه فى خطبة الجمعة. أما أبو سعيد لم يقبل بشىء من هذه المواعيد والشروط وكان كلما لأن خصمه تجبر وعتا. فلما رأى حسن الطويل أن الحلم لا يفيد شيئا وأن له من هذا المازق وقد بلغ السيل الزبى آل على نفسه أن يناهضه ويناجزه ويناوئه مستمدا العون من رب الجنود. وللحال جيش جيشا من قبيلته وفيه أثنا عشر ألف مقاتل وحاصر معسكر أبى سعيد وقطع عنه الطعام أربعين يوما. ولما انقضت هذه المدة سار إلى أردبيل وفى تلك المطاوى رأى أبو سعيد موت أغلب دوابه فلما لم يدر ما يعمل وجه أمه إلى أوزون حسن لتستميله إلى أبنها. على حد ما عمل أوزون حسن حينما بعث أمه لمثل هذه الغاية إلى أبى سعيد. وكان حسن مستعدا لأجابة طلب الأم لو لا أن «جنيدا» جد الشاه إسماعيل مؤسس الدولة الصفوية فى فارس بعدئذ عارضه فى تلبية طلبها. وكان جنيد حاضرا فى المجلس الذى عقده حسن الطويل لاستشارة وجهاء دولته. فرجعت أم أبى سعيد بخفى حنين وعادت إلى ابنها صفر اليدين كما عادت سابقا أم حسن الطويل. وزد على ذلك أن بعض أمراء جيش أبى سعيد قلبوا ظهر المجن لسيدهم وانحازوا إلى الحزب المعادى.

فلما رأى ذلك أبو سعيد فر ولا فرار جرادة العيار.

وما زال يضرب فى الأرض وزينل مرزا بن حسن الطويل يتعقبه حتى قبض

٢٧٠

عليه وأتى به إلى أبيه فرحب به وأكرم مثواه وكان يشوب اكرامه له بعض الهوان. فعرض المضيف على ضيفه ما ظنه يرضيه ويطيب خاطره فقال له : خذ لك يا أبا سعيد خراسان وماورآء النهر. وأما أبا فادخر لنفسى ما افتتحته من البلاد وما تحويه من العباد. فأبى أبو سعيد هذا الرأى إذ وجد صاحبه يستقى لنفسه شيئا كثيرا. فلما وقف أوزون حسن على ما فى نفس مناوئه من الطمع والجشع اشتعل غيظا وتلهب غضبا وعمل بمشورة أمرائه لأنهم كانوا يقولون له أن لا يعطيه شيئا بل زاد على ذلك أنه أفتى بقتله أمام جماعة من القضاة الذين كانوا قد اجتمعوا بأمر حسن الطويل لينهوا الأمر على وجه حسن. ومن جملة الأسباب التى حملته على اصدار أمر القتل أن أبا سعيد كان قد أمر بقتل أم رجل اسمه يادكار محمد بدون علة ولذا حكم عليه بالقصاص فقتل سنة ٨٧٤ ه‍ (١٤٦٩ م ـ ١٤٧٠ م).

وفى رواية للقرمانى ما نصه : «فى سنة ٨٧٣ ه‍ قصد صاحب ماورآء النهر الملك أبو سعيد ابن مير شاه ابن تيمور أن يسترد ما كان لجهان شاه من البلاد من حسن الطويل فقابله بحدود آذربيجان فالتحم الحرب بينهما إلى أن قتل خلقا كثيرا من عظماء خراسان وأسر الملك أبو سعيد فى يد زينل بن حسن الطويل. ثم أمر بقتله فقتل وأرسل برأسه إلى صاحب مصر فأمر به صاحب مصر فدفن اجلالا له لأنه كان من أكابر ملوك الإسلام وارسل معه كتابا سلك فيه طريقة الملوك وابرق فيه وأرعد وكان قبله يتلطف بهم وأستولى حسن الطويل على ما كان بيد أبى سعيد المذكور على ملك سمرقند وفيرة.

