الفوز بالمراد في تاريخ بغداد

سليمان الدخيل

الفوز بالمراد في تاريخ بغداد

المؤلف:

سليمان الدخيل


المحقق: الدكتور محمّد زينهم محمّد عزب
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الآفاق العربيّة
الطبعة: ١
ISBN: 977-344-046-X
الصفحات: ٣٥٣

وضوئه وصلاته حتى يتفجر الصباح ثم يخرج فيصلى بالناس ، ثم يدخل فيجلس فى إيوانه (١).

أما الرشيد فقد اجتمع له من الجد والهزل ما لم يجتمع لغيره من بعده ، كان أبو يوسف قاضيه ، والبرامكة وزراءه ، وحاجبه الفضل بن الربيع من أنبه الناس وأشدهم تعاظما ، وشاعره مروان بن أبى حفصة ، ونديمه عمر بن العباس ، ومغنيه إبراهيم الموصلى ، ومضحكه ابن أبى مريم ، وزامره برصوما ، وزوجته أم جعفر ـ زبيده ـ وكانت أرغب الناس فى كل خير وأسرعهم إلى كل بر ومعروف (٢).

أما الأمين فكان ينفق على مجالسه أموالا جزيله ، وتفرش بأنواع الحرير ، والآنية من ذهب وفضة ، كان كثير الأدب فضيحا يقول الشعر ، ويعطى عليه الجوائز الكثيره ، وكان شاعره أبو نواس ، وقد قال فيه مدائح حسانا ، وقد وجده مسجونا فى حبس الرشيد ، فأطلقه ، وأطلق له مالا ، وجعله من ندمائه (٣).

كان الناس يقضون أوقات فراغهم فى بغداد فى الاستماع إلى الحكايات القصيره ، والنوادر الهزلية والأحاديث التى تتجلى فيها اللباقة والذكاء وذلك فى المجالس الخاصة ، أما المجالس العامه فكان يجتمع فيها كثير من الناس يستمعون إلى القصاص يروى لهم الحكايات الطوال (٤).

ومن أحسن من حدث الرشيد ، ابن عطاء الليث ، صاحب أخبار وأسمار فضلا عن علمه بالأنساب ، وكان من أظرف الناس وأحلاهم (٥).

ومن جلساء الرشيد ابن أبى مريم وكان مضحكا محدثا فكيها ، حتى أن الرشيد

__________________

(١) ابن كثير : البداية والنهاية ج ١ ص ٣٢٥.

(٢) المصدر السابق ج ١٠ ص ٢١٧.

(٣) المصدر السابق ج ١٠ ص ٢٤٢.

(٤) متز : الحضارة الإسلامية ج ٢ ص ٢٤٦.

(٥) الجاحظ : البيان والتبيين ج ١ ص ٣٤٤.

١٠١

فضل أن يقضى معه الكثير من الأوقات للاستمتاع بحديثه ، لأنه جمع المعرفة بأخبار أهل الحجاز وألقاب الأشراف وأحوال المجان ، وبلغ من إعجاب الرشيد به أن أنزله فى بعض غرف قصره (١).

ومن أبرز ندماء الرشيد الأصمعى وهو من أعلم الناس بالنوادر والأخبار وأيام الناس ، مشهور له بصدق الرواية ، أقام فى حياته فى الباديه أياما طوالا ، يستطلع فيها عادات العرب ويستكشف أخبارهم ، ويستنطق آثارهم ، وكان يسوق أخباره فى كلام رشيق بليغ حتى فاق غيره فى النوادر (٢) أما أبو نواس فكان من محدثى الرشيد ومسامريه ، له كلام طريف فى المجون والخلاعة ، وحوادث تدل على خفة روحه (٣).

وكان أبو دلامه صاحب نوادر وحكايات وأدب ونظم ، وهو من أصل حبشى ، نبغ فى أيام بنى العباس ، وانقطع إلى المنصور والمهدى وغيرهما وكانوا يقدمونه ويفضلونه ، ويستطيبون نوادره ، وكان يضحك المنصور وينشده الأشعار ويمدحه ، ومما يجدر ذكره أن المهدى خرج وعلى بن سليمان للصيد ، ومعهما أبو دلامه فرأى المهدى ظبيا فأصابه ، ورمى على بن سليمان ظبيا فأخطاه ، وأصاب كلبا ، فقال أبو دلامه شعرا :

قد رمى المهدى ظبيا

شك بالسهم فؤاده

وعلى بن سليمان

رمى كلبا فصاده

فهنيئا لكما كل أمرئ

يأكل زاده. (٤)

فأمر له المهدى بثلاثين ألف درهم ، وتوفى أبو دلامه سنة ١٦١ ه‍ (٥) ومن

__________________

(١) الطبرى : تاريخ الأمم والملوك حوادث سنة ١٩٢ ه‍.

(٢) ابن خلكان : وفيات الأعيان ج ١ ص ٣١٤.

(٣) المصدر السابق ج ١ ص ٣٧٣.

(٤) مروج الذهب ج ٢ ص ٥٥٥.

(٥) ابن خلكان : وفيات الأعيان ج ١ ص ٢٤٣.

١٠٢

وسائل التسلية فى بغداد لعب الشطرنج. وقد أدخلها الرشيد وانتشرت هذه التسلية بين أهل بغداد ، وكان يلعبون بها على رقعة مربعة حمراء من أدم ، والرشيد أول خليفة لعب بالصولجان فى الميدان ، ورمى بالنشاب ، ولعب بالاكرة والطبطاب وقرب إليه الحذاق فى ذلك ، وقرب إليه هواة الشطرنج والنرد وأجرى عليهم الرزق ، فسمى الناس أيامه لنضارتها وكثرة خيرها خصبها أيام العروس (١).

ويذكر المسعودى (٢) أن الخليفة المأمون كان من هواة لعب الشطرنج وقد وجه اللوم إلى الذين يلعبون معه ، لأنهم كانوا يتوقرون بين يديه ، وقال لهم : إن الشطرنج لا يلعب مع الهيبة.

كذلك انتشر لعب النرد فى بغداد ، ويلعب على رقعة بها أثنى عشر أو أربعة وعشرون منزلا بثلاثين حجر أو فصين. وشبه بعض الحكماء رقعة النرد بالأرض الممهدة لساكنها ، ومنازل الرقعة وهى أربعة وعشرون بساعات الليل والنهار ، وحجارتها وهى ثلاثون بعدد أيام الشهر ، واختلاف ألوانها باختلاف بياض النهار وسواد الليل (٣).

كان سباق الليل من أجمل أنواع التسلية عند الخلفاء والأمراء وكبار رجال الدولة فى بغداد فى العصر العباسى الأول. وبلغ من شغفهم به وتقديرهم له أن للسابق كان يأخذ حصان المسبوق ، واشترط الفقهاء فى هذه الرياضة التى أباحوها ألا تلعب طلبا للمال. وتنافس هواة سباق الخيل بتربية خيل السباحة. وجدير بالذكر أن الرشيد كان يسابق بالخيل فجاءه فرس يقال له المشمر سابقا ، والرشيد أعجبه ذلك الفرس ، فأمر الشعراء أن يقولوا فيه شعرا ، فقال أبو العتاهية (٤) : جاء المشمر والأفراس يقدمها ـ هونا على رسله منها وما انبهرا.

__________________

(١) المسعودى : مروج الذهب ج ٢ ص ٥٥٥.

(٢) مروج الذهب ج ٢ ص ٥٥٦.

(٣) متز : الحضارة الإسلامية ج ٢ ص ٢٥٣.

(٤) الأصفهانى : الأغانى ج ١٠ ص ٣١٢.

١٠٣

ومن وسائل التسلية للصيد. وكان الخليفة المهدى شغوفا بالصيد ومطاردة الظباء ، وكان يقوم برحلات منظمة لهذا الغرض ، يصحبه فرسان يتقلدون السيوف ، ويتبعهم طائفة الجند والغلمان ويسير الخليفة محاذيا لنهر دجلة ارتيادا للخضرة التى تجنح إليها الطيور ، وتجذب إليها الغزلان ، وقد عنى غيره من الخلفاء والأمراء بالصيد حتى أنهم أخذوا يصنعون نصال سهامهم من الذهب كما عنوا باستخدام الصقر وغيره فى الصيد ، وحرصوا كذلك على تربية الكلاب السريعة العدو (١) وكان الأمين يصارع الأسود ويخرج إلى الصيد ومعه أصحاب اللبابيد والحراب على البغال ، وهم الذين كانوا يصطادون السباع.

ووجد المتمسكون بتعاليم الدين والمعادين لمجالس اللهو والطرب فى الإمام أحمد بن حنبل ضالتهم المنشودة ، فالتفوا حوله واعتنقوا مذهبه ، ومن هنا ظهرت فى بغداد طائفة الحنابله التى اشتدت وطاتها على الناس ، فكروا آلات الموسيقى ، وضيقوا الخناق على أهل الطرب واللهوا والعابثين والخارجين على الدين وتجولوا فى شوارع بغداد يأمرون الناس بالمعروف وينهون عن المنكر.

(ح) المرأة فى بغداد وأثرها فى المجتمع

شاع الحجاب بين نساء بغداد الحرائر ومع ذلك لم ينعزلن عن الحياة العامة ، بل شاركن فى أمورها بنصيب كبير. على أن الجوارى كان لهن نشاط ملموس فى الحياة الإجتماعية أكثر من الحرائر ، ذلك أن الناس حرصوا على حجاب الحرائر ، أما الجوارى فكان الحجاب لا يفرض عليهن ما لم يتجبن ، وقد يتزوج الرجل والمرأة الحرة دون أن يراها ، وإذا أراد الرجل أن يستمع إلى الغناء أو يلهو يذهب إلى بيوت تجار الرقيق حيث القيان يقيمن بالغناء له دون حرج.

لذلك كان من الطبيعى أن يلقن الأدباء والشعراء أدبهن وشعرهم للجوارى دون الحرائر. فلا عزو أن يحرص الرجال على تعليم الجوارى أكثر من حرصهم على تعليم الحرائر (٢).

__________________

(١) المسعودى : مروج الذهب ج ٢ ص ٢٤٦.

(٢) أحمد أمين : ضحى الإسلام ج ١ ص ٩٨.

١٠٤

وأدى اهتمام رجال بغداد بالجوارى إلى ظهور تنافس بين الحرائر والجوارى ، فكانت أم موسى الحميرية ـ زوجة المنصور ـ اشترطت عليه ألا يتخذ سرية ، وكتبت عليه بذلك كتابا أكدت عليه فيه رغبتها هذه ، وأشهدت عليه الشهود والثقات المعتدلين.

على أن الحجاب الذى فرض على المرأة الحرة فى بغداد لم يمنعها من ممارسة النشاط فى الحياة العامة ، فكانت ابنة الخليفة المهدى تسير راكبة بين يديه على هيئة الجند (١).

ومن أبرز سيدات بغداد فى العصر الذى نكتب عنه الخيزران زوجة الخليفة المهدى وأم الهادى والرشيد ، فقد أتيحت لها الفرصة لإظهار موهبها وفرض إرادتها (١).

زاد نفوذ الخيزران فى بغداد ، وتدخلت فى أمور الدولة السياسية وشؤون الحكم ، وحرص المهدى على رفع مستواها الاجتماعى ، فأمرها بأن تلزم زينب بنت سليمان بن على بن عبد الله بن العباس ، لتقتبس من آدابها ، وتأخذ من أخلاقها فهى على حد قول المهدى «عجوز لنا قد أدركت أوائلنا» (٢) والواقع أنها كانت جليلة القدر مثقفة واسعة الإطلاع.

وكان الهادى كثير الطاعة لأمه الخيزران مجيب لها فيما تسأل عن حوائج الناس ، ومواكب ذوى الحاجات لا تخلو من بابها. على أن تدخلها فى شؤون الدولة واستبدادها بالأمر والنهى ـ كما كان حالها أيام المهدى أغضب الهادى ، فنهاها بقوله : «إنه ليس من قدر النساء الاعتراض فى أمر الملك» وأمرها بألا تستمع لذوى الحاجات ، وألا تأذن لأحد برفع مطلبه إليها ، ونصحها بالتفرغ. للصلاة والتسبيح (٣).

__________________

(١) الطبرى : تاريخ الأمم والملوك حوادث سنة ١٦٩ ه‍.

John Glubb : The Empire of the Arabs. p. ٥٦٢.

(٢) المسعودى : مروج الذهب ج ٢ ص ٢٤٨.

(٣) الطبرى : تاريخ الأمم والملوك ، حوادث سنة ١٧٠ ه‍.

١٠٥

على أن الخيزران لم تستجب لمطلب ابنها الهادى ، فاستمرت فى مزاولة نشاطها فى الحياة العامة ، فلما اعتزم الهادى خلع أخيه هارون من ولاية العهد ومبايعة أبنه بدلا منه ، تصدت له الخيزران ، وانضم إليها يحيى بن خالد بن برمك فى دحض محاولة الهادى (١).

ظل نفوذ الخيزران فى عهد الرشيد على ما كان عليه فى عهد أخيه الهادى وأبيه المهدى. فكان يحيى بن خالد بن برمك ـ وزير الرشيد ـ ويأخذ برأيها وتوفيت فى عهد الرشيد ، وقدرت ثروتها يوم وفاتها بمائة ألف ألف وستين ألف ألف درهم ، ووجد فى منزلها من ثياب الوشى ١٨ ألف (٢).

ومن ذلك نرى أن الخليفة المهدى قد أتاح للمرأة فرصة إظهار مواهبها ، ولم يعزلها عن الحياة العامة ، ولا أدل على ذلك من أن أبنته عليه ذاعت شهرتها على اعتبار أنها من أرباب الفنون الرفيعة ، وزاد فى شهرتها ولعها بالشعر والغناء والأدب ، وبلغت فى الغناء درجة كبيرة من الاتقان ، بل وضعت ألحانا قيمه ، وكانت واسعة الاطلاع ، ومن أحسن النساء وأظرفهن ومما شجعها على الغناء إقبال أخيها إبراهيم بن المهدى وأخته وتوفيت سنة ٢١٠ ه‍. وبلغ من تفوقها الأدبى أنها كانت تراسل بالشعر (٣). واشتغال هذه السيدة بالغناء دليل على أن المرأة كانت تتاح لها الفرصة لإبراز مواهبها الأدبية والفنية.

ومن أشهر نساء بغداد فى العصر العباسى الأول السيدة زبيده أم جعفر ـ زوجة الرشيد ـ ساهمت مع زوجها مساهمة كبيرة فى إصلاح أحوال البلاد وتخفيف أعباء الحياة عن الأهلين ، ومن أفضالها أنها سقت أهل مكة المكرمة الماء ، بعد أن كانت القربة من الماء عندهم بدينار ، فأسالت الماء عشرة أميال من المرتفعات القريبة من مكة حتى نقلته من الحل إلى الحرام ، وكان لها بجوار الكعبة دار عرفت بأسمها ، وقامت بإصلاحات جليلة فى المدينة المنورة ، ومهدت طريق الحج

__________________

(١) الأغانى ج ٨ ص ٢٣٤.

(٢) المسعودى : مروج الذهب ج ٢ ص ٥٦٧.

(٣) الأصفهانى : الأغانى ج ١٠ ص ١٦٢.

١٠٦

بين بغداد ومكة ، وأقامت البرك والأبار والمنازل ، ولو لا أصلاحاتها الجليلة لتعذر المسير في هذا الطريق (١).

وعرف عنها الخير والفضل على أهل العلم والبر بالفقراء والمساكين وحرصت على تربية أولادها وجواريها تربية دينية ، فكان لها مائة جارية يحفظن القرآن ، ولكل واحدة ورد عشر القرآن ، ويسمع فى قصرها كدوى النحل من قراءة القرآن (٢).

لعبت السيده زبيده أم جعفر دورا كبيرا فى تطور الحياة السياسية فى بغداد فيذكر المسعودى (٣) أنها ما زالت بالرشيد حتى أقنعته بأخذ البيعة لابنها الأمين قبل المأمون على الرغم من أن المأمون أكبر سنا من الأمين ، فوافق الرشيد وهو يعلم أن المأمون أكثر كفاءة من المأمون ، بدليل أن الرشيد قال لها : ليس أبنك أهلا للخلافة ولا يصلح للرعايا (٤).

