الفوز بالمراد في تاريخ بغداد

سليمان الدخيل

الفوز بالمراد في تاريخ بغداد

المؤلف:

سليمان الدخيل


المحقق: الدكتور محمّد زينهم محمّد عزب
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الآفاق العربيّة
الطبعة: ١
ISBN: 977-344-046-X
الصفحات: ٣٥٣

من الأهمية تضمنت نظريات خاصة بالرياح ، وأنواعها واتجاهاتها والحرارة والبرودة ، وتأثرهما بالتضاريس من حيث الارتفاع والانخفاض والقرب أو البعد من البحر ، وفصول السنة (١).

علم الفلك :

هو علم ينظر فى حركات الكواكب الثابتة أو المتحركة ، ويستدل من تلك الحركات على أشكال وأوضاع للأفلاك لزمت عنها الحركات المحسوسة بطرق هندسية ، وكان اليونانيون يعنون بالرصد كثيرا ، ويتخذون له الآلات التى توضع ليرصد بها حركة الكواكب المعينة ، بقصد معرفة عملها والبرهنة على مطابقة حركتها بحركة الفلك (٢).

عنى العباسيون فى بغداد برصد الكواكب والنجوم ، والخليفة المنصور ـ كما ذكرنا ـ وضع أساس مدينته فى الوقت الذى اختاره له المنجمون ، وبشروه بطول بقائها وازدياد عمرانها (٣).

والمنصور أول خليفة قرب المنجمين ، وعمل بأحكام النجوم ، ومن منجميه نوبخت الذى أسلم على يديه ، وإبراهيم الفزارى صاحب القصيدة فى النجوم وغيرها من علوم الفلك وعلى بن عيسى الأسطرلابى المنجم (٤).

وبلغ من شغف المنصور بعلم الفلك أن عهد إلى علماء الفلك بترجمة أعمال الإغريق والسريان والفرس والهنود ، فترجم له كتاب «السند هند الكبير» وظل هذا الكتاب فى بغداد أهم مرجع فى هذا العلم حتى عهد المأمون ، فاختصره الخوارزمى وأضاف إليه إضافات من مراجع فارسية ويونانية ، وضم إليه أبوابا مفيدة ، وأعتمد العرب على زيجه (٥) وأخذوا منه فى وضع أزياجهم ، وألف فى

__________________

(١) عبد الحليم منتصر ، تاريخ العلم ص ١٠٨.

(٢) المسعودى : مروج الذهب ج ٢ ص ٥٥٤.

(٣) مقدمة ابن خلدون ص ٤٨٧.

(٤) المسعودى : مروج الذهب ج ٢ ص ٥٥٥.

(٥) زيج ، جدول فلكى.

١٦١

الفلك (١) كما نقل يحيى بن البطريق فى عهد المنصور كتاب الأربع مقالات لبطليموس فى أحكام النجوم (٢).

وكان أهتمام المهدى بالنجوم لا يقل عن أهتمام أبيه المنصور فكان تيوفيل بن توما رئيس منجميه عالما بالنجوم ، وصنف فيها كتبا ، وترجم كتابا فى الفلك من اليونانية إلى السريانية ، وفى عهده تم تصحيح بعض أخطاء كتاب المجسطى لبطليموس (٣).

وكان الفضل بن سهل ـ وزير المأمون ـ حجة فى علم الفلك ويقال أن النجوم دلته على أن الأمر سيصير للمأمون ، لذلك تقرب إليه ، وأخلص له ، ولما ولى المأمون الخلافة قدر جهود الحسن بن سهل فى بلوغه الخلافه فاستوزره ، وكان الحسن بن سهل أيضا على علم بالنجوم ، وقد علم بمؤامرة لأغتيال أخيه الفضل من خلال إلمامه بالنجوم. ولا يمكن قبول الروايات التى ترددت عن أن النجوم انبأت الملمين بها عن الحوادث المستقبلة ولكن الناس كانوا فى ذلك العصر شغوفين باستطلاع الأخبار عن طريق النجوم.

ومهما يكن من أمر فقد انتقلت علوم الإغريق فى النجوم إلى العرب وخاصة ما كتبه بطليموس عن الأرض والكواكب والشمس ، فقد نقلوا ـ كما قلنا ـ كتاب المجسطى ، وزادوا عليه ووافقوه فى بعض آرائه.

وخالفوه فى بعضها. قالوا : إن الأرض مركز الكون ، وأنها قائمة فى الفضاء ، وقالوا بدوران الشمس والقمر والنجوم حول الأرض ، وأن القمر أقرب الأجرام السماوية إلى الأرض ويليه الكواكب الأخرى ، وأنها جميعا تدور حول الأرض دورة كاملة كل يوم ، كما قاسوا أجرام الشمس والقمر والنجوم بطرق هندسية حسابية بما يقرب من الحقيقة.

__________________

(١) ابن العبرى : تاريخ مختصر الدول ص ٢٢٠.

(٢) المصدر السابق ص ٢٢٣.

(٣) ابن القفطى : إخبار العلماء بأخبار الحكماء ص ٢٢١ ـ ٢٢٣.

١٦٢

وقاسوا أبعادها عن الأرض ، وقد أنشأ المأمون مرصدا فى الشماسية ببغداد وكان أساس تقدم العرب فى النجوم يرجع إلى المراصد التى أقاموها ، والأجهزة التى ابتكروها. على أن معظم المعدات الفلكية التى أستخدموها مثل الاسطرلاب كانت فى الغالب مبنية على النماذج اليونانية ، وأجريت حسابات دقيقة فى الفلك ، وعلى فروض تفرض لتعليل ما يرى من الظواهر الفلكية (١).

وجدير بالذكر أن المراصد تضمنت آلات الاسطرلاب الذى يقيس ارتفاعات الكواكب من الأفق ، وتعيين الزمن ، وحل كثير من المسائل الفلكية ، كما وضعوا الأزياج ، وهى جداول فلكية تتضمن قوانين رياضية فيما يختص بكل كوكب عن طريق حركته ، مثل زيج البلخى وزيج الخوارزمى.

وكانت أبحاث الكندى فى الفلك تسير على أساس علمى ، ولم يؤمن بالتنجيم وقد لاحظ أوضاع النجوم والكواكب وخاصة الشمس والقمر بالنسبة للأرض.

وما ينشأ عنها من ظواهر يمكن تقديرها من حيث الكم والكيف والزمان والمكان.

