البحر المحيط في التّفسير - ج ١٠

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التّفسير - ج ١٠

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٨٤

الإلصاق ، والمعنى : يشرب عباد الله بها الخمر ، كما تقول : شربت الماء بالعسل ، أو ضمن يشرب معنى يروى فعدى بالباء. وقيل : الباء زائدة والمعنى يشرب بها ، وقال الهذلي :

شربن بماء البحر ثم ترفعت

متى لجج خضر لهن نئيج

قيل : أي شربن ماء البحر. وقرأ ابن أبي عبلة : بشربها ؛ وعباد الله هنا هم المؤمنون ، (يُفَجِّرُونَها) : يثقبونها بعود قصب ونحوه حيث شاءوا ، فهي تجري عند كل واحد منهم ، هكذا ورد في الأثر. وقيل : هي عين في دار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تنفجر إلى دور الأنبياء والمؤمنين. (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ) في الدنيا ، وكانوا يخافون. وقال الزمخشري : (يُوفُونَ) جواب من عسى يقول ما لهم يرزقون ذلك. انتهى. فاستعمل عسى صلة لمن وهو لا يجوز ، وأتى بعد عسى بالمضارع غير مقرون بأن ، وهو قليل أو في شعر. والظاهر أن المراد بالنذر ما هو المعهود في الشريعة أنه نذر. قال الأصم وتبعه الزمخشري : هذا مبالغة في وصفهم بالتوفر على أداء الواجبات ، لأن من وفى بما أوجبه هو على نفسه كان لما أوجبه الله تعالى عليه أوفى. وقيل : النذر هنا عام لما أوجبه الله تعالى ، وما أوجبه العبد فيدخل فيه الإيمان وجمع الطاعات. (عَلى حُبِّهِ) : أي على حب الطعام ، إذ هو محبوب للفاقة والحاجة ، قاله ابن عباس ومجاهد ؛ أو على حب الله : أي لوجهه وابتغاء مرضاته ، قاله الفضيل بن عياض وأبو سليمان الداراني. والأول أمدح ، لأن فيه الإيثار على النفس ؛ وأما الثاني فقد يفعله الأغنياء أكثر. وقال الحسن بن الفضل : على حب الطعام ، أي محبين في فعلهم ذلك ، لا رياء فيه ولا تكلف. (مِسْكِيناً) : وهو الطواف المنكسر في السؤال ، (وَيَتِيماً) : هو الصبي الذي لا أب له ، (وَأَسِيراً) : والأسير معروف ، وهو من الكفار ، قاله قتادة. وقيل : من المسلمين تركوا في بلاد الكفار رهائن وخرجوا لطلب الفداء. وقال ابن جبير وعطاء : هو الأسير من أهل القبلة. وقيل : (وَأَسِيراً) استعارة وتشبيه. وقال مجاهد وابن جبير وعطاء : هو المسجون. وقال أبو حمزة اليماني : هي الزوجة ؛ وعن أبي سعيد الخدري : هو المملوك والمسجون. وفي الحديث : «غريمك أسيرك فأحسن إلى أسيرك».

(إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ) : هو على إضمار القول ، ويجوز أن يكونوا صرحوا به خطابا للمذكورين ، منعا منهم وعن المجازاة بمثله أو الشكر ، لأن إحسانهم مفعول لوجه الله تعالى ، فلا معنى لمكافأة الخلق ، وهذا هو الظاهر. وقال مجاهد : أما أنهم ما تكلموا