ولما ولى الأمين الخلافة ، ونشبت الفتنة بينه وبين أخيه المأمون شجعت السيدة زبيده أم جعفر قواد بغداد على الدفاع عن الحاضرة الإسلامية الكبرى ، وقهر المأمون ، فدفعت إلى على بن عيسى بن ماهان ـ قائد جيش الأمين ـ يقيد ، وطلبت منه أن يقيد المأمون به ، ولكن لا يعنف عليه فى السير حتى ولو أساء إليه (٥).

وكانت تحيا حياة مترفه فى قصرها المنيف ، وتمتلك ثروة ضخمة ، وهى أول من اتخذ الآله من الذهب والفضه المكللة بالجوهر وصنعت لها ثياب من الوشى بلغ ثمن الثوب منه خمسين ألف دينار ، واتخذت الخدم والجوارى يذهبون على الدواب في حوائجها ، وهى أول من اتخذ القباب من الفضة والأبنوس والصندل

__________________

(١) المسعودى : مروج الذهب ج ٢ ص ٥٥٦.

(٢) ابن خلكان : وفيات الأعيان ج ٢ ص ٧٠.

(٣) مروج الذهب ج ٢ ص ٢٧٨.

(٤) ابن قتبيه : الإمامة والسياسة ج ٢ ص ٣٢٤.

(٥) المسعودى : مروج الذهب ج ٢ ص ٢٧٨.

١٠٧

وأتخذت الخفاف المرصعة بالجوهر واتخذت شمع العنبر ، وتشبه الناس فى سائر أفعالهم بها (١).

ولما قتل الأمين وولى المأمون الخلافة تتضاءل نفوذ أم جعفر لأن المأمون لم يغفر موقفها منه فى ولاية العهد ، فى الفتنة التى حدثت بينه وبين أخيه الأمين ، وظلت مقيدة الحركة حتى تزوج المأمون من بوران ، وكان لا يرد لها طلبا ، فسألته العفو عن إبراهيم بن المهدى والاذن للسيدة زبيده أم جعفر بالحج. فوافق على ذلك (٢).

ولم تكن السيده بوران وحدها صاحبة النفوذ فى عهد المأمون بل كانت السيده زينب بنت سليمان بن على بن عبد الله بن العباس ـ التى سبقت الإشارة إليها ـ فتمتع بنفوذ كبير ، وكان بنو العباس يعظمونها وإليها ينسب الزبنييون ولا أدل على قوة تأثيرها من أن بنى العباس طلبوا منها أن تطلب من المأمون ترك لباس الخضرة ، والعودة إلى لبس السواد ـ شعار العباسيين ـ فقالت له : يا أمير المؤمنين ما الذى دعاك إلى نقل الخلافة من بيتك إلى بيت على. قال : يا عمه إنى رأيت عليا حين ولى الخلافة أحسن إلى بنى العباس ، فولى عبد الله البصره وعبيد الله اليمن. وما رأيت أحدا من أهل بيتى حين أفضى الأمر إليهم كافأوه على فعله فى ولده ، فأحببت أن أكافئه على إحسانه ، ثم سألته تغيير لباس الخضرة. فأجاب إلى ذلك ، وأمر الناس بتغييره ، والعودة إلى لباس السواد (٣).

وكانت عائشة بنت الرشيد من أفضل نساء عصرها تشجع الشعراء والأدباء ، وتجزل الصلاة لهم ، وكذلك عاليه بنت الرشيد كانت من الشعراء ومن ربات الرأى ، وعرف عنها الحزم ، لذلك كان أبوها يعتمد عليها فى مهام أموره ، ونفضى إليها بأسراره (٤).

أما العباسية بنت المهدى فكانت سيدة أدبية فاضلة. وكان الرشيد يشركها فى

__________________

(١) المسعودى : مروج الذهب ج ٢ ٥٥٦.

(٢) ابن الساعى : نساء الخلفاء ص ٧٠.

(٣) ابن طباطبا : الفخرى فى الآداب السلطانية ص ٢٠٠.

(٤) عمر كحالة : أعلام النساء ج ٣ ص ١٣٣ ..

١٠٨

مجالسه مع وزيره جعفر بن يحيى البرمكى حينما ينظر فى الأمور الهامة لأنه ، يأنس برأيها ، ويطمئن إليها (١).

ومن أسباب غزو المعتصم لعموريه أن الإمبراطور البيزنطى تيوفيل هاجم زبطره ونهبها ، وقتل من بها من الرجال وسبى الذرية والنساء وقيل إنه كان فى جملة السبى امرأة فسمعت وهى تقول : وامعتصماه فبلغ المعتصم ما فعله إمبراطور الروم ، فكبر عليه ذلك وأنكره ، وبلغته ما قالته الهاشمية ، فقال وهو مجلسه : لبيك لبيك ، ونهض من ساعته ، وصاح فى قصره : الرحيل الرحيل ، وسار على رأس جيش كبير وهاجم عمورية ، ودمرها تدميرا (٢).

ه. الأخلاق والعادات

عرفنا أن العناصر الرئيسية فى بغداد كانت العرب والفرس والترك ويغلب على كل عنصر من هذه العناصر عادات وصفات معينة ميزتهم عن غيرهم ، فكان العرب يميلون إلى البداوة ، ويتعصبون لبنى جنسهم وهم سريع التأثر بالحضارة ، فإذا تحضروا انغمسوا فى البذخ والترف. أما الفرس فقد ورثوا مدنية قديمة.

فعملوا على نقلها ، ولهم مقدرة إدارية كبيرة ومهارة فى إدارة الشؤون الأقتصادية وتنمية موارد الثروة ، وعنوا عناية شديدة بالحياة الثقافية ، فقاموا بدور كبير فى رواج الحياة العلمية فى بغداد ، لكنهم كانوا يميلون إلى إظهار نحلهم القديمة ، والانتقام من العرب لما لحقهم منهم من سوء معاملة فى العهد الأموى ، وكانوا يميلون إلى التشيع : على أن الترك خالفوا الفرس فى الأهتمام بالحياة الثقافية بل كانوا أشبه بالبدو لأنهم لم يكونوا أهل مدينة وحضارة ، وقد أكسبتهم البداوة قوة فى البدن وخشونة فى الطبع والإعتداد بقوة الجسم وعرف الشجاعة وحب الفروسية (٣) ، ويسميهم الجاحظ أعراب العجم.

__________________

(١) ابن طباطبا : الفخرى فى الآداب السلطانية ص ١٩٠.

(٢) ابن طباطبا : الفخرى فى الآداب السلطانية ص ٢١٠.

John Glubb : The Empire of the Arabs. p. ٥٦٢.

(٣) محمد جمال الدين سرور ـ تاريخ الحضارة الإسلامية فى الشرق ص ١٩٢.

١٠٩

غلبت على أهل بغداد صفات الخلفاء ، والناس كما يقولون على دين ملوكهم ، فالمنصور أول خليفة قرب المنجمين ، وعمل بأحكام النجوم ، وقد نظر فى العلم ، وقرأ المذاهب ، وأرتاض فى الآراء ووقف على النحل ، وكتب الحديث ، فكثرت فى أيامه روايات الناس واتسعت عليهم علومهم (١) وكان المهدى سمحا كريما جوادا ، فسلك الناس فى عصره سبيله وذهبوا فى أمرهم مذهبه ، حتى كان لا يسؤل أحد فى أيامه إلا وأعطى ، أما الهادى فأول من مشت الرجال بين يديه بالسيوف والقسى ، فسلك عماله طريقته ، وكثر السلاح فى عصره (٢).

وكان الرشيد مواظبا على الحج متابعا للغزو ، واتخاذ القصور وتمهيد الطرق فى طريق مكة فعم الناس إحسانه مع ما اقترن به من عدله وأقتدت به رعيته فظهر الحق وخفق الباطل (٣).

أما المأمون فكان أكثر الناس عفوا وأشدهم احتمالا وأحسنهم مقدرة ، وأجودهم بالمال الرغيب وأبذلهم بالعطايا ، واتبعه وزراؤه وأصحابه فى فعله ، وسلكوا سبيله وذهبوا مذهبه (٤) ، على أن المعتصم غلب عليه حب الفرسية والتشبه بالملوك الأعاجم فى ملبسه ومظهره ، فاقتدى بفعله الناس ، وعم الناس أفضاله ، وأمنت السبل فى أيامه ، وشمل الناس إحسانه (٥).

ظهرت نزعة فى بغداد تدعوا إلى الزهد ، وذلك أن بعض الناس بئسوا من الثراء وعفت نفوسهم عن التزلف والتقرب للأغنياء ، أو لم تمكنهم ظروفهم من ذلك ، وقوم خلصت نواياهم نحو الله واتجهوا إليه بكل ما استطاعوا ، وصفت نفوسهم ، ورأوا أن النفس إذا نالت ما أرادت انقادت إلى المعاصى ففضلوا التغلب

__________________

(١) المسعودى ـ مروج الذهب ج ٢ ص ٥٥٤.

(٢) المصدر السابق ج ٢ ص ٥٥٥.

(٣) المسعودى ـ مروج الذهب ج ٢ ص ٥٥٥.

(٤) المصدر السابق ج ٥٥٦.

(٥) المصدر السابق ص ٥٥٧.

١١٠

عليها ، وقوم لجأوا إلى الزهد بعد أن فشلوا فى الحصول على المال والحياة وكثيرا زهدوا تقربا إلى الله لأن الزهد يعصمهم من الوقوع فى المعاصى حتى قال محمد بن واسع : يعجبنى أن يصبح الرجل ، وليس له عشاء وهو مع ذلك راض عن الله ، صرفوا نفوسهم عن الشهوات وأكثروا من ذكر الموت والحياة الأخرة.

وتعففوا عن محاولة طلب من ذويه ، وقنعوا بالقليل (١) ، وكان الشاعر أبو العتاهية يمثل طلب المال الزهد فى بغداد ، وظهر ذلك جليا فى أشعاره ، كقوله :

لا تأمن الموت فى طرف ولا نفس

إذا تسترت بالأبواب والحرس

وعم بأن سهام الموت قاصدة

لكل مدرع منا ومترس (٢)

نرجو النجاة ولم تسلك طريقتها

إن السفينة لا تجرى على اليبس

ودخل بعض الزهاد على المنصور فقال : إن الله أعطاك الدنيا بأسرها «فاشتر نفسك ببعضها ، وأذكر ليلة تبيت فى القبر لم تبت قبلها ليلة. فأفحم المنصور قوله وأمر له بمال ، فرفض الزاهد صلة الخليفة ، وقال زاهد آخر للمنصور : إن هذا الأمر كان لمن قبلك ثم صار إليك ثم هو صائر لمن بعدك ، واذكر ليلة تسفر عن يوم القيامة.

وكان صالح بن بشير المرى أحد العباد الزهاد جلس إلى المهدى فوعظه حتى أبكاه ، ثم قال له : إعلم أن رسول الله خصم من خالفه فى أمته ومن كان محمد خصمه فالله خصمه ، فأعد لمخاصمة الله ومخاصمة رسول حججا تضمن لك النجاة ، وإلا فاستسلم للمهلكة ، وأعلم أن الله قاهر فوق عباده ، وأن أثبت الناس قدما ، آخذهم بكتاب الله وسنة رسوله (٣).

