حدود العالم من المشرق إلى المغرب

مجهول

حدود العالم من المشرق إلى المغرب

المؤلف:

مجهول


المحقق: يوسف الهادي
المترجم: يوسف الهادي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: الدار الثقافيّة للنشر
الطبعة: ٠
ISBN: 977-5875-19-6
الصفحات: ٢٥٦

١
٢

٣
٤

٥

٦

٧
٨

مقدّمة

كانت المصادفة وراء الكشف عن هذا الأثر المهم الذي وصفه بار تولد بقوله : " تكمن الأهمية الكبرى لهذا الأثر في احتوائه على مادة وفيرة عن بلاد الترك وعن مناطق آسيا الوسطى التى لم تخضع لسلطان المسلمين ، ومادته في هذا الصدد تفوق من حيث الوفرة والتفصيل مادة جميع المصنفات الجغرافية العربية الأخرى الموجودة بين أيدينا" (١).

والذي قال عنه كراتشكوفسكي : " بالرغم من أنه مكتوب بالفارسية ، إلا أنه يجدر بنا الوقوف عنده ، لا لأنه وجد زعم يقول بأنه ترجم عن العربية في الأصل ، بل أيضا لارتباطه الوثيق بالتراث العربي بحيث لا يكتمل الوصف العام للأدب الجغرافي دونه" (٢).

فقد كلّف المستشرق الروسي النقيب أ. غ. تومانسكي (الميجر جنرال فيما بعد) صديقا له ساكنا بسمرقند بالبحث عن مخطوطة كتاب (ألوس أربعه ألوغ بيك) (٣). وبعد فترة كتب إليه هذا الصديق في ٢٥ / ١٠ / ١٨٩٢ أنه سعى خلال فترة إقامته ببخارى للعثور على كتاب ألوغ بيك ولم يوفق ، إلا أنه عثر بدلا من ذلك على مخطوطة تشتمل على أربع رسائل هي : ١. رسالة صغيرة في الجغرافيا بعنوان جهان نامه من تأليف محمد بن نجيب بكران ؛ ٢. رسالة مختصرة في الموسيقى من تأليف" الأستاذ عجب الزمان بل أستاذ خراسان محمد بن محمود بن محمد النيسابوري" ؛ ٣. حدود العالم من المشرق إلى المغرب ؛ ٤. كتاب جامع العلوم لفخر الدين الرازي المتوفى سنة ٦٠٦ ه‍ (٤).

ولما كانت رسالة جهان نامه في الجغرافيا فلا بأس أن نعطي القارئ العربي فكرة عن مصادرها ذلك أنها بالفارسية. ذكر المؤلف في مقدمتها مصادره على النحو التالي : " مما وقع في يدي من مجاميع الزيجات القديمة والحديثة وكتب علم النجوم وقد قابلتها مع بعضها ..

__________________

(١) تركستان ، ٧٦.

(٢) تاريخ الأدب الجغرافى العربى ، ٢٤٢.

(٣) حكم ميرزا ألوغ بيك بن شاهرخ التيمورى تركستان وما وراء النهر خلال السنوات ٨٥٠ ـ ٨٥٣ ه‍ ، ويشير بار تولد إلى أن هذا الكتاب هو مصنف تاريخى عنوانه : تاريخ أربع ألوس ، واستشف من عنوانه أنه يعالج الكلام على تاريخ إمبراطورية المغول بأجمعها ، وقال إنه توجد مخطوطة فى المتحف البريطانى لموجز تاريخ ألوغ بيك هذا. وأضاف أن الكتاب ليس من تأليف ألوغ بيك ولكن رفعه" أحد العلماء" إلى شاهرخ باسم ألوغ بيك (تركستان ، ١٣٤ ـ ١٣٥).

(٤) Minorsky ,Hudud ـ ـ ـ ,p.VII ـ VIII.

٩

وكذلك كتاب أشكال العالم لمحمد بن بحر الرهني ، (١) وكتاب المسالك والممالك الذي ألفه عبد الله بن محمد بن خردادبه (٢) ورحلة ناصر خسرو وغير ذلك وقارنتها جميعا ببعضها .. ثم وجدت بعد ذلك بين مسودات الإمام شرف الدين المازي الطوسي رحمه‌الله الذي عاد من بلاد الروم ، كراسة بخطه مثبت فيها بدقة أطوال المدن وعروضها وكذلك أطوال وعروض السواحل والبحار فرسخا ومواضع الجبال والبحار والجزر" (٣) وآثار المتقدمين للبيروني (٣٦٢ ـ ٤٤٠ ه‍) وكامل الصناعة الطبية لعلي بن العباس المجوسي (٤٣٨ ـ ٤٧٢ ه‍) اللذين ذكرهما فى ص ٢٤ و ٧٥. وقد ورد في ختامها : " تمت الرسالة المسماة بجهان نامه على يدي أضعف عباد الله مسعود بن محمد بن مسعود الكرماني ، في الثامن والعشرون (كذا) من شهر الله المبارك رمضان سنة ثلاث وستين وستمائة. قوبل مع النسخة المنتسخة منها وليست الصحيح بل السقيم" (؟!). ومؤلف الكتاب كان حيا سنة ٦٠٥ ه‍ وألف كتابه لآخر شاهات خوارزم السلطان محمد (٥٩٦ ـ ٦١٧ ه‍).