وفى سنة ٨٧٤ ه‍ حدث طاعون جارف ابتدأ من كربلاء ونجف ثم انتقل إلى بغداد يعيث فيها عيث الأسود المفترسة ثم نزل إلى القرنه والبصرة ومن هناك انتقل إلى بغداد وأصبهان بعد أن فتك فتكا هائلا فى النفوس. وكان العوام ينسب هذه الطامة الكبرى إلى قتل أبى سعيد إذ توهموا أنه أميت ظلما وجودا.

وفى أواخر تلك السنة (٨٧٤ ه‍) سير أوزون حسن جمعا كثيفا من العسكر

٢٧١

على الوند بيك عامل جهان شاه على بغداد. وجهان شاه هذا هو كما رأيت آخر ملوك دولة قرة قوينلى الذى كانت قد ثبتت قدمه فى الزورآء إلى نحو ذلك الحين. فنازل الوند بيك فى الحرب ذلك الجيش الجرار حتى كسره فاضطر حسن الطويل إلى أن يقدم بنفسه إلى حومة الوغى وما زال قراع ونضال أمام دار الخلفاء حتى قتل الوند بيك واورده حياض الموت. وفاز حسن الفوز المبين. ومنذ ذاك الحين ضم العراقين إلى بلاده الواسعة الاكناف فازدادت امتدادا وانبساطا.

وفى سنة ٨٧٦ ه‍ (١٤٧١ م) وصل بوسفجة بيك بعسكر حسن الطويل إلى مدينة توقات أو طوقات فنهبها وخرب أسواقها وامتلكها باسم أوزون حسن. وفى تلك السنة زادت توقات خرابا على خراب أن زلزلت الأرض زلزالها وكادت تغنى من بقى من أهلها فكان هولهم يومئذ من أشد الأهوال وفى سنة ٨٧٧ ه‍ (١٤٧٢ م) كسف القمر فى بغداد فحدث من الهول والضوضاء مالا يصفه واصف وتشاءموا بعدة بلايا تقع فى السنة واتفق أن بعد ذلك أخذ الشريف محمد محمل أوزون حسن فقال العوام : أن البلايا لا تقف عند هذا الحد وكان يوسف جد بيك فى تلك الأثناء يتم مسيره إلى بلاد فرمان وكان بها السلطان مصطفى ابن السلطان محمد خان فاتح القسطنطينية فكبسه السلطان مصطفى وظفر به وأسره وقتل غالب عسكره ثم بعث به إلى أبيه السلطان محمد خان كما مر ذكره.

وفى سنة ٨٧٨ ه‍ (١٤٧٣ م) نهض كل من الملكين السلطان محمد خان وحسن الطويل إلى الآخر فالتقى العسكران بقرب مدينة «بايبودد» (وهى اليوم قصبة قضاء بأسمها فى نفس لوآء أرضروم واقعه على نهر جورك صو على مسافة ٢٤ ساعة من أرضروم إلى الشمال الغربى وفيها آثار يونانية قديمة) فوقع بينهما قتال شديده ثم جاء النصر للسلطان محمد خان فانهزم حسن الطويل وقتل ولده زينل على يد السلطان مصطفى كما ذكر فى محله. أم أوزون حسن فذهب إلى تبريز ولم يعد يفكر بأمر سوى بتوجيه اشغال المملكة على الطريق الذى يرأه الأسد فى عينيه.

٢٧٢

وفى تلك السنة سنة ٨٧٨ ه‍ وقع فى بغداد برد عظيم قدر الواحدة منها قدر الرمانة وأصاب خلقا كثيرا كانوا فى البادية فقتلهم وكذلك أمات شيئا عضيما من صغار الحيوانات والطيور وأضر بالأشجار فاتلف عددا منها معدودا وقبل أن يتساقط هذا البرد الهائل سمع أصوات فى الجو كأنها أصوات أسلحة تصطفق.

وفى سنة ٨٨١ ه‍ (١٤٧٦ م) سافر السلطان محمد إلى جهة بغداد فبلغة خروج الأنكروس (المجر) فعاد إلى أدرنة. وفى هذه السنة جاء إلى بغداد رجل من مصر فأخبر أن امرأة من نساء الجراكسة ولدت أبنا له أربع عيون وأنف غير مثقوب من جهة الشمال وله فى كل يد من يديه سبع أصابع وله طول الواحدة منها شبر وشعره طويل أيضا يتعدى الفترين. فكان هذا الخبر من أجل ما أهتم به خواصهم وعوامهم ولم يسمع يومئذ سواه فى البيوت والمجالس والمنتديات.

وفى سنة ٨٨٢ ه‍ (١٤٧٧ م) توفى صاحب العجم أوزون حسن وملك بعده ولده ميرزا خليل وكانت مدة ملك حسن الطويل أثنتى عشرة سنة وكانت وفاته ليلة عيد الفطر وخلف خمسة أولاد وهم خليل ميرزا أو ميرزا خليل وكان حاكم فارس وهو الذى ورث أباه ومقصود بيك. وكان حاكم بغداد. ويعقوب بن ميرزا وكان حاكم ديار بكر ومسيح ويوسف.

أما خليل وهو ابن حسن الطويل بن على بيك بن قطلو بيك بن طور على التركمانى فقد ورث ملك أبيه بعهد منه إليه ، وكان أكبر أولاده وأحبهم إليه فملك جميع ما كان يملكه أبوه من البلاد الشرقية إلا أنه لم يتهنأ بالملك لأنه لما استقر على منصه الملك طغى وبغى وجار وعسف وأخذ الناس بالعنف والشدة.

وقتل كثيرا من الأمراء وقتل أخاه مقصود بيك وخلقا كثيرا من أقاربه وزاد الطين بلة أنه أولع باللهو والمفاسد وكانت الفتن قائمة على قدم وساق فى أطراف البلاد فضلا عن أنحاء العراق وكان الذين يثيرونها بعض الملوك من أصحاب الغايات وما كان أحد يجسر على أن يطلعه على ما يحدث من الأسواء والأحداث لسوء خلقه وخشونة طباعه وشدة جبروته فاتفقوا على خلعه وتوليه أخيه الملك الصغير يعقوب بيك صاحب ديار بكر وكانت مدة سلطنة المخلوع ستة أشهر ونصف شهر وفى رواية أخرى أن حسن الطويل لما كان حيا أقام حاكما على بغداد ابنه ميرزا

٢٧٣

مقصود ولما علم الأب أن ابنه هذا قد اتفق مع عمه أوغرلو محمد الذى كان قد رفع رأية العصيان على أخيه حسن فى أصبهان أنزله عن منزلته الرفيعة ثم لما قضى نحبه حسن الطويل وتملك ابنه خليل بعده أتى هذا من المنكرات ما لا يصفه قلم واصف فتمرد عليه أخوه يعقوب ميرزا سنة ٨٨٣ ه‍ (١٤٧٨ م ـ ١٤٧٩ م) وتلاقى الإخوان فنصر أب الصغير الله الفاضل على الكبير الرذل بقرب سلماس من ديار العجم ثم قتل المغلوب فى تلك الموقعة بعد قليل فأستوى على عرش المملكة يعقوب ميرزا وبعد أن قبض على صولجان الملك مدة ثلاث عشرة سنة أشربته أمه بالماء بافعا ولم تدر أنه سم بما أنها هى أيضا شربت منه فمات كلاهما فى وقت واحد أسف عليهما الجميع وسوف نعيد الكلام عن هذه الوفاة بعد هذا فى السنة المناسبة لموتها.

وفى سنة ٨٨٩ ه‍ (١٤٨٤ م ـ ١٤٨٥ م) فاضت دجلة فيضانا فاحشا حتى فاق كل فيضان جاء ذكره سابقا فإن الماء دخل المدينة كلها وبلغ علو الماء فى الأزقة ذراعا واحدا وفى بعض المحلات كجوار مدفن عبد القادر الجيلانى بلغ ذراعا ونصف ذراع.

وتعذر المشىء على الأقدام فى الطرق فاضطر الناس إلى ركوب القفف والقوارب والسفن ومنهم من كان يتجول على الدواب. وقد وافق أزدحام السيل فى طحمة الليل فانبثقت الأمتداد ليلا على غفلة من الناس ففاجأهم السيل وهم نيام فلما انتبهوا على أنفسهم رأوا أن كثيرين منهم قد خنقوا بالماء ومنهم من جاءهم السيل وهم فى البادية فاحتملهم إلى بعيد ولا سيما الأطفال فمات منهم مئات وكذلك يقال على الدواب التى ابتلعتها المياه أو ساقها إلى حيث القها رحلها أم قشعم وكان العويل يسمع من بعيد فالذين فى جانب الكرخ كانوا يسمعون صراخ أهل الرصافة والذين كانوا فى ضفة الرصافة تسنك مسامعهم من نحيب أهل الكرخ وأما الذين دفنوا تحت الردم فلم يحصوا لكثرنهم ولم تدخل المياه البيوت من فيضان دجلة فقط بل كانت أراضى الدور تضيق بالمياه التى كانت تنبط منها لأن سطح ماء الشط كان أعلى بكثير من أعلى محلة ببغداد وفى الناس فى هذا الخوف العظيم مدة تزيد على شهر ولما جاء تموز تبخرت المياه ورجع الناس

٢٧٤

إلى منازلهم بعد أن أصابهم من الفزع والجزع ما لا يقوى على وصفه أى فلم تستحسنه.

وفى تلك السنة أى سنة ٨٨٩ ه‍ بعث يعقوب شاه ابن حسن الطويل عسكرا لهاما إلى بلاد الشعشع فكسروه كسرا شنيعا وكان المشعشع يعد نفسه علوبا ثم غالى فى أنفسه حتى زعم أن روح على بن أبى طالب انتقلت إليه فأمن به كثيرون وما زال أمره فى استفحال واستشراء وعدد المخازين إليه يزداد أزدياد السيل المتجمع من كل حدب وصوب حتى أستولى على بلاد ابن علان (وفى رواية : ابن هلال) على أن خروج يعقوب شاه عليه قلم اظفاره وخفض جناحه وقت فى عضده حتى تنوسى العهد به.

وفى سنة ٨٩٢ ه‍ (ـ ١٤٨٦ م) توفى الفقيه الشاعر محمد بن الحصر البغدادى حتى لموته رنة حزن فى جميع ديار العراق تشبه وفاة أعظم ملوك الأرض.

وفى سنة ٨٩٢ ه‍ (١٤٨٧ م) ظهر الشيخ حيدر بن الشيخ صفى الدين بن جنيد الأردبيلى شيخ الصوفية بمريديه وإن شئت فقل بمردته وهجم على شروان شاه صاحب شماخى (شماخى مدينة عامرة وهى قصبة بلاد شروان فى طرف أران تعد من أعمال باب الأبواب) فغلب عليه واستنجد صاحب شماخى يعقوب شاه المذكور وكان بينهما علاقة صهارة فاستنجده على حيدر بعسكر كثير كثيف فاوقعوا بحيدر المذكور فقتلوه وأعادوا شروان شاه إلى مقر ملك شماخى.

وفى سنة ٨٩٤ ه‍ (١٤٨٨ م) تحيل يعقوب شاه بحيلة غريبة حتى استولى على بلاد دياربكر ونزعها من يد الأكراد والتركمان وانتصر عليهم.

وفى سنة ٨٩٦ ه‍ (١٤٨٨ م ـ ١٤٨٩ م) ماتت أم يعقوب شاه وكان موتها سببا لاختلاف حصل بين أهل هذا البيت. وكان دأبها أن تجمع فى كل أسبوع أهل هذا البيت بمكان أعدته لهم وتكلم كلا منهم بما يناسب حاله ومقامه. فلما ماتت انقطع هذا التدبير وتفرقت الكلمة فكان سببا ووسيلة لدس السم على يعقوب شاه بعد وفاة والدته بثمانية عشر يوما وأخيه ميرزا يوسف بيك. وكانت وفاتهم فى نواحى قره باغ. وهذه الرواية تختلف عما رويناه فويق هذا والله أعلم بالحق. وكانت مدة ملك يعقوب شاه أثنى عشرة سنة وشهرين وخلف ثلاثة

٢٧٥

أبناءهم بأى سنقر. وحسن. ومراد. وتسلطن. بعده أخوه مسيح بك بن حسن الطويل. فوقع بين الأمراء خلاف إلى أن آل الحال إلى تولية على بيك بن خليل بيك بن حسن الطويل. ثم لم ينتظم به الأمر أيضا حتى أقاموا بأى سنقر بن يعقوب بن حسن الطويل صبيا صغيرا دون العشر سنوات. ثم وقع بين الأمراء عدة حروب تطاعنوا فيها وتطاحنوا بسبب أن كل جماعة منهم أختارت واحدا من أهل بيت الملك ومالت إليه وقتلت جماعة منهم. ثم اتفق أن قتل باى سنقر فى بعض الحروب بعد أن ملك سنة وثمانية أشهر. وفى رواية : ان سبب أختلاف الأمراء فى تعيين الخلف الوارث أنتهى بقتل مسيح بك وتبريع باى سنقر على تخت المملكة وقيل لم ينته الاضطراب بذلك لأن واحدا من حاشية مسيح بك واسمه محمود بيك بن أوغرلو محمد وهو ابن عمه لحاقر هاربا إلى بغداد فاستوى هناك على سرير المملكة بمساعى شاه على بيرناك حاكم الزوراء. ولكن باى سنقر وصوفى خليل مؤدبه جمعا جيشا جرارا وزحفا على المتحالفين حتى أهلكاهما وبيديهما الأسلحة.

وبعد أن مضى ردح من الزمن خرج رستم ميرزا بن مقصود بن حسن الطويل على باى سنقر وتغلب على آذربيجان ولما لم يكن أمينا من جهة بأى سنقر أطلق من سجن أصطخر أولاد الشيخ حيدر الصفوى. وقد نوى بعمله هذا أن يمنع فرخ يسار شاه شروان من أن يغيت بأى سنقر لأنه إذا كان حبله على غاربه يثير لمناوئه ما يتبط به عزمه. وفى تلك المطاوى بلغ الخبر إلى رستم ميرزا أن بأى سنقر أخذ بالزحف فلما تثبت الأمر تهيأ للملاقاة. والتحم القتال وقتل فيه بأى سنقر فبلغ رستم إلى تحقيق أمانيه وهى السملك على آذربيجان فملكها وأقام فيها خمسة أعوام وستة أشهر. وأرسل بأبهة وجلال إلى أردبيل أولاد حيدر وأردبيل هذه هى مهد سعادة الصفوية ولحد جدهم الأكبر.

وقبل وقوع وفاة بأى سنقر قضى تحيه يعقوب ميرزا فلجأ حفيدة أحمد بن أوغرلو محمد بن حسن الطويل إلى السلطان بيازيد الثانى العثمانى فزوجه ابنته.

ومن بعد أن أقام سنوات فى الراحة والسكون أفلت من بلاد الترك فى السنة السادسة من ملك رستم ومعه جيش عظيم وتوجه إلى آذربيجان فذهب وخيم على ضفتى الرس فأنضم إليه بعد ذلك أمراء تلك الأصقاع أصقاع آذربيجان إلى

٢٧٦

أمراء العراق ليكونوا جميعم يدا واحدة على رستم. فلما التحم القتال هلك رستم فى حومة الوغى فقام مقامه أحمد بدون أن يتمكن من أن يتمتع بأموال سلفه لأن عيبه سلطان خرج عليه واغتاله بعد ستة شهر من تملكه أى سنة ٩٠٣ ه‍ (١٤٩٧ م ـ ١٤٩٨ م).