والإمام أحمد بن حنبل خير من مثل نزعة الزهد فى بغداد فكانت غلته من ملك له فى كل شهر سبعة عشر درهما ينفقها على عياله ، ويقنع بذلك صابرا

__________________

(١) الأصفهانى : كتاب الأغانى ج ٤ ص ١٠٦.

(٢) ابن كثير ـ البداية والنهاية ج ١٠ ص ١٢٤.

(٣) المصدر السابق ج ١٠ ص ١٧١.

١١١

محتسبا ، ولم يزل كذلك حتى ولى المتوكل الخلافة ، فأرسل إليه عشرة آلاف درهم نفقة له ، ففرقها الإمام أحمد على المحتاجين من أهل الحديث ، وغيرهم من أهل بغداد والبصرة ، حتى لم يبق منها درهما (١).

وروى عن الرشيد أنه طلب من الزاهد ابن السماك أن يعظه ، فقال له : أعلم أنك واقف بين يدى الله ربك ثم مصروف إلى إحدى منزلتين لا ثالثة لهما جنة أو نار ، فبكى الرشيد حتى اخضلت لحيته (٢).

وقالوا عن الزاهد من لم يغلب الحرام صبره ولا الحلال شكره (٣).

وقال بعض الزهاد : يا ابن آدم بع دنياك بآخرتك تربحهما جميعا ، وإذا ما رأيت الناس فى الخير فنافسهم فيه ، وإذا رأيتهم فى الشر فابتعد عنهم (٤).

ولم يقتصر الزهد علي أفراد الشعب بل تعداه إلى بعض أمراء البيت العباسى ، فكان أحمد بن هارون الرشيد أميرا صالحا ، ترك الدنيا فى حياة أبيه مع القدرة ، ولم يتعلق بشئ من أمورها ، وأبوه خليفة الدنيا وآثر الأنقطاع والعزلة بل كان يتكسب من عمل يده بعمل يؤديه يوم السبت من كل أسبوع ، وينفق ما اكتسب فى احتياجاته بقية الأسبوع ، ويتفرع للاشتغال بالعبادة وتوفى سنة ١٨٤ ه‍ (٥).

وفى مقابل نزعة الزهد ظهرت نزعة أخرى فى بغداد تدعو إلى اللهو والمجون ، انغمس فيها المترفون من أهل بغداد ، وكان يمثل هذه النزعة بشار وأبو نواس. على أن الفترة التى قام فيها الأمين لم ينعم الناس فيها بالحياة الآمنة بسبب الفتنة وحصار بغداد وأعمال التخريب والتدمير التى نجمت عن ذلك ، لذا حاول أهل المجون تعويض ما أصاب الحياة من بؤس وشقاء بعد تولية المأمون الخلافة ، واستقرار الدولة.

__________________

(١) المصدر السابق ج ١٠ ص ٣٣٨.

(٢) الطبرى. تاريخ الأمم والملوك حوادث سنة ١٩٣ ه‍.

(٣) الجاحظ. البيان والتبيين ج ٣ ص ١٥٤.

(٤) المصدر السابق ج ٣ ص ١٣٢.

(٥) ابن كثير. البداية والنهاية ج ١ ص ١٨٤.

١١٢

كان التنجيم شائعا فى بغداد فى العصر العباسى الأول ، حتى أن الخليفة المنصور استشار المنجمين بشأن مشروعه فى تأسيس مدينة بغداد ، فبشروه بعمرانها وطول بقائها ، وكان أول خليفة قرب المنجمين وعمل بأحكام النجوم (١).

وبلغ من اعتقاد الخليفة المنصور بالتنجيم أن توبخت ـ منجم المنصور ـ بشر المنصور أثناء الحرب بينه وبين إبراهيم بن الحسن العلوى. بأن إبراهيم يقتل ، وتصادف وقوع هذا الحدث ، فأقطع المنصور منجمه ألفى جريب ، ويذكر صاحب كتاب البداية والنهاية أن هذا المنجم إن كان قد أصاب فى قضية واحدة فقط أخطأ فى أشياء كثيرة. وقد كان المنصور فى ضلال مع منجمه هذا ، وقد ورث الملوك اعتقاد أقوال المنجمين ، وذلك ضلال لا يجوز (٢).

وكان يحيى بن خالد البرمكى من أعلم الناس بالنجوم (٣) ، ولما خص الفضل ابن سهل بالمأمون ، وتبين نجابته ودلته النجوم ـ طبقا لما ذكره الجهشيارى (٤) ـ على أنه يلى الخلافة استوزر الفضل بن سهل ، وفوضه أمور دولته حتى غلب عليه (٥).

وكانت احتفالات الزواج فى بغداد تتم فى شئ كثير من الأبهة والعظمة فحينما تزوج الرشيد من السيدة زبيدة أعد لها صناديق الجوهر والحلى والتيجان والأكاليل وقباب الفضة والذهب والطيب والكسوة ، وأعطاها ثوبا منقطع النظير فى الفخامة ، وفى صدرها وظهرها قصان ياقوت أحمر وباقيها من الدر الكبار الذى ليس مثله (٦) ، ودخل الرشيد بها فى قصره المعروف بالخلد سنة ١٦٥ ه‍ ، وأتاه الناس من الآفاق لتهنئته ، وفرق فيهم من الأموال شيئا عظيما ، فكانت الدنانير تحمل فى كؤوس فضة والدراهم فى كؤوس ذهب ، والمسلك والعنبر فى أوعية

__________________

(١) المسعودى : مروج الذهب ج ٢ ص ٥٥٤.

(٢) الجهشيارى : الوزراء والكتاب ص ٢٤٩.