أما كتابا جامع العلوم وحدود العالم فقد كتبهما ناسخ آخر وكما يلي : ورد في ختام جامع العلوم (٤) : " وقع الفراغ من تحريره يوم الجمعة للسادس والعشرين من جمادى الأولى سنة ثماني وخمسين وستمائة على يدي أضعف عباد الله وأحقرهم أبو (كذا) المؤيد عبد القيوم بن الحسين بن علي". وورد في ختام حدود العالم الذي تمزق الجانب الأيمن من ورقته الأخيرة فبقي من السطر ما قبل الأخير : " الفقير عبد القيوم بن الحسين بن علي الفارسي" ، ومن السطر الأخير : " سنة ست وخمسين وستمائة ، والحمد لله رب العالمين". ويقع كتاب حدود العالم في ٣٩ ورقة ، ألّفه مؤلفه المجهول سنة ٣٧٢ ه‍ وأهداه إلى" الأمير السيد الملك العادل أبي الحارث محمد بن أحمد مولى أمير المؤمنين أطال الله بقاءه" ، كما ورد

__________________

(١) هو الشيبانى السجستانى المتوفى قبل ٣٣٠ ه‍ (لسان الميزان ، ٥ / ٧٣٦) ، وقد نقل ياقوت فى معجم البلدان عن كتابه هذا وهو مفقود ، ولقّبه هناك بالرهنى الكرمانى (انظر : ١ / ٧١ ، ٢ / ٨٧٩ ، ٣ / ٤٢ ، ٤ / ١٤٧) ، رغم أن كتابه هذا لم يرد فى قائمة مؤلفاته التى ذكرها النجاشى (ص ٣٨٤).

(٢) المشهور أنه عبيد الله بن خرداذبه ، رغم وروده لدى ابن النديم (ص ١٦٥) : عبد الله بن أحمد بن خرداذبه.

(٣) جهان نامه ، ٧.

(٤) هو موسوعة تحدث فيها مؤلفها الفخر الرازى (٥٤٣ أو ٥٤٤ ـ ٦٠٦ ه‍) عن ستين علما لذا يدعى هذا الكتاب بالستينى أو حدائق الأنوار فى حقائق الأسرار. طبع فى بومباى سنة ١٣٢٣ ه‍.

١٠

في صدر الكتاب. وما دمنا لا نعرف شيئا عن مؤلف الكتاب فلنتحدث عن هذا الأمير الذي عاش المؤلف في كنفه.

هو أبو الحارث محمد بن أحمد بن فريغون ثالث حكام أسرة آل فريغون التي حكمت بالجوزجان وبلخ. ويذكر المؤرخ الكريزي أن الأمير الساماني نوح بن منصور بن نوح (حكم من ٣٦٥ ـ ٣٨٧ ه‍) قد أقام مع أبي الحارث علاقات صداقة ليشد به أزره (١) ، وفي تاريخ العتبي المعروف باليميني نماذج من استعانة الأمير نوح الساماني به في المعارك التي خاضها ضد مناوئيه (٢). كما ذكر العتبي في الفصل الذي خصصه لأسرة آل فريغون (٣) أنهم حكموا الجوزجان أبا عن جد وأن بلاطهم كان موئل الأدباء والشعراء من شتى البقاع ، ثم ذكر واحدا من هؤلاء وهو بديع الزمان الهمداني وأورد له قطعة نثرية في مدح أبي الحارث ختمها بأبيات منها :

لآل فريغون في المكرمات

يد أولا واعتذار أخيرا

إذا ما حللت بمغناهم

رأيت نعيما وملكا كبيرا

ومنهم أبو الفتح البستي الشاعر الذائع الصيت وذكر له أبياتا منها :

بنو فريغون قوم في وجوههم

سيما الندى وسناء السؤدد العالي

كأنما خلقوا من سؤدد وعلى

وسائر الناس من طين وصلصال

من تلق منهم تقل هذا أجلّهم

قدرا وأسخاهم بالنفس والمال

مصادر الكتاب

لم يرد في الكتاب ما يشير إلى أن مؤلفه كان رحالة سافر إلى أحد البلدان التي ذكرها في كتابه. وقد اعتمد في تأليفه كتابه هذا على مؤلفات من سبقوه في هذا المضمار حيث ذكر في ختام كتابه أنه نظر في جميع الكتب وأتى بجميع ما فيها بعد إسقاطه الحشو منها. لكنه لم يذكر أسماء تلك الكتب للأسف سوى الآثار العلوية لأرسطو. كما ورد في ختام الكتاب

__________________

(١) زين الأخبار ، ٣٦١.

(٢) اليمينى (٢ / ١٠١) ويسميه العتبى : أبا الحارث أحمد بن محمد ويرى زامباور أنه حكم من ٣٦٨ ٤٠١ ه‍ (ص ٣١١).

(٣). ٢ / ١٠١.

١١

الذي أصيب بخروم ضاعت معها بعض الكلمات ما يستفاد منه بكل تأكيد أنه أفاد من بطلميوس. ولكن ما ذا عن بقية المصادر؟

يجزم بارتولد في مقدمته لحدود العالم أن مؤلف الكتاب كانت بيده نسخة من كتاب البلخي أو الإصطخري (١). إلا أن مسألة الفصل بين مؤلّف البلخي ومؤلف الإصطخري أمر معقد ، ففي نص فريد لياقوت نقرأ ما يلي : " قرأت في الكتاب المتنازع بين أبي زيد البلخى وأبي إسحاق الفارسي الإصطخري في صفة البلدان فقال .." (٢). وقد ألف أبو زيد أحمد بن سهل البلخي (حوالي ٢٣٥ ـ ٣٢٢ ه‍) " كتابه نحو ٣٠٨ أو ٣٠٩ ه‍ أو بعد ذلك بقليل ، وتختلف أسماؤه باختلاف المصادر ، فهو مرة صور الأقاليم وحينا أشكال البلاد وتارة تقويم البلدان .. أما أبو إسحاق إبراهيم بن محمد الفارسي فقد أنهى أول نسخة من كتابه مسالك الممالك حوالي ٣١٨ ـ ٣٢١ ه‍ وأبو زيد البلخي على قيد الحياة ، غير أن كتابه قد انتشر في الشرق بوجه خاص على هيئة طوامير ترتفع إلى المسودة التي عملت حوالي ٣٤٠ ه‍ (٣) ". وهناك رأي لمحقق المكتبة الجغرافية دي خويه يرى فيه" أن الإصطخري لم يكن في الحقيقة إلا ملخصا لكتاب وضعه أبو زيد البلخي" (٤) ، بينما يعتقد بروكلمان أن كتاب الإصطخري نسخة موسعة من كتاب البلخي (٥). ويزداد الأمر تعقيدا حينما نعلم أن الإصطخري قد التقى ابن حوقل الذي أطلعه على كتابه وما فيه من خرائط ، فانتقد ابن حوقل بعض ما في الكتاب وخاصة الخرائط. لنقرأ ابن حوقل يحدثنا عن ذلك:

" ولقيت أبا إسحاق الفارسي وقد صوّر هذه الصورة لأرض السند فخلطها ، وصور فارس فجوّدها. وكنت قد صورت آذربيجان التي في هذه الصفحة فاستحسنها ، والجزيرة فاستجادها ، وأخرج التي لمصر فاسدة وللمغرب أكثرها خطأ. وقال : قد نظرت في مولدك وأثرك ، وأنا أسألك إصلاح كتابي هذا حيث ضللت. فأصلحت منه غير شكل وعزوته

__________________

(١) Hudud ,p. ١٢.

(٢) معجم البلدان ، ٢ / ١٢٢.

(٣) كراتشكوفسكى ، ٢١٣ ٢١٥.

(٤) مقدمة العربى لكتاب الجغرافيا لابن سعيد (ص ٣٨).

(٥) تاريخ الأدب العربى ، ٤ / ٢٤٧ ، ونقل عن ماسينيون وجود نسخة من كتاب البلخى فى مكتبة كليد دار الإمام الحسين بكربلاء.

١٢

إليه" (١). وهكذا ظهر إلى الوجود كتاب صورة الأرض لأبي القاسم بن حوقل النصيبي بعد لقائه الإصطخري سنة ٣٤٠ ه‍. وقد رفع ابن حوقل المسودة الأولى من مصنفه إلى سيف الدولة الحمداني (توفي سنة ٣٥٦ ه‍) ، وترجع المسودة الثانية إلى حوالي سنة ٣٦٧ ه‍ (٢). كان عمل الإصطخري إذن الأساس الذي بنى عليه ابن حوقل كتابه ، حيث كان ينسخ كتاب مسالك الممالك ويتدخل بين الحين والآخر مضيفا كلمة أو جملة أو صفحة وربما أكثر من ذلك. وعلى هذا فقد تداخلت ثلاثة كتب في بعضها : أولها للبلخي وهو مفقود ، والثاني للإصطخري الخارج من جبة البلخي ، والثالث لابن حوقل المستعير عباءة الإصطخري بطلب شخصي منه ، والكتابان الثاني والثالث كما هو معلوم موجودان متداولان.

لقد قدم العلامة بار تولد في مقدمته القيمة لكتاب حدود العالم ، نماذج من التقاء نصوص هذا الكتاب مع نصوص كتاب الإصطخري (٣). ومع ذلك يظل موضوع الجزم فيما إذا كان مؤلف حدود العالم قد نقل بشكل مباشر عن البلخي أم الإصطخري أمرا شائكا يحتاج إلى مزيد من الدراسة. لقد ركزنا في الهوامش على مواضع الالتقاء بين حدود العالم وكتاب الإصطخري مسالك الممالك لأهمية هذا الأمر.

أما المصدر الآخر الذي يرجح أن يكون مؤلفنا المجهول قد أفاد منه فهو المسالك والممالك لأبي عبد الله محمد بن أحمد الجيهاني الأديب والعالم والسياسي الذي أصبح وزيرا للأمير نصر بن أحمد الساماني (حكم من ٣٠١ ـ ٣٣١ ه‍) منذ السنة الأولى لحكمه. يقول مينورسكي في مقدمة طبائع الحيوان :

" وحدود العالم الذي بدأ مؤلفه المجهول بتصنيفه سنة ٣٧٢ ه‍ بمدينة الجوزجان (شمالي أفغانستان) ، أفاد فيه مؤلفه فيما يتعلق بالأصقاع الإسلامية من روايات أبي زيد البلخي التي أدخلت عليها تحسينات بواسطة الإصطخري. إلا أن الاهتمام الخاص للمؤلف فيما يتعلق بالفصول المخصصة للصين والهند وبلاد الترك والذي تتفق معلوماته تماما مع ما هو موجود

__________________

(١) صورة الأرض ، ٣٢٩.

(٢) كراتشكوفسكى ، ٢١٧.

(٣) Hudud ,p. ٢٢ ـ ٣٢

١٣

لدى الكرديزي والمروزي ، لابد أن يكون معتمدا على الجيهانى" (١). ولما كان الكريزي قد اعتمد في كتابته الفصول الأخيرة من كتابه على كتاب الجيهاني المسالك والممالك (٢) ويبدو أنه اعتمد كتابا آخر له في التاريخ حيث قال في مقدمة الفصل المخصص لعلوم الهنود : " هكذا يقول أبو عبد الله الجيهاني في كتاب التواريخ الذي ألفه .." (٣) وكان هناك تشابه بين نصوص حدود العالم وزين الأخبار للكرديزي ، احتمل أن يكون هناك مصدر مشترك أفاد منه المؤلفان ، يقول بار تولد بهذا الشأن : " إن التشابه بين حدود العالم والكرديزي ومصدر هما المشترك يبدو أكثر وضوحا في فصلي الصين والتغزغز .. وبطبيعة الحال لا يوجد تطابق تام بين حدود العالم والكرديزي" (٤). ويندفع كراتشكوفسكي خطوات إلى الأمام ليقول : " ليس ثمة شك في أن المؤرخ الفارسي الكرديزي قد اعتمد في القسم الجغرافي من كتابه على حدود العالم" (٥).

مع كل هذا تظل مسألة نقل معلومة ما دون ذكر مصدرها بالاسم بشكل صريح مفتوحة أمام شتى الاحتمالات ومحفوفة بمخاطر جمة. ونضرب مثلا لذلك ما ذكره العلّامة بار تولد بشأن النص الوارد في حدود العالم القائل : " إن من دخل التّبّت لم يزل ضاحكا مسرورا من غير سبب حتى يخرج منها" ، حيث قال : " واضح أن هذا النص قد استعير من

__________________

(١) Minorsky ,China ,p. ٩.

والمروزى المذكور هو شرف الزمان صاحب طبائع الحيوان الذي حقق منه مينورسكى الفصول المتعلقة بالصين والهند وبلاد الأتراك. أما الكرديزى فهو عبد الحى بن الضحاك بن محمود مؤلف زين الأخبار الذي كتبه حوالى ٤٤٢ ٤٤٣ ه‍. وفيه معلومات مهمة جدا عن الجيهانى ونصوص من كتابه المسالك والممالك.

(٢) زين الأخبار ، ٥٩٧ حيث ذكر اسم كتاب الجيهانى هذا بعد ختامه الفصل المتعلق بقبائل الأتراك. وقد وصف المسعودى كتاب الجيهانى فى المسالك والممالك هذا فقال إنه" فى صفة العالم وأخباره وما فيه من العجائب والمدن والأمصار والبحار والأنهار والأمم ومساكنهم وغير ذلك من الأخبار العجيبة والقصص الطريفة" (التنبيه والإشراف ، ٦٥).

(٣) زين الأخبار ، ٦٢١.

(٤) Hudud ,p. ٦٢.

(٥) تاريخ الأدب الجغرافى العربى ، ٢٤٣.

١٤

ابن خرداذبه" (١). لكننا نعلم اعتمادا على دي خويه" أن المسودة الأولى لكتاب ابن خرداذبه ترتفع إلى سنة ٢٣٢ ه‍ ، أما الثانية فلا تتجاوز ٢٧٢ ه‍ ... وبعض العلماء لا يزال يعتقد أنه ليس هناك سوى مسودة واحدة تعود إلى التاريخ الأخير" (٢) ، والمعلومة نفسها هي لدى الجاحظ (توفي سنة ٢٥٥ ه‍) في كتابه الحيوان وقد بدأها بقوله : " ويزعم تجار التبت ممن قد دخل الصين والزابج وقلب تلك الجزائر ونقب في البلاد أن كل من أقام بقصبة التبت .." (٣). وقد ألف الجاحظ الحيوان قبل ٢٣٣ ه‍ ـ كما ذكر محققه عبد السلام هارون في مقدمته ـ وهذه المعلومة موجودة أيضا في كتاب آخر للجاحظ (٤) هو البلدان أو الأمصار والبلدان. لقد نقل ابن خرداذبه نصا طويلا من الجاحظ لكنه لم يذكر اسم الجاحظ إلا في وسط النص ، فأوهم قارئه بأنه لم ينقل إلا ما هو وارد بعد اسم الجاحظ بينما الحقيقة ليست كذلك. فالنص لديه هو كما يلي :

" ومن عجائب طبائع البلدان

إن من دخل التبت لم يزل ضاحكا مسرورا من غير سبب يعرفه حتى يخرج منها ؛ وإن من دخل من المسلمين بلادا فى آخر الصين تدعى الشيلا ، بها الذهب الكثير استوطنها لطيبها ولم يخرج عنها البتة ؛ ومن أقام بالموصل حولا وجد فى قوته فضلا بينا ؛ ومن أقام بقصبة الأهواز حولا فتفقد عقله وجده ناقصا ، ولا يوجد بها أحد له وجنة حمراء ، والحمى بها دائمة. وقد ذكر الجاحظ أن عدة من قوابل الأهواز خبرنه أنهن ربما قبلن المولود فيجدنه محموما. وقد جمعت قصبة الأهواز الأفاعى فى جبلها الطاعن فى منازلها المطل عليها ، وفى بيوتها العقارب الجرارات القتالة ، وإن الغالية والطيب يتغير بها بعد شهرين ، وكذلك بأنطاكية ؛ ومن دخل بلاد الزنج فلابد أن يجرب ؛ ومن أطال الصوم بالمصيصة فى الصيف هاج به المرار الأسود وربما جن ؛ ومن سكن البحرين عظم طحاله ، قال الشاعر :

ومن يسكن البحرين يعظم طحاله

ويحسد بما فى بطنه وهو جائع

__________________

(١) Hudud ,p. ٥٢. والكلام موجود لدى ابن خرداذبه فى المسالك والممالك ص ١٧٠.

(٢) كراتشكوفسكى ، ١٦٨.

(٣) الحيوان ، ٧ / ٢٣٠.

(٤) ثمار القلوب ، ٣٨٨.

١٥

ولهم بسر يسمى النابجى إذا انتبذ وشرب غير عرقه البياض حتى يصفره. ومن مشى فى مدينة رسول الله (ص) وجد رائحة طيبة ؛ وبشيراز من أرض فارس فغمة طيبة" (١).

فبار تولد عندما يعتقد أن النص المتعلق بالتبت نقله مؤلف حدود العالم من ابن خرداذبه ، إنما قال ذلك لمراجعته كتب الجغرافيا ، لكنه لو استعان بكتب الأدب لوجد النص بكامله ـ وهو الذي نقلناه آنفا ـ وقد استعاره ابن خرداذبه من الجاحظ وعلى التحديد من كتابه الحيوان ، حيث كان الجاحظ يذكر أحيانا اسم الشخص الذي حدثه بالمعلومة التي يوردها مما يدل على أنه لم يأخذ تلك المعلومات من مصدر مكتوب ليكون هناك احتمال في أن يكون الجاحظ وابن خرداذبه قد أخذا من مصدر مشترك بينهما. إن ما سنضعه بين الأقواس يمثل الجزء والصفحة من كتاب الحيوان للجاحظ حيث سنذكر المعلومات التي أوردها ابن خرداذبه متسلسلة : السرور بالتبت (٤ / ١٣٥ ، ٧ / ٢٣٠) ؛ زيادة قوة البدن في الموصل (٤ / ١٣٥) ؛ العقل وما يعتريه في الأهواز (٤ / ١٣٥) ؛ حمى الأهواز (٤ / ١٤٣) وذكر سند هذا الخبر بقوله : " حدثني إبراهيم بن العباس بن محمد بن منصور عن مشيخة من أهل الأهواز" (٢) ؛ الأفاعي والجرارات في جبلها الطاعن (٤ / ١٤٢) ؛ تغير العطر بالأهواز وأنطاكية (٣ / ١٤٣ ، ٧ / ٢٣٠) ؛ الإصابة بالجرب ببلاد الزنج (٤ / ١٣٩) وذكر سنده فقال : " وحدثني يوسف الزنجي ..." ؛ هيجان المرار بالمصيصة (٤ / ١٤٠) ؛ ورم الطحال في البحرين مع بيت الشعر الذي عزاه للعامة (٤ / ١٣٥ ، ١٣٩) ؛ بسر النابجي فيها وتأثيره في الثياب البيض (٧ / ٢٣٠ ـ ٢٣١) ؛ طيب مدينة رسول الله (ص) وشيراز (٧ / ٢٣٠) ؛ والنص موجود في عيون الأخبار لابن قتيبة الدينورى المتوفى سنة ٢٧٦ ه‍ الذي عزاه للجاحظ (٣). وأغلب

__________________

(١) المسالك والممالك ، ١٧٠ ـ ١٧١.

(٢) وليس كما ذكر ابن خرداذبه : " ذكر الجاحظ أن عدة من قوابل الأهواز خبرنه". وقد نقل الثعالبى فى ثمار القلوب خبر حمى الأهواز والقوابل عن الجاحظ بنفس سنده هذا ، لكنه أورده مطولا وفيه" ولم أر بها وجنة حمراء لصبى ولا لصبية ولا دما ظاهرا ولا قريبا من ذلك" مما يدل على أن ابن خرداذبه قد اختصر كثيرا خبر الجاحظ (انظر خبر الأهواز وحماها وعقاربها وأفاعيها فى ثمار القلوب (٥٥٠ ـ ٥٥١). وفى ص ٥٥١ ـ ٥٥٢ منه بقية القائمة بطبائع البلدان التى بدأها الثعالبى بقوله : " قال الجاحظ فى خصائص البلدان عن ثقات التجار الذين نقبوا فى البلاد".

(٣) عيون الأخبار ، ١ / ٢١٩ ـ ٢٢٠.

١٦

طبائع البلدان هذه وردت لدى ابن الفقيه (١) الذي ألف كتابه البلدان حوالي ٢٩٠ ه‍ دون أن يعزوها لأحد ، لكنها مستقاة بكل تأكيد من الحيوان الذي كانت لديه نسخة منه أفاد منها عند تأليفه كتابه (انظر : مقدمة البلدان لابن الفقيه ص ١٥) ؛ والسرور الذي يعتري الداخل إلى التبت موجود أيضا لدى ابن رسته (٢) الذي ألف كتابه في" السنوات بين ٢٩٠ و ٣٠٠ ه" (٣) ، وهو مختصر ، إلا أن وجود المعلومة المتعلقة ببلاد السيلا في الأعلاق النفسية ، تجعلنا نحتمل أنه نقل معلوماته عن ابن خرداذبه الذي انفرد بذكر معلومة السيلا مع بقية طبائع البلدان. ونذكر بأن الخياط المعتزلي (توفي بعد ٣٠٠ ه‍ بقليل) يشير إلى" كتب الجاحظ في أفعال الطبائع" (٤). وقد ذكر المسعودي (توفي سنة ٣٤٦ ه‍) السرور ببلاد التبت (٥) بشكل تختلف عباراته كثيرا عما هو لدى الجاحظ ، رغم علمنا بأن المسعودي كانت لديه نسخة من الحيوان للجاحظ عند تأليفه مروج الذهب (٦) ، وأنه كانت لديه نسخة من كتاب الجاحظ الآخر الأمطار وعجائب البلدان (٧).

إنه مثال واحد أوردناه تعليقا على رأي العلّامة الجليل بار تولد الذي أسدى معروفا لا ينسى للدراسات الجغرافة الإسلامية عندما كتب مقدمته لكتاب حدود العالم وغيرها من الدراسات القيمة ، رأيه الذي قال فيه إن المعلومة المتعلقة ببلاد التبت" استعارها مؤلف حدود العالم من ابن خرداذبه". ورأينا كيف أن الأصل فيها وفي غيرها من طبائع البلدان هو الجاحظ وليس ابن خرداذبه. وعلى هذا فالدراسة المطولة ـ وهي مما يستغرق وقتا طويلا ـ

__________________

(١) البلدان ، ٣٣٢ ، ٣٩٧ ٣٩٨.

(٢) الأعلاق النفيسة ، ٨٢ ٨٣.

(٣) كراتشكوفسكى ، ١٧٨.

(٤) الانتصار ، ٩٢.

(٥) مروج الذهب ١ / ١٧٨.

(٦) انظر مثلا ٤ / ٢٣٩.

(٧) مروج الذهب ، ١ / ١١٤ ، وقد سماه فى التنبيه والإشراف (ص ٤٩) ب الأخبار عن الأمصار وعجائب البلدان. وإذا كان هذا هو نفسه كتاب البلدان (نشر الدكتور العلى نسخة مختصرة منه) فهو قد ألف سنة ٢٤٨ ه‍ (انظر : " كتاب البلدان" للجاحظ ص ٤٨٧). نشير إلى أن نص المسعودى عن بلاد التبت موجود فى الروض المعطار (ص ١٣٠) ، ويرى الدكتور إحسان عباس فى مقدمته لهذا الكتاب ، ص" ع" أن نقول مؤلفه عن مروج الذهب فى الأخبار التاريخية لا فى الحديث عن البحار والجزر وما فيها من عجائب توحى لدى المقارنة أنها مأخوذة رأسا لا بالواسطة عن ذلك الكتاب.

١٧

هي وحدها الكفيلة بإماطة اللثام بشكل دقيق عن مصادر هذا الكتاب أو ذاك خاصة كتب الجغرافيا التي تشكل مصادرها الرئيسة غابة مظلمة متشابكة الأشجار نركز منها على المصادر المفقودة. وننقل أخيرا رأي كراتشكوفسكي في إلقاء الضوء على هذا الأمر الذي يقول فيه : " لا ريب في أن مخطوطة تومانسكي (يعني حدود العالم) المجهولة المؤلف كانت ذا أثر فعال في الأدب الجغرافي التالي لها ، غير أن مسألة إلقاء ضوء على هذه الحقيقة مسألة عسيرة تتطلب فحص مصادر عامة ليست معروفة في مجموعها لنا مثل المسودة المكملة لابن خرداذبه أو مصنّف الجيهاني" (١).

أما لغة الكتاب فرغم أنه بالفارسية إلا أنه" وجد زعم يقول بأنه ترجم عن العربية في الأصل" (٢) ، ولقد وجدنا بحثا لأستاذ من إحدى جامعات بنارس الهندية يدل على اعتقاده بعروبة مؤلف الكتاب (٣) ، عنوان البحث هو : " وصف الهند في كتاب حدود العالم لجغرافي عربي مجهول الاسم في القرن التاسع" ، ومع ذلك فالمسألة لا يمكن البت فيها بسهولة.

وهناك مسألة اقتباسه من كتاب الآثار العلوية لأرسطو (الفصل ٢ ، الفقرة ٤) وهو المصدر الوحيد الذي ذكر اسمه في كتابه. فالنص لديه طويل نسبيا قياسا إلى ما هو موجود لدى أرسطو الذي نجد لديه ما يلي : " ينبوع جميع المياه وابتداؤها من البحر الذي يسمى طرطاروس العميق ، البعيد الغور الغزير الماء. ومنه ابتداء جميع المياه الجارية وغير الجارية وهو مستقرها ، وذلك أنه ينقسم لسائر البحار وإلى وسطه تندفع المياه ، لأن جميع المياه ترجع إلى مواضعها الخاصة التي هي ابتداء فصولها وأوائل حركاتها" (٤). ولا ندري إن كان المقصود بذلك هو هذا النص الذي أوردناه عن أرسطو ثم أضيفت إليه إضافات أم غيره.

لقد قلنا فيما مضى من هذه المقدمة إنه يصعب البتّ في مسألة نقل حدود العالم بشكل مباشر عن كتاب البلخي أم بشكل غير مباشر عن البلخي بواسطة النقل عن كتاب الإصطخري ، ونعزز كلامنا بأن نقارن مادة" آمل" في كلا المصدرين :

__________________

(١) كراتشكوفسكى ، ٢٤٣.

(٢) نفس المصدر ، ٢٤٢.

(٣) Chaube ,R. ، " India as described by an unknown early arab Geographer of the tenth century ",p. ٢٨٣.

(٤) الآثار العلوية ، ٥٧.

١٨

الإصطخرى ص ٢١٢

حدود العالم

آمل : أكبر من قزوين ، مشتبكة العمارة لا يعلم بقدرها أعمر منها فى هذه النواحى.

آمل : مدينة عظيمة. قصبة طبرستان ، ذات خندق لكن ليس لها سور. وحولها ربض. وهى مستقر ملوك طبرستان ، يجتمع بها التجار ، ذات تجارات كثيرة. وفيها علماء كثر فى شتى العلوم. وبها مياه جارية كثيرة جدا. ترتفع منها الثياب الكتان ومناديل الخيش والفرش الطبرية والحصر الطبرية وخشب العثق الذي لا مثيل له فى جميع أرجاء العالم. كما يرتفع منها الأترج .. (تراجع بقية الكلام عن هذه المدينة وهو طويل فى هذا الكتاب (الفصل ٣٢ ، الفقرة ١٣).

فلو كان مؤلف حدود العالم قد أفاد بشكل مباشر من الإصطخري ، لا كتفى بذكر ما لدى الإصطخري وهو سطر وكلمات أخر. فمن أين جاء بهذه التفاصيل التي لا توجد عند الإصطخري ولا عند ابن حوقل الذي أضاف إلى كتاب الإصطخري؟

ولنأخذ نموذجا آخر :

الإصطخرى ص ٣٨ ، ٣٩

حدود العالم

جزيرة بنى مزغنا : مدينة عامرة يحف بها طوائف من البربر ، وهى من الخصب والسعة على غاية ما تكون المدن.

السوس الأقصى : اسم المدينة إلا أنها كورة عظيمة ذات مدن وقرى وسعة وخصب ويحتف بها طوائف بها طوائف من البربر.

جزيرة بنى مزغنا : مدينة يحيط بها ماء البحر من ثلاثة جوانب ، يحف بها طوائف من البربر.

السوس الأقصى : مدينة على ساحل بحر الأوقيانوس المغربى ، وهى آخر مدينة من عمارة العالم فى المغرب. مدينة عظيمة وبها ذهب وفير ، وأهلها بعيدون عن طباع الناس ، ولا يصل إليها إلا القليل من الغرباء.

١٩

الواضح ـ من خلال التشابه الموجود فعلا بين نصوص الإصطخري وحدود العالم ـ أنه يوجد مصدر مشترك نقل منه الاثنان بشكل تنتقى فيه الأسطر أحيانا وتهمل أسطر أخرى. ترى أيوجد من هو أكثر قربا إلى الاثنين من أبي زيد البلخي وكتابه الذي يدعى صور الأقاليم حينا ، وأشكال البلاد حينا آخر ، وتقويم البلدان تارة؟

لقد راعينا في ترجمتنا هذه أن نستخدم الألفاظ والمصطلحات الجغرافية المتداولة في كتب الجغرافيا العربية كي نشيع في نصوصه نكهة التراث العريق. أما الهوامش فقد سعينا إلى أن لا نثقل الكتاب بها إلا ما كان غامضا مثل جزيرة الواقواق التي شغلت الباحثين عقودا وما زالت ، أو جزيرة النساء.

أما الأرقام التي تشاهد في بداية عناوين الفصول وبدايات بعض الفقرات فقد نقلناها عن الترجمة الإنجليزية للكتاب التي نهض بعبئها العلامة فلاديمير مينورسكي.

آمل أن أكون قد وفقت في عملي هذا ولا أظنه خاليا من النقص الذي لا يخلو منه بنو الإنسان ، فالكمال لله سبحانه.

كنت قد كتبت في مقدمتي لكتاب البلدان لابن الفقيه الذي صدر ببيروت سنة (١٩٩٦) بأنني أعيش الألف عام الأولى من العزلة بلا وطن ولا هوية خارج الجغرافيا والتاريخ ، وأحس اليوم أنني أعيش الألف الثانية من العزلة مهيض الجناحين رهين الغربتين ، أحاور الأموات الذين يطلون برءوسهم من أوراق مؤلفاتهم يمدون لي يد العون بعد أن يئست من الأحياء.

رجب ١٤١٩

نوفمبر ١٩٩٨

يوسف الهادى

٢٠