الفوز بالمراد في تاريخ بغداد

سليمان الدخيل

الفوز بالمراد في تاريخ بغداد

المؤلف:

سليمان الدخيل


المحقق: الدكتور محمّد زينهم محمّد عزب
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الآفاق العربيّة
الطبعة: ١
ISBN: 977-344-046-X
الصفحات: ٣٥٣

ثم يضيف لنا مؤرخنا الفاضل الدكتور عصام عبد الرءوف فى كتابه الحواضر الإسلامية عن :

النهضة الثقافية

عوامل النهضة الثقافية فى بغداد فى العصر العباسى :

ازدهرت الحياة الثقافية فى بغداد فى العصر العباسى الأول نتيجة لعوامل متعددة منها أن نظرة الخلفاء العباسيين إلى الموالى الفرس كانت تختلف كل الأختلاف عن نظرة الأمويين لهم ، فقد حقق العباسيون لهم مطالبهم التى نادوا بها ، وأقبلوا على بغداد فور تأسيسها وأقاموا واستقروا بها ، ومما لا شك فيه أن الفرس كانوا قد بلغوا درجة كبيرة من التقدم فى مضمار الحياة الثقافية ، ودفعهم اعتناق الإسلام والاندماج فى الحياة العامة فى بغداد إلى تعلم اللغة العربية ، فنقلوا خلاصة معارفهم من الفارسية إلى العربية وصنفوا مصنفات قيمة فى العلوم العربية والدينية ، أدت إلى ازدهار الحياة الثقافية.

يقول ابن خلدون (١) : أن حملة العلم فى الملة الإسلامية أكثرهم العجم لا من العلوم الشرعية ولا من العلوم العقلية إلا فى القليل النادر ، وإن كان منهم العربى فى نسبه فهو أعجمى فى لغته ونشأته وثقافته ، والسبب فى ذلك أن العرب فى بداية الإسلام كانوا أهل بداوة وسذاجة وليسوا أهل علم ، وكانت أحكام الشريعة ـ التى هى أوامر الله ونواهيه. ينقلها الناس فى صدورهم وقد عرفوا أنها مأخوذة من القرآن الكريم والسنة بما تلقوه من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصحبه ، والعرب لم يعرفوا أمر التدوين والتأليف ، وجرى الأمر كذلك على يد الصحابة والتابعين ويتابع ابن خلدون كلامه فيقول : لقد قام العجم بدور فعال فى ذلك ، ولم يقم بحفظ العلم

__________________

(١) المقدمة ص ٥٤٣ ـ ، ٥٤٤

١٢١

وتدوينه. إلا الأعاجم (١) وقد أيد بعض الباحثين رأى ابن خلدون.

والواقع أن ابن خلدون وغيره أغفلوا دور العرب تماما فى ازدهار الحياة الثقافية مثل الأصمعى والإمام الشافعى والقاضى أبى يوسف وحنين بن إسحاق والإمام أحمد بن حنبل الفقيه والمحدث ، وأحمد بن أبى دؤاد العالم بالكلام والكندى فيلسوف العرب ـ كما أن النهضة الثقافية لم تبلغ ما بلغته من تقدم إلا بفضل تشجيع الخلفاء العباسيين ، وحتى الأعاجم الذين ساهموا فى تقدم الحركة العلمية ، كانوا عربا مربى ونشأة ، وغلبت عليهم الحياة العربية وتأثروا بها ، وكانت الثقافة العربية هى محور دراساتهم وأبحاثهم.

ومن أسباب تقدم الحياة الثقافية فى بغداد أن أهل الذمة ـ كما قلنا ـ حظوا برعاية الخلفاء العباسيين ، وقدروا ذوى المواهب منهم ، وبذلك أتيحت لهم الفرصة لإبراز مقدرتهم العلمية ، وكان لمعرفتهم باللغات الأجنبية ـ خصوصا اليونانية والسريانية سببا فى اعتماد الخلفاء العباسيين عليهم فى حركة الترجمة إلى اللغة العربية.

ظهرت الحاجة إلى الاستفادة من العلوم التى توصل اليها الناس فى العصر العباسى الأول ، فقسم العلماء المسلمون العلوم إلى نقلية تتصل بالقرآن الكريم وتشمل علوم التفسير والقراءات وعلم الحديث والفقه وعلم الكلام وعلوم اللغة العربية كالنحو والصرف والبيان والشعر ، ويطلق عليها أحيانا العلوم الشرعية والنوع الثانى والعلوم العقلية وتشمل ، الفلسفة والطب وعلوم النحو والكيمياء والتاريخ والجغرافيا والموسيقى ، ويطلق عليها أحيانا العلوم الحكمية أو علوم العجم أو العلوم القديمة.

والعلوم العقلية يهتدى اليها الإنسان بفكره ، ويهتدى بمداركه البشرية إلى موضوعاتها ومسائلها حتى يعرف الخطأ من الصواب ويصيب

__________________

(١) ابن كثير ـ البداية والنهاية ح ١٠ ص ، ١٢٢

١٢٢

الحقيقة.

أما العلوم النقلية فهى مستندة إلى الخير عن الوضع الشرعى ولا مجال فيها للعقل إلا بإلحاق الفروع من مسائلها بالأصول (١).

لذلك ظهر فى هذا العصر نوعان من العلماء ، الأول يغلب على ثقافتهم النقل والإستيعاب ، ويسمون أهل علم ، والثانى هم الذين يغلب على ثقافتهم الإبتداع والاستنباط ، ويسمون أهل حكمة ، والعرب لم يدونوا علوم الدين ، وجرى الأمر كذلك على يد الصحابة والتابعين ، فكان الذى يتحمل نقل الشريعة القراء أى قراء كتاب الله سبحانه وتعالى والسنة المأثورة ، لأنهم لم يعرفوا الأحكام الشرعية إلا منه ومن الحديث ، الذى هو فى الغالب تفسير وشرح له ، ثم احتيج إلى وضع التفاسير القرآنية وتدوين الحديث مخافة ضياعه ، واحتيج إلى معرفة الأسانيد وللتأكد من صحتها ، ثم احتيج إلى استنباط الأحكام من القرآن والسنة ، يضاف إلى ذلك فساد اللسان ، فظهرت الحاجة إلى وضع القوانين النحوية ، وصارت العلوم الشريعة كلها مادة للإستنباط والإستخرج والقياس والتنطير (٢) ، ولذلك كان لا بد من تدوين العلوم الدينية والعربية وتم تدوين العلوم فى مستهل العصر العباسى فى كتب تداولها الناس.