٣٦١

به ، ولكن الله تعالى علمه منهم فأثنى عليهم به. (لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً) : أي بالأفعال ، (وَلا شُكُوراً) : أي ثناء بالأقوال ؛ وهذه الآية قيل نزلت في علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ، وذكر النقاش في ذلك حكاية طويلة جدا ظاهرة الاختلاف ، وفيها إشعار للمسكين واليتيم والأسير ، يخاطبون بها بيت النبوة ، وإشعار لفاطمة رضي‌الله‌عنها تخاطب كل واحد منهم ، ظاهرها الاختلاف لسفساف ألفاظها وكسر أبياتها وسفاطة معانيها. (يَوْماً عَبُوساً) : نسبة العبوس إلى اليوم مجاز. قال ابن عباس : يعبس الكافر يومئذ حتى يسيل من عينيه عرق كالقطران. وقرأ الجمهور : (فَوَقاهُمُ) بخفة القاف ؛ وأبو جعفر : بشدها ؛ (وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً) : بدل عبوس الكافر ، (وَسُرُوراً) : فرحا بدل حزنه ، لا تكاد تكون النظرة إلا مع فرح النفس وقرة العين. وقرأ الجمهور : (وَجَزاهُمْ) ؛ وعليّ : وجازاهم على وزن فاعل ، (جَنَّةً وَحَرِيراً) : بستانا فيه كل مأكل هنيء ، (وَحَرِيراً) فيه ملبس بهي ، وناسب ذكر الحرير مع الجنة لأنهم أوثروا على الجوع والغذاء. (لا يَرَوْنَ فِيها) : أي في الجنة ، (شَمْساً) : أي حر شمس ولا شدة برد ، أي لا شمس فيها فترى فيؤذي حرها ، ولا زمهرير يرى فيؤذي بشدته ، أي هي معتدلة الهواء. وفي الحديث : «هواء الجنة سجسج لا حر ولا قر». وقيل : لا يرون فيها شمسا ولا قمرا ، والزمهرير في لغة طيء القمر.

وقرأ الجمهور : (وَدانِيَةً) ، قال الزجاج : هو حال عطفا على (مُتَّكِئِينَ). وقال أيضا : ويجوز أن يكون صفة للجنة ، فالمعنى : وجزاهم جنة دانية. وقال الزمخشري : ما معناه أنها حال معطوفة على حال وهي لا يرون ، أي غير رائين ، ودخلت الواو للدلالة على أن الأمرين مجتمعان لهم ، كأنه قيل : وجزاهم جنة جامعين فيها بين البعد عن الحر والقر ودنوّ الظلال عليهم. وقرأ أبو حيوة : ودانية بالرفع ، واستدل به الأخفش على جواز رفع اسم الفاعل من غير أن يعتمد ، نحو قولك : قائم الزيدون ، ولا حجة فيه لأن الأظهر أن يكون (ظِلالُها) مبتدأ (وَدانِيَةً) خبر له. وقرأ الأعمش : ودانيا عليهم ، وهو كقوله : (خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ) (١). وقرأ أبيّ : ودان مرفوع ، فهذا يمكن أن يستدل به الأخفش. (وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها) ، قال قتادة ومجاهد وسفيان : إن كان الإنسان قائما ، تناول الثمر دون كلفة ؛ وإن قاعدا أو مضطعجا فكذلك ، فهذا تذليلها ، لا يرد اليد عنها بعد ولا شوك. فأما على قراءة الجمهور : (وَدانِيَةً) بالنصب ، كان (وَذُلِّلَتْ) معطوفا على دانية لأنها في تقدير

__________________

(١) سورة القلم : ٦٨ / ٤٣ ، وسورة المعارج : ٧٠ / ٤٤.

٣٦٢

المفرد ، أي ومذللة ، وعلى قراءة الرفع كان من عطف جملة فعلية على جملة اسمية. ويجوز أن تكون في موضع الحال ، أي وقد ذللت رفعت دانية أو نصبت.

قوله عزوجل : (وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا ، قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً ، وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً ، عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً ، وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً ، وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً ، عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً ، إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً ، إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً ، فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً ، وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ، وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً ، إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً ، نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً ، إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً ، وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً ، يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً). لما وصف تعالى طعامهم وسكناهم وهيئة جلوسهم ، ذكر شرابهم ، وقدم ذكر الآنية التي يسقون منها ، والآنية جمع إناء ، وتقدم شرح الأكواب. وقرأ نافع والكسائي : قواريرا قواريرا بتنوينهما وصلا وإبداله ألفا وقفا ؛ وابن عامر وحمزة وأبو عمرو وحفص : بمنع صرفهما ؛ وابن كثير : بصرف الأول ومنع الصرف في الثاني. وقال الزمخشري : وهذا التنوين بدل من ألف الإطلاق لأنه فاصلة ، وفي الثاني لاتباعه الأول. انتهى. وكذا قال في قراءة من قرأ سلاسلا بالتنوين : إنه بدل من حرف الإطلاق ، أجرى الفواصل مجرى أبيات الشعر ، فكما أنه يدخل التنوين في القوافي المطلقة إشعارا بترك الترنم ، كما قال الراجز :