(٣) ابن كثير : البداية والنهاية ج ١٠ ص ٩٤.

(٤) الجهشيارى : الوزراء والكتاب ص ٢٤٩.

(٥) الوزراء والكتاب ص ٢٧٩.

(٦) المصدر السابق ص ٢٨٠.

١١٣

زجاج. ويفرق ذلك على الناس ، ويخلع عليهم خلع الوشى المنسوجة ، وأوقد بين يديه فى تلك الليلة شمع العنبر ، وأحضر نساء بنى هاشم ، فكان يؤدى إلى كل واحدة منهن كيس فيه دنانير وكيس فيه دراهم وصينية كبيرة فضة فيها طيب ، ويخلع عليها خلع وشى ، وبلغت النفقة فى هذا العرس خمسين ألف ألف درهم (١).

ولما دخل المأمون ببوران أمهرها بمائة ألف دينار وخمسة آلاف ألف درهم ، وفى احتفال العرس نثرت عليها جدتها ألف درة فى صينية ذهب ، فأمر المأمون أن تجمع ، فجمعها فى الطبق ، ووضعها فى حجر بوران ولبى جميع طلباتها ، وألبستها السيدة زبيدة قميصا مرصعا باللؤلؤ (٢) ، وأوقد فى تلك الليلة شمعة عنبر فيها أربعون فى إناء ذهب ، وأقام المأمون عند الحسن بن سهل سبعة عشر يوما يعد الحسن له فى كل يوم ولخاصته ما يحتاجون إليه ، وخلع الحسن على القواد على مراتبهم ، ووصلهم وكانت النفقة عليهم خمسين ألف ألف درهم وأمر المأمون بعد انصرافه أن يدفع للحسن عشرة ألاف دينار من مال فارس ، وأقطعه الصلح ، ففرق الحسن الأموال على قواده وأصحابه وخدمه وحشمه ، ولما انحدر المأمون ناحية واسط فرش له حصير من ذهب ، ونثر عليه جوهر كثير ، فجعل بياض الدريشرق على صفوة الذهب ، ولم يسسمه أحد ، فوجه الحسن إلى المأمون هذا النثار. فدعا المأمون من حوله من بنات الخلفاء إلى أخذ هذا النثار ، فأخذت كل واحدة منهن درة ، وبقى من بقى من الدر على الحصير الذهب (٣). ونثر الحسن فى ذلك من الأموال ـ كما يقول المسعودى (٤) ـ ما لم ينثره ولم يفعله ملك قط فى جاهلية ولا إسلام. وذلك أنه نثر على الهاشميين والقواد والكتاب والوجوه بنادق مسك فيها رقاع بأسماء ضياع وأسماء جوار ، فكانت البندقة إذا

__________________

(١) الشايستى : الديارات ص ١٠٠.

(٢) ابن طيفور : مناقب بغداد ص ١٠٢.

(٣) ابن الساعى : لسان الخلفاء ص ٦٧ ـ ، ٧٠

(٤) مروج الذهب : ج ٢ ص ٢٤٤ ـ ، ٢٤٥

١١٤

وقعت فى يد الرجل فتحها فقر أما فيها فيجد على قدر إقباله وسعوده فيها ، فيمضى إلى الوكيل الذى نصب لذلك ، فيقال له ضيعة يقال لها فلانة فى ناحية كذا وجارية يقالها فلانة ، ودابة صفتها كذا ، ثم نثر بعد ذفك على الناس الدنانير والدراهم وبعض العنبر. وعاد المأمون إلى بغداد وأقام مع زوجته فى القصر الحسنى الذى كان لأبيها (١).

* * *

كان لباس العباسيين منذ قيام دولتهم اللون الأسود ، فلما ولى المأمون الخلافة. أمر الناس بلبس اللون الأخضر ولم يكن أحد يدخل عليه إلا فى الخضرة ، علي أن بنى هاشم عارضوا هذا العمل ، وقالوا له : يا أمير المؤمنين : تركت لباس أهل بيتك ودولتهم. ولبست الخضرة ، وتكلم فى ذلك نواد أهل خراسان والناس جميعا. فاستجاب المأمون لهذه النداءات ، ودعا بخلعة سوداء ولبسها ، وكساها لطاهر بن الحسين ، وخلع على عدد من قواده أقبية وقلانس سوداء ، فلما خرجوا من عنده مرتدين السواد ، طرح سائر القواد الخضرة ولبسوا السواد (٢).

كان المنصور يأمر أهل بيته بحسن الهيئة وإظهار النعمة وبلزوم الوشى والطيب ، فإن رأى أحدا لا يلتزم بذلك عاتبه ، وكان يشدد عليهم بضرورة الإكثار من الطيب (٣) وشابه المهدى أباه فى الحرص على حسن مظهر رجاله حتى أن سلم كان يأتى بابه على برذون قيمته عشرة آلاف درهم والسرج واللجام المزينين وعليه لباس الخز والوشى ورائحة المسك العالية والطيب تفوح منه ، ويجئ مروان بن أبى حفصة ـ من رواد المهدى ـ إليه وعليه فروكبش وقميص صوف وعمامة صوف وكساء غليظ (٤).

__________________

(١) ابن طيفور : مناقب بغداد ص ، ١٠٢

(٢) المصدر السابق ص ، ١٠

(٣) الطبرى : تاريخ الأمم والملوك حوادث سنة ١٥٨ ه‍.

(٤) الأصفهانى ـ كتاب الأغانى ج ١٠ ص ، ٧٠

١١٥

ودخل العمانى الراجز على الرشيد لينشده شعرا وعليه قلنسوة طويله ولباس بسيط ، فقال الرشيد : إياك أن تشدنى إلا وعليك عمامة عظيمة الكور ، ويخفان مستديران أملسان (١).