والورق الذى استعمل فى الكتابة فى بغداد ، البردى ، وكان فى بغداد درب يسمى القراطيس ، وكان هذا الورق يجلب من مصر ، وفى بغداد كميات هائلة منه ، فيحدثنا الجهشيارى (٣) أن المنصور وقف على كثرة القراطيس فى خزانته فدعا أحد أعوانه وقال له : إنى أمرت بإخراج حاصل القراطيس فى خزائننا ، فوجدته شيئا كثيرا جدا ، فتولى بيعه ، وأن لم تعطى بكل دينار إلا دائقا ، فإن تحصيل ثمنه أصلح منه ، وكان الطومار فى ذلك الوقت بدرهم.

ولكن المنصور عاد فتدارك ما قد ينجم عن ذلك ، فدعا الرجال وقال له :

__________________

(١) مقدمة ابن خلدون ص ٥٤٣ ـ ، ٥٤٤

(٢) مقدمة ابن خلدون ص ، ٤٨٤

(٣) الوزراء والكتاب ص ، ١٣٨

١٢٣

فكرت فى كتبنا ، وأنها قد جرت فى القراطيس ، وليس يؤمن من حادث بمصر ، فتنقطع القراطيس عنا بسببه ، فنحتاج إلى أن نكتب فيما لم تعوده عمالنا ، فدع القراطيس على حالها.

ويقول الجهشيارى ، ولهذه العلة كانت الفرس تكتب فى الجلود والرق ، ويرفضون الكتابة على الورق حتى ولى الفضل بن يحيى البرمكى الوزارة فأدخل صناعة الكاغذ ، وكتب فيه رسائل الخليفة ، وصكوكه ، واتخذه الناس فى مكاتباتهم وتصنيفاتهم وكانت سمرقند قد أشتهرت بصناعة الكاغد ، وانتقلت هذه الصناعة منها إلى بغداد ، وكانت الكتب فى بيت الحكمة من الكاغد على أن استعمال ورق البردى والورق المصنوع من الخز ظل قائما طوال العصر العباسى الأول.

ويذكر الثعالبى (١) أن كواغيد سمرقند خير أنواع الورق لأنهم أنعم وأحسن وأرفق ، وأونشى أول معمل لصناعة الورق فى بغداد ١٧٨ ه‍.

وتقدم فى بغداد فن الوراقة ، ويقصد به نسخ الكتب وتصحيحها ، وتجليدها وكل ما يتعلق بإخراج الكتاب ، وكان الوراقون يبيعون هذه الكتب فى دكاكينهم (٢) ، والمهتمون بالحياة الثقافية يترددون على هذه الدكاكين للقراءة أو لشراء ما يلزمهم من الكتب والمصنفات ، وكان ببغداد نحو مائة وراق (٣) ودكاكينهم أشبه بالمكتبات العامة فى يومنا هذا ، واهتم الخلفاء بإسناد الوراقة إلى رجال من ذوى الدراية والمعرفة فكان علان الشعوبى راوية عارف بالانساب والمناظرات ، بنسخ فى بيت الحكمة للرشيد والمأمون (٤).

ولا يغيب عن أذهاننا أن من أسباب ازدهار الحياة الثقافية فى بغداد تحسن أحوال الناس الاقتصادية ، فكان طلاب العلم يفدون إلى بغداد لطلب العلم على

__________________

(١) مراد كامل : بيت الحكمة ص ، ٨٥

(٢) مقدمة ابن خلدون ص ، ٢٤١

(٣) اليعقوبى : البلدان ص ، ١٣٥

(٤) Noldeke : Aliterary Hist of Persia ,p ١٩٢.

١٢٤

علمائها أو الأستفادة منهم ، ومن ينبغ منهم يصنف المصنفات فى مختلف التخصصات (١).

لم تكن فى بغداد مدارس يتلقى فيها الطلاب تعليمهم ، وإنما كانت بها كتاتيب يثقف فيها الصبيان ثقافة عامة يحفظون فيها القرآن الكريم ويتعلمون الكتابة والحساب ، ويتقاضى المعلم أجرا على عمله (٢).

والدراسة فى الكتاتيب أشبه بالدراسة فى المدارس الإبتدائية فى يومنا هذا ، أما الدراسة المتخصصة ، فكان مقرها المسجد وضمت المساجد حلقات يدرس فيها مختلف العلوم ، ويقوم بالتدريس فيها رجال العلم من المشايخ ، فهناك حلقة للفقه وحلقة التفسير ، وحلقة الحديث ، وحلقة لعلم الكلام ، وكان الطالب يتردد على الحلقة التى تتناسب مع ميوله للون معين من العلم ، وشيخ الحلقة يتقاضى أجرا نظير مهمته ، والدولة لا تتدخل فى هذه الدراسة ، واقتصر إشرافها على عدم تعارض الدراسة وما يجرى فيها من مناقشات مع تعاليم الدين أو مع سياسة الدولة العامة ، وإذا كان المعلم ميسورا فإنه يؤدى مهمته بدون أجر إبتغاء مرضاة الله ، وكان أبو حنيفة النعمان يعمل بزازا وفى نفس الوقت يقوم بالتدريس ، والطلاب الذين يترددون على هذه الحلفات لا يستمرون فيها إلا إذا تأكد الشيخ من جديته وإقباله على الدراسة ، وذلك من خلال مناقشته له ، ولقد أظهرت هذه الحلقات مواهب كبيرة ، فنبغ من حلقة الإمام أبى حنيفة القاضى أبو يوسف ، ولم يكن الطالب يتفرغ للدراسة إنما يعمل ويدرس فى نفس الوقت (٣). والشيخ يحدد المنهج الذى يدرسه لطلابه فى المسجد إلا أن هذه الدراسات كانت تدور حول علوم الدين واللغة ، وكان القراء يجلس فى المسجد ، والقارئ يقرأ وهو يفسر لطلابه (٤).

__________________

(١) ابن النديم : الفهرست ص ، ١٧٤

(٢) أنتونى ناتنج : العرب ص ، ١٧٤

(٣) Hitti : Hist.of the Arabs p.٣٦٣.

(٤) ابن خلكان : وفيات الأعيان ج ٥ ص ، ٥٢٥

١٢٥

اهتم العلماء فى مختلف أنحاء الدولة الإسلامية بالرحيل إلى المدن الكبرى للاتصال بالعلماء المشهورين للاستفادة من علمهم وفضلهم ، والسبب فى ذلك «أن الناس يأخذون معارفهم تارة علما وتعليما وإلقاء ، وتارة محاكاة وتلقينا بالمباشرة ، فعلى قدر كثرة الشيوخ يكون حصول الملكات ورسوخها .. وهذا لمن يسر الله عليه طرق العلم والهداية فالرحلة لا بد منها فى طلب العلم ، واكتساب الفوائد» (١).

