الفوز بالمراد في تاريخ بغداد

سليمان الدخيل

الفوز بالمراد في تاريخ بغداد

المؤلف:

سليمان الدخيل


المحقق: الدكتور محمّد زينهم محمّد عزب
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الآفاق العربيّة
الطبعة: ١
ISBN: 977-344-046-X
الصفحات: ٣٥٣

عليه ذلك وأنكره ، ولما أدرك أن الرشيد يعتزم التنكيل به غادر بغداد ، ولم يكن للمتكلمين الحرية فى عهد الرشيد فى إبداء آرائهم فقد نهى عن الجدال فى الدين وزج من خالف ذلك فى السجن (١).

على أن المعتزلة أرتفع شأنهم وأنتعشوا فى عهد المأمون لأنه أيد المعتزلة وأعتنق مبادئها ، وسار المعتصم على نهجه ، كما أن الواثق كان يؤمن بآراء المعتزلة.

ويجمع المؤرخون على أن بشر بن المعتمر مؤسس الأعتزال فى بغداد ، غضب الرشيد منه فقال : بلغنى أن بشرا يقول : القرآن مخلوق ، والله إن أظفرنى الله به لأقتلنه ، فأقام بشرا متواريا أيام الرشيد.

وقد تتلمذ عليه كثيرون مثل أبو موسى المردار وشماسة بن الأشرس وأحمد ابن أبى دؤاد وكان لهم صلات قوية بالمأمون (٢).

أما أبو موسى فيرجع إليه الفضل فى انتشار الأعتزال فى بغداد ، كان ورعا زاهدا فصيح اللسان قوى البيان ، واعظا وقصاصا موفقا وله تلميذان ساهما بنصيب كبير فى نشرا اراء المعتزلة فى بغداد ، يقال لهما الجعفران ، وهما جعفر بن مبشر ، وجعفر بن حرب سارا سيرة أستاذهما فى الورع والزهد والتقوى ، فلا غرو أن نرى هؤلاء العلماء الثلاثة يكثر أنصارهم الذين آمنوا بآرائهم بعد أن رأوا حسن سيرتهم.

ومن أشهر المتكلمين فى بغداد أبو الهذيل العلاف ، يرجع إليه الفضل فى إدخال الفلسفة على مبادئ المتكلمين ، كان واسع الأطلاع ، فصيح القول ، قوى البيان ، يستشهد بالشعر العربى فى مناظراته ، درس الفلسفة اليونانية ، استفاد منها فى مناقشاته وإبداء آرائه ، وقد جادل الزنادقة والمجوس وضعاف العقيدة ، وبلغ من قوة إقناعه وتأثيره أن أسلم على يديه ثلاثة آلاف رجل (٣).

كما أن أحمد بن يحيى بن إسحاق الراوندى ، كان من الفضلاء فى عصره ،

__________________

(١) الجهشيارى. الوزراء والكتاب ص ٢٩٠.

(٢) الخطيب البغدادى ، تاريخ بغداد ج ٧ ص ١٧٧.

(٣) دى بور ، تاريخ الفلسفة فى الإسلام ص ٥٧.

١٤١

وله عدة كتب فى علم الكلام تزيد على المائة ، وقد انفرد بآراء نقلها عنه أهل الكلام فى كتبهم (١).

وكان النظام واسع الأفق ، متعدد الثقافات ، قوى الحجة ، مقنعا قوى التأثير تتلمذ على ابن هذيل العلاف ، لعب دورا كبيرا فى مناهضة البدع والخرافات التى نقشت بين الناس فى بغداد ، اتبع الأسلوب العلمى فى إثبات صحة آرائه ، ودافع عن الإسلام بالمنطق والبرهان القاطع ، وأظهر الملحدين والخارجين على الدين خطأ اتجاهاتهم بالأدلة المقنعة.

والنظام أستاذ الجاحظ ، وقد شابه أستاذه فى أعتماده على النقل وسعة اطلاعه ودراسته للفكر اليونانى ، وسعة ثقافته.

ومن المتكلمين فى بغداد شماسة بن الأشرس ـ إمام أهل الفكر الحر فى العصر العباسى الأول ـ وفلسفة شماسة تقول بأن الله فعل العالم بطباعه أى أوجد العالم بذاته لا بإرادته ، ويقول أن كل معارفنا ضرورة لا شأن للصدفة فيها ، ومن لم يضطر إلى معرفة الله عن إقناع ومنطق لم يكن مأمورا بالمعرفة وفى هذا وذاك لبس وغموض يجب أن يزول ـ أى أن من لم يعرف الله معرفة ضرورية ليس عليه أمر ولا نهى. أى لا يكون مكلفا بل مخلوقا للسخرة ، ويكون لهذا الجهل معذورا لا يستحق ثوابا ولا عقابا (٢).

وكان الجاحظ كشيخه أبى إسحاق إبراهيم بن سيار النظام من أوائل المعتزلة والذين درسوا فلسفة اليونان ، وكان يستشهد فى أحكامه بالتاريخ وتجاربه ولا يرضى عن الأحكام القائمة لمجرد النظر.

وكان الجاحظ عالما بالطبيعة والإنسان ، وكتابه الحيوان وثيقة الصلة بالكلام لأن المؤلف سعى إلى إظهار وحدة الطبيعة وإلى أن الأجزاء المكونة لها متساوية القيمة فى نظر الرائى (٣).

__________________

(١) ابن خلكان : وفيات الأعيان ج ١ ص ٧٨.

(٢) انظر دائرة المعارف الإسلامية.

(٣) المصدر السابق.

١٤٢

استهل المأمون فى بلاطه عصرا من النقاش المستنير لم يسمع به من قبل ، ذلك أن المأمون كان ليبراليا فى الفكر بمثل ما كان كريما فى الأخلاق ، ولم يكن يحب شيئا أكثر من أن يجادل العلماء علنا حول أقوى وأدق المسائل الخلافية فى الدين ـ هذه المناقشات التى أجريت عمدا مع الفقهاء وعلماء الدين من جميع المدارس الفكرية قادته إلى الاعتقاد بخلق القرآن ، وذلك على خلاف التعليم التقليدى ، أما أن الله سبحانه وتعالى أوحى به وأنزله ، فهذا ما سلم به بسهولة ، ولكنه لم يستطع ولم يكن لديهم الفكرة الخفية التى تذهب إلى أن القرآن كان كلمة الله غير المخلوقة أنزلت من السماء عن طريق جبريل ، وانطلاقا من هذا أعلن المأمون صحة المذهب القائل أن الحياة ليست مقدرة من قبل وأن الإنسان وهب إرادة حرة (١).