يا صاح ما هاج الدموع الذرفن

فهذه النون بدل من الألف ، إذ لو ترنم لوقف بألف الإطلاق. (مِنْ فِضَّةٍ) : أي مخلوقة من فضة ، ومعنى (كانَتْ) : أنه أوجدها تعالى من قوله : (كُنْ فَيَكُونُ) (١) تفخيما لتلك الخلقة العجيبة الشأن الجامعة بين بياض الفضة ونصوعها وشفيف القوارير وصفائها ، ومن ذلك قوله : (كانَ مِزاجُها كافُوراً). وقرأ الأعمش : قوارير من فضة بالرفع ، أي هو قرارير. وقرأ الجمهور : (قَدَّرُوها) مبنيا للفاعل ، والضمير للملائكة ، أو للطواف عليهم ،

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ١١٧ ، وسورة آل عمران : ٣ / ٤٧.

٣٦٣

أو المنعمين ، والتقدير : على قدر الأكف ، قاله الربيع ؛ أو على قدر الري ، قاله مجاهد. وقال الزمخشري : (قَدَّرُوها) صفة لقرارير من فضة ، ومعنى تقديرهم لها أنهم قدروها في أنفسهم على مقادير وأشكال على حسب شهواتهم ، فجاءت كما قدروها. وقيل : الضمير للطائفين بها يدل عليه قوله : (وَيُطافُ عَلَيْهِمْ) ، على أنهم قدروا شرابها على قدر الري ، وهو ألذ الشراب لكونه على مقدار حاجته ، لا يفضل عنها ولا يعجز. وعن مجاهد : لا يفيض ولا يغيض. انتهى. وقرأ عليّ وابن عباس والسلمي والشعبي وابن أبزي وقتادة وزيد بن عليّ والجحدري وعبد الله بن عبيد بن عمير وأبو حيوة وعباس عن أبان ، والأصمعي عن أبي عمرو ، وابن عبد الخالق عن يعقوب : قدروها مبنيا للمفعول. قال أبو علي : كأن اللفظ قدروا عليها ، وفي المعنى قلب لأن حقيقة المعنى أن يقال : قدرت عليهم ، فهي مثل قوله : (ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ) (١) ، ومثل قول العرب : إذا طلعت الجوزاء ألقى العود على الحرباء. وقال الزمخشري : ووجهه أن يكون من قدر منقولا من قدر ، تقول : قدرت الشيء وقدرنيه فلان إذا جعلك قادرا عليه ، ومعناه : جعلوا قادرين لها كما شاءوا ، وأطلق لهم أن يقدروا على حسب ما اشتهوا. انتهى.

وقال أبو حاتم : قدرت الأواني على قدر ريهم ، ففسر بعضهم قول أبي حاتم هذا ، قال : فيه حذف على حذف ، وهو أنه كان قدر على قدر ريهم إياها ، ثم حذف على فصار قدر ريهم مفعول لم يسم فاعله ، ثم حذف قدر فصار ريهم قائما مقامه ، ثم حذف الري فصارت الواو مكان الهاء والميم لما حذف المضاف مما قبلها ، وصارت الواو مفعول ما لم يسم فاعله ، واتصل ضمير المفعول الثاني في تقدر النصب بالفعل بعد الواو التي تحولت من الهاء والميم حتى أقيمت مقام الفاعل. انتهى. والأقرب في تخريج هذه القراءة الشاذة أن يكون الأصل قدر ريهم منها تقديرا ، فحذف المضاف وهو الذي ، وأقيم الضمير مقامه فصار التقدير : قدروا منها ؛ ثم اتسع في الفعل فحذفت من ووصل الفعل إلى الضمير بنفسه فصار قدّروها ، فلم يكن فيه إلا حذف مضاف واتساع في المجرور.

والظاهر أن الكأس تمزج بالزنجبيل ، والعرب تستلذة وتذكره في وصف رضاب أفواه النساء ، كما أنشدنا لهم في الكلام على المفردات. وقال الزمخشري : تسمى العين زنجبيلا لطعم الزنجبيل فيها. انتهى. وقال قتادة : الزنجبيل اسم لعين في الجنة ، يشرب منها المقربون صرفا ، ويمزج لسائر أهل الجنة. وقال الكلبي : يسقى بجامين ، الأول مزاجه

__________________

(١) سورة القصص : ٢٨ / ٧٦.