وفى سنة ١٤٩ ه‍ أخذ المنصور الناس بلبس القلانس الطوال المفرطة الطول كما أدخل الملابس المحلاة بالذهب ، وغدا خلعها على الناس من حق الخليفة ، وكان اللباس العادى للطبقة الراقية يشتمل على سروال فضفاض وقميص ودراعة وستر وقفصان وقباء وقلنسوة ، أما لباس العامة فيشمل على إزار وقميص ودراعة وستر طويلة وحزام وكان لباس الخليفة العباسى فى المواكب القباء الأسود أو البنفسجى الذى يصل إلى الركبة ، ومفتوح عند الرقبة بحيث يظهر القفصان زاهيا من تحته ، وأكمامه ضيقة حتى عهد المعتصم حيث جعلها فضفاضة ويتمتطق الخليفة بمنطقة مرصعة بالجواهر ، ويتخذ عباءة سوداء ويلبس قلنسوة طويلة مزينة بجوهرة عالية (٢).

وكان الكتاب يلبسون الدراعات وهى ثياب مشقوفة من الصدر ، ويابس القواد الأقبية الفارسية القصيرة ، والرجال والنساء يلبسون الجوارب المصنوعة من الحريرى أو الصوف أو الجلد ، وكان ثمة فروق ملحوظة فى ملابس أصحاب المهن المختلفة ، فالعمائم التى حرصوا على اتخاذها اختلفت تبعا للسن والمراكز الاجتماعى والعلمى ، وقد حافظ العرب على لبس العمائم ، وكانوا يقولون : ما زالت العرب عربا ما لست العمائم وتقلدت السيوف (٣). ويقول الجاحظ (٤) : وللخلفاء عمه والفقهاء وللأبناء عمه وللنصارى عمه ولأهل التشاجى عمه وللصوص عمه ...

__________________

(١) الجاحظ ـ البيان والتبيين ج ١ ص ، ٩٥

(٢) سيد أمير على ـ مختصر تاريخ العرب ص ٣٨٨ ـ ، ٣٨٩

(٣) الجاحظ ـ البيان والتبيين ح ٣ ص ، ٦٠

(٤) البيان والتبيين ح ٣ ص ، ٦١

١١٦

اتخذت الخلفاء ومن يلوذ بهم وكبار رجال الدولة فى بغداد على ملابسهم ، ويشمل اسم الخليفة ، وبقصر الخلافة يقوم دار الطراز بهذه المهمة (١) ..

وكان لباس المرأة يتكون من ملاءة فضفاضة وقميص مشقوف عند الرقبة عليه رداء قصير ضيق يلبس عادة فى الشتاء ، واتخذت سيدات الطبقة الراقية غطاء الرأس مرصعا بالجواهر محلى بسلسلة ذهبية مطعمة بالأحجار الكريمة (٢) وكان السيدة زبيدة لها تأثير كبير فى تطور الزى وإدخال تيسيرات على ملابس السيدات فى عصرها ، فيعزى إليها اتخاذ المناطق والنعال المرصعة بالجواهر ، ولقد اتخذت ثوبا من الوشى الرفيع يزيد ثمنه على خمسين ألف دينار (٣).

كما أن سيدات الطبقة المتوسطة لم يجهلن فن التجميل ، فكن يتخذن اللؤلؤ والزمرد على عصائبهن ، ويلبسن الخلاخل فى أرجلهن (٤).

وجدير بالذكر أن الناس فى بغداد كانوا يلبسوا الملابس البيضاء عند العزاء.

حرص الخلفاء على تعليم أبنائهم مكارم الأخلاق ، ويتضح ذلك مما ذكره الرشيد لمؤدب ولده ، إذ يقول : امنعه الضحك إلا فى أوقاته ، وخذه بتعظيم مشايخ بنى هاشم إذا دخلو إليه ، ورفع مجالس القواد إذا حضروا مجلسه ، ولا تمرن بك ساعة إلا وأنت مغتنم فيها فائدة تقيده إياها من غير أن تخزق به فتميت ذهنه ، ولا تمعن فى مسامحته فيستحلى الفراغ ويألفه وقومه ما استطعت بالقرب والملاينة ، فإن أباهما فعليك بالشدة والغلظة (٤).

وقد قال المنصور لابنه المهدى : إن الخليفة لا يصلحه إلا التقوى والسلطان لا يصلحه إلا الطاعة ، والرعية لا يصلحها إلا العدل ، وأولى الناس بالعفو أقدرهم على العقوبة ، وأنقص الناس عقلا من ظلم من هودونه ..

استدم النعمة بالشكر ، والقدرة بالعفو ، والطاعة بالتأليف ، والنصر بالتواضع والرحمة للناس ، ولا تنس نصيبك من الدنيا ونصيبك من رحمة الله.

__________________

(١) مقدمة ابن خلدون ص ٢١٠ ـ ، ٢١١

(٢) سيد أمير على ـ مختصر تاريخ العرب ص ، ٣٩٠

(٣) المدور ـ حضارة الإسلام فى دار السلام ص ، ٥٥

(٤) المسعودى ـ مروج الذهب ، ٢٧٨

(٤) المسعودى ـ مروج الذهب ، ٢٧٨

١١٧
١١٨

النهضة الثقافية فى بغداد

١ ـ عوامل النهضة الثقافية.

٢ ـ العلوم النقلية.

٣ ـ حركة الترجمة وأثرها فى ازدهار الحياة الثقافية.

٤ ـ العلوم العقلية.

١١٩
١٢٠