وكان المأمون مثقفا ثقافة واسعة ، ولقد تأثر بالفكر اليونانى الذى شجع على ترجمة الكثير منه إلى العربية ، لذلك اعتنق مذهب المعتزلة الذى يعتمد على العقل والمنطق ، وقرب المعتزلة إليه مثل أحمد بن أبى دؤاد ، وكان منطقيا راجح العقل وقوى نفوذه فى قصر الخلافة (٢).

حمل المأمون الناس على القول بخلق القرآن ، وناهض القائلين بأن القرآن قديم قدم الله تعالى ، ففى سنة ٢١٨ ه‍ أمر المأمون عامله على بغداد بأن يمتحن الناس فى القول بخلق القرآن ، وأمره بأن يعاقب من يعارض القول بخلق القرآن ، فكتب إليه : «إن من حق الله سبحانه وتعالى وأئمة المسلمين على خلفائهم الإجتهاد فى إقامة دين الله الذى استحفظهم ، ومواريث النبوة التى أورثهم .. وقد عرف أمير المؤمنين أن الجمهور الأعظم والسواد الأكبر من حشو الرعية ، وسفلة العامة .. ساروا بين الله تبارك وتعالى وبين ما أنزل من القرآن فأطبقوا مجتمعين ، وأتفقوا غير متهاجمين على أنه قديم ، أو لم يخلقه الله.

ويحدثه ويخترعه .. ثم هم الذين جادلوا بالباطل ، فدعوا إلى قولهم ونسبوا أنفسهم إلى أنفسهم إلى السنة .. فاستطالوا بذلك على الناس ، وغروا به

__________________

(١) أنتونى ناتنج : العرب ١٢٢.

(٢) ابن خلكان : وفيات الأعيان ج ١ ص ٢١.

١٤٣

الجهال .. فأجمع من بحضرتك من القضاة ، واقرأ عليهم كتاب أمير المؤمنين هذا إليك ، فابدأ بامتحانهم فيما يقولون وتكشيفهم عما يعتقدون فى خلق الله القرآن وأحداثه (١).

وعلى الرغم من تشدد المأمون فى حمل الناس على القول بخلق القرآن فإن بعض العلماء رفضوا رأى الخليفة ، وأصروا على أن القرآن قديم وتعرضوا للأذى بسبب إصرارهم وأوصى المأمون قبل وفاته المعتصم بحمل الناس على القول بخلق القرآن ، فلما ولى المعتصم الخلافة سار سيرة المأمون فى القول بخلق القرآن ، على الرغم من ضآلة ثقافته ، وإغفاله مجالس المناظرة ، ومجالسة العلماء ، كما كان الحال فى عهد سلفه.

اشتد المعتصم مع المعارضين للقول بخلق القرآن ، ومن الذين اشتد فى عقوبتهم ، أحمد بن حنبل ، فعلى الرغم من أنه تعرض الضرب المؤلم والتعذيب إلا أنه أصر على امتناعه ورفض أن يستجيب لمطلب بعض الذين أشفقوا عليه بأن يقول بخلق القرآن تقية وقال : إذا أجاب العالم تقية ، والجاهل يجهل ، فمتى يتبين الحق؟ وأصر الرجل على امتناعه ، حتى أعجب الناس بقوة عقيدته ، وكان أحمد بن حنبل يقول بأن الله قديم وليس كمثله شئ. ولا يقول بخلق القرآن لأن الله لم يقله ورسوله لم يدع إليه.

وعلى الرغم من أن الذين عارضوا القول بخلق القرآن تعرضوا للقتل بأمر من المعتصم إلا أن هذا الخليفة لم يعاقب ابن حنبل بمثل ما عاقب به غيره ، لأنه خشى أن يحدث قتله فتنة نظرا لالتفاف الناس حوله بعد أن أعجبوا بصلابته ، كما أن المعتصم نفسه أعجب بشجاعته وثباته على ما يعتقد أنه الحق ، وأكتفى بضربه ، ثم أمر بالافراج عنه ، ذلك أن المعتصم عقد مجلسا لمناظرة الإمام أحمد بن حنبل ، وقال له : لو لا أن كنت فى يد من كان قبل ما أتعرض إليك. ثم بدأت المناظرة وقال ابن حنبل : القرآن من علم الله ، ومن زعم أن علم الله مخلوق كفر بالله وكان صوته يعلو على صوت مناظريه ، وتغلب حججه حججهم ، وفى أثناء

__________________

(١) الطبرى : تاريخ الأمم والملوك حوادث سنة ٢١٨ ه‍.

١٤٤

هذه المناقشة كان الخليفة يتلطف ويقول للإمام أحمد أجبنى إلى هذا حتى أجعلك من خاصتى ومن يطأ بساطى ، ولكن الإمام أصر على وجه نظره ، واحتج على مناظريه حين أنكروا الآثار بقوله (يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً) سورة مريم الأية ٤٢ ، وبقوله تعالى (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً) سورة النساء الأية ١٦٤ ونحو ذلك من الآيات البينات ، فلما لم يقم لهم معه حجة طلبوا من الخليفة عقابه ، فضرب بالسوط ، على أن المعتصم ندم على ضربه ، وأرسل إليه طبيبا فى منزله لعلاجه ، وجعل يسأل النائب عنه ، والنائب يستعلم خبره ، فلما عوفى فرح المعتصم والمسلمون بذلك (١).

بلغ من اهتمام المعتصم بحمل الناس على القول بخلق القرآن. أن أمر عماله بتعليم الصبيان ما ذهب إليه. وعزل كل من يلى وظيفة يقول بغير مقالته. ولما ولى الواثق الخلافة سار على سياسة أبيه فى حمل الناس على القول بخلق القرآن.

ظل الناس فى بغداد وفى سائر الدولة العباسية يحملون على القول بخلق القرآن حتى ولى المتوكل الخلافة فعارض مذهب المعتزلة. وأمر بوقف الكلام والمناقشات فى موضوع خلق القرآن ، وفى آراء المعتزلة وأقوالهم أيضا ، وبذلك انتهى ما أسماه المؤرخون المسلمون محنة القرآن.

العلوم الأدبية :

لما تأسست بغداد أقبل عليها العلماء والأدباء خصوصا من البصرة والكوفة ، وأقاموا بها. وحظوا بتشجيع الخلفاء وكبار رجال الدولة ، وساهموا بنصيب كبير فى ازدهار الحياة الأدبية فى بغداد ، ومن أشهر أدباء بغداد ، الأصمعى الذى نشأ بالبصرة ، وتتلمذ على علمائها واستفاد منهم ، ثم إلى البادية ، وحفظ الكثير من أقوال العرب ونوادرهم وأشعارهم «ورحل إلى بغداد. حيث استقر به المقام هناك ، ونال شهرة كبيرة لمقدرته الفائقة على شغل أوقات الخلفاء وكبار رجال الدولة بالمسامرات الشيقة ، واتصل بالرشيد ونادمه ، وأخذ الكثير من الأدباء عنه

__________________

(١) ابن كثير : البداية والنهاية ج ١ ص ٣٤١ ـ ٣٤٢.

١٤٥

وفى اللغة والأدب ، كذلك دخل فى مناظرات كثيرة مع العلماء ، وقال عنه الشافعى : ما عبر أحد عن العرب بأحسن من عبارة الأصمعى (١). وكان لوجوده فى القصور وبين يدى الخلفاء والأمراء ، وقيامه بمهمة منادمتهم وحسن استعداده لذلك أن روى الشئ الكثير عن حياة العرب الإجتماعية فى أسلوب قصصى تناقله أهل العراق وسائر أهل الأمصار (٢).

ووفد على بغداد فى عهد الخليفة المهدى أبا زيد الأنصارى الذى تثقف فى مدرسة البصرة ، وكان ثقة فيما يروى عن أخبار العرب يلتزم الصدق فى الرواية.

ولو كانت نادرة ، غريبة ، لذلك فقد أمد النحو بالشواهد الكثيرة التى رواها عن العرب. وفى عهد المهدى أيضا نبغ أبو الفضل الضبى الذى صنف كتاب المفضليات ، وأهداه للخليفة المهدى (٣).

ومن أدباء بغداد أبو عبيدة معمر المثنى. وهو من أصل فارسى. وكان يهوديا لذلك تنوعت ثقافته. فكان عالما بأيام العرب وأخبارهم وعلومهم ، وبالثقافة الفارسية. فضلا عن معارف اليهود ، واسع الأطلاع ، غير أن شعوبيته ظهرت أحيانا فى مؤلفاته. إذ عاب على العرب أحيانا فى مصنفاته ، وقد قدم إلى بغداد فى عهد الخليفة الرشيد ، ومكنه إسحاق بن إبراهيم الموصلى من التردد على قصر الخليفة ، وقربه إليه ، وكان الفرس فى بغداد يرفعون من شأنه لأنه منهم ، ويفضلونه على الأصمعى العربى الأصل (٤).

كذلك قدم إلى بغداد. الكسائى ـ الذى سبقت الإشارة إليه ـ وأصله فارسى نشأ بالكوفة. وقدم إلى بغداد فى عهد الرشيد. وأسند إليه مهمة تأديب ولديه الأمين والمأمون وقد نبغ فى اللغة والنحو وبلغ من تقدير الرشيد له أن رفع شأنه. فبعد أن كان من طبقة المؤدبين. ارتفع إلى طبقة الندماء (٥).

__________________

(١) ابن خلكان : وفيات الأعيان ج ١ ص ٣٢٢.

(٢) أحمد أمين. ضحى الإسلام ج ٢ ص ٣٠.

(٣) Nicholson : Literary Hist of persia.p.٦٨٢.

(٤) ابن النديم : الفهرست ص ٩٧.

(٥) ياقوت ، معجم الأدباء ج ٥ ص ١٨٣.

١٤٦

ومن أعلام الأدب فى بغداد الفراء تلميذ الكسائى ، وقيل لو لا الفراء ما كانت العربية لأنه خلصها وضبطها ، ولولاه لسقطت العربية. لأنها كانت تتنازع ، ويذهبها كل من أراد ، ويتكلم الناس فيها على مقادير عقولهم وقرائحهم. فشرح الفراء النحو بطريقة واضحة مبسطة يستفيد منها الخاص والعام ، وبالإضافة إلى تمكنه من الفقه والنحو فإنه كان عالما بالنجوم والطب وأيام العرب وأشعارها (١).

اتصل الفراء بالمأمون ، فأمره أن يؤلف ما جمعه من أصول النحو ، وما سمع من العرب ، وأفرد له حجرات فى قصره ليقيم فيها ، وظل سنتين حتى أنتهى من مؤلفه (٢).

وليس مجال هذا البحث التاريخى مناقشة الأتجاهات الأدبية لمدرستى الكوفة والبصرة ، إما يعنينا فى هذا المقام إبراز هاتين المدرستين على بغداد ، فالخلفاء والأمراء العباسيون اعتمدوا على الكوفة فى تأديب أولادهم ، لذلك وفد الكوفيون بكثرة إلى بغداد وتخيروا ما يناسب مجالس السمر والمنادمة من أقوال ، لذلك نراهم يتجهون باللغة والعلم اتجاها جديدا فيه البساطة والوضوح أكثر مما فعله البصريون ، وأنتهى النزاع بين المدرسين ـ أقصد مدرستى الكوفة والبصرة ـ إلى اندماجهما فى مدرسة واحدة ، وهى مدرسة بغداد (٣).

ظهر فى العصر العباسى الأول أدباء مشهورون مثل عبد الله بن المقفع ، كان شاعرا فى نهاية الفصاحة والبلاغة ، ترجم من الفارسية إلى العربية ، لأنه كان ضليعا فى اللغتين ، وقد ترجم كتبا منها كتاب كليلة ودمنة الذى ترجمه من أقاصيص كتب باللغة السنسكريتية ـ وهى اللغة الهندية القديمة ، ويعد هذا الكتاب من أقدم كتب النثر فى الأدب العربى ويمتاز بقوة الأسلوب ومتانة العبارة ، وله كتاب مزدك وكتاب التاريخ فى سيرة أنوشروان وكتاب الأدب الكبير (٤).

__________________

(١) ياقوت ، معجم الأدباء ج ٧ ص ٣٨٦.

(٢) ابن خلكان : وفيات الأعيان ج ٥ ص ٢٢٥.

(٣) أحمد أمين : ضحى الإسلام ج ٢ ص ٣١٢.

(٤) ابن النديم : الفهرست ص ١٧٢.

١٤٧

ومن أدباء بغداد المشهورين ابن قتيبة الدينورى ، شب فى بغداد منتدى الأدب ومهد العلم يومئذ ، فتفرع للدرس ، وجد فى التحصيل على علماء الحديث وأئمة اللغة والرواية وشيوخ الأدب حتى صار أحد العلماء الأذكياء وحجة فى اللغة والأخبار وأيام الناس وغريب القرآن ومعانيه والشعر والفقه ، كثير التصنيف والتأليف ، ولقد أجمع العلماء على تقدير قيمة مصنفات ابن قتيبة وأنها عظيمة القدر جليلة النفع ، وأشهر مولفاته ، المعارف وعيون الأخبار وطبقات الشعراء وتاريخ ابن قتيبة وقد توفى سنة ٢٧٦ ه‍ (١).

وأما عمرو بن بحر الجاحظ ، فقد عرف بحرية الفكر والميل إلى الاعتزال ولد بالبصرة ، وتثقف فى اللغة والنحو والأدب ، وشغف بالقراءة حتى قيل إنه لم يقع فى يده كتاب إلا استوفى قراءته ، وكان يكترى دكاكين الوراقين ، ويبيت فيها للقراءة ولم تقتصر ثقافته على العربية ، بل تثقف بالثقافة اليونانية والفارسية على يد أربابها (٢) وكان لتنقلاته الكثيرة فى البلدان أثرها بمعرفة آحوال الناس. لذلك أعطى صورة واضحة عن الحياة الإجتماعية فى عصره ، ومن أشهر كتبه «البيان والتبيين» ، كتاب «الحيوان» كتاب «التاج فى أخبار الملوك» و «التبصر بالتجارة».

وألف فى علم الكلام كتاب «خلق القرآن» وفى المجالات العلمية ألف كتاب النبات وكتاب الحيوان.

كذلك وجد الشعر رواجا كبيرا فى بغداد فى العصر العباسى الأول ، وظهر كثير من الشعراء ، ابتكروا منهجا جديدا فى الشعر يختلف عن منهج الذين سبقوهم ، ومن أشهر شعراء بغداد أبو نواس نشأ فى البصرة واختلف إلى بعض شعراء هذه الأيام ودرس نحو سيبويه ، وتعلم غريب الألفاظ ، وأجاد فى جميع أنواع الشعو خصوصا فى الخمر والغزل والصيد ، وسخر من الأطلال ، وخالف فى ذلك من سبقه من الشعراء الذين يبدأون شعرهم بالإشادة بذكرها ، وقد أثرت طريقته الشعرية وأساليبه وتصرفه فى أبواب النظم ، واستنباطاته للمعانى ، ونال

__________________

(١) أنظر مقدمة كتاب عيون الأخبار لابن قتيبة.

(٢) ابن خلكان : وفيات الأعيان ج ٢٤. ٢٣.

١٤٨

تقدير الخلفاء ، وساعد نفوذه عندهم على نشر طريقته وأعتنى بجمع شعره جماعة من الفضلاء (١).

ومن شعراء بغداد أبو العتاهية الذى نشأ بالكوفة ، وأقام فى بغداد وكان فى أول أمره يعمل بالتجارة ، ثم ظهرت براعته فى الشعر ، وأكثر شعره فى الزهد والأمثال وهو فى طبقة بشار بن برد وأبى نواس ، شعره لطيف المعانى سهل الألفاظ (٢).

أما أبو تمام فهو شامى الأصل ، سار شعره وشاع ذكره ، تقرب من المعتصم العباسى فمدحه بقصائد أجازه عليها ، وقدمه على شعراء زمانه ، واتصف بالظرف وحسن الأخلاق وكرم النفس ، وعرف بنزعته العقلية والفلسفية ومن تلاميذه البحترى صاحب الأوصاف البديعة والمدائح الخالدة ، وابن الرومى الذى عرف عنه حسن التصوير للمعانى (٣).

__________________

(١) المصدر السابق ج ٢ ص ٣١١.

(٢) ابن خلكان : وفيات الأعيان ج ١ ص ١٩٨.

(٣) ابن كثير : البداية والنهاية ج ١٠ ص ٣٠٠.

١٤٩

خير ما كتب فى هذا الموضوع المؤرخ المرحوم حسن إبراهيم حسن وأستاذنا الجليل الدكتور عصام عبد الرءوف فى كتابه الجليل الحواضر الإسلامية :

حركة الترجمة وأثرها فى ازدهار الحياة الثقافية

ازدهرت ترجمة الكتب العلمية التى يسميها العرب الحكمية فى العصر العباسى الأول ، وبالذات منذ عهد الخليفة المنصور ، وقام بهذا الدور الكبير السريان الذين اقتبسوا الثقافة اليونانية من الإسكندرية وأنطاكية ، ونشروها فى الشرق فى مدارس الرها ونصيبين وحران وجنديسابور بالذات ، وقد نشط السريان فى الترجمة عن الفلسفة اليونانية منذ القرن الرابع الميلادى حتى القرن الثامن (١).

استفاد العرب من السريان الذين اشتغلوا بنقل الكتب من اليونانية إلى العربية ونقلوا اما نقلوه أما عن التراجم السريانية القديمة ، أو من تراجم نقحوها. ثم أقدموا على نشرها من جديد (٢).

والخليفة المنصور أول خليفة ترجمت له الكتب من اللغات الأجنبية إلى العربية ومن بين هذه الكتب ، كتاب كليلة ودمنة ، وكتاب السند هند (٣) وترجمت له مؤلفات لأرسطو فى المنطق وغيره. وترجم له كتاب المجسطى لبطليموس وكتاب أقليدس وكثير من الكتب القديمة من اليونانية والفهلوية والفارسية والسريانية ، وأخرجت الكتب المترجمة إلى الناس ، ونظروا فيها (٤) :

كانت الكتب الهندية تنقل إلى الفارسية ومنها إلى العربية ، وأما الكتب اليونانية فإنها خلافة الرشيد تنقل عن السريانية أو الفارسية لأنها ترجمت إليهما ،

__________________

(١) دى بور : تاريخ الفلسفة فى الإسلام ص ١٢.

(٢) المصدر السابق.

(٣) Hitti : Hist of the Arabs p.٨٧٣.

(٤) المسعودى : مروج الذهب ج ٢ ص ٥٥٤.

١٥٠

أما الكتب اليونانية فلم يبدأ العرب ترجمتها مباشرة إلا منذ سنة ١٩١ ه‍ ، ولم يكن العرب فى حاجة إلى ترجمة الآداب اليونانية ، لأن الآداب العربية غنية ، إنما نقلوا العلوم الطبية والفلكية والرياضية والفلسفية وهى العلوم التى كان العرب ففى حاجة إليها.

أزدهرت حركة الترجمة فى عهد الخليفة الرشيد ، فكان من بين ما حصل عليه من غزواته المتعددة فى بلاد الروم الكتب النفسية.

ولما كان الرشيد محبا للعلم ، فقد أسند إلى يوحنا بن ماسويه مهمة ترجمة هذه الكتب ، ورتب له كتابا حذافا يكتبون بين يديه ، وخلفه أبا سهل نوبخت الذى كان منجما للمنصور ـ وهو من أصل فارسى (١) ، وتولى منصب رئيس بيت الحكمة ، وكان ينقل من الفارسية إلى العربية ما يجده من الكتب الفارسية (٢).

وثمة ملاحظة هامة ، وهو أن حركة الترجمه بدأت أولا فى نقل الكتب الفارسية إلى العربية. لأن دولة العباسيين قامت على أكتاف الفرس ، وظهر وزراء فرس فى بغداد كانوا أصحاب نفوذ كبير فى الدولة العباسية. ولما كانت ثقافتهم فارسية وعربية أيضا ، فقد شجعوا حركة الترجمه من الفارسية إلى العربية ، وأنفقوا فى ذلك أموالا جمة.

على أن الترجمات التى تمت فى عهد المنصور والرشيد قد فقدت ولم يبق سوى الكتب التى ترجمت فى عهد المأمون.

شغف المأمون بالفلسفة اليونانية وخصوصا فلسفة أرسطو ، ولم يقدم المسلمون حتى أيامه على ترجمة الكتب الفلسفة لاتهام أصحابها بالكفر والزندقة فلما قال المأمون بالاعتزال ، أمر بنقل كتب الفلسفة من اليونانية إلى العربية (٣).

__________________

(١) ابن النديم : الفهرست ص ٣٨٢.

(٢) ابن القفطى : أخبار العلماء بأخبار الحكماء ص ٢٥٥.

(٣) المصدر السابق ص ٢٩.

١٥١

نشطت حركة الترجمة فى عهد الخليفة المأمون. ولم يكتف بترجمة الكتب المتوفرة لديه ، بل أرسل إلى الامبراطور البيزنطى «تيوفيل» يطلب منه إرسال كتب الحكمة إليه ، فلما وصلته هذه الكتب ، اختار لها مهرة التراجمة وكلفهم بإحكام ترجمتها فترجمت له. ثم حث الناس على قراءتها (١).

وكان يوحنا بن البطريق أمينا على ترجمة الكتب الحكمية ، حسن التأدية للمعانى ، وكانت الفلسفة أغلب عليه من الطب ، ويذكر ابن النديم (٢) أن المأمون أرسل بعثة إلى القسطنطينية لشراء الكتب العلمية المخزونة ، وكانت البعثة تتكون من يوحنا بن ماسويه وحنين بن إسحاق فجاءوا بطرائف الكتب وغرائب المصنفات فى الفلسفة والهندسة والموسيقى والطب ، وقد شرع حنين فى نقل الكتب عن اليونانية إلى المغنين السربانية والعربية ، ولقد أهله تعمقه فى اللغة اليونانية لنقل إلى العربية ونقل عن أفلاطون وأرسطو وأبقراط ، وترجم لبطليموس.

أما إسحاق بن حنين فكان أوحد عصره فى علم الطب ، وكاد يلحق بأبيه فى البراعة فى الترجمة ، إلا أنه ترجم لأرسطو وغيره من الفلاسفة وأكثر ما ترجم فى الطب (٣) وقد يسر مهمة البعثة تلك العلاقات الودية التى سادت بين الدولتين العباسية والبيزنطية قبل سنة ٢١٢ ه‍ أى قبل أن تناصر الدولة البيزنطية بابك الخرمى الثائر على الدولة العباسية (٣).

ويبدو أن البعثة كانت تتكون من طوائف ثلاثة بعثة الكتب الفلسفية ويرأسها يوحنا بن البطريق ، وكان فيلسوفا أكثر منه طبيبا (٤) ، وقد تولى ترجمة كتب أرسطو خاصة ، وطائفة للكتب الفلكية والرياضية ويرأسها الحجاج بن مطر. وكان مختصا فى هذا الفرع وهو الذى نقل المجسطى وأقليدس ، وطائفة للكتب

__________________

(١) ابن العبرى : تاريخ مختصر الدول ص ٢٣٦.

(٢) الفهرست ص ٣٤٩.

(٣) ابن النديم : الفهرست ص ٣٣٩.

(٣) ابن النديم : الفهرست ص ٣٣٩.

(٤) القفطى : أخبار العلماء باخبار الحكماء ص ٢٧٩.

١٥٢

الطبية برئاسة يوحنا بن ماسويه (١) وبهذا عادت هذه البعثة إلى بغداد محملة بكتب تشمل علوما متنوعة.

ولم يكن الخلفاء وحدهم يباشرون حركة الترجمة ، وينفقون عليها ، بل جاراهم فى ذلك كبار رجال الدولة مثل البرامكة وبنو سهل ، ومن أبرز من عنى بالترجمة فى بغداد محمد وأحمد والحسن أبناء موسى بن شاكر ، وكانت لهم همم عالية فى تحصيل العلوم القديمة وكتب الأوائل ، وافنوا أنفسهم فى شأنهم ، وأنفذوا إلى بلاد الروم من اشتراها لهم وأحضروا النقلة من الأصقاع الشاسعة والأماكن البعيدة ، بالبذل السنى فأظهروا عجائب الحكمة وأمّ العلوم التى عنوا بترجمتها الهندسة والموسيقى والنجوم والفلسفة (٢).

وكان فرع الطب أهم العلوم التى عنى المترجمون بترجمته ، وأكثر ما عنوا به بعد الطب الحكمة ، أى القصص الجميلة ذات المغزى الخلقى أو النوادر ، أو الأقوال الحكيمة وكان يترجم هؤلاء العلماء ما يعجبنا نحن ، إذا كانوا يعجبون بهذه الأقوال ويجمعونها لما تحتويه من حكمة أو لجمال أسلوبها وحسن عرضها (٣).

ولقسطا بن لوقا رسالة قصيرة فى الفرق بين النفس والروح ، ولم تؤثر الثقافة اليونانية فى العرب إلا عن طريق الرياضيات والطبيعيات والفلسفة ، وقد عرفوا شيئا عن أطوار الفلسفة اليونانية ، ولكن هذه المعرفة كانت مشوية بأساطير كثيرة (٤).

على أن العرب استفادوا كثيرا من فلسفة سقراط وأفلاطون وأرسطو فأفلاطون على ما عرف العرب كان يقول بحدوث العالم وبقاء النفس وكونهما جوهرا روحيا ، وهذه آراء لا تتعارض مع عقيدة المسلمين ، أما أرسطو فكان يقول

__________________

(١) المصدر السابق ص ٣٨٠.

(٢) ابن خلكان : وفيات الأعيان ج ٤ ص ٢٤٧.

(٣) دى بور : تاريخ الفلسفة في الإسلام ص ٣١.

(٤) المصدر السابق ص ٣١.

١٥٣

بقدم العالم ، ومذهبه فى أمر النفس وفى الأخلاق أقل روحانية من مذهب أفلاطون ، فكان العرب يرون فيه تعارضا مع تعاليم الإسلام حتى لقد صنف بعض المتكلمين كتبا للرد عليه (١).

ويروى أن يوحنا ، أو يحيى بن بطريق ، أخرج ترجمة قصة طيثماوس لأفلاطون وأنه ترجم أيضا كتاب أرسطو فى الآثار العلوية ، وكتاب الحيوان وأجزاء مأخوذة من كتاب النفس ، وترجم كتابه فى العالم.

وكان حنين بن إسحاق وأبن أخته حبيش بن الحسن أوفر المترجمين إنتاجا ، ونظرا لأنهم كانوا يشتغلون معا فإنا نجد كتبا كثيرة تنسب للواحد منهم تارة ولواحد آخر منهم تارة أخرى. وشملت ترجمتهم كل علوم ذلك الزمان ، وكانوا يصلحون التراجم الموجودة ويترجمون كتبا جديدة وكان حنين يؤثر ترجمة كتب الطب ، أما ابنه إسحاق فكان أميل إلى ترجمة كتب الحكمة (٢).

على أن حركة الترجمة كانت سلاحا ذو حدين ، أفاد العلم من ناحية وأضر بعقائد بعض الناس من ناحية أخرى ، فقد أدت الترجمة إلى تداول الناس الكتب مانى وابن ديصان التى نقلها ابن المقفع وغيره من الفارسية إلى العربية ، فكثر بذلك الزنادقة ، وظهرت آراؤهم فى الناس ، فأمعن المهدى فى تعقبهم والتنكيل بهم. وأمر الجدليين من أهل البحث من المتكلمين بتصنيف الكتب للرد على الملحدين من الجاحدين وغيرهم ، وأقاموا البراهن على المعاندين (٣).

ومما لا شك فيه أن حركة الترجمة أوجدت مجالا خصبا للدارسين فى مختلف فروع العلم ، ويسرت لهم الإطلاع على كتب العلماء السابقين ، فاستفادوا منها ، وأضافوا إليها تجاربهم ومعارفهم ، الأمر الذى دفع العلوم الطبيعية دفعة كبيرة إلى الأمام.

__________________

(١) المصدر السابق ص ٣٣.

(٢) المصدر السابق ص ٣٠.

John Glubb : The Empire of the Arabs. p. ٣٣٣.

(٣) المسعودى : مروج الذهب ج ٢ ص ٥٥٤.

١٥٤

العلوم العقلية

يقول ابن خلدون العلوم الطبيعية لازمة للإنسان من حيث أنه ذو فكر وتسمى هذه العلوم عند العرب علوم الفلسفة والحكمة ، وهى مشتملة على أربعة علوم ، الأول علم المنطق ، وهو علم يعصم الذهن عن الخطأ فى اقتناص المطالب المجهولة من الأمور الحاصلة بالمعلومة وفائدته تمييز الخطأ من الصواب فيما يلتمسه الناظر فى الموجودات ليقف على تحقيق الحق فى الكائنات بفكره الحر ، ثم النظر بعد ذلك أما فى المحسوسات من الأجسام العنصرية المكونة عنها من المعدن والنبات والحيوان والأجسام الفلكية والحركات الطبيعية والنفس التى تنبعث عنها الحركات ، ويسمى هذا الفن بالعلم الطبيعى ، والعلم الإلهى هو علم ما وراء الطبيعة ، والعلم الرابع هو الناظر فى المقادير ويشتمل على علم الهندسة وعلم الموسيقى وعلم الهيئة.

١ ـ علم التاريخ :

بدأ المسلمون يدونون تاريخهم فى أواخر العهد الأموى. وقد قام فى بغداد فى العصر العباسى الأول رجال من طبقات الشعب لم يعيشوا فى كنف الخلفاء ، لذلك جاءت مؤلفاتهم فى التاريخ معبرة تعبيرا صادقا عن أحوال المجتمع الذين يعيشون فيه ومظاهر تطوره.

اتخذ كتاب التاريخ فى صدر الإسلام من حياة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما يتصل بها من غزوات مادة دونوا منها ما سمى كتب السيرة والمغازى ، لذلك فكان أول موضوع يتناول التاريخ الإسلامى سيرة الرسول ، وقد يسر تدوين الأحاديث وتبويبها لكتاب التاريخ أمر جمع مادة غزيرة عن سير ومغازى الرسول ، فكان منها باب يسمى باسم السير والمغازى وسراياه أى الغزوات التى أرسلها دون أن يشترك فيها.

والمؤرخون الذين صنفوا مؤلفاتهم فى بغداد اتسعت دائرة معارفهم عمن

__________________

(١) مقدمة : ابن خلدون ص ٥٦٦ ه‍.

١٥٥

سبقهم لأن السابقين لهم كانوا يعتمدون على الحديث فقط فى كتاباتهم أما هؤلاء .. الدين سنشير إليهم ـ فقد تكون عندهم مادة غزيرة ترجع إلى اختلاط العرب بالنصارى واليهود الذين دخلوا فى الإسلام ، فضلا عن ظهور طبقة القصاص الذين يحكون سير الرسول وأبطال المسلمين ، وبذلك لم يعد الحديث هو المصدر الوحيد للتاريخ بل تنوعت وتعددت مصادرة ، وكان على مؤرخى بغداد أن يضبطوا الحوادث التاريخية ، ويحسنوا عرضها.

ومن أشهر المؤرخين محمد بن إسحاق بن يسار ، وهو من أصل فارسى نشأ فى المدينة ، وأخذ الحديث عن علمائها ، وعنى بصفة خاصة بجمع الأحاديث التى تتناول سير الرسول ومغازيه ، قال الشافعى عنه : من أراد أن يتبحر فى المغازى فهو عيال على ابن إسحاق (١). وبلغ من ثقة الخليفة المنصور به أن عهد إليه بتصنيف كتاب فى التاريخ لابنه المهدى يبدأ منذ بداية الخليفة إلى يومه ، وقام ابن إسحاق بهذا العمل الجليل ، وقدم الكتاب للمنصور مرفقا بموجز له (٢).

اعتمد ابن إسحاق فى كتابه المغازى على الأحاديث النبوية التى أخذها من الرواة فى مصر والمدينة المنورة ، والأخبار التى يرددها الثقاة ، وترجع أهمية هذا الكتاب فى أن عبد الملك بن هشام اعتمد عليه فى كتابه عن السيرة ، لذلك يمكن الإلمام بكتاب ابن إسحاق بصورة مختصرة فى كتاب ابن هشام ، وأعتمد على ابن إسحاق كذلك كل من تكلم فى السير والمغازى «فعليه اعتماده وإليه إسناده» (٣).

ينقسم كتاب ابن إسحاق فى المغازى إلى ثلاثة أقسام : المبتدأ والمبعث والمغازى ، والمبتدأ يشمل تاريخ العرب قبل الإسلام وأعتمد على القصص والأساطير ، وخصوصا ما رواه العلماء اليهود والنصارى ، وأشار إلى قبائل العرب البائدة مثل عاد وثمود والرسل التى بعثت إلى تلك القبائل ، ونقل عن التوراة

__________________

(١) ابن خلكان : وفيات الأعيان ج ٣ ص ٤٠٥.

(٢) الخطيب البغدادى : تاريخ بغداد ج ١ ص ٢٧١.

(٣) ابن خلكان : وفيات الأعيان ج ٣ ص ٤٠٥. ،

١٥٦

والإنجيل نقلا حرفيا ، وينقل بصفة خاصة عن وهب بن منبه ، وذكر أيضا عبادة الأصنام عند العرب فى الجاهلية ، وقبيلة قريش وشيوخها قبل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١).

ويتضمن المبعث بعثة الرسول ، واعتمد على أخبار أهل المدينة ، وأضاف فى كتاباته معلومات دقيقة ، ووثائق على جانب كبير من الأهمية مثل الوثيقة التى منحها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأهل المدينة واليهود بها ، وتنظيم المجتمع الجديد بالمدينة ، أما المغازى فتتضمن غزوات الرسول والسرايا وجهاد المسلمين فى سبيل الدفاع عن الإسلام ونشره ، غير أن المحدثين أخذوا عليه أنه كان لا يتقيد بإسناد الحديث لأنهم يشددون فى نسبة كل جزء من الحديث إلى قائله ، ولقد عاب ابن حنبل على ابن إسحاق توسعه فى نقل الأخبار ، وقال : إنه يجمع كتب الناس ، ويضعها فى كتبه.

يأتى بعد ابن إسحاق فى الأهمية فى بحثنا عن مؤرخى بغداد ، محمد بن عمر الواقدى ، كان من أهل المدينة انتقل إلى بغداد ، وولى القضاء بها فى عهد الخليفة المأمون بالرصافة ، وكان عالما بالمغازى والسير والفتوح واختلاف الناس فى الحديث والفقه والأحكام والأخبار ، وتوفى سنة ٢٠٧ ه‍ ، وله من الكتب كتاب التاريخ والمغازى ، وأخبار مكة ، وكتاب الطبقات. وفتوح الشام ، فتوح العراق ، مقتل الحسين عليه‌السلام ، كتاب السيرة .. الخ (٢) ، وقد روى أخباره عن علماء المدينة مثل مالك بن أنس ، وقد أستدعاه الخليفة المهدى إلى بغداد وأمره بأن يفقه الناس ، وأجزل له العطاء ، ويقول عنه البغدادى (٣) : «ولم يخف على أحد عرف أخبار الناس أثره وسار الركبان بكتبه فى فنون العلم من المغازى والسير والطبقات وأخبار النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم والأحداث التى كانت فى وقته وبعد وفاته».

وقد نبغ الواقدى ـ كما يتضح مما سبق ـ فى التاريخ ، فكان لا يدع رجلا من أبناء الصحابة أو أبناء الشهداء ولا مولى لهم إلا وسألهم عما يعملونه من أحداث

__________________

(١) ابن النديم : الفهرست ص ٩٢.

(٢) ابن النديم : الفهرست ص ١٤٤.

(٣) ابن خلكان : وفيات الأعيان ج ٣ ص ٤٧٠.

١٥٧

التاريخ وأطلع على جميع المدونات والروايات التى جمعها من سبقه من مؤرخى سيرة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومغازيه ، وكان لا يقتصر على النقل من الرواة ، وإنما ينتقل بنفسه إلى أماكن مغارى الرسول فالواقدى أول من رتب التاريخ حسب السنين ، ولقد استقاد الطبرى فى تاريخه من مؤلفات الواقدى ، وكان ابن إسحاق لا يذكر تواريخ الأحداث الأمر الذى يعقد من قراءتها.

ولقد استفاد كاتبه ابن سعد من كتابه فى طبقات الصحابة والتابعين ، وسار على منواله ، وحرص على الوصول إلى المصدر الصحيح. ولم يبق من كتب الواقدى سوى كتاب المغازى.

ويذكر فى أول كتابه شيوخه الذين أخذ عنهم مغازيه بعد مقدمة حدد فيها اليوم الذى هاجر فيه الرسول إلى المدينة ، ثم أورد فصلا عن مغازى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسراياه ، ثم انتهى إلى إيجاز غزوات الرسول ، وبعد هذه المقدمة تحدث عن كل غزوة من الغزوات التى أجملها. تفصيلا ، والواقدى من أعلم الناس فى عصره بالمغازى والسير ، حجة فى التفسير والفقه والحديث ، وقد أعتمد عليه الطبرى فى تاريخه (١).