وربط بين ذلك ونشأة الحياة على الأرض فى آراء توضح مقدرته العلمية الفائقة وله كتاب فى البصريات ، وآخر فى الموسيقى ووضع رسالة فى زرقة السماء أوضح فيها أن منشأ هذا الكون الأضواء الناتجة عن ذرات الغبار وبخار الماء الموجود فى الجو ، وله رسالة فى المد والجزر وضعها على أساس تجريبى (٢).

ولقد صنف الكندى فى الفلك رسائل علمية على جانب كبير من الأهمية حتى أعتبه بعض المؤرخين واحدا من صمانية هم رواد العلوم الفلكية فى العصور الوسطى (٣).

ولقد صنف الكندى عالما فى رسائل علمية على جانب كبير من الأهمية حتى اعتبره بعض المؤرخين واحدا من ثمانية واد العلوم الفلكية فى العصور الوسطى.

ولم يكن الكندى عالما فى الفلك فحسب بل عالما أيضا فى الطب والفلسفة والمنطق والرياضيات ، وكان مهندسا وطبيبا وفيلسوفا ، وقد عهد إليه المأمون بترجمة كتب أرسطو.

__________________

(١) منتصر ، تاريخ العلم عند العرب ص ١٠٨.

(٢) المصدر السابق

(٣) ابن النديم : الفهرست ص ٣٨٣.

١٦٣

وكان الكندى منصرفا إلى الحياة العلمية عاكفا على طلب الحكمة ينظر فيها إلتماسا لكمال نفسه ، ويقول العاقل من يظن أن فوق علمه علما ، فهو أبدا يتواضع لتلك الزيادة ، والجاهل يظن أنه قد تناهى فتمقته النفوس (١) وللكندى مؤلفات تزيد على المائتين فى الفلسفة والفلك والحساب والهندسة والطب والطبيعيات والموسيقى والنفس والمنطق والصيدلة والمد والجزر وعلم المعادن والجواهر (٢).

كذلك اهتم جابر بن حيان بدراسة علم الفلك ، وتوصل إلى أن الكواكب السبعة تختلف فى مقدار الحرارة التى نستمدها من الشمس باختلاف قربها منها أو بعدها عنها فالشمس هى التى تمد الكواكب كلها بالحرارة والنور ، والشمس وسط بين الكواكب فتصل حرارتها إلى الكواكب كلها. وعلى قدر القرب أو البعد من الشمس تكون حرارة الكوكب : ودرس كل كوكب من حيث ظواهره الطبيعية وخصائصه ، وكما درس خصائص البروج.

ومن أبرز من تصدى لعلم الفلك فى بغداد جعفر بن محمد بن محمد بن عمر البلخى ، وكان أمام وقنه فى فته. وله التصانيف المفيدة فى علم الفلك.

ولم يكن الخوارزمى عالما فى الرياضة فقط بل كان من المهتمين بعلم الفلك وكان أحد منجمى المأمون ، ولعله اشترك فى حساب ميل الشمس فى عهده وجرى على العكوف فى مكتبة المأمون للإطلاع ، وكان من المنجمين الذين استدعاهم الواثق فى مرضه الأخير لينبؤه بما يكون من أمره ، وقد انصرف إلى دراسة الجغرافيا والفلك والتاريخ بالإضافة إلى الفلك ، وألف كتاب التاريخ الذى اعتمد المسعودى فى بعض كتاباته ، وألف كتبه قبل عصر ازدهار الثقافة اليونانية واعتمد على الهندوس والسريان والفرس فى دراساته ، أما المصادر اليونانية فكانت تأتى فى المرتبة الثانية من مصادره ، وقد ألف كتابين فى الأسطرلاب ، وتناول فيه مسائل فى التنجيم من الناحية العملية ، وأعد مجموعة من صور

__________________

(١) ابن النديم : الفهرست ص ٣١٠.

(٢) Hitti : Hist of the Arabs.p.٠٧٦.

١٦٤

السماوات والعالم نزولا على طلب المأمون (١) ، ومن هذه الصور كتاب صورة الأرض.

الرياضيات :

أخذ العرب عناصر فلسفتهم الطبيعية من مؤلفات أقليدس وبطليموس وابقراط ، وجالينوس ، ومن بعض كتب أرسطو بالإضافة إلى كتب ترجع إلى المذهبين الفيثاغورثى والافلاطونى (٢).

أما الرياضيات بالذات ـ موضوع حديثنا ـ فقد أخذه العرب عن فيثاغورث حقيقة استفاد العرب من الهنود فى هذا المضمار ، لكن من الثابت أن المسلمين تأثروا بالدرجة الأولى بفيثاغورث الذى يعتبر أستاذهم بحق (٣).

أخذ العرب عن الهنود نظام الترقيم ، وكان العرب يكثرون الأمثلة والتمارين فى مؤلفاتهم ، ويأتون بمسائل علمية تتناول ما يقتضيه العصر من معاملات مالية وتجارية وكان محمد بن موسى الخوارزمى أول من اقتبس الأرقام الهندية فى مؤلفاته وكتبه فى الحساب ، وكان بحثه فى الحساب الأول من نوعه فى غزارة مادته ودقته ، كذلك كان محمد بن موسى الخوارزمى أول من ألف فى علم الجبر فى عهد الخليفة المأمون وعلى ذلك يمكن القول بأن الخوارزمى واضع علم الجبر والحساب ، ومما لا شك فيه أن الخوارزمى أطلع على ما عند الإغريق والهنود من علم رياضى ، ويغلب على الظن أنه لم يكن يوجد علم الجبر قبل الخوارزمى (٤).

امتازت خلافة المأمون بالتقدم فى الرياضة ، ولعل أبقى وأهم ما أسهم به العرب فى العلم الغربى كان إدخال الأرقام والإعداد الأفرنجية الشائعة الآن ، فحتى القرن الثالث عشر الميلادى ، كان علماء الرياضيات فى أوربا ما يزالون

__________________

(١) دى بور : تاريخ الفلسفة فى الإسلام ص ١١٠.

(٢) المصدر السابق ص ١١١.

(٣) عبد الحليم منتصر : تاريخ العلم عند العرب ص ٩٢ ـ ٩٣.

(٤) مقدمة ابن خلدون ص ٤٨.

١٦٥

يستخدمون الأرقام الرومانية القديمة المعقدة ، ولكن بمجرد إدخال الأرقام الأفرنجية حدث التقدم فى العلم الرياضى (١).