٣٦٤

الكافور ، والثاني مزاجه الزنجبيل. وعينا بدل من كأس على حذف ، أي كأس عين ، أو من زنجبيل على قول قتادة. وقيل : منصوب على الاختصاص. والظاهر أن هذه العين تسمى سلسبيلا بمعنى توصف بأنها سلسلة في الاتساع سهلة في المذاق ، ولا يحمل سلسبيل على أنه اسم حقيقة ، لأنه إذ ذاك كان ممنوع الصرف للتأنيث والعلمية. وقد روي عن طلحة أنه قرأه بغير ألف ، جعله علما لها ، فإن كان علما فوجه قراءة الجمهور بالتنوين المناسبة للفواصل ، كما قال ذلك بعضهم في سلاسلا وقواريرا ؛ ويحسن ذلك أنه لغة لبعض العرب ، أعني صرف ما لا يصرفه أكثر العرب. وقال الزمخشري : وقد زيدت الباء في التركيب حتى صارت الكلمة خماسية. انتهى. وكان قد ذكر فقال : شراب سلسل وسلسال وسلسيل ، فإن كان عنى أنه زيد حقيقة فليس بجيد ، لأن الباء ليست من حروف الزيادة المعهودة في علم النحو ؛ وإن عنى أنها حرف جاء في سنح الكلمة وليس في سلسيل ولا في سلسال ، فيصح ويكون مما اتفق معناه وكان مختلفا في المادة.

وقال بعض المعربين : سلسيلا أمر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولأمته بسؤال السبيل إليها ، وقد نسبوا هذا القول إلى علي كرم الله وجهه ، ويجب طرحه من كتب التفسير. وأعجب من ذلك توجيه الزمخشري له واشتغاله بحكايته ، ويذكر نسبته إلى عليّ كرم الله وجهه ورضي عنه. وقال قتادة : هي عين تنبع من تحت العرش من جنة عدن إلى الجنان. وقال عكرمة : عين سلس ماؤها. وقال مجاهد : عين جديرة الجرية سلسلة سهلة المساغ. وقال مقاتل : عين يتسلسل عليهم ماؤها في مجالسهم كيف شاءوا وتقدّم شرح (مُخَلَّدُونَ) وتشبيه الولدان باللؤلؤ المنثور في بياضهم وصفاء ألوانهم وانتشارهم في المساكن في خدمة أهل الجنة يجيئون ويذهبون. وقيل : شبهوا باللؤلؤ الرطب إذا أنثر من صدفه ، فإنه أحسن في العين وأبهج للنفس. وجواب (إِذا رَأَيْتَ) : (نَعِيماً) ، ومفعول فعل الشرط محذوف ، حذف اقتصارا ، والمعنى : وإذا رميت ببصرك هناك ، وثم ظرف العامل فيه رأيت. وقيل : التقدير : وإذا رأيت ما ثم ، فحذف ما كما حذف في قوله : (لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ) (١) ، أي ما بينكم. وقال الزجاج ، وتبعه الزمخشري فقال : ومن قال معناه ما ثم فقد أخطأ ، لأن ثم صلة لما ، ولا يجوز إسقاط الموصول وترك الصلة. انتهى. وليس بخطأ مجمع عليه ، بل قد أجاز ذلك الكوفيون ، وثم شواهد من لسان العرب كقوله :

__________________

(١) سورة الأنعام : ٦ / ٩٤.

٣٦٥

فمن يهجو رسول الله منكم

ويمدحه وينصره سواء

أي : ومن يمدحه ، فحذف الموصول وأبقى صلته. وقال ابن عطية : وثم ظرف العامل فيه رأيت أو معناه ، التقدير : رأيت ما ثم حذفت ما. انتهى. وهذا فاسد ، لأنه من حيث جعله معمولا لرأيت لا يكون صلة لما ، لأن العامل فيه إذ ذاك محذوف ، أي ما استقر ثم. وقرأ الجمهور : ثم بفتح الثاء ؛ وحميد الأعرج : ثم بضم التاء حرف عطف ، وجواب إذا على هذا محذوف ، أي وإذا رميت ببصرك رأيت نعيما ؛ والملك الكبير قيل : النظر إلى الله تعالى. وقال السدّي : استئذان الملائكة عليهم. وقال أكثر المفسرين : الملك الكبير : اتساع مواضعهم. وقال الكلبي : كبيرا عريضا يبصر أدناهم منزلة في الجنة مسيرة ألف عام ، يرى أقصاه كما يرى أدناه ، وقاله عبد الله بن عمر ، وقال : ما من أهل الجنة من أحد إلا يسعى عليه ألف غلام ، كلهم مختلف شغله من شغل أصحابه. وقال الترمذي ، وأظنه الترمذي الحكيم لا أبا عيسى الحافظ صاحب الجامع : هو ملك التكوين والمشيئة ، إذا أراد شيئا كان قوله تعالى : (لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها) (١) ، وقيل غير هذه الأقوال.