وكان السلطان مراد بن يعقوب ميرزا الخلف المعين ليرث عرش أحمد. إلا أن العقبات التى أثارها بوجهه ابن عمه محمد ميرزا بن يوسف الجأته إلى الفرار إلى شيراز وترك له الجو خاليا يبيض فيه ويصفر. وما كاد الملك الجديد يستوى على العرش إلا وانتزع منه أخوه الوند ميرزا من أولاد يوسف المذكور ولاية آذربيجان وأكرهه على الهرب إلى السلطانية ومنها إلى أصبهان.

ثم أن السلطان مراد غادر شيراز حيث كان مالكا وهبط أصبهان فقبض على محمد ميرزا وأخذه معه نحو تبريز التى كان يتهيأ فيها الوند ميرزا اليقارم هذه المهمة الفجائية لكن اتفق أن اناسا مصلحين توسطوا بين الطرفين وحملوهما على عقد عهد سلام بشرط أن تبقي ديار بكر وآران وآذربيجان بيد ألوند ميرزا ويكون العراقان العجمى والعربى وفارس بيد السلطان مراد.

وفى تلك الأثناء وقعت عدة وقائع لا تعلق لها بالحرب من ذلك ما وقع فى بلاد فارس من أمر ذبح اليهود فاهتز له يهود بغداد كلهم. وتحرير الخبر أن يهود بلاد إيران عصوا على الدولة فقاتلهم المسلمون وأهلكوا منهم ثلثمائة ألف يهودى على رواية صاحب عمدة البيان وكان ذلك سنة ٨٩٩ ه‍ (١٤٩٣ م).

وفى سنة ٩٠١ ه‍ (١٤٩٥ م) زادت مياه الأنهر والآبار زيادة فاحشة من ذلك النيل فإنه زاد على المقياس وفاضت دجلة والفرات زيادة غير مالوفة فى السنين السابقة فغرقت المدينة وأشتد الضيق على الأهالى ومما زاد الطين بلة أن الأبار فارت بل والكنف أيضا قذفت ما فى أحشائها لأمتلاء تنانيرها ماء فكانت الطامة من أعظم الطوام التى شوهدت إلى ذلك الحين لأن الذى الناس لم يجدوا لهم محلا تقر فيه قدمهم فإن أقاموا فى بيوتهم شموا من الروائح الكريهة ما يوردهم حياض الموت وينفض عيشتهم ولهذا مات كثير فى هذه السنة ولا سيما النساء

٢٧٧

لأنهن كن مضطرات إلى لإقامة فى دورهن. وأن برزوا إلى البرية أو ضاحية المدينة أضرتهم المياه المستنقعة وكثرة الهوام وأثرت فيهم الرطوبة تاثيرا بينا. وأن جلسوا فى منتدياث المدينة خافوا فى أنفسهم من سقوط الحيطان عليهم. ولما كانت هذه الوقائع تقع مرارا فى النهار أخذ فى الناس كل ماخذ وطلبوا إلى الله أن يرأف بهم ويكشف عنهم هذا الغم ويدفع عنهم هذا الهم. فلم يجبهم عزوجل إلا من بعد أن كفروا عن سيئاتهم بأعمال البر والتقوى.

وفى تلك السنة أشتدت وطاة الأمراض الناجمة عن التعفن كالبطاح والبطاحى وأمراض الحلق والوبالة والرثية (وهى الردماتزم بالفرنساوية والصليل بلسان عوام بغداد) والحمى المتقطعة والنقطة (التيفوئيدية) والتهاب الأمعاء ونحوها ومات جم غفير من الناس. ولم يستطع أهل بغداد أن يستريحوا بعض الراحة إلا من بعد نضوب المياه بالتمام وحينئذ عاشوا بهناء وسلام.

تم الكتاب

٢٧٨

الكشاف العام

٢٧٩
٢٨٠