كان أبو يعقوب بن إسحاق الكندى من قبيلة كنده من أصل عربى ، لذلك لقب فيلسوف العرب ، تمييزا له عن أقرانه من المتوفرين على دراسة الحكمة العقلية من غير العرب ، ولقد درس الكندى الثقافة الفارسية واليونانية فى البصرة وبغداد وبعض مدن العراق ، واشتغل بترجمة الكتب اليونانية إلى العربية ، وتهذيب ما ترجمه غيره ، وكان له تلاميذ يترجمون تحت إشرافه واشتغل فى قصر الخلافة منجما ، وكان الكندى واسع الإطلاع على جميع العلوم لذلك صنف فى عدة علوم مثل الجغرافيا وتاريخ التمدن والطب ، وعلم الكلام الذى يظهر فيه مليه إلى المعتزلة ، وكان ملما بالمذاهب والملل المختلفة لذلك برع فى المقارنة بعضها ببعض (٢).

على أن الكندى قد نبغ فى المرتبة الأولى فى الرياضيات والفلسفة الطبيعية ويرى أن الإنسان لا يكون فيلسوفا إلا إذا درس الرياضيات المركبة ، وللكندى نظريات فلسفية تتعلق بالله والنفس والعقل والعلم. فيرى أن كل ما يقع فى الكون يرتبط بعضه ببعض ارتباط علة بمعلول ، وإلى العقل مرد كل شئ والمادة تتخذ الصورة التى يشاء العقل إفاضتها عليها (٣).

ولقد كان للكندى الكثير من التلاميذ الذين استفادوا من مصنفاته فى الرياضيات وأحكام النجوم والجغرافية والطب.

عنى الخلفاء العباسيون بعلم الهندسة عنايتهم يغيره من العلوم ، ففى عهد الخليفة المنصور ، ترجم كتاب أقليدس المسمى الأصول وكتاب الأركان ويشتمل على خمس عشرة مقالة منها أربعة فى السطوح وثلاثة فى العدد وخمسة فى

__________________

(١) أنتونى ناتنج : العرب ص ١٧٧ ـ ١٧٨.

(٢) دى بور : تاريخ الفلسفة فى الإسلام ص ١٣٨ ـ ١٤٢.

(٣) دى بور : تاريخ الفلسفة فى الإسلام ص ١٤٣.

١٦٦

المجسمات ، وقد ألف العرب كتبا على نسقه ، وأدخلوا تمارين جديدة لم يعرفها القدماء. ومما شجع العرب على الاهتمام بالهندسة أنها على حد قول ابن خلدون تفيد صاحبها إضاءة فى عقله ، واستقامة فى فكره ، ولأن براهينها كلها بينة الأنتظام ، جلية الترتيب ، لا يكاد يدخل الغلط أقيستها لترتيبها وانتظامها (١) ، على كل حال وضع العرب أسس الهندسة التحليلية ، ومهدوا لنشأة علم التفاضل والتكامل (٢).

ومن أبرز علماء الرياضة فى بغداد أبناء موسى بن شاكر ، وقد شجعهم المأمون وقربهم إليه ، ولهم أبحاث فى الميكانيكا ، كما ألفوا فى مراكز النقل وكتبوا فى الآلات (٣).

علم الطب :

يعتبر أبقراط المعلم الإنسانى الأول لمهنة الطب ، وهو أول من رتب الطب وبوبه ، وذلك فى القرن الخامس قبل الميلاد ، ولقد بنى الطب على أسس علمية صحيحة ورفع من أداب المهنة ، وأرسى تقاليدها وطهر الطب من الخرافات ، وجعل التجربة الصحيحة أساسا له ، وخلف سبعا وثمانين كتابا ورسالة فى شئون الطب ، ونقل العرب عددا من كتبه ، ونبغ فى الطب عددا من أساتذة جامعة الإسكندرية القديمة وكان جالينوس أشهرهم ويمثل المكان الثانى بعد أبقراط وترجم العرب كتبه أيضا.

نخلص من ذلك إلى أن بغداد أصبح لدى علمائها مادة غزيرة فى الطب ولقد شجع الخلفاء العباسيون الأطباء على تأدية رسالتهم الإنسانية ، فمنحوهم الرواتب الكثيرة وكافأوهم أحسن مكافأة ، كما شجعوهم على الترجمة والتصنيف وأسسوا المدارس الطبية والبيمارستانات من بينها بيمارستان لعلاج مكفوفى البصر ،

__________________

(١) مقدمة ابن خلدون ص ٤٨٦.

(٢) عبد الحليم منتصر : تاريخ العلم عند العرب ص ٩٢ ـ ٩٣.

(٣) ابن خلكان : وفيات الأعيان ج ٤ ص ٢٤٨.

١٦٧

ومصحة للمصابين بأمراض عقلية ، وكان بيت الحكمة مزودا بالكتب الطبية القيمة.

اعتمد العباسيون على أطباء جنديسابور فى العلاج ، فلما مرض الخليفة المنصور ، بعث فى طب جورجيس بن جبريل ، وكان له خبرة بالطب ، ومعرفة أنواع العلاج وقد قدره المنصور لأنه أحسن علاجه ، ووجدد راحة عظيمة فى جسمه ، وتخلص من الأمراض وجدير بالذكر أن جورجيس نهى المنصور عن الإسراف فى الطعام ، وطلب منه تخفيف الغذاء وترجم هذا الطبيب للمنصور بعض الكتب الطبية ، وأعتمد على أطباء غيره من السريان (١).

على أن أسرة بختيشوع قد نبغ أفرادها فى علم الطب ، واعتمدت عليهم بغداد اعتمادا كبيرا لسعة ثقافتهم وإخلاصهم ، فلما مرض الخليفة الهادى أرسل إلى جنديسابور باستدعاء بختيشوع ، لكن الهادى توفى قبل مقدم هذا الطبيب ، على أنه عالج الرشيد ولاحظ دقته وبراعته ، وخلع عليه خلعة حسنة جليلة ، ووهب له مالا وافرا ، وعين بختيشوع رئيسا للأطباء ، وله كتب منها «التذكرة» (٢).

أما جبريل بن بختيشوع فكان مشهورا بالفضل جيد المداواة عالى الهمة ، حظيا لدى الخلفاء ، حصل من الخلفاء من الأموال ما لم يحصله غيره من الأطباء وجعله الرشيد رئيسا للأطباء فى بغداد ، وبلغ من تقديره له أن قال : كل من كانت له حاجة فليخاطب بها جبريل لأنى أفعل كل ما يشاء ، وكان رجال الدولة يقصدونه فى كل أمورهم (٣) لأنه أحسن علاج الرشيد ، ووزراء ، وخاصته ، وكان الأمين لا يأكل ولا يشرب إلا بأذنه ، وأجزل له العطاء ، ولما ولى المأمون الخلافة غضب عليه وقبض عليه ، لكن المأمون مرض ، وعجز الأطباء عن علاجه ولما سمح لجبريل بعلاج المأمون شخص مرضه ووصف له دواءا شفى به ورد إليه الأموال التى صادرها منه ، وبالغ فى إكرامه ، ولما مرض جبريل طلب منه المأمون

__________________

(١) ابن أبى أصبيعه : طبقات الأطباء ج ٢ ص ١٢٥.

(٢) المصدر السابق ص ١٢٤.

(٣) المصدر السابق ص ١٢٦.

١٦٨

أن ينفذ إليه ابنه بختيشوع لعلاجه ولما قدم على المأمون فيه سعة العلم بالغ فى إكرامه ، ورفع منزلته (١).

والخلاصة أن آل جورجيس من الأطباء أجل أهل زمانهم بما خصهم الله من ترف النفوس ونبل الهمم ومن البر والمعروف والأفضال والصدقات ، وتفقد المرضى من الفقراء والمساكين والأخذ بيد المنكوبين (٢).

ونبغ فى الطب فى بغداد أطباء من أصل سريانى نخص بالذكر منهم يوحنا بن ماسويه ولاه الرشيد ترجمة الكتب الطبيه القديمة ، وله تصانيف قيمة ، وكان يجتمع إليه تلاميذ كثيرون (٣) ومن أطباء بغداد سهل بن سابور ، وجبريل الكحال ، ومن أطباء المعتصم سلمويه وكان على حد قول المعتصم «يمسك حياته ويدير جسمه (٤)».

وكان المعتصم ذا بأس وشدة فى جسمه وشجاعة فى قلبه فلاحظ طبيب المعتصم أنه ـ أى المعتصم ـ قد تغير لونه ، وتضاءلت قوته وكان قد خالف رأى طبيبه فى الطعام ، إذا كان ينصحه بتجنب الأطعمة العسيرة الهضم ، وكان فى أكثر أموره يستمع إلى نصائح طبيبه ، ويكثر مشورته ، ثم عاد فخالف مشورة طبيبه ، حتى أنه كان يأكل ويقول «أكل هذا على رغم أنف ابن ماسويه» (٥).

وكان على الطبيب أن يلم بالكواكب فى كل ما يعرض له من حالات ، فالطبيب أخو المنجم ، فكانت أم جعفر بن أبى الفضل فى قصر عيسى بن على الذى كانت تسكنه تعقد مجلسا لا يجالس فيه إلا الأطباء والمنجمون ، وكانت لا تعرض نفسها للعلاج إلا إذا حضر أهل المهنتين ، وتشكو علتها ، فيتناظر الأطباء فيما بينهم حتى يجتمعوا على العلة والعلاج فإذا كان بينهم أختلاف ، دخل

__________________

(١) ابن أبى أصبيعة : طبقات الأطباء ج ٢ ص ٢١٣.

(٢) المصدر السابق.

(٣) ابن العبرى : مختصر تاريخ الدول ص ٢٢٦.

(٤) المصدر السابق ص ٢٤٣.

(٥) المسعودى : مروج الذهب ج ٢ ص ٢٦٢.

١٦٩

الفلكيون بينهم ، ورجحوا كفة من يروه مصيبا ، ثم تسأل المنجمين عن أختيار وقت مناسب للعلاج ، فإن اجتمعوا على وقت وإلا نظر الأطباء فيما بين المنجمين من اختلاف وحكموا ، وإلا لزمهم القياس (١).

ولم يكن الخليفة الواثق أقل أهتمام من أسلافه بعلم الطب ، بل كان يكرم أهل العلم عموما ، وكان يعقد مجالس مناظراته فى فروع العلم المختلفة ، ومن بينها الطب ، ومن مناظرات أطبائه يتضح لنا أن الأطباء فى بغداد كانوا يعتمدون على التجربة ، وقسموا التجربة إلى قسمين ، قسم طبيعى وهو ما تفعله الطبيعة فى الصحيح والمريض ، وقسم عرضى وهو ما يعرض للحيوان من الحوادث والنوازل ، وقسم إرادى ، وهو ما يقع من قبل النفس الناطقة ـ أى النواحى النفسية والعصبية التى قد تصيب الإنسان ـ وحرصوا على تشخيص المرض بدقة ، وإستعمال الدواء المناسب من مرض إلى مرض يشبهه ، ومن عضو إلى عضو يشبهه ومن دواء إلى دواء يشبهه ، وكل ذلك لا يمكن استعماله إلا بالتجربة كذلك حددوا وظائف الأعضاء ، وعرفوا أن الضدين لا يجوز اجتماعهما فى حال ، وأن وجود إحداهما ينفى وجود الآخر وعرفوا أن السبيل إلى معرفة الطب مأخوذ من مقدمات أولية ، منها معرفة طبائع الأبدان والأعضاء وأفعالها ومنها معرفة الأبدان فى الصحة والمرض ومعرفة الاهوية واختلافها ، والأعمال والصنائع والعادات والأطعمة والأشربة ، ومعرفة قوى الأمراض.

وكما تختلف الحيوانات فى صورها وطباعها ، كذلك أعضاء الحيوان مختلفة فى صورها وطباعها ، وأن الأحياء الحيوانية تتغير بالاهوية المحيطة بها ، وبالحركة والسكون والأغذية والنوم واليقظة وسهولة الهضم والأعراض النفسية من الغضب والحزن وأثبتوا أن خير دواء هو الذى يظهر تأثيره الصحيح فى الجسم (٢).

__________________

(١) ابن أبى أصبيعة : طبقات الأطباء ج ٢ ص ١٣٠.

(٢) المسعودى : مروج الذهب ج ٢ ص ٣٨٥.

١٧٠

كذلك حذق الأطباء فى بغداد فى طب الأسنان ، فقسموا الأسنان إلى ٣٢ سنا منها فى اللحى الأعلى ستة عشر سنا وفى اللحى الأسفل كذلك ، وتوجد قواطع أربع فى كل واحد من اللحيين عراض محددة الأطراف ، وعن جنبى هذه الأربع فى كل واحد من اللحيين سنان رءوسها حادة ، وأصولها عريضة وهى الأنياب ، وبها يكسر كل ما يحتاج إلى تكسيره من الأشياء الصلبة مما يؤكل ، وعن جانبى النابين فى كل واحد من اللحيين خمس أسنان ، وهى الأضراس ، وتسمى الطواحين لأنها تطحن كل ما يؤكل ، وكان فى بغداد أطباء للعيون (١).

كذلك برع أهل بغداد فى علم الصيدلة ، ومن أبرز علماء الصيدلة كوهين العطار اليهودى الذى وضع كثيرا من المؤلفات منها كتاب الصيدلة ، شرح فيه العقاقير شرحا وافيا وأوضح طريقة عمل المشروبات والجرعات والمساحيق والحبوب وغيرها.

الكيمياء :

كذلك نشط أهل بغداد فى دراسة علم الكيمياء ، وأخرجوا فيه أبحاثا قيمة ، ومن أشهر علماء الكيمياء جابر بن حيان ، ولد بخراسان سنة ١٢٠ ه‍ درس الكيمياء على يد أستاذه جعفر الصادق ، وأقام فى بغداد ، واتصل بالبرامكة ، ونال حظوة عندهم ، وغادر بغداد بعد نكبة البرامكة ، ويعتبر جابر بحق واضع علم الكيمياء ، أعتمد على التجربة فى وضع نظرياته ، وتحقيق ما كتب ، وألف كتبا فى الرياضة والفلسفة والفلك بالإضافة إلى ذلك (٢).

ولقد توصل من خلال أبحاثه إلى تكوين الزئبق والكبريت وله أبحاث فى التفاعلات الكيماوية والمعادلات ، فمثلا حدد العناصر التى تكون الذهب وكان جابر ينصح تلاميذه دائما بالتجربه وعدم الاعتماد فى الأبحاث العلمية إلا عليها مع التدقيق فى الملاحظة والاحتياط والتأنى فى الاستنتاج ، لأن التجربة طريق

__________________

(١) المصدر السابق ج ٢ ص ٣٨٦.

(٢) عبد الحليم منتصر : تاريخ العلم عند العرب ص ١٦٢.

١٧١

المعرفة ، ولقد عرف جابر الكثير من النظريات الكيمياوية كالتبخير والتقطير والترشيح والتبلور والتصعيد والإذابة ، وحضر كثيرا من المواد الكيماوية ، وعرف خواصها مثل نترات الفضة وحامض الأزوتيك وهو أول من لاحظ أن محلول نترات الفضة يكون مع محلول ملح الطعام راسبا أبيض «وأن النحاس يكسب اللهب لونا أخضر ولقد ميز بين التقطير والترشيح» (١).

ونظرية جابر فى طبيعة المعادن تشير إلى أنه كان أكثر تقدما عن نظريات اليونان العلمية ، وعن نظريات مدرسة الإسكندرية ، فالمعادن عنده مقومان دخان أرضى وبخار مائى وتكثيف هذه الأبخرة فى جوف الأرض ينتج الكبريت والزئبق ، واجتماع هذين يكون المعادن والفروق بين المعادن الأساسية يرجع إلى فروق فى النسب التى يدخل فيها الكبريت والزئبق فى تكوينها ، ففى الذهب نسبة الكبريت إلى الزئبق نسبته نسبة تعادل بين هذين العنصرين ، وفى الفضة يكون العنصران متساويين فى الوزن ، أما النحاس ففيه من العنصر الأرضى أكثر مما فى الفضة والحديد والرصاص والقصدير فيها من ذلك العنصر أقل مما فى الفضة. ولما كانت المعادن مكونة من مقومات مشتركة ، فإن تحويل بعضها إلى بعض يصبح أمرا مستطاعا وعند ما يقوم الكيميائى بهذا التحويل فإنه يؤدى فى وقت قصير ما تؤديه الطبيعة فى وقت طويل (٢).

ولقد توصل جابر إلى نظريات تثبت عبقريته ، منها النظرية التى تقول بأن الاتحاد الكيميائى يكون باتصال ذرات العناصر المتفاعلة بعضها ببعض ونظرية جابر هذه لا تختلف كثيرا عن النظرية الذرية التى وضعت بعد ذلك بألف عام.

لقد ترجمت كتب جابر إلى اللاتينية ، وظلت أهم مرجع فى علم الكيمياء زهاء ألف عام ، وكانت مصنفاته ، وضع دراسة مشاهير علماء الغرب ، ومنهم من أنصف جابر وأشاد بأعماله ومنهم من أثار الشك والريبة حول جهوده بل أنكر

__________________

(١) Hitti : Hist of the Arabs pp.٠٨٣ ـ ١٠٣.

(٢) زكى نجيب محمود : جابر بن حيان : ص ٢٤٧.

١٧٢

وجوده ، وقالوا لا يمكن أن تكون كتب جابر وما تحويه من معلومات قيمة من وضع رجل عاش فى القرن الثانى الهجرى (١).

والحق أن جابر كيمائى العرب الأول ، فهو أول من بحث فى علم الكيمياء ولقد أصاب من ارتفاع المكانة وفخامة الثراء وبعد الصيت ما جعله موضع التقدير وقال عنه القفطى (٢) ، كان متقدما فى العلوم الطبيعية بارعا منها فى صناعة الكيمياء ، وله فيها تآليف كثيرة ، ومصنفات مشهورة ، وكان لا يقبل تعليم أحد الكيمياء إلا إذا اطمأن إليه اطمئنانا كاملا على مقدرته العلمية وحسن استعداده وعلى حد قوله : أعلم أن من المفترض علينا كتمان هذا العلم وتحريم إذاعته لغير المستحق من بنى نوعنا ، وألا نكتمه عن أهله (٣) لأن وضع الأشياء فى مجالها من الأمور الواجبة ، ولأن فى إذاعته خراب العالم وفى كتمانه تضيعا لهم ، ويذكرون أن الكيمياء عناء الدهر (٤).

وينسب إلى جابر بن حيان عدد كبيرا جدا من الكتب والرسائل يدور كثير منها حول الكيمياء والوسائل التى يستطيع بها الكيمياوى أن يبدل طبائع الأشياء تبديلا يحولها بعضها إلى بعض ، وذلك أما بحذف بعض خصائصها أو بإضافة خصائص جديدة إليها ، لانه إن كانت الأشياء كلها ترتد إلى أصل واحد ، كان تنوعها راجعا إلى اختلاط فى نسب المقادير التى دخلت فى تكوينها ، فليس الذهب ـ مثلا ـ يختلف عن الفضة فى الأساس والجوهر ، بل هما مختلفان فى نسبة المزج ، فإما زيادة هنا أو نقصان هناك ، وواجب الكيميائى تحليل كل منهما تحليلا يهديه إلى تلك النسبة ، كما هى قائمة فى كل منهما (٥).

وكان ابن حيان يرى أن العالم فى استطاعته أن يجاوز الطبيعة إلى ما وراءها

__________________

(١) دائرة المعارف الإسلامية (جابر بن حيان).

(٢) عبد الحلم منتصر ، تاريخ العلم عند العرب ص ١٦٢ ـ ١٦٤.

(٣) القفطى : إخبار العلماء ص ٢٢٠.

(٤) زكى نجيب محمود : جابر بن حيان ص ٤٥ ـ ٤٦.

(٥) دائرة المعارف الإسلامية.

١٧٣

بالبحث العلمى المجرد ، وهذا ييسر له استخراج كوامن الطبيعة ، ففى وسع الباحث العلمى أن يلتمس طريقه إلى تحقيق غايته فى الوصول إلى الحقيقة العلمية (١).

والواقع أن جابر ينفرد أو يسبق غيره فى المنهج العلمى ، فهو حريص على أن يقصر نفسه على مشاهداته المستندة إلى التجربة التى تثبت صحتها ، وكان لا يعتمد على أقوال الغير ما لم تؤيدها التجربة التى يجربها هو ، ولا يعتمد على ما توصل إليه غيره من نتائج علمية إلا إذا كانوا ثقات مشهود لهم بأمانتهم العلمية.

ومذهب ابن حيان العلمى يسير فى ثلاث خطوات ، الأولى أن يفترض العالم فرضا ليفسر الظاهرة المراد تفسيرها ، والثانية أن يستنبط من هذا الفرض نتائج تترتب عليه ، والثالثة أن يطابق هذه النتائج على الواقع فإن صدقت تحول الفرض إلى قانون علمى (٢).

ويرى ابن حيان أن العالم يجب أن يكون مثابرا فى جهوده العلمية التى تهدف إلى الكشف عن الحقيقة مهما كلفه هذا البحث من عناء وجهد ، ويؤكد ابن حيان أنه لا نجاح فى عمل علمى إلا إذا كان مسبوقا بعلم يتبعه التجربة ثم التطبيق (٣).

ويرى جابر بن حيان أن أول ما كان فى الأزل هو العناصر الأولية الأربعة الحرارة والبرودة واليبوسة والرطوبة ، فهذه هى أوائل الأمهات البسائط كما يسميها ، ثم طرأت على هذه البسائط حركة وسكون فتكون منها تركيبات متنوعة ، ولو لا الحركة والسكون لظلت تلك الأصول الأولى مستقلا بعضها عن بعض كل منها خالص لنفسه.

ومن هذه الأصول الأربعة الأولى الحرارة والبرودة واليبوسة والرطوبة نشأت أربعة عناصر ، وذلك بإجتماع تلك الأصول بعضها ببعض أثنين أثنين. فقد اجتمع

__________________

(١) زكى نجيب محمود : جابر بن حيان ، ص ٥٢ وما بعده.

(٢) زكى نجيب محمود ، جابر بن حيان ص ٦٤.

(٣) القفطى : أخبار العلماء ص ٢٢٣.

١٧٤

الحار واليابس فنشأت النار واجتمع الحار والرطب فنشأ الهواء ، واجتمع البادر واليابس فنشأ الأرض ، واجتمع البارد والرطب فنشأ الماء ، وفصول السنة أربعة تقابل تلك العناصر الأربعة فالصيف يقابل النار ، والربيع يقابل الهواء ، والشتاء يقابل الماء والخريف يقابل الأرض (١).

وجابر بن حيان تلميذ الإمام جعفر الصادق المتوفى سنة ١٤٨ ه‍ وأول ما تشير إليه مؤلفاته مسائل تتعلق بتاريخ الدين ، فكما أن أصحاب الكيمياء القدامى من اليونانيين مزجوا تعاليمهم بمذاهب العرفان وغيرها من أراء المسيحية ، فقد ظهرت شيعية جابر فى كتاباته فى تاريخ الدين فيشير إلى أن مفاتيح العلم اليونانى فى أيدى الأئمة المعصومين من ذرية على بن أبى طالب.

وبعد دراساته لتاريخ الدين يتناول الكيمياء ثم الطب ثم الفلك والسحر (الطلمسات) وعلم الخواص أى القوى الباطنة فى بطون الأشياء الطبيعية وعلم الكون أى تكوين الأحياء بطرق صناعية وترجع أهمية مصنفات جابر بن حيان إلى أنها تمكننا من التعرف على جوانب كبيرة من العلوم اليونانية التى فقد الكثير منها ، ويروى عن كتب أفلاطون وأرسطو وجالينوس ، وأقليدس وبطليموس وأرشميدس وغيرهم ، ويأخذ عن ترجمات حنين بن إسحاق ، وأبنه إسحاق وتلاميذهما (٢)

* * *

كذلك شهدت بغداد دراسات مستفيضة فى علم الحيوان وعلم النبات وممن عكفوا على دراسة الحيوان ، الجاحظ فى كتابه (الحيوان) وصف فيه الكثير من أنواع الحيوان من طير ووحش وأسماك وحشرات وزواحف وثدبيات وما إليها.

ولقد أهتم هؤلاء العلماء بالشكل العام للحيوان وما نسميه الآن سلوك الحيوان.

أما علم النبات فقد شغف العرب بدراسته لأن معظم العقاقير التى كانت تستخدم فى العلاج من النبات أو خلاصات نباتيه حتى أن الأطباء كانوا يعرفون بالعشابين.

__________________

(١) دائرة المعارف الإسلامية (جابر بن حيان).

(٢) انظر دائرة المعارف الإسلامية (جابر بن حيان).

١٧٥

ولقد درس جابر بن حيان الحيوان والنبات وقسم الحيوان إلى أربعة أقسام ، وكل من هذه الأقسام مؤلف من نفس وجوهر وحرارة وبرودة ويبوسة ورطوبة محصورة كلها فى مكان وفى زمان ، والإنسان يزيد عن أنواع الحيوانات الأخرى بما خصه الله من العقل (١).

ويقول جابر عن النبات أنه يختلف عن الحيوان فى شيئين : وهما النفس والعقل ويقارن بين الحيوان والنبات من حيث تركيب كل منهما ، وكذلك يوازن بين الحيوان والنبات من حيث الطبائع ويجد هنا تشابها بينهما ، فى أن كلا منهما ينقسم ثلاثة أقسام فى مراحله التطورية ، وهى الأول والبليد والزكى المرحلة التى تتمثل فى النبات ، ومرحلة الشعور تتمثل فى الحيوان الذى يشعر ويكون على وعى بأنه شاعر (٢).

أما كتاب الحيوان للجاحظ لم يكتف فيه بدراسة الحيوانات فحسب ، بل ظهر ميلا نحو دراسة الحشرات والمخلوقات المتناهية فى الصغر ، وفى هذا الكتاب نظريات علمية وأدب ونقد ، فهو لذلك من كتب علم الأخلاق وهو العلم الذى أوحده الجاحظ.

علم الموسيقى :

تقدم فن الموسيقى فى بغداد فى العصر العباسى الأول ، فازدحمت قصور الخلفاء والأمراء وكبار رجال الدولة بالموسيقيين والقبان ، وأنعم عليهم ، وحصلوا على الجوائز السنية والصلات الكبيرة.

وكان الفنانون الكبار يساعدهم فى الغناء الآلاتى والقبئة والقيان يتعلمن على الفنانين الكبار ورأينا أن إسحاق الموصلى كان يدرب القيان على الغناء بأثمان باهظة.

ذكرنا أن من أبرز الموسيقيين فى بغداد إسحاق الموصلى ، ويبدو أن الخليل بن أحمد ـ وهو من أشهر علماء عصره ـ أول من كتب الرسائل العلمية الحقة فى

__________________

(١) زكى نجيب محمود. جابر بن حيان ص ١٧٨.

(٢) القفطى : إخبار العلماء ص ٢٢٥.

١٧٦

علم الموسيقى فى كتابيه «النغم» و «الإيقاع» ولكن أهم كتب الموسيقى فى الفترة التى نكتب عنها رسائل الكندى ، وينسب إليه ما لا يقل عن سبع رسائل ، وتوضح رسائل الكندى دقة فنانى العصر النظرية والعملية فى الموسيقى كما نحصل فيها على نظريات مأخوذة من الموسيقيين اليونانيين وكتب جامعوا الأغانى مثل يحيى المكى وأحمد بن يحيى المكى وإسحاق الموصلى كتبا عديدة فى الموسيقى ، وجمع إسحاق ما يقرب من ١٢ من سير الموسيقيين المشهورين (١).

وكثرت المناقشات بين كبار الفنانين وعلماء الموسيقى فى الموسيقى العلمية حتى أمام الخلفاء حول الإيقاعات واستعمال الآلات والأصابع على الآلات وابتداع الألحان وتطبيقها ، وشاعت الأعواد فى ذلك العصر والطنبور والمزامير والطبل والدف ـ وكان فى المرتبة الثانية بعد العود (٢).

وأصبح إبراهيم بن المهدى زعيم الحركة الموسيقية الإبداعية (الرومانتيكية) ، الفارسية ، فبدأ بذلك صراع بين هذه المدرسة ومدرسة إسحاق الموصلى الذى تمثل المدرسة التقليدية العربية القديمة. وكان صوت إبراهيم بن المهدى رائعا ذا قوة هائلة ، وكان عالما موسيقيا وعازفا على الآلات من أعلم الناس بالوتر والنغم والإيقاعات (٣).

على أن إسحاق الموصلى كان أعظم الموسيقيين فى الإسلام من معلومات ، كان عازفا رائعا ، أخضع نظريات الفن الموسيقى المتضاربة لنظام واضح.

ويحتمل أن حنين بن إسحاق قد ترجم بعض الكتب الإغريقية فى الموسيقى إلى العربية ، وكان الكندى كثير التأليف ومن كتبه رسالته الكبرى الموسيقى وكتاب رسالته فى الإيقاع وكتاب رسالته فى المدخل إلى صناعة الموسيقى ، ومختصر الموسيقى فى تأليف النغم وصفة العود (٤).

__________________

(١) فارمر : تاريخ الموسيقى العربية ص ١٢٧ ـ ١٢٨ ـ ١٤٢.

(٢) انظر كتاب الأغانى.

(٣) انظر الحياة الإجتماعية فى بغداد للدكتور عصام عبد الرءوف

(٤) فارمر ، تاريخ الموسيقى العربية ٢٥٥ ـ ٢٥٦.

١٧٧

وكان أبناء موسى بن شاكر من أشهر علماء عصرهم وألفوا كتبا عن الموسيقى منها ، كتاب الآلات الموسيقية الآلية.

* * *

وصفوة القول أن الحركة الفكرية فى بغداد فى العصر العباسى الأول يمكن أن نعتبرها بحق خلاصة للثقافة العالمية فى ذلك العصر ، فأضافت إلى أصالتها العربية ثقافة الفرس والهنود والإغريق وأهل الذمة تأثرت الثقافة العربية فى بغداد بالأدب الفارسى فى مجالات شتى ، ومن أدب التوقيعات ، حيث دأب ملوك الفرس على التوقيع على شكاوى الناس بأسلوب يتجلى فيه البلاغة ودقة التعبير والحكمة المفيدة ، وقد أخذ العباسيون ذلك عن الفرس ، ولا سيما أن أكثر كتاب بغداد كانوا فرسا ، ونشأ فيما بعد ديوان التوقيع (١).

ولما كان الفرس الذين انتقلوا إلى بغداد بعد تأسيسها شغوفين بالثقافة والأدب ، فقد أقبلوا على التدوين والتأليف مستندين إلى تراثهم الفارسى الزاخر ، وكانت تصنيفاتهم بالعربية لأنهم نشأوا فى البيئة العربية ، وتأثروا بها ، وأصبحوا عربا بيئة ومربى ، ويرجع إلي كثير منهم فضل السبق فى تصنيف الكتب وتدوين العلوم المختلفة ، منهم أبو حنيفة النعمان وحماد الراوية والكسائى والفراء وأبو العتاهية وابن قتيبة.

وعلى ذلك فقد أثرت الثقافة الفارسية فى بغداد ، وتجلى ذلك فى الشعر والأدب والحكم والقصص والموسيقى والغناء والكلام والعقائد (٢) كما كان لها أثر بالغ فى اللغة العربية فقد دخلت ألفاظ فارسية إلى العربية ، كما ترجمت كتب فارسية فى علوم النجوم والهندسة والجغرافيا والتاريخ والسير فترجم عبد الله بن المقفع كتاب خذ ينامه وسماه تاريخ ملوك الفرس وترجم كتاب آبين تامه ، وهو

__________________

(١) حسن أحمد محمود : العالم الإسلامى فى العصر العباسى ص ٢٤٧.

(٢) المصدر السابق ص ٢٤٨.

١٧٨

وصف نظم الفرس وتقاليدهم وعرفهم كما ترجم كتاب مزدك وكتاب التاج فى سيرة أنوشروان وكتاب الأدب الكبير والأدب الصغير وكتاب اليتيمة وكتاب كليله ودمنة كما ترجمت من الفارسية إلى العربية كتاب سير ملوك الفرس ترجمه محمد بن الجهم البرمكى ، وترجم جبلة بن سالم كتاب رستم واسفندبار وكتاب بهرام جور إلى غير ذلك من الكتب الدينية والقصصية (١).

كذلك تأثرت بغداد بالثقافة الهندية ، وذلك بانضمام السند إلى الدولة الإسلامية منذ العهد الأموى. كما أن الفرس ساهموا فى نقل الثقافة الهندية إلى العربية لقوة أواصر الصلة التى كانت تربطهم بالهنود منذ وقت طويل ، فترجمت إلى العربية كتب هندية فى الإلهيات والرياضيات والأدب ، وقد تأثرت قصص ألف ليلة بأفكار الهنود من تناسخ الأرواح ، على أن الثقافة العربية قد أفادت من الهنود فائدة كبيرة من مجالات الفلك والرياضة ، فقد وفد بعض علماء الرياضيات الهنود إلى بغداد فى عهد المنصور ، وترجموا بعض كتب الهند فى الفلك ، وقد أخذ العرب بعض الاصطلاحات الهندية فى الرياضة من الهنود ، وأقتبسوا الكثير من نظريات الهنود فى الحساب والهندسة ، كما وفد إلى بغداد بعض الأطباء الهنود ، واعتمد عليهم الخلفاء ورجال الدولة وتأثر الأدب العربى بالأداب الهندية وأدخلت بعض الألفاظ الهندية فى الأدب العربى. كما شغف العرب بالقصص الهندية ، وكان أصل كليلة ودمنة ـ كما هو معروف ـ هندى ترجم إلى الفارسية ، ومن الفارسية إلى العربية وكانت حكمة الهند أقرب إلى روح العرب وأحب إلى أذواقهم ، وامتلأت الكتب العربية بالكثير من الحكم الهندية لعمق فكرتها كما ترجمت إلى العربية كتب هندية فى الإسحار والأحاديث والقصص الخيالية (٢).

ومما لا شك فيه أن العرب تأثروا بالثقافة الإغريقية فى مجالات شتى فقد أفاد العرب من مراكز الثقافة الإغريقية فى جند يسابور وحران والإسكندرية فأخذ

__________________

(١) ابن النديم : الفهرست ص ٣٤١ ـ ٣٤٢.

(٢) حسن أحمد محمود ، العالم الإسلامى فى العصر العباسى ص ٢٧٨.

١٧٩

المفكرون العرب المنطق عن اليونان. وأعتمدوا عليه اعتمادا كبيرا فى البحث والدراسة والمناقشة والجدل وتوضيح البرهان ومنطق أرسطو هو الذى اعتمد عليه العرب دون غيره ، وأتضح ذلك فى التبويب والترتيب وتقسيم الموضوعات وذكر الأمثلة والأحكام ، واستخدام القياس فى النحو ، والفقه والفلسفة معتمدا بالدرجة الأولى على المنطق.

كذلك تأثرت الثقافة العربية بالفكر اليونانى فى علوم الطب والفلك والجغرافيا والكلام والموسيقى ، وأثرت الأفلاطونية فى التصوف (١).

وكان للثقافة اليونانية أثر كبير فى بغداد ، ذلك لأن اتصال المسلمين بها صاحب عصر تدوين العلوم العربية. فتسربت الثقافة اليونانية إليها ، وصيغتها بصيغة خاصة ، على أن العرب استفادوا من الثقافة اليونانية فى المجالات التى تهمهم فقط ، فأخذوا ما أخذوا عنهم ثم بنوا عليه ورادوا فيه وابتكروا واقتصر اقتباسهم من الثقافة اليونانية على ما يلائم الحياة الإسلامية ولا يتعارض معها ، وأهملوا وتركوا كل ما يتعارض مع الدين الإسلامى والتقاليد العربية (٢) عنى المسلمون بنقل تاريخ بنى إسرائيل وأنبيائهم ، كما فعل ابن قتبية فى كتابه المعارف. وقد ثبت بما لا بدع مجالا للشك أن كثيرا مما نقل عن تاريخ بنى إسرائيل ينقصه الدقة ، وتظهر فيه الأساطير والمبالغات ، ذلك أن الروايات التى نقلت عنهم ، كثيرا من رواتها من العوام ، وقد ذهب بعض الباحثين إلى أن بعض قصص ألف ليلة وليلة من أصل يهودى ، ومهما يكن من أمر فقد تسربت بعض جوانب الثقافة اليهودية إلى الفكر العربى ، بعضها أخذ عن أهل العلم بالكتاب ، وبعضها عن العوام (٣).

كذلك ظهر أثر الثقافة المسيحية فى بغداد ، وقد أوردت الكتب العربية شيئا كثيرا منها كرسالة الجاحظ فى الرد على النصارى حول بعض عقائدهم.

__________________

(١) أحمد أمين ، ضحى الإسلام ج ١ ص ٢٧٥.

(٢) أحمد أمين ، ضحى الإسلام ج ١ ص ٣٧٨.

(٣) المصدر السابق ج ١ ص ٣٣٨.

١٨٠