وقرأ عمر وابن عباس والحسن ومجاهد والجحدري وأهل مكة وجمهور السبعة : (عالِيَهُمْ) بفتح الياء ؛ وابن عباس : بخلاف عنه ؛ والأعرج وأبو جعفر وشيبة وابن محيصن ونافع وحمزة : بسكونها ، وهي رواية أبان عن عاصم. وقرأ ابن مسعود والأعمش وطلحة وزيد بن عليّ : بالياء مضمومة ؛ وعن الأعمش وأبان أيضا عن عاصم : بفتح الياء. وقرأ : عليهم حرف جر ، ابن سيرين ومجاهد وقتادة وأبو حيوة وابن أبي عبلة والزعفراني وأبان أيضا ؛ وقرأت عائشة رضي‌الله‌عنها : علتهم بتاء التأنيث فعلا ماضيا ، فثياب فاعل. ومن قرأ بالياء مضمومة فمبتدأ خبره ثياب ؛ ومن قرأ عليهم حرف جر فثياب مبتدأ ؛ ومن قرأ بنصب الياء وبالتاء ساكنة فعلى الحال ، وهو حال من المجرور في (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ) ، فذوا لحال الطوف عليهم والعامل يطوف. وقال الزمخشري : وعاليهم بالنصب على أنه حال من الضمير في (يَطُوفُ عَلَيْهِمْ) ، أو في (حَسِبْتَهُمْ) ، أي يطوف عليهم ولدان عاليا للمطوف عليهم ثياب ، أو حسبتهم لؤلؤا عاليا لهم ثياب. ويجوز أن يراد : رأيت أهل نعيم وملك عاليهم ثياب. انتهى. إما أن يكون حالا من الضمير في (حَسِبْتَهُمْ) ، فإنه لا يعني إلا ضمير المفعول ، وهذا عائد على (وِلْدانٌ) ، ولذلك قدر عاليهم بقوله : عاليا لهم ، أي للولدان ، وهذا لا يصح لأن الضمائر الآتية بعد ذلك تدل على أنها للمطوف عليهم من

__________________

(١) سورة ق : ٥٠ / ٣٥.

٣٦٦

قوله : (وَحُلُّوا) ، و (سَقاهُمْ) ، وإن هذا كان لكم جزاء ، وفك الضمائر يجعل هذا كذا وذاك كذا مع عدم الاحتياج والاضطرار إلى ذلك لا يجوز. وأما جعله حالا من محذوف وتقديره أهل نعيم ، فلا حاجة إلى ادعاء الحذف مع صحة الكلام وبراعته دون تقدير ذلك المحذوف ، وثياب مرفوع على الفاعلية بالحال. وقال ابن عطية : ويجوز في النصب في القراءتين أن يكون على الظرف لأنه بمعنى فوقهم. انتهى. وعال وعالية اسم فاعل ، فيحتاج في إثبات كونهما ظرفين إلى أن يكون منقولا من كلام العرب عاليك أو عاليتك ثوب. وقرأ الجمهور : ثياب بغير تنوين على الإضافة إلى سندس.

وقرأ ابن أبي عبلة وأبو حيوة : عليهم ثياب سندس خضر وإستبرق ، برفع الثلاثة ، برفع سندس بالصفة لأنه جنس ، كما تقول : ثوب حرير ، تريد من حرير ؛ وبرفع خضر بالصفة أيضا لأن الخضرة لونها ؛ ورفع إستبرق بالعطف عليها ، وهو صفة أقيمت مقام الموصوف تقديره : وثياب إستبرق ، أي من إستبرق. وقرأ الحسن وعيسى ونافع وحفص : خضر برفعهما. وقرأ العربيان ونافع في رواية : خضر بالرفع صفة لثياب ، وإستبرق جر عطفا على سندس. وقرأ ابن كثير وأبو بكر : بجر خضر صفة لسندس ، ورفع إستبرق عطفا على ثياب. وقرأ الأعمش وطلحة والحسن وأبو عمرو : بخلاف عنهما ؛ وحمزة والكسائي : ووصف اسم الجنس الذي بينه وبين واحده تاء التأنيث ، والجمع جائز فصيح كقوله تعالى : (وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ) (١) ، وقال : (وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ) (٢) ، فجعل الