الفوز بالمراد في تاريخ بغداد

سليمان الدخيل

الفوز بالمراد في تاريخ بغداد

المؤلف:

سليمان الدخيل


المحقق: الدكتور محمّد زينهم محمّد عزب
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الآفاق العربيّة
الطبعة: ١
ISBN: 977-344-046-X
الصفحات: ٣٥٣

والحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا محمد النبى الأمى العربى الصادق وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحبه وسلم كتبه الفقير إلى رحمة الله أحمد شاه النقاش المعروف باليزدى غفر الله ذنوبه.

ما صارت إليه هذه الأوقاف

أعلم أن كثيرا مما ذكر فى الوقفية من الأوقاف قد اندرس ولم يبق له ذكر ومنه ما امتدت إليه يد الغضب. فدار الشفاء أتخذها أحد اليهود خانه للبن وهى الشهيرة اليوم بقهوة المصبغة وباب الغربة هى شريعة المصبغة وكثير من الحوانيت المكتوب عليها وقف مدرسة مرجان ودار الشفاء تملكها الناس ومنها ما هو وقف على كنيسة والحاصل أن ما بقى من الأوقاف أقل قليل بالنسبة لما اندرس.

ما جرى على هذه المدرسة من مستحدث العمارة

لم تزل العمارة الأولى قائمة على ساقها لرصانه أساسها وتمكين قواعدها حتى كأنها جبل منحوت إلا ما كان من الإصلاح فى أيام حكومة سليمان باشا الكبير إلى بغداد وذلك أنه حكم فيها من سنة ثلاث وتسعين ومائة وألف من الهجرة إلى سنة سبع عشرة بعد المائتين وآلاف (من سنة ١٧٧٩ م ـ ١٨٠٢ م) وقد أمر رحمة الله تعالى أن يوسع المصلى بهدم بعض الحجر المبنية وإدخالها فيه فلما كملت العمارة حسبما أمر ارخ ذلك بعض أدباء عصره هذه الأبيات.

تبارك من أنشا الأيام واوجدا

وفيض منهم من يقام به الهدى

ففى كل قرن يبدو منه مجدد

حديث أتى من سيد الرسل مسندا

فكان بهذا القرن حقا مجددا

وزير محا رجس الضلالة والردى

فاحى ربوع العلم بعد دروسها

وكم جامع أحى وجدد مسجدا

ومذبان فى هذا المكان تخلخل

تداركه فورا فاضحى مشيدا

هنيئا له حاز الثواب لأنه

نوى عملا لله صرفا مجردا

وفيه روى الرواى الحديث مؤرخا

«سليمان أضحى عادلا بل مجددا

٢٤١

ولما توفى مرجان فى أواخر سنة ٧٧٥ ه‍ (بدء سنة ١٣٧٤) دفن فى المشهد الذى أعده لنفسه فى هذه المدرسة وعليه قبة مرتفعة وقبره إلى اليوم يزار ولم يندرس لأنه كان مشهورا بالتقوى والدين والصدقات والقربات. ولما توفى الخواجا مرجان قام مقامه الخواجه سرور.

وفى سنة ٧٧٦ ه‍ (١٣٧٤ م ـ ١٣٧٥ م) غرقت بغداد غرقا لم يسبقه مثله سابق ولا سيما لأن الأسس وكثيرا من الأبنية كانت قد تضعضعت وتخلخلت قبل سبع سنوات فلما طغت دجلة هذه المرة وزعزعت المبانى فالقتها على الأرض وقتلت خلقا كثيرا قدره أربعون ألف نسمة وحيثما كانت الأبنية مكينة انفتحت عيون الآبار والبواليع وأغرقت أهل البيت ومن لم يتوفاه الله بالغرق توفاه بالأمراض المتولدة من الرطوبة والعفونة وسوء الهواء فكانت الطامة عامة. فلما رأى ذلك الخواجا سرور حاكم المدينة أخذ الغم منه كل ماخذ حتى وقع مريضا ومات مسلما أزمة الحكم إلى الأمير وجيه الدين ابن الأمير زكريا الوزير.

وفى ٢ جمادى الأخره من تلك السنة (أى سنة ٧٧٦ ه‍ ـ ٨ تشرين الثانى ١٣٧٤ م) توفى السلطان أويس وكان رجلا عادلا محبا للعلم والعلماء حتى مدحه أغلب شعراء عصره وكتابه مثل سلمان الساوجى وشرف الدين الرامى صاحب أنيس الأشواق والخواجا محمد عصار صاحب الرواية الخيالية الشعرية «مهر ومشترى» وعبيد زاكانى صاحب اللطائف وغيرهم من الشعراء بل السلطان أويس نفسه نظم الشعر وقد أورد لنا من شعره رضا على خان صاحب كتاب «مجمع الفصحاء» ودامت سلطته ١٩ سنة وخلفه على العرش ابنه حسين إلا أن الخلع لم يشبه السلف فإن هذا الأمير كان مؤلعا بالالعاب وأنواع الملاهى ولم يهتم ابدا بالمملكة وشؤونها فرجعت القهقرى فى عهده.

وفى سنة ٧٧٧ ه‍ (١٣٧٥ م) ظهرت دولة قره قوينلى فى الموصل وسوف نراها عن قريب فى بغداد بعد سنة.

وفى سنة ٧٧٨ ه‍ (١٣٧٦ م) قام باعبآء الملك الشاه منصورا بن عم بهرام

٢٤٢

صاحب الموصل ونسب العامة هذا الانقلاب إلى الكسوف والخسوف اللذين وقعا فى تلك السنة إذ خسف القمر فى شعبان خسوفا كليا وفى اليوم ٢٨ منه أيضا انكسفت الشمس كسوفا تاما غريبا وظهرت النجوم صلب النهار وخر كوكب من الغرب وظهر له ضوء مثل البدر وسمع صوت هائل وهو المعروف عند العلماء بالرجم فهلع لهذه الأحداث الجوية قلوب أهل بغداد وكادوا يموتون خوفا ولا تحدث عن الهرج والمرج اللذين وقعا على أثر هذه الوقائع. ولم تؤثر هذه الحوادث على الناس فقط بل شملت الحيوانات أنفسها حتى خيل للناس أن قد حانت ساعة القيامة فعلا النحيب وكثر العويل واستغاث أصحاب كل دين بأنبيائه ورسله وأئمته وقديسيه وكان ذلك اليوم من أهول الأيام شدة على الناس على أختلاف طبقاتهم ونحلهم.

على أن هذه السلطة لم تكن إلا أسميه لا حقيقية واشبهت تلك الحوادث الجوية التى ما كادت تظهر للعيان الإوغابت عن الأبصار لأن الشاه منصور لم يتملك على بغداد إلا فى تغيب إلامير حسين بينما أن جماعة من قواده انتهزوا فرصة سيره إلى تبريز لينقطعوا عنه ويستبدوا بالحكم. على أن الأمير حسين يقطع حين الأمل من العود إلى العرش إذ اعتمد على عادل آغا الذى فتح العراق العجمى ليتوصل إلى قتل القواد الخوارج والتخلص منهم ففعل واستراح منهم.

وفى تلك الأثناء اغتصب بعض الأكابر من أهل القوة والنفوذ واجتمعوا يدا واحدة فى دسيسة دسها الشيخ على ابن السلطان أويس وقتلوا الأمير إسماعيل حاكم بغداد بينما كان ذاهبا إلى الجامع ليصلى (سنة ٧٨٠ ه‍ ـ ١٣٧٨ م ـ ١٣٧٩) ثم نادوا بهذا الشيخ ملكا على المدينة وعلى الولاية كلها.

أما السلطان حسين فتريث هنيهة ثم أقر للشيخ بالسلطنة على بغداد وولايتها.

لكن لما رأى امتداد جناح سطوته ونفوذه يوما فيوما حاول أن يقصه أو يقلمه فرفع لوآء العصيان والخروج على الشيخ ، ثم زحف على العاصمة يسانده فى هذا الأمر ويكاتفه فيه عادل آغا (فى خريف سنة ٧٨٢ ه‍ ـ أو أخر سنة ١٣٨٠ م) فلما رأى الشيخ على نفسه على قاب قوسين من الخطر أو يكاد لم يتمكن من الوقوف

٢٤٣

بوجه مناوئيه ففر موليا إلى دزفول وششتر. إلا أن البغداديين رأوا فى الأمير حسين من أعمال الظلم والأستبداد والضرب على الأيدى والجنون المتلون ما دفعهم إلى طلب الشيخ على فاحتالوا على ذلك الطاغية وما زالوا يقتلون منه فى الذروة والغارب حتى جندلوه عن العرش فى الشتاء التالى لذلك الخريف وأقاموا عوضا عنه الشيخ عليا وأرادوا قتل ذلك الأمير العسوف العضوض فافلت ولا أفلات جرادة العيار وولى هاربا إلى تبريز متخذا الليل جملا. وما مضى شئ من الزمن إلا وخرج عليه أخوه أحمد وفاجأه فى قصبة أذربيجان وقتله فى السنة الثامنة من ملكه (أى سنة ٧٨٤ ه‍ ـ ١٣٨٢ م ـ ١٣٨٣ م).

وفى تلك السنوات وقع فى ديار الجزيرة والعراق من الأحداث والبلايا مازاد فى العين بلة وذلك أن تيمور لك أخذ يسعى سعى الأفعوان فى الشر منذ سنة ٧٦٠ ه‍ (ـ ١٣٥٩ م) وما زال يفتح البلاد ويقتل العباد حتى دخل بلاد خراسان وقتل فيها ستمائة ألف من رجال الإسلام دع عنك ما قتل من الأطفال والشيوخ العجزة وما سبى من النساء والبنات وفى سنة ٧٨٠ ه‍ جاء إلى جوار بغداد فنهب القرى وسلب أهلها بصورة هائلة شنيعة ثم عاد ادراجه إلى سمرقند ومن هناك ذهب غازيا بلاد الكرج سنة ٧٨١ ه‍ ثم عطف عنان جواده إلى نواحى الموصل فحمل على أهلها حملة شعرآء شنعآء فاطاعوه وما لبث أن غدر بهم غدرا جديرا باخس اللئام فقتل جما غفيرا منهم وهدم قلعة الموصل حتى ساواها بالأرض ثم لدغة زنبور فقال : ما فعل بى هذا لا حاميها ووليها «نبى الله يونس» فعدل عن الأمعان فى القتل والفتك والتخريب.

وكانت نتيجة هذه الفتن والقلاقل فى ديار العراق والجزيرة أن حدث غلاء فيها أضر أعظم الضرر بالموصل وشهرزور وبغداد وذلك سنة ٧٨٣ ه‍ (ـ ١٣٨١ م) ومات خلق كثير.

وفى سنة ٧٨٤ ه‍ (١٣٨٢ م ـ ١٣٨٣ م) نهض أخ آخر للسلطان أحمد واسمه الأمير بايزيد فسانده عادل آغا والشيخ على ليقوموا معا قومة واحدة. على أحمد

٢٤٤

وبعد أن ناجزوه القتال أشد المناجزة انكسر أحمد فذهب للحال إلى قره محمد التركمانى والد قره يوسف واستنجده على أعدائه فانجده وانجلت الموقعة عن قتل الشيخ على وادبار جيش عادل آغا المخذول وبعد ذلك عقدت هدنة طلب فى أثنائها البغداديون إلى عادل آغا أن يبعث إليهم حاكما من قبله فعين لهم طرسون ابن أخيه من أمه أى ابن شقيقيه وأقام له وزيرا وعضدا «قوام الدين النجفى».

وأول شى هم به طرسون كان ذبح عبد الملك الطمنجى وكل من وضع يده وخضبها بدم الأمير إسماعيل ولما تم الأمر وقع اضطراب فى أعظم المدينة وكثرت الفتن وعظمت النوائر ونهبت الخزانة التى كان قد أجتمع ما فيها لحساب عادل آغا فلما سمع بهذه البلابل السلطان أحمد وكان يومئذ فى تبريز غادرها للحال وأسرع فى زحفه على أهل الفساد ليخلص من يديهم عين بلاده ومملكته أى بغداد ولما قرب منها وسمع طرسون بقدومه حاول الفرار لكن السلطان أحمد أقتص أثره فدهمه واحتز رأسه فخلا الجو للسلطان أحمد الجلائيرى وصفت له سماء سيدة البلاد فقضى فيها الشتاء ثم برحها فى الربيع متوجها إلى تبريز وقد لقى فيها نزلة حكم الخواجا يحيى السمنانى (سنة ٧٨٥ ه‍ ـ ١٣٨٣ م) وفى هذه السنة ذهبت ذهاب الهبآء منثور سلطة الشاه منصور بن محمد القوينلى وكانت سلطة اسمية وهمية كما سبقنا فالمعنا إليها وقد ابتدات كما قلنا فى السنة ٧٧٨ ه‍ ودامت إلى هذه السنة أى ٧٨٥ ه‍ ورسخت قدم أحمد الجلائيرى أتم الرسوخ وعرف بكونه صاحب دار الخلافة الحقيقى لا الوهمى.

على أن عادل آغا عدل عن الخضوع لمن أقر له بالطاعة ولم يستصوب بقاءه تحت تلك الضربة التى أضرت بسمعته فتشاور مع «الشاه شجاع خان» وكان صاحب شيراز وتآمر معه على الإيقاع بمناوئه ثم أخذ بالزحف عليه إلا أن «الشاه شجاع خان» أوفد رسلا إلى السلطان أحمد وعهد إليهم أن يسعوا فى إصلاح ذات البين بالتى هى أحسن فقر الرأى على الاتفاق والتحاب فاستقدم حينئذ السلطان أحمد إلى بغداد أخاه بيازيد وأقامه فيها بكل أبهة وجلال.

٢٤٥

وفى سنة ٧٩٥ ه‍ (١٣٩٢ م ـ ١٣٩٣ م) كان فتح بغداد للمرة الأولى على يد تيمور لنك ولم يكن فى طاقة السلطان أحمد أن يناجزه فولى هاربا مع الفى رامح إلا أن قواد للفاتح اقتصوا أثره فظفروا به فى سهل كربلاء والتحم القتال وتطايرت النبال وتذابحت الرجال وتوصل السلطان إلى الهرب من أولئك الأسود وتحمى بسلطان مصر برقوق إلى أن تستجم قواه.

ولما كانت سنة ٧٩٧ ه‍ (١٣٩٤ م) استنفر جيشا عرمرما ورجع إلى بغداد وكان عليها يومئذ من قبل تيمور لك الأمير مسعود السبزوارى فلم يستطع هذا أن يناوئه لا سيما لأن صاحبه كان بعيدا عنه إذ كان قد غادر بلاد الكرج وذهب إلى قفجق.

وكان السلطان أحمد قد عرف أن جماعه من وجهاء المدينة قد اتفقوا على أن لا يذعنوا لسلطنة ويفرغوا كنفه وسعهم ليولوه الأدبار فاحتالى فى القبض عليهم وقتلهم الواحد تلو الأخر وكان أهل بغداد يكرهون السلطان أحمد كل الكراهية من كبيرهم إلى صغيرهم ومن غنيهم إلى فقيرهم لأنه كان ظالما عسوما جابرا فتاكا سفاحا وكان يوذ أغلبهم تسلط الفتر عليهم وكان أحمد يرى ذلك ولهذا أوجس فى نفسه خيفة منهم فذهب إلى ديار بكر عند الأمير التركمانى قره يوسف وعقد معه عرى عهد مكين لا يقصم ويفضل هذا العهد ثبتت قدمه فى حاضرته كل الثبوت.

ولما وقف تيمور على طلع هذه الأمور أحتد غضبا إلا أنه لما كان مهتما بفتح بلاد الهند وبما وقع له من المشاكل المعضلة مع بيازيد سلطان آل عثمان التزم أن يؤخر ثاره ليكون أشد هولا وأعظم وقعا فى النفوس.

على أنه يحسن بنا هنا قبل الأمعان فى الموضوع وقائع الأمور أن نذكر منشأ تيمور وكيفية امتداد سطوتة بوجه الاختصار ليكون الواقف على ما يتلو من الأخبار عارفا حق المعرفة من هو هذا الرجل؟ وما هى مكانته من التاريخ؟.

٢٤٦

الفصل الثانى

ذكر منشأ تيمور وحداثته

وامتداد سطوته وفتوحه للبلاد

قال صاحب أخبار الدول ما هذا ايراد نصه «تيمور هو أحد الدجالين الموعودين فى الأخبار النبوية أن يخرج على جميع البلاد الإسلامية ، وذكر صاحب المنتخب له نسبا يتصل به إلى جنكيز خان من جهة النساء وكان رجلا ذا قامة شاهقة كأنه من بقايا العمالقة عظيم الجبهة والرأس شديد القوة والبأس أبيض اللون مشربا بحمرة عظيم الأطراف عريض الأكتاف مستكمل البنية مسترسل اللحية أعرج ليمناوين وعيناه كشمعتين جهير الصوت لايهاب الموت وكان من ابهته وعظمته أن ملوك الأطراف وسلاطين الأكتاف مع استقلالهم بالخطبة والسكة كانوا إذا قاموا عليه وتوجهوا بالهدايا والتقاديم إليه يجلسون على أعتاب العبودية والخدمة نحوا من مد البصر من سرادقاته وإذا اراد منهم واحدا أرسل من الخدمة نحوه قاصدا فينادى ذلك الواحد باسمه فينهض فى الحال ويعدو نحوه وكان بدأ أمره وخروجه فى حدود الستين وسبعمائة وهو من قرية تسمى خواجه بلغار من أعمال الكش وهى مدينة من مدائن ما وراء النهر عن سمرقند نحو من ثلاثة عشر شهرا ذكر أنه لما ولد سقط على الأرض ذلك السقيط كان كفاه مماؤتين من الدم العبيط ، فقال بعضهم يكون شرطيا وقال بعض ينشأ لصا حراميا وقال قوم يكون قصابا سفاكا ، وقال آخرون بل يصير جلادا ابتاكا ، وكان أبوه رجلا فقيرا اسكافا وهو نشأ شابا جلدا لكنه من القلة كان يتحرم ففى بعض الليالى

٢٤٧

سرق غنمة واحتملها فشعر به الراعى فضربه بسهمين أصاب بأحدهما فخذه فاخطلها وبالأخرى كتفه فابطلها فازداد كسرا على فقره ولؤما على شره ولم يملك سوى ثوب قطن فباعه واشترى بثمنه رأس ماعز وقصد الشيخ شمس الدين الفاخورى فى مدينة كشن وقد ربط بطرف حبل عنق الماعز وريقط عنه بالطرف الآخر وجعل يتشحط على عصا من جريد حتى دخل كما يدخل على الشيخ المريد فصادفه هو والفقرآء مشغولين بالذكر ومستغرقين فيما هم فيه من الوجد والفكر فلا زال قائما فى صف النعال حتى أفاقوا من حالهم وسكتوا عن قالهم فلما وقع نظر الشيخ عليه سارع إلى تقبيل يديه وانكب على رجليه فتفكر الشيخ ساعة ثم دفع راسه إلى الجماعة وقال كان هذا الرجل بذل عرضه وعروضه واستمدنا فى طلب ما لا يساوى عند الله جناح بعوضه فنرى أن نمده ولا نحرمه ولا نرده فاردوه بالدعاء اسعافا لما طلبه فاشبهت قصته قصة ثعلبة ورجع من عند الشيخ وخرج وعرج بعد ما عرج إلى ما عرج ولما فد خراسان اجتمع مع الشيخ زين الدين أبى بكر الحوافى وانكب على رجليه فوضع الشيخ على ظهره يديه فقال تيمور لو أن الشيخ رفع يديه عن ظهرى بسرعة لخلعته ارتض وقد تصورت أن السماء قد وقعت على الأرض وأنا بينهما رضضت أشد رض ثم أنه جلس بين يديه ، وقال يا مولانا الشيخ لم تأمرون ملوككم بالعدل والأنصاف وان لا يميلوا إلى الجور والأعتساف فقال له الشيخ : أمرناهم بذلك فلم يأتمروا فسلطناك عليهم فخرج من فوره من عند الشيخ وقد قامت منه الحدبة وهو قائل ملكت الدنيا ورب الكعبة فانه كان يقول جميع ما نلته بدعوة الشيخ شمس الدين الفاخورى وهمة الشيخ زين الدين الحوافى والسيد محمد بركة وكان من أمره أنه هو ورفقاؤه كانوا يتحرمون فى بلاد ماورآء النهر حتى شعر بهم السلطان حسين حاكم هراة فظفر به فبعد ضربه أمر بصلبه وكان للسلطان ولد رأيه غير متين يدعى الملك غياث الدين فشفع فيه واستوهبه من أبيه فقال له أبوه هذا جغتاى حرامى مادة الفساد لئن أبقى ليهلكن البلاد والعباد فقال له ابنه وما عسى أن يصدر من نصف آمى وقد أصيب بالدواهى ورمى فوهبه أياه فوكل به ن داواه إلى أن اندمل

٢٤٨

جرحه وبرى قرحه فكان فى خدمته ففر به وزوجه شقيقته ثم أنه غاضها فى الأيام فقتلها ثم لم يسعه إلا الخروج والعصيان والتمرد والطغيان إلى أن كان من أمره بعض ما كان حتى استعفى ممالك ماورآء النهر وذلت لأوامره جوامع الدهر شرع فى استخلاص البلاد واسترقاق العباد فكان يجرى فى جسد العالم مجرى الشيطان من بنى آدم ويدب فى البلاد دبيب السم فى الأجساد ومن رأيه أنه صاهر المغل وصافاهم وهادنهم وهاداهم وتزوج بنت ملكهم قمر الدين خان فأمن شرهم وكفى ضرهم ثم أرسل إلى مخصومه سلطان هراة الملك غياث الدين الذى كان مغيئه عملا بقوله كتب الله على كل نفس خيبة أن لا تخرج من الدنيا حتى تسىء إلى من أحسن إليها ، وطلب منه الدخول فى طاعته فأرسل غياث الدين يقول صحبة الرسول أما كنت خادما لى وأحسنت إليك واسبلت ذيل نعمتى عليك وذلك بعد أن نجيتك من الضرب والصلب فإن لم تكن إنسانا يعرف الإحسان فكن كالكلب فعبر جيحون وتوجه إليه فلم يكن لغياث الدين قوة إلى الوقوف بين يديه فحصن نفسه فى القلعة فحسب أن يكون له بذلك منه فأمنه وقبض عليه واحتاط على ملك يديه وكان حلف أن لا يريق له دما ولكن قتله فى الحبس جوعا وظمأ ثم عاد إلى خراسان ونوى الأنتقام من أهل سجستان فوضع السيف فيهم وأفناهم عن بكرة أبيهم ثم خرب المدينة فلم يبق بها شجر ولا مدر ولا عين ولا أثر ورحل عنها وليس بها داع ولا مجيب وما فعل ذلك بهم إلا لأنه أصيب منهم أولا. ذكر الشيخ عبد اللطيف الكرمانى أن الذين تخلصوا من القتل من أهل سجستان هزيمة لم تراجعوا إليها بعد رجوع تيمور عنها أرادوا أن يجمعوا بها فاضلوا يوم الجمعة وما اهتدوا إليه حتى أرسلوا إلى كرمان من دلهم عليه ولما خلص له جميع ممالك العجم ودامت له ملوكهم والأمم بلغه ان فيروز شاه سلطان الهند أنتقل إلى رحمة الله ولم يكن له ولد خليفة فعسى أن يتولى تلك الوظيفة فوصل إليها وقتل أقيالها وتسلم أفيالها وقد وفد عليه المبشر بأن أحمد حاكم سيواس والملك الظاهر برقوق حاكم مصر والشام أنتقلا إلى دار السلام فسر بذلك صدره والشرح وكاد أن يطير نحوهما من الفرح فأقام فى الهند

٢٤٩

نائبا وتوجه نحو مدينة سيواس وكان بعد وفاة واليها استولى عليها الأمير سليمان بن السلطان بايزيد بيلديرم خان ابن مراد خان بن عثمان خان فوصل إليها تيمور بتلك السيول الهامية فقال أنا فاتح هذه المدينة والقلعة فى ثمانية عشر يوما وكانوا قد حصنوا المدينة والقلعة فأقام فى محاصرتها وفتحها فى اليوم الثامن عشر وذلك بعد أن حلف لأهل البلدان لا يريق دمهم وأنه يرعى ذممهم ويحفظ حرمتهم وحريمهم فلما دخل المدينة ربطهم فى الرباق سربا وحفر لهم فى الأرض سربا والقاهم أحياء فى تلك الأخاديد وعدد من القى فى تلك الحفر كان ثلاثة آلاف نفر ثم أطلق النهب للنهاب واتبع الأسر والخراب وانمحت مراسم نقوشها فهى خاوية على عروشها ولما استوفى سيواس حصدا ورعيا فوق سهام الانتقام إلى نحو المماليك الشامية كالجراد المنتشر فوصل إليها وختل وقتل وفعل فعلته التى فعل وقد ذكر تفصيله فى ذكر فرج بن برقوق ولم يتعد منهم أحد جسر يعقوبا فرجع إلى طريقته العوجاء حتى وصل إلى الموصل وهو يمحو آثار الإسلام ثم توجه إلى مدينة بغداد فلما سمع السلطان أحمد ذلك استناب مكانه نائبا ولحق هو إلى السلطان الروم بايزيد خان فأخذها عنوة يوم عيد الأضحى فتقرب على زعمه بأن جعل المسلمين قرابين ثم أمر عسكره بأن يأتيه كل واحد من أهل بغداد برأسين ثم أتوا بهم وطرحوا ايدانهم فى تلك الميادين وجمع رؤسهم فبنا بها مأذن وعجز بعض الجند عن رؤس الرجال فقطع رؤس النساء والأطفال ثم أن تيمور خرب المدينة بعد أن أخذ ما به من الأموال والخزينة وأبقاها يعشش البوم والغراب فى أماكنهم فاصبحوا لا ترى إلا مساكنهم ثم الوى بتلك الأتراك ناحية قراباغ ونوى السير نحو ممالك الروم فراسل سلطانها بايزيد المجاهد الغازى وجعل السلطان أحمد حاكم بغداد وقره يوسف حاكم أذربيجان سببا وذكر أنهما من سطوات سيوفه هربا فتوجه نحوه فكان لا يدخل قرية إلا أفسدها ولا ينزل على مدينة إلا محاها وبددها فلما بلغ السلطان بايزيد بمجىء ذلك العنيد توجه إلى ملاقاته فاجتمع العسكران على نحو ميل من مدينة أنقرة واشتغل الحرب بين الفريقين من الضحى إلى العصر فآلت إلى اسر ابن عثمان وكان من أمره ما كان

٢٥٠

وقتل غالب عسكره من العطش لأنه كان ثامن عشر تموز وكان نهار الأربعاء سابع عشر ذى الحجة سنة أربع وثمانمائة ولما حصل لراس مملكة الروم هذه الوعكة واندعكت أجسام عساكره أقوى دعكة ووقع السلطان فى مخالبه وعلم أنه غير ناج من معاطبه ، قال لتيمور لنك إليك ثلاث نصائح هن لخير الدنيا والآخرة لوائح أولاهن أن لا نقتل رجال الأروام فأنهم ردء الإسلام وأنت أولى بنصرة الدين لأنك تزعم أنك من المسلمين. ثانيهن أن لا تترك التتار بهذه الديار ولا تذر على أرض الروم منهم ديارا فأنك أن تذرهم يملاؤها من قبائلهم نارا وهم على المسلمين أضر من النصارى ثالثهن : أن لا تمدد يدك فى التخريب فى قلاع المسلمين وحصونهم ولا تجلهم عن مواطن حركتهم وسكونهم فأنها معاقل الدين وملجأ الغزاة المجاهدين وهذه أمانة حملتكها وولاية قلدتكها فقبلها منه بأحسن قبول وحمل هذه الأمانة ذلك الجهول ولما صفا لتيمور شرب ممالك الروم من الكدر وقضى جيشه من الغارة الوطر اندرج إلى رحمة ربه السلطان بايزيد وكان معه مكبلا فى قفص من حديد وبعدما سبكوا الأشباح وسلبوا الأرواح ولم يخلص من شرهم من رعايا الروم إلا الثلث أو الربع بعد أن جعل أهلها بين المحترقة والمختنقة والموقودة والنطيحة وما أكل السبع قرر كل أمير من أمرآء الروم على ولايته وزاد فى رعايته وأمرهم بان يخطبوا له وأن يضربوا السكه باسمه فامتثلوا أوامره واجتنبوا زواجره ثم أن تيمور رجع إلى بلاده وقد بلغ من دنياه المرام وانتهى أمله إلى الكمال والتمام ووصل إلى مدينة تراو وضعف وانقطع ثلاث ليال وعلم أجمال الأنتقال إلى دار الخزى واشكال وأبى الله أن يخرج تلك الروح النجسة إلا على صفات ما اخترعه من الظلم واسسه فجعل يتناول من عرق الخمر حتى فتندت كبده ولم ينفعه ماله وولده وصار يتقيأ دما ويأكل يديه حسرة وندما فانتقل إلى لعنة الله وعقابه واستقر فى اليم رجزه وعذابه وذلك فى ليلة الأربعاء سابع عشر شعبان سنة سبع وثمانمائة بنواحى مدينة تراو وحملوا عظامه إلى سمرقند وعمره قد جاور الثمانين ، ومدة ملكه واستيلائه مستقلا ست وثلاثون سنة وذلك خارج عن مدة خروجه وتحزئه رفع الله تعالى برحمته عن البلاد والعباد العذاب المهين وقطع دابروا القوم الدين ظلموا والحمد لله رب العالمين. أه كلام القرمانى بحرفه.

٢٥١
٢٥٢

الفصل الثالث

فى منكرات تيمور فى بغداد خاصة

٢٥٣

الفصل الثالث

فى منكرات تيمور فى بغداد خاصة

فى سنة ٨٠٣ ه‍ (١٤٠٠ م) عاد تيمور من زحفته على ديار الشام وتوجه نحو بغداد وكان السلطان أحمد قد أبقى فى المدينة الأمير فرجا وعهد إليه دفع المهاجمين وذهب هو إلى قره يوسف فى الموصل واتفق الأثنان على أن يكونا تحت جناح سلطان آل عثمان لأنه هو وحده كان قادرا على أن يناوئ ذلك الفاتح الظافر ومن كان فى أثره من البشر الشبيه بالهامر.

فشرع فرج بالمهمة التى اودعت إلى عهدته وأخذ يدافع عن البلد دفاع البطل الصنديد إلا أن تيمور الذى كان قد بعث بادئ بدء بعضا من أمرآء جيشه استصوب الذهاب هو بنفسه إلى المعسكر وكان أصحابه قد حاصروا المدينة من الجهة الجنوبية والقوا جسرا من القوارب على دجلة فذهب جند التتار وعسكر على طريق آلتون كبرى بازآء قرية العقاب. ولما التحم القتال دام أربعين يوما حوالى العاصمة وأظهر البغداديون من الشجاعة والبسالة والمهارة فى المقاتلة والدفاع ما يعز ورود مثله فى التاريخ فعلم التتار أن البغداديين بل وجميع العراقيين ليسوا كسائر خلق الله أنهم إذا أرادوا شيئا يبذلون فى سبيله كل علق نفيس بل النفس ذاتها.

إلا أن هذا الحصار الطويل سبب القحط والغلآء فالتزم أهل المدينة أن يأتوا ما تلجئ إليه الضرورة أى أنهم اندفعوا إلى القنوط واليأس ثم إلى الفرار وترك الأخوه المرتبطين برباط حب الوطن.

٢٥٤

فلما نشأ فى أهل المدينة روح التخاذل والأترة وقد تم ذلك نهار الأحد ٢٧ من ذى القعدة سنة ٨٠٣ ه‍ (الموافق لليوم ١٠ من شهر تموز سنة ١٤٠١ م) وكان حماة الأسوار قد غادروها لشدة حر الهاجرة تسلق جيش تيمور أسوار القلاع بسلالم وأول من وصل إلى رؤوسها كان أميرزاده خليل سلطان والشيخ نور الدين ورستم طغا ولما لم يستطع أن يفعل أكثر مما فعل ركب هو وأهله سفنا وانحدر بها إلى البصرة إلا أن الأعداء تاثروه وأغرقوه هو وأهله وسفنهم وقيل أخذ وقتل.

ولما دخل تيمور المدينة أمر بذبح أهلها ذبحا عاما فأخربت المساجد والجوامع وهدمت المدارس التى يرتقى عهدها إلى العباسيين والسلاطين الأولين الذين جاؤوا بعد الخلفاء قال صاحب كتاب عمدة البيان فى تصاريف الزمان : قتل فيها (أى تيمور فى بغداد) تسعين ألف مسلم. وقال صاحب منتجع المرتاد فى تاريخ بغداد «وكانت واقعة (بغداد هائلة) اندكت لها الأرض وعملوا فيها السيف فقتلوا فيها الأولاد والنساء والرجال وخربوا حصونها وهدموا بروجها واتلفوا كل مما فيها من الحسن فجرى ما جرى إذ ذاك وسالت الدمآء كالماء فى شوارعها الليحاء قيل وأقاموا فيها هرما عليه تسعون ألف رأس من القتلى».

وبعد أن خمدت هذه الشدة وخبت حدث ثائرتها كتب تيمور إلى بيازيد ليسلمه عدويه السلطان أحمد وقره يوسف فلم يجب طلبه فاشتعل غيظا واندفع زاحفا على بلاد الروم (آسيا الصغرى) فانكسر بيازيد فى أنقرة كسرة لا نهوض وراؤها.

ولما عاد تيمور ادراجه عهد إلى حفيده ميرزا أبى بكر بن ميران شاه ولاية بغداد وضم إليه البصرة والجزائر جزائر شط العرب (والمراد بالجزائر جماعة الجزر التى كانت تنشأ من تجمع سواعد الشط بين جوازر وهى اليوم القرنة) وبين الجماسية بقرب واسط وبعد أن مضى ردح من الزمن حاول قره يوسف أن يناجز جيوش التتار على نهر العلقمى بجوار الحلة إلا أنه لم يفز بطائل فان أبا بكر دحره عن تلك الديار فأصبح سيد العراق وحده لا يشاطره فيه مشاطر.

٢٥٥

وبعد معركة أنقرة رجع السلطان أحمد الجلايرى وقره يوسف إلى البلاد الراجعة إلى سلطان ديار مصر وكان يومئذ الملك الناصر فرج وأمر حاكم دمشق الشام أن يقبض على الهاربين وبحبسهما فى قلعة المدينة ففعل وذلك فى شهر جمادى الأخرة سنة ٨٠٦ ه‍ (الموافق لشهر كانون الأول سنة ١٤٠٣ م وكانون الثانى سنة ١٤٠٤ م) بقيا فيها إلى وفاة تيمور التى كانت فى السنة التالية.

(قلنا : رواية الأميرين الهاربين فى ديار الشام أثبت من رواية ذهابهما إلى ديار مصر. والذي يرئى هذا الراى الأخيرهم مؤرخوا الفرس فلا تلتفت إلى قولهم).

فلما علم السلطان أحمد بوفاة تيمور فر هاربا من الشام فى الليلة التى سبقت نهار الأحد ١٨ من ذى الحجة سنة ٨٠٧ ه‍ (١٤ حزيران ١٤٠٥ م) وكان قد أطلق من السجن مع رفيقه قره يوسف فى وقت واحد فى شهر شوال من تلك السنة (شهر نيسان ولما بلغ الحلة اختبأ فيها مدة ثم استنفر زعاما واوباشا وأخذ يقطع الطرق. وما سمع أهل بغداد بقدوم هذا السلطان إلا وارتجوا لهذا الخبر ارتجاجا حتى أن حاكم المدينة وكان «دولة خواجا عناق» لم يستطيع أن يردع الناس عنه فاجبر على أن يختلى فى محل من معسكر ميرزا عمر وهو حفيد آخر من أحفاد تيمور وما مضى أسبوع بعد ذلك إلا والسلطان أحمد قد دخل بغداد وأخذها من جديد.

وأول ما قام به السلطان أحمد وبذله من الأهتمام كان إعادة بناء اسوار المدينة حفظا على سكانها وتأمينا للمدينة لأن أهلها كانوا قد قلوا لكثرة ما نابهم من النوائب وفى أواخر سنة ٨٠٨ ه‍ (حزيران ١٤٠٦) زحف على تبريز ومعه الجيش لهام كانه الركام وكله من أهل الفتن والفساد وضم إليه جندا من الأويرات (الألوثة) وطوائف من التركمان. وكان الأمير الشيخ إبراهيم الشروانى رئيسا لهذا الجمع الغفير فسلم قيادته إليه بكل سرور وسهولة. فلما رأى التبريزيون أميرهم السابق كادوا يطيرون فرحا. أما السلطان أحمد فأخذ بالملاهى وعقد مجالس الأنس والطرب حتى قدم فجأة ميرزا أبو بكر حفيد تيمور واتفق فى

٢٥٦

الوقت عينه وفود الطاعون فلم يصعب على السلطان أحمد فتح المدينة إذ فر أغلب سكانها. ثم أخذ يناجز قره يوسف فلم يتوفق فى معركته ولم تفده فتوحاته شيئا بل مرت أمر الرياح السوافى مع جميع الولايات المجاورة لها ووقعت كلها. بيد مؤسس دولة التركمان المعروفة «بدولة قره قويولى» أو دولة الخروف الأسود.

تكلمنا عن بناء أسوار بغداد فيحسن بنا أن نقول أن ميرخند يقول ما ملخصه : أن الأسوار التى خططها السلطان أحمد كانت أضيق نطاقا من الأسوار القديمة. وقد بذل كل جهده ليحصن الأسوار ويحفر لها الخنادق. فى بحر سنة ٨١٠ ه‍ (١٤٠٧ ه‍ ـ ١٤٠٨ ه‍) على ما رواه صاحب كتاب مطلع السعدين ويقال أنه فى أثناء حفره للخندق وجد الكنز الدفين العظيم الذى كان قد اودعه الأرض قبل واقعة تيمور ولم يؤخذ منه شىء البتة. وهذا ما أمكنه من تحصين عاصمته فى قليل من الزمن صدا للعدو ودفاعا عن رعيته (عن خندمير وهمر والمقريزى وهوار وغيرهم).

٢٥٧

الفصل الرابع

فى أواخر دولة الايلخانيين وانقراضها

فى شتوة سنة ٨١١ ه‍ (أواخر سنة ١٤٠٨ م) أحد طامحى البصر إلى سرير المملكة وجميع المتحزبين له وحاول أخذ العاصمة بينما كان السلطان أحمد يجد عبثا فى حصار السلطانية وكان أسم الرجل هذا أويس وكان يدعى أنه ابن أحمد ولعل لهذا المدعى بعض الحقيقة لأن أهل الحكومة سعوا فى قطع لسانه بالألطاف والأصفر الرنان فسكت هذا فضلا عن أن السلطان عاد حالا إلى بغداد لما سمع بهذه الأخبار المقلقة وقتل كل من كان متحزيا للمدعى بالعرش فاسكت نامتهم.

وفى سنة ٨١٢ ه‍ (١٤٠٩ م) توفى الشاعر نصر الله البغدادى.

وفى سنة ٨١٣ ه‍ وقع تنافر بين قره يوسف والسلطان أحمد. فاراد هذا أن ينتهز الفرصة ليوسع مملكته بتضيق نطاق أرض متاوئه فزحف على تبريز ليأخذها منه فدخلها بدون صعوبة إلا أنه اضطر إلى أن يحارب حربا عوانا سكان ربض شنب غازان (فى ٢٨ ربيع الثانى ٨١٣ ه‍ ـ ٢٩ آب ١٤١٠ م) فكسروه وجرح جرحا عظيما فى هزيمته ثم أخذ ودفع إلى غالبه الذى استحصل منه عهدا يتنازل فيه عن مملكته لأبنه شاه محمد.

أما قره يوسف فرضى فى الآخر بخنق السلطان محمد من بعد أن ألح عليه حاشيته فى إجابة طلبهم. وعلى هذا الوجه قضى نحبه هذا السلطان المقحام وله من علو المقام بين أهل الغناء وعلم الأنغام. وأهل الشعر والنظم والرياضيات

٢٥٨

والهندسة ما يزرى بنماط العيوق. إلا أن الذى كرهه فى أعين الخاص والعام ظلمه وجوره وحبه لسفك الدماء.

وبموته عنت آثار سطوة الإيليخانيين لا آثار سلالتهم كما ظنه أغلب المؤرخين لأنه بعد موت هذا السلطان كان قد بقى ثلاثة أولادهم أبناء لأبناء أخته وهم محمود ومحمد وأويس. وعاشوا فى بغداد مقدار سنة ونصف تحت رعاية الأميرة «تندو أو تندى سلطانة» أخت السلطان أحمد. ثم أن شاه محمد ذهب ليحتل المدينة عملا بالعهد الذى قبل به السلطان المقتول فغادر أردبيل وجاء وضرب خيام عسكره بازاء باب «سوق السلطان».

ومما ساعد فى نجاح تركمان دولة قره قويونلى أن أصحاب الأمير بخشائش وهو الذى قام بوظيفة رئيس شحنة وحاكم فى أيام السلطان أحمد نهضوا نهضة واحدة على عبد الرحيم الملاح وكان يحكم باسم محمود كبير الأخوة الثلاثة ذبحوه ذبحا لا رحمة فيه. فأصبحت المدينة فى كبس واضطراب وارتباك لا يوصف. فهرب الأخوة الثلاثة مع «تندا سلطانة» إلى ششتر فكان لهم هناك نوع من السلطنة لكونهم من أتباع شاه رخ.

ولما صفا الجو لشاه محمد تملك على بغداد ودانة له الرقاب وأخضع تحت أمره قلعة هيت المنيعة الشامخة وطائفة من بلاد كردستان ومن هذه البلاد كلها نشأت المملكة الجديدة مملكة تركمان قره قوينلى وأق قوينلى.

(لخصنا هذا الفصل حوار فى كتابه تاريخ بغداد فى الأزمة الحديثة وعن الملا ياسين فى كتابه عمدة البيان).

٢٥٩
٢٦٠