أما محمد بن سعد ـ كاتب الواقدى ـ فقد روى عن أستاذه ، وأعتمد فى كتبه على تصنيفات الواقدى ، وكان ثقة عالما بأخبار الصحابة والتابعين ، وتوفى سنة ٢٣٠ ه‍ (٢) ، واشترك مع أستاذ الواقدى فى بعض مؤلفاته ، ومن أحسن كتبه كتاب الطبقات ، وقد قدم له بالحديث عن العصر الجاهلى الأمر الذى تخطاه الواقدى ، وكان الواقدى يبدأ ـ كما قلنا ـ بهجرة الرسول ، وتضمن فى الجزء الأول والثانى من كتاب الطبقات لابن سعد موضوع سيرة الرسول ومغازيه ، وأفراد الأجزاء الستة الأخرى للصحابة والتابعين ، وترجع أهمية كتابه إلى أنه تحرى الدقة فى كثير من مؤلفاته (٣).

__________________

(١) أحمد أمين : ضحى الإسلام ج ٢ ص ٢٣٧.

(٢) ابن النديم : الفهرست ص ١٤٥.

(٣) البغدادى : تاريخ بغداد ج ٥ ص ٣٢١.

١٥٨

ومن مؤرخى بغداد الهيثم بن عدى كان عالما بالشعر والأخبار والأنساب والمناقب والمآثر ، وتوفى بفم الصلح سنة ٢٠٧ ه‍ عند الحسن بن سهل ، وله من التصانيف كتاب بيوتات قريش ، كتاب الدولة ، بيوتات العرب ، نزول العرب بخراسان والسواد ، تاريخ العجم وبنى أمية (١).

ومن الرواة المشهورين على بن محمد المدائى ، وكان من رفاق إسحاق بن إبراهيم الموصلى ، وله كتب فى أخبار قريش وأخبار الخلفاء والفتوح وكتب فى أخبار العرب وكتب فى الشعراء ، وقد اندثرت كتبه ، ولم يعد منها إلا ما رواه الطبرى أو البلاذرى والمسعودى وابن عبد ربه عنها.

وبالجملة فقد كان عالما بأيام الناس وأخبار العرب وأنسابهم ، وبالفتوح والمغازى ورواية الشعر (٢).

ومن مؤرخى بغداد أحمد بن يحيى بن جابر المعروف بالبلاذرى ، اشتغل منذ نعومة أظفاره بتأليف كتاب جامع لتاريخ الدولة الإسلامية أن فيه على الحقائق التاريخية ونجح فى هذا الموقف الحرج نجاحا تاما لأنه لم يتعصب لخليفة ، ومن مصنفاته ترجمة عهد أردشير من اللغة الفارسية إلى العربية ، ولم يقتصر على مجرد الترجمة بل وضعه فى قالب علمى يفيد القارئ وله كتاب أنساب الأشراف ، ووضع كتابين تحت عنوان الفتوحات أحدهما كبير والآخر مختصر ، ولم يصلنا سوى المختصر ، ومن تلاميذه ابن النديم صاحب كتاب الفهرست.

علم الجغرافيا :

يعزو تقدم علم الجغرافيا فى بغداد إلى الأهتمام بالأراضى الأجنبية الذى أثاره التجار والملاحون العرب ، وإلى عظم مساحة الإمبراطورية العربية ، وكانت كتب بطليموس من أهم المصادر التى حرص العباسيون على الإستفادة منها ، وترجمها

__________________

(١) ابن النديم : الفهرست ص ٥٤٥.

(٢) البغدادى : تاريخ بغداد ج ١٢ ص ٥٥.

Hitti : Hist. of the Arabs p. ٤٨٣.

١٥٩

الكندى وغيره إلى العربية ، واستخدم الخوارزمى هذه المادة لإجراء أبحاثه ، وأخرج بدوره مؤلفه الجغرافى «وجه الأرض» (١).

وفى أواخر العصر العباسى الأول ظهر الرحالة ، ومن أبرزهم ابن خرداذبه الذى عاش فى النصف الأول من القرن الثالث الهجرى ، كتب كتابه المسالك والممالك ، ويعتبر من أقدم الكتب العربية فى الجغرافيا ، وهو عبارة عن دليل يستفيد منه المسافرون فى الأهتداء إلى الطريق البحرى الذى يبدأ من مصب دجلة عند الأبله ويصل إلى الهند والصين (٢).

ومما يدل على عناية المأمون بالبحث الجغرافى أنه جمع علماء عصره وأمرهم بوضع خريطة للعالم ، فوضعوا له خريطة دقيقة كانت أفضل مما تقدمها من دراسات فى جغرافيا للعالم على عهد بطليموس وغيره من علماء اليونان ، ولقد سميت بالمأمونية ، كذلك أمر المأمون سبعين رجلا من علماء الجغرفيا بوضع كتاب فى الجغرافيا ، فصنفوا كتابا أفاد منه ولاة الأقاليم فى الدولة العباسية إذ كان أشبه بدليل أرشدهم إلى مختلف البلاد والأمم (٣).

ومن الأبحاث الجغرافية التى أنجزت فى عهد المأمون ، قياس محيط الأرض وقد قام به علماء بغداد ، وقدروه بنحو أربعة وعشرين ألف ميل ، وقد أختاروا لإجراء تجاربهم ، مكانين منبسطين فى صحراء سنجار وأرض الكوفة ، ونصبوا الآلات وقاسوا الإرتفاعات والميل والأفق. وعلموا أن كل درجة من درجات الفلك يقابلها ٣ / ٢ ٦٦ ميل ، وقياس العرب هذا هو أول قياس حقيقى أجرى كله مباشرة مع كل ما أقتضته تلك المساحة من المدة الطويلة والصعوبة والمشقة ، وخلص العلماء إلى أن الأرض مستديرة (٤).

وتضمنت مجالس مناظرات الخليفة الواثق مناقشات جغرافية على جانب كبير

__________________

(١) أنتونى ناتنج ، العرب ص ١١٨.

(٢) مقدمة كتاب المسالك والممالك لأبن خرداذبه.

(٣) ناتنج ، العرب ص ١٧٨.

(٤) ابن خلكان. وفيات الأعيان ج ٤ ص ٢٤٧.

١٦٠