وكان الخلفاء يشجعون أهل الذمة المثقفين على الرحيل إلى الدولة البيزنطية لقراءة كتب الحكمة وترجمتها (٢).

أما الخلفاء والأمراء وكبار رجال الدولة فكانوا يستعينون بمعلمين لتعليم أبنائهم فى قصورهم ، وقد حدد الرشيد لمؤدب ولده الأمين المنهج الذى يجب أن يعلمه وينشئ عليه ابنه الأمين ، فقال : أقرئه القرآن ، وعرفه الآثار ، ورواه الأشعار ، وعلمه السنن ، وبصره مواقع الكلام وبدنه ، وامتعه من الضحك إلا فى وقته ، وخذه بتعظيم مشايخ بنى هاشم ، إذا دخلوا عليه ، ورفع مجالس القواد إذا حضروا مجلسه ، ولا تمرن عليك ساعة إلا وأنت مغتنم فائدة تفيده إياها من غير أن تحزنه ، فتميت قلبه ولا تمعن فى مسامحته فيستحلى الفراغ ، وعليك بالرفق به ، فإن لم يأت بالرفق فخذه بالغلظة (٣) وكان الفراء ـ وهو من أعلم الكوفيين بالنحو واللغة وفنون الأدب ـ يؤدب ولدى المأمون ، وأجزل صلته على حسن تأديبه لهما (٤).

انتشرت المجالس العلمية فى بغداد التى تضم العلماء فى الدور والقصور والمساجد ، ويتناظرون فيها فى فروع العلم المختلفة ، وقد حرص الخلفاء على عقد

__________________

(١) مقدمة ابن خلدون ص ، ٥٤١

(٢) ابن النديم : الفهرست ص ، ٣٤١

(٣) المسعودى : مروج الذهب ج ٢ ص ، ٢٧٨

(٤) ابن خلكان : وفيات الأعيان ج ٥ ص ، ٥٢٥

١٢٦

هذه المجالس ، ومما لا شك فيه أن هذه المناظرات أدت إلى رواج الحركة العلمية لأن المناظرة إذا كانت تتم أمام خليفة أو أحد كبار رجال الدولة ، فأن المشتركين فيها يحرصون على إتقان مادتها العلمية حتى يدعم رأيه بالأسانيد المعقولة والمقبولة ، ويحظى بتقدير الحاضرين ، وكان للخلافات فى الرأى التى تحدث بين رجال العلم أثر كبير فى تقدم الحركة العلمية ، ذلك أنها شجعت العلماء على مواصلة البحث والدرس ، وإعداد أنفسهم حتى لا يخذلوا فى مجلس المناظرة مما يسئ إلى سمعتهم ومكانتهم (١).

والواقع أن الخلفاء العباسيين لم يألوا جهدا فى سبيل تشجيع الحركة العلمية فكان الرشيد من أبلغ الناس كلاما ، وأحسنهم نطقا وأكثرهم علما وفهما ، كتب إلى ولاة الأمصار كلها وإلى أمراء الأجناد يطالبهم بتشجيع العلم وأهله فقال : فانظروا من التزم الأذان عندكم فاكتبوه فى ألف من العطاء ، ومن جمع القرآن وأقبل على طلب العلم ، وعمر مجلس العلم ومقاعد الأدب ، فاكتبوه فى ألف دينار من العطاء ، ومن جمع القرآن وروى الحديث ونفقه فى العلم فاكتبوه فى أربعة آلاف دينار من العطاء واسمعوا قول فضلاء عصركم وعلماء دهركم.

وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم ـ وهم أهل العلم ـ وبلغ من تشجيع الرشيد للعلم والتعليم أن الغلام كان يحفظ القرآن الكريم وهو ابن ثمان سنين ويتبحر فى الفقه ويروى الحديث ، ويناظر المعلمين وهو ابن أحد عشر عاما (٢).

وكان المأمون أعلم الخلفاء بالفقه والكلام وله عدة رسائل (٣) لذلك شجع العلماء على مواصلة البحث والدرس ، وعنى بمجالس المناظرة ، فكان يدخل عليه من العلماء الفقهاء المتكلمين جماعة يختارهم لمجالسته ومحادثته وأختير له من الفقهاء لمجالسته مائة رجل ، وناظرهم وناقشهم كثيرا ، حتى وقع اختياره على أفضلهم فكانوا عشرة فقط (٤).

__________________

(١) ابن طيفور : مناقب بغداد ص ، ٣٦

John : Giubb The Empire of the Araba p. ٩١٣.

(٢) ابن قتيبة : الأمامة والسياسة ج ١ ص ، ٩٩

(٣) ابن النديم : الفهرست ص ، ١٦٨

(٤) ابن طيفور : مناقب بغداد ص ، ٣٦

١٢٧

على أن مجالس المناظرة احتدت فيها المناقشات بين المتكلمين حول مسألة خلق القرآن ، وكان المأمون يميل إلى المعتزلة لأن آراءهم تتفق مع العقل والمنطق.

ويرتبط بظهور الحركة العلمية ونشاطها فى بغداد الحاجة إلى المحافظة على الكتب والمصنفات. ومن هنا أقيم فى بغداد بيت الحكمة ، وهى مكتبة كبيرة فيها مختلف الكتب ، وسميت خزانة الحكمة وبيت الحكمة وخزانة كتب الحكمة ـ ويحيط الغموض بتأسيس هذا البيت فلا نعرف على وجه التحديد متى تم تشييده ولا مكان موضعه ، وكل ما نعرفه أن المنصور نقل الخزائن إلى بغداد بعد تشييدها ، والكتب كانت جزءا هاما من محتويات هذه الخزائن وجمع فيها الكتب من مختلف أنحاء مملكته ، وأضاف إليها المصنفات التى صنفت فى عهده ، والتى شجع أصحابها على التأليف ، ولما ولى الرشيد أضاف إلى بيت الحكمة كثيرا من الكتب وأضاف البرامكة إلى هذه الخزائن الكثير من الكتب وخصوصا الفارسية ، وفى أواخر عهد الرشيد ضمت خزانة بيت الحكمة كثيرا من الكتب بلغت متعددة منها العربية واليونانية والفارسية والسريانية وبعض اللغات الهندية (١).

وازدهر بيت الحكمة فى عهد الخليفة المأمون لميله إلى الفلسفة والعلوم العقلية وأنفق أموالا طائلة فى نقل الكتب إلى بيت الحكمة من الدولة البيزنطية وغيرها ، وكان يعمل فى بيت الحكمة علماء تنوعت ثقافتهم ومعارفهم ، فسهل بن هارون صاحب خزانة الحكمة للمأمون كان حكيما شاعرا ، وجدير بالذكر أنه فارسى شعوبى المذهب شديد العصيبة على العرب ، ويصف الجاحظ براعته وفصاحته وله عدة كتب (٢).

وازداد عدد الكتب فى عهد الخليفة المأمون ، ولم تكن الكتب اليونانية هى التى حرص المأمون نقلها إلى بيت الحكمة ، بل نجد المأمون يطلب من يحيى بن البطريق إحضار كتب لاتينية إلى بغداد ، وقد كان يحيى يعرف اللغة اللاتينيه ، وضمت هذه الكتب إلى بيوت الحكمة وبذلك ضم بيت الحكمة كتبا فى مختلف اللغات ، ومختلف العلوم (١).

__________________

(١) ابن النديم : الفهرست ص ، ٣٥١

(٢) ابن النديم : الفهرست ص ، ١٧٤

(١) ابن النديم : الفهرست ص ، ٣٥١

١٢٨

وكان العلماء فى الدولة الإسلامية يودعون نسخا من مؤلفاتهم فى بيت الحكمة على أن بيت الحكمة ضعف شأنه فى عهد الخلفية المعتصم ، لعدم اهتمامه بالنواحى الثقافية.

وكان يلحق ببيت الحكمة علماء لهم رواتب محددة ، وتنوعت اختصاصاتهم ، ومن بين هؤلاء العلماء علماء فلكيون ، ذلك لأن المأمون ألحق بيت الحكمة مرصدا لإصلاح آلات الرصيد ، وكانت أعمال بالضرورة من بيت الحكمة ، بل كان بعضهم من خارجه.

وصاحب بيت الحكمة يشرف على العاملين فيه ، وعليه أن يرتب الكتب وبعد فهارسها ، ويصنفها ، وضم بيت الحكمة عدة طوائف ، طائفة النساخ ، وطائفة المترجمين ، وطائفة المفسرين ، وطائفة المنجمين ، وطائفة الكتبة وطائفة المجلدين ، وكان الناسخ ينسخ ما يطلب منه نظير أجر. وعليه أن يرتب أوراق كل نسخة بعد جمعها ، وإصلاح ما قد يظهر فيها من أخطاء. (١)

وكان الخليفة يعين المترجمين فى بيت الحكمة ، ويعين لهم رئيسا يتفقد أعمالهم ويراجعها ويصححها مثل يوحنا بن ماسويه ـ كان نصرانيا سريانيا ولاه الرشيد ترجمة الكتب الطبية القديمة التى وجدها بأنقرة وعمورية وسائر بلاد الروم التى فتحها المسلمون (٢) ، وعينه أمينا على الترجمة ، ورتب له كتابا يكتبون بين يديه ، وظل يباشر مهامه حتى أيام المأمون ، وقام بالترجمة أيضا يوحنا بن البطريق ، وحنين بن إسحاق (٣).

وبذلك ساهم بيت الحكمة فى ترجمة كتب فى علوم مختلفة وبلغات متعددة إلى العربية ، وكان المترجم يملى كتابة المترجم على عدد من الكتاب أو النساخ ، حتى تتعدد نسخ الكتاب الواحد ، وتجلد هذه الكتب ، وتودع نسخ منها فى بيت الحكمة (٤) حيث تتاح الفرصة للقراء للإطلاع عليها ، والإستقادة منها.

__________________

(١) ابن خلدون : المقدمة ص ، ٤٢١

(٢) القفطى : اخبار العلماء باخبار الحكماء ص ، ٣٨٠

(٣) المصدر نفسه.

(٤) ابن النديم : الفهرست ص ، ١٠

١٢٩

ظهر فى بغداد علماء عنوا بتأليف الكتب واقتناء النفيس منا ، فمحمد بن عمر الواقدى خلف بعد وفاته ستمائه قمطر كتبا كل قمطر منها حمل رجلين ، وكان له غلامان مملوكان يكتبان له الليل والنهار (١) وله عدة مصنفات ، ويذكر ابن خلكان (٢) أن إسحاق بن ابراهيم الموصلى كان عنده ألف جزء من لغات العرب.

كان مركز الحركة الثقافية قبل تأسيس بغداد في البصرة والكوفة ، ثم شيدت بغداد ، فغلبت على المدينتين ، ويقول اليعقوبى (٣) ليس لها نظير فى مشارق الأرض ومغاربها سعة وكبرا وعمارة وكثرة مياه ، وصحة هواء ، ولانه سكنها من أصناف الناس وأهل الأمصار والكور وانتقل إليها من جميع البلدان القاصية والدانية وآثرها جميع أهل الآفاق على أوطانهم ..

وهى مع هذا مدينة بنى هاشم ودار ملكه ومحل سلطانهم .. واعتدال الهواء وطيب الثرى وعذوبة الماء حسنت أخلاق أهلها ، ونضرت وجوههم وانفتقت أذهانهم حتى فصلوا الناس فى العلم والفهم والأدب. ، فليس أعلم من عالمهم ، ولا أروى من راويتهم ، ولا أجدل من متكلمهم ولا أحذق من مفتيهم ولا أعرب من نحويهم ولا أصح من قارئهم ، ولا أمهر من متطيبهم ، ولا أكتب من كاتبهم. ولا أشعر من شاعرهم ..

العلوم النقلية :

قلنا إن العرب قسموا العلم إلى نقلية وعقلية ، والعلوم النقلية هى علوم الدين واللغة ، ولقد ازدهرت هذه العلوم فى بغداد فى العصر الذى نؤرخ له ، وعلم القراءات من بين العلوم التى عنى المسلمون به لأنه علم قراءة القرآن ، ولقد كان للقراءات سبع طرق ، كل طريقة تستند فى قراءتها إلى أحاديث ، إطمأن شيخها إلى صحتها ودعا أصحابه إلى القراءة بطريقته ومن أشهر قراء بغداد الكسائى ، وهو من القراء السبعة توفى سنة ١٧٩ ه‍ ، وكان ينتقل فى البلدان «ويقرأ بقراءة

__________________

(١) ابن النديم : الفهرست ص ، ١٤٤

(٢) وفيات الأعيان ج ١ ص ، ٩٧

(٣) البلدان ص ، ٢٣٣

١٣٠

حمزة ثم اختار لنفسه قراءة ، فاقرا الناس بها وذلك فى خلافة الرشيد ، وألف العلماء فى قراءته كتاب من بينها كتاب «ما خالف الكسائى فيه» لأبى جعفر بن المغيرة (١) قدم الكسائى إلى بغداد فضمه الرشيد إلى ولديه المأمون والأمين ، وللكسائى عدة كتب ، منها كتب «معانى القرآن» ، وكتاب «مختصر النحو» ، وكتاب «القراءات» ، وكتاب «النوادر الكبير» ، و «النوادر الأوسط» ، و «النوادر الأصغر» ، وكتاب «مقطوع القرآن وموصوله» (٢).

ومن أشهر القراء يحيى بن الحارث الدمارى توفى سنة ١٤٥ ه‍ روى عن جماعة من الصحابة (٣) ومن القراء المشهورين حمزة بن الزيات ، توفى فى خلافة المنصور سنة ١٥٦ ه‍ (٤).

ومن العلوم الدينية التى عنى بها الناس فى بغداد بصفة خاصة على التفسير ، ولقد اتجه المفسرون إلى اتجاهين ، يعرف أولهما باسم التفسير بالمأثور. ويعرف الثانى باسم التفسير بالرأى.

نزل القرآن الكريم بلغة العرب. وعلى أساليب بلاغتهم ، فكانوا كلهم يفهونه ويعلمون معانيه فى مفرداته وتراكيبه ، وكان ينزل جملا جملا ، وآيات آيات ، فكان الرسول يوضح لأصحابه سبب نزول الآيات ، ومعانيها فكان ذلك ينقل عن الصحابة ، وتداول ذلك التابعون من بعدهم ، ونقل عنهم ، ولم يزل متناقلا. حتى صارت المعارف علوما فدونت هذه الأقوال وهذا هو التفسير بالمأثور ، وكان المفسرون إذا احتاجوا إلى معرفة شئ عن بدء الخلقة والكون وأسرار الوجود يسألون عنه أهل الكتاب ، ويأخذون برواياتهم ، فامتلأت التفاسير بالأخبار التى نقلت عنهم (٥).

__________________

(١) ابن النديم : الفهرست ص ، ، ٤٤

(٢) المصدر السابق ص ، ٩٧

(٣) ابن النديم : الفهرست ص ، ٤٣

(٤) ابن قتيبة كتاب المعارف ص ، ٢٣٠

(٥) مقدمة ابن خلدون ص ٤٣٩ ـ ، ٤٤٠

١٣١

ومما لا شك فيه أن المفسرين أخطأوا لأنهم نقلوا هذه الأخبار فى كتبهم دون مناقشتها. على الرغم من أن الكثير منها لا يقبله العقل ولا المنطق.

أما طريقة أصحاب الرأى فهى الطريقة التى تعتمد على استنباط المعانى من النصوص عند التفسير ، على أن التفسير حتى فى بداية ظهوره كعلم من العلوم لم يتخذ شكلا منظما ، فقد اقتصر على تفسير بعض الآيات غير مرتبة بترتيب السور ، ثم انتظم التفسير بعد ذلك ، فقد ذكر ابن النديم أن عمر بن بكير كتب إلى القراء أن الحسن بن سهل ربما سألنى عن الشئ بعد الشئ من القرآن. فلا يحضرنى فيه جواب ، فقال القراء لأصحابه : اجتمعوا حتى أملى عليكم كتابا فى القرآن ، وجعل لهم يوما ، فلما حضروا خرج إليهم.

وكان فى المسجد رجل يؤذن ، ويقرأ بالناس فى الصلاة ، فاتفق معه القراء على أن يقرأ للقرآن مرتبا ، ويتوقف عند كل آية ، ليفسرها القراء. ولم يعمل أحد ذلك قبله ، ويتضح لنا مما تقدم أن القراء أول من فسر القرأن بترتيب سوره وآياته ، وفسره بهذا المنهج الذى وضعه لنفسه فى أربعة أجزاء (١).

ولقد ظهرت فى العصر العباسى الأول مصنفات فى التفسير ولكنها فقدت ، نخص بالذكر منها تفسير مقاتل بن سليمان المتوفى سنة ١٥٠ ه‍ وأصله من بلخ ، وانتقل إلى بغداد ، وقدره العلماء فى بغداد حتى أن الشافعى قال : «الناس كلهم عيال على ثلاثة ، على ابن مقاتل فى التفسير وعلى زهير بن أبى سلمى فى الشعر ، وعلى أبى حنيفة فى الكلام».

ومن التفاسير التى فقدت ، تفسير أبو إسحاق ذكر فيه أقوالا لوهب بن منبه ، وكعب الأحبار وغيرهما من الرواة عن اليهودية والنصرانية (٢).

على أن أول تفسير وصل إلينا. كان تفسير ابن جرير الطبرى المتوفى سنة ٣١٠ ه‍ والذى يقع فى ثلاثين مجلدا ، وهو يأخذ بالمأثور عن الرسول صلوات الله وسلامه عليه والصحابة والتابعين ويحرص فى ذلك على الأخذ بالرواية

__________________

(١) ابن النديم : الفهرست ، ١٠٠

(٢) ابن خلكان : وفيات الأعيان ج ٢ ص ، ٣٤١

١٣٢

الصحيحة ، ولا يوافق المفسرون من أصحاب الرأى لأنهم يخطئون كثيرا. وظهر فى تفسيره ثقافته الدينية واللغوية والتاريخية ، ويتضح من كتاباته معرفته لآراء المتكلمين وخاصة المعتزلة ، وتأثر بمذهب المحدثين فى الكلام عن القدر ، وكان يتحرى الدقة فى الإسناد جريا على طريقة العلماء المعاصرين ، وحرص على الأخذ بروايات رجال موثوق بهم ، ونقد من لم يثق به (١).

أما أصحاب التفسير بالرأى ، فكانوا يحكمون العقل ويرفضون الخرافات والتصورات المخالفة لطبيعه الأشياء ، التى تأثر بها كثير من الناس ، ومن أشهر هذه التفاسير تفسير أبى بكر الأصم المتوفى سنة ٢٤٠ ه‍ (٢).

اشتد الحاجة إلى الفقه فى العصر العباسى الأول. لأنه ينظم المعاملات ويضع التشريعات التى تنظم حياة الأفراد وعلاقاتهم بعضهم ببعض من ناحية وعلاقاتهم بالدولة من ناحية أخرى ، فضلا عن أنه يوضح التعليم التى يجب أن يتبعها الناس فى شئون دينهم ، وعنى الخليفة الرشيد بالفقه ، فعهد إلى القاضى أبى يوسف أن يضع له كتابا فى التنظيمات الأقتصادية والإجتماعية لدولته ، لإزالة ماساد فى عهد الأمويين من الأخذ بالرأى ، فصنف كتاب الخراج ، ويقول أبو يوسف فى مقدمة كتابه أن أمير المؤمنين أيده الله تعالى سألنى أن أضع كتابا جامعا يعمل به فى جباية الخراج ، والعشور والصدقات والجوالى وغير ذلك مما يجب عليه النظر فيه ، والعمل به ، وإنما أراد بذلك رفع الظلم عن رعيته والصلاح لأمرهم ـ فلا تضيعن ما قلدك الله به من أمر هذه الأمة والرعية ، فإن القوة فى العمل بإذن الله ، إن الرعاة مؤدون إلى ربهم وما يؤدى الراعى إلى ربه فأقم الحق فيما ولاك الله وقلدك ولو ساعة من نهار فإن أسعد الرعاة عند الله يوم القيامة راع سعدت به رعيته (٣).

استمع الرشيد إلى هذه التوجيهات من قاضيه أبى يوسف ، ولما أتم كتابه «الخراج» أمر الرشيد كل عماله أن يضعوا توجيهات أبى يوسف موضع التنفيذ.

__________________

(١) جولد تسيهر ، المذاهب الإسلامية فى تفسير القرآن ص ٨٦ ـ ، ٨٧

(٢) المصدر السابق ص ٩٩ ـ ، ١٠٠

(٣) أبو يوسف : الخراج ص ، ٢

١٣٣

وكان من أثر تشجيع الخلفاء العباسيين للفقه والفقهاء واعتمادهم عليهم ففى أمور الفقه ، أن وضع الفقهاء قواعد الفقه بدقة وعناية فى الحياة العملية (١) واختلف الفقهاء فى آراءهم الفقهية ، من هنا نشأت المذاهب الفقهية السنية ، وأخذ بعض الفقهاء بالرأى ، وأخذ آخرون بالمأثور ، ويمثل أبو حنيفة النعمان بن ثابت المذهب الأول ، فقد أخذ بالرأى بشكل كبير ، وكان داود يمثل المذهب الثانى ، وعارض الرأى بكل شدة ، وبين هذين الطرفين الشافعى وابن حنبل ، على أن الطبرى لم يضع ابن حنبل فى قائمة الفقهاء ، وإنما عده من المحدثين.

ولم يكن أبو حنيفة أول من أخذ بالرأى. إنما سبقه علماء كثيرون فى القرن الأول الهجرى. على أن أبى حنيفة تطور بالأخذ بالرأى درجة لم تكن معروفة من قبل ، وهو أول من استعمل القياس فى الفقه حتى لقد سمى الإمام الأعظم تقديرا لجهوده. ومما لا شك فيه أن أبا حنيفة قد استفاد من الفقهاء الذين سبقوه فى الأخذ بالرأى وأضاف آراءه إلى آراء اسلافه ، وقد عارض بعض الفقهاء التفكير الحر الذى درج عليه أبو حنيفة فى مذهبه «وقد حمل تلميذه أبو يوسف تعليمه ، وأدى اختلاف اثمة الفقه فى فهم بعض النصوص الفقهية ، واستنباط الأحكام منها إلى تعدد المذاهب.

ولد أبو حنفية النعمان بالكوفة سنة ٨٠ ه‍ وتوفى فى بغداد سنة ١٥٠ ه‍ وجده من أهل كابل ، وأدرك أربعة من الصحابة ، وكان عالما عابدا زاهدا ورعا تقيا كثير الخشوع دائم التصرع إلى الله سبحانه وتعالى ، وكان أبو حنيفة ممن وفق له الفقه ، فإذا سئل فيه تفتح وسال كالوادى. وقيل : من أراد أن يتبحر فى الفقه فهو عيال على أبى حنيفة (٢).

كان أبو حنيفة إماما فى القياس ، ويحرص على الدقة فى قبول الحديث ويتحرى عنه وعن رجاله ، فلا يروى الخبر عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا إذا رواه جماعة ثقات ، وأجمع الفقهاء على الأخذ به (٣).

__________________

(١) على حسن عبد القادر ، نظرة عامة فى تاريخ الفقه الإسلامى ج ١ ص ، ٤٣

(٢) ابن خلكان ، وفيات الأعيان ج ٥ ص ، ٣٦

(٣) ابن النديم ، الفهرست ص ، ٢٨٥

١٣٤

ولقد اندثرت كتب الفقه التى صنفها أبو حنيفة ، وذكر لنا ابن النديم (١) أسماء كتبه فى الفقه.

ومن أبرز تلاميذ أبى حنيفة القاضى أبو يوسف ، كان حافظا للحديث ثم لزم أبا حنيفة ، فغلب عليه الرأى ، وولى منصب قاضى القضاء حتى وفاته سنة ١٨٢ ه‍ ، فى خلافة الرشيد ، ولأبى يوسف من الكتب الفقهية ، الزكاة والصيام ، الفرائض والحدود ، الرد على مالك بن أنس ، رسالته فى الخراج إلى الرشيد ، وأخيرا كتاب الجامع الذى ألفه ليحيى بن خالد ، وتناول فيه اختلاف الآراء فى الفقه (٢).

وجدير بالذكر أن أبا يوسف تتلمذ على ابن أبى ليلى ، ثم انتقل إلى أبى حنيفة ، وأخذ عن مالك بن أنس ، وكان أول قاضى قضاة في الإسلام ، يعين القضاة فى أنحاء الدولة. وساعد على انتشار مذهب أستاذه ، ويقول الجاحظ (٣) : كانت دراسة فقه أبى حنيفة فى بغداد على قدر كبير من الأهمية لمن يريد أن يتولى منصبا هاما ، «وقد تجد الرجل يطلب الآثار وتأويل القرآن ويجالس الفقهاء خمسين عاما وهو لا يعد فقيها ، ولا يجعل قاضيا ، فما هو إلا أن ينظر فى كتب أبى حنيفة وأشباه أبى حنيفة ، ويحفظ كتب الشروط فى مقدار سنة أو سنتين حتى تمر ببابه فتيقن أنه من بعض العمال ، بالحزى ألا يمر عليه من الأيام إلا اليسير حتى يصير حاكما على مصر من الأمصار».

ومن أشهر فقهاء بغداد من أصحاب الرأى البشر بن الوليد ، ولى القضاء للمأمون من تلاميذه محمد بن الحسن ، وله عدة مصنفات فى الفقه ، ترجع أهميتها إلى أنه أول من دون ما أورده الفقهاء من أقوال وآراء ، ومن هنا تفوق على من سبقه من الفقهاء حتى على أبى يوسف نفسه ، الذى حاول إبعاده عن بغداد ، وإليه يرجع الفضل فى تدوين مذهب أبى حنيفة وحفظه فى الكتب ، (٤)

__________________

(١) المصدر السابق ص ، ٢٨٦

(٢) المصدر السابق

(٣) كتاب الحيوان ج ١ ص ، ٤٣

(٤) ابن النديم ، الفهرست ص ، ٢٨٩

١٣٥

وجدير بالذكر أن محمد بن الحسن اتصل بالإمام مالك وروى عنه الموطا ، وروايته للموطا من أهم الروايات لأنه أوضح فيه الخلاف بين أهل الحجاز وأهل العراق فى الفقه ، وقد قدم الشافعى إلى بغداد ، وأخذ عن محمد بن الحسن ، وكتب عنه وقرأ أجمل كتبه ، وله من الكتب ، كتاب المبسوط فى الفقه ، وكان بينه وبين الشافعى مناظرات ، وقد أثنى عليه الشافعى ، وأبرز مكانته العلمية والخلقية بقوله : «أنه كان يملأ القلب والعين» وقال : ما رأيت أعلم بكتاب الله من محمد كأنه عليه نزل (١).

ولقد أدت شهرة بغداد بعلمائها وفقهائها إلى قدوم طلاب العلم إليها ، فرحل أسد بن الفرات إلى بغداد ، وتعلم فقه أبى حنيفة من علمائها ، غير أنه لما عاد إلى مصر اتصل ببعض فقهاء المالكية وأخذ عنهم آراء الإمام مالك وعاد إلى القيروان ، ونشر آراء الإمام مالك هناك ، فى مقالات سميت بالأسدية وتوفى غازيا فى صقلية (٢).

ومن أشهر الأئمة الذين وفدوا على بغداد فى العصر العباسى الأول وأقاموا بها فترة من الزمن ينشرون معارفهم على الناس والطلاب بصفة خاصة ، أبو عبد الله محمد إدريس الشافعى الذى جمع بين أقوال أهل الرأى ، وآراء أهل الحديث ، وهو أول من تكلم فى أصول الفقه ، وأول من وضع أسسه ومبادئه ، كثير من المناقب جم المفاخر منقطع القرين «درس علوم القرآن دراسة وافية شاملة ، وألم بأقوال الصحابة والتابعين ، وآراء الفقهاء وعلوم العربية. وقال عنه أحمد بن حنبل : ما عرفت ناسخ الحديث من منسوخة حتى جالست الشافعى وقال عن الشافعى أنه كالشمس للدنيا والعافية للبدان.

والشافعى هاشمى قرشى ولد بغزة سنة ١٥٠ ه‍ وتربى فى محيط عربى ، لذلك نشأ بارعا فى اللغة العربية والشعر القديم ، واتصل ـ كما قلنا ـ بالشيبانى

__________________

(١) المالكى ، رياض النفوس ص ، ١٦٠

(٢) ابن خلكان ، وفيات الأعيان ج ٣ ص ، ٢٧٧

١٣٦

والإمام مالك وأنتقل إلى بغداد سنة ١٩٥ وأتصل علماؤها ، به ورووا عنه مذهبه القديم وفى سنة ١٩٨ ه‍ طلبت منه عبد الرحمن بن المهدى فى بغداد أن يضع له كتابا فيه معانى القرآن الكريم وبيان الناسخ والمنسوخ من القرآن والسنة وحجة الإجماع (١) ، فوضع له كتاب الرسالة وترجع أهمية الرسالة إلى أنها نقطة الاتصال التاريخية للفقه الإسلامى ، إذ أنه كان وسطا بين أهل الرأى وأهل الحديث.

وعلى الرغم من رحيل الشافعى عن بغداد إلا أنه ترك فيها تلاميذ فى فقه ، وأصلوا جهوده ، نخص بالذكر منهم أبو البخترى وهب بن كثير ، كان فقهيا أخباريا ، ولاه الرشيد القضاء فى الرصافة ثم عزله ، وله من الكتب كتاب الرايات ، كتاب طسم وجديس ، كتاب فضائل الأنصار (٢).

وترك الشافعى فى بغداد تلاميذ نشروا فقهه وشرحوه ، نخص بالذكر منهم سليمان بن داود بن على بن خلف ، وينسب إلى عائلة من قاشان قرب أصفهان وقد درس ببغداد فقه الشافعى ، وهو أول من ألف فى مناقب الشافعى ، وأقام فى بغداد يعلم التلاميذ فقه الشافعى الذى تعصب له وتوفى فى بغداد سنة ٢٧٠ ه‍.

ومن تلاميذ الإمام الشافعى ومر يديه إبراهيم بن خالد بن إلياس الكلبى نقل أقواله القديمة ، وكان أحد الفقهاء الأعلام والثقات المأمونين فى الفقه له المصنفات القيمة فى الأحكام ، جمع فيها بين الحديث والفقه ، وكان أول اشتغاله بمذهب أهل الرأى حتى قدم الشافعى إلى العراق ، فتردد عليه ، وأتبع مذهبه ، ولم يزل على ذلك حتى وفاته فى بغداد سنة ٢٤٦ ه‍.

على أن أحمد بن حنبل يعتبر بحق أبرز تلاميذ الشافعى ، ولد ابن حنبل فى بغداد فى سنة ١٦٤ ه‍ ورحل فى طلب العلم ، ورجع إلى بغداد حيث تتلمذ على الشافعى من سنة ١٩٥ حتى سنة ١٩٧ ه‍ ، ويعتبر إمام المحدثين ، صنف كتابه المسند. وجمع فيه من الحديث ما لم يجمعه غيره ، وقيل أنه كان يحفظ ألف ألف حديث وبلغ من تقدير الشافعى له أن قال : خرجت من بغداد وما خلفت فيها

__________________

(١) ابن النديم : الفهرست ص ، ٢٩٥

(٢) ابن النديم : الفهرست ص ، ١٤٦

١٣٧

أتقى ولا أفقه من ابن حنبل ، وقد عارض مذهب المعتزله الذى أعتنقه الخليفة المأمون ، فلما دعى إلى القول بخلق القرآن ، ولم يجب ، ضرب وحبس ، وأخذ عنه جماعة من العلماء الأجلاء نخص بالذكر منهم محمد بن إسماعيل البخارى ، ومسلم بن الحجاج النيسابورى (١).

وكان ابن حنبل عالما ورعا تأثر به الناس حتى أن يوم وفاته فى بغداد سنة ٢٤١ ه‍ أسلم عشرون ألفا من النصارى واليهود (٢).

ومن فقهاء بغداد فى ذلك العصر داود بن على الأصبهانى المعروف بداود الظاهرى ، درس مذهب الشافعى ، وألف فى مناقبه ثم أستقبل بمذهب يعرف بالظاهرية وهو يناقض المذهب الحنفى ، إذ أنه يرفض القياس رفضا تاما ، ويرى أن فى القرآن والحديث ما يكفى لاستنباط الأحكام ، بل يجب التقيد بهما وبظاهرهما ، وهاجم داود القياسية وأبرز أخطاء لهم فى الأحكام نتيجة أخذهم بالقياس (٣).

يأتى الحديث فى الأهمية بعد القرآن الكريم كمصدر من مصدر التشريع الإسلامى ، والحديث هو ما أثر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قول أو فعل أو حكم أصدره فى موضوع عرض عليه ، ولقد كان جمع الحديث فى هذا العصر عاملا هاما عند المشتغلين بالفقه ، وكان هناك طريقتين فى جمع الأحاديث : أولهما الحديث المسند الذى ليس بالضرورة أن يتصل أسناده بالصحابة أنما يكتفى بنقل اسناده بنقل العدل الضابط عن العدل الضابط إلى منتهاه ، وبعض هذه الأحاديث يفصل أسنادها إلى صحابى بعينه ، والصحابى بالطبع يأخذ عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأهم مسند وضع فى بغداد هو مسند ابن حنبل (٤).

لذلك فأن من أهم فروع علم الحديث النظر فى الأسانيد ، ومعرفة ما يجب العمل به من الأحاديث بالوقوف على المسند الكامل ، ومعرفه رواة الحديث

__________________

(١) ابن خلكان : وفيات الأعيان ج ١ ص ، ١٧

(٢) ابن خلكان : وفيات الأعيان ج ٢ ص ، ٥٧

(٣) مقدمة ابن خلدون ص ، ٤٤٦

(٤) المصدر السابق ص ، ٤٣٦

١٣٨

بالعدالة والضبط ويثبت ذلك بالنقل عن أعلام الدين بعد تعديلهم وبراءتهم من الجرح والغفلة فيكون ذلك دليلا على القبول أو الترك ، وكذلك مراتب هؤلاء النقلة من الصحابة والتابعين وتفاوتهم فى ذلك ، وتميزهم فيه ، وكذلك الآسانيد تتفاوت باتصالها وانقطاعها وبسلامتها من العلل الموهنة لها (١).

تعرض الحديث للتحريف ، لأن العرب كانوا لا يدونونها ، وظهر علماء أجلاء بذلوا جهودا مضيئة فى سبيل جمع الحديث الصحيح ، ومع ذلك فإن الفقهاء ناقشوها ورفضوا كثيرا منها ، فالإمام أبو حنيفة لم يوافق إلا على ستة عشر حديث جمعها البخارى (٢).

ظهرت المصنفات فى العصر العباسى الأول فى الحديث ، وتتضمن تقسيم الأحاديث وتبويبها حسب الموضوعات من عبادات ومعاملات وأخلاق وغير ذلك ، والمصنفات تختلف عن المسند ، لأن المسند يبوب حسب الرجال ، أما المصنف فهو ـ كما قلنا ـ حسب الموضوعات (٣).

ولقد ظهرت المصنفات فى بغداد فى وقت احتدام الصراع بين أهل الحديث وأهل الرأى الذين لم يعتمدوا على الحديث كثيرا كمصدر من مصادر التشريع ، ومن حرص علماء الحديث على وضع مصنفات يبرزون فيها المسائل الفقهية المختلفة ، بحيث لا يجد أهل الرأى مجالا للأدعاء بأن الحديث ليس مصدرا هاما للتشريع الإسلامى.

وجدير بالذكر أن أحمد بن حنبل اعتمد فى فقهه على الحديث ، فإذا وجد حديثا صحيحا اكتفى به ، وإذا عثر على فتوى من الصحابة أخذ بها ، وأحيانا يروى فى المسألة الواحدة رأيين ، وكان يرفض القياس إلا فى الضرورة القصوى ، ويفضل عليه الحديث حتى ولو كان مرسلا أو ضعيفا (٤).

ومن أشهر رواة الحديث الذين أقاموا فى بغداد ، محمد بن إسحاق بن يسار ـ

__________________

(١) مقدمة ابن خلدون ص ٣٤٥.

(٢) دى بور ، تاريخ الفلسفة فى الإسلام ص ٤٨.

(٣) على حسن عبد القادر ، نظرة عامة فى تاريخ الفقه الإسلامى ص ٤٣.

(٤) ابن النديم ، الفهرست ص ١٣٦.

Nicholson : Literary Hist of persia. p. ٧٣٣.

١٣٩

صاحب السيرة (١) وأخذ أصحاب الزهرى عن ابن إسحاق روايته فى الأحاديث التى رواها الزهرى ، وشكوا فى صحتها ، وكان الإمام أحمد بن حنبل يأخذ برواية ابن إسحاق.

ومن العلوم التى ازدهرت فى بغداد فى العصر العباسى الأول ، علم الكلام ، وهو يتضمن الحجاج عن العقائد الإيمانية بالأدلة العقلية ، والرد على المبتدعة والمنحرفين فى الاعتقادات عن مذاهب السلف وأهل السنة ، وأساس هذه العقائد الإيمانية يكمن فى التوحيد ، ويقدم فى برهان عقلى (١) ، وكان أهل الحديث يرون أن مناقشات المتكلمين وآرائهم بدعة ، لأن الإيمان عندهم هو الطاعة ، وقد غلاخصوم المتكلمين ، فرموهم بالزندقة ، وقالوا : علماء الكلام زنادقة ، والحق أن مناقشات المتكلمين أنعشت الحياة الثقافية فى بغداد ، ولكن ظهرت مشكلة ـ كما سنرى ـ أثارت جدلا كبيرا بين المتكلمين وأهل الحديث وهى مسألة القول بخلق القرآن ، هل هو مخلوق أو قديم؟ لذلك كانت أهمية المتكلمين هو الرد على أهل البدع والضلالات ، فدونوا الأدلة العقلية دفاعا عن الدين (٢).

لاقى المتكلمون ـ وقوامهم المعتزلة ـ معارضة شديدة فى بغداد ، لأنهم آمنوا بسلطان العقل وتحكيمه فى كل الأمور ، وقد استخدموا ما توصلوا إليه من تقدم علمى ـ خصوصا فى الفلسفة والمنطق ـ فى آرائهم الدينية ، وهاجموا أهل السنة بشدة وضراوة ، وأثاروا مسائل كبيرة فى الإلهيات والطبيعيات والسياسات ، وكان لهم مقدرة كبيرة على الجدال والإقناع والحوار بمهارة فائقة.

أضعف من شأن المتكلمين فى العصر العباسى الأول فى بغداد ، معارضة الخلفاء العباسيين الأوائل للاعتزال ، فكان عمرو بن عبيد من أبرز المعتزلة فى عهد المنصور ، ينجنب المنصور ، لأنه يدرك مدى معارضته المعتزلة (٣).

كذلك كره الرشيد المعتزلة ، فلما أدرك أن الشاعر العتابى من المعتزلة ، عظم

__________________

(١) مقدمة ابن خلدون ص ٤٥٨.

(١) مقدمة ابن خلدون ص ٤٥٨.

(٢) أحمد أمين ، ضحى الإسلام ج ٣ ص ٨٩ ـ ٩٠.

(٣) ابن قتيبة : عيون الأخبار ج ٢ ص ٢٣٧.

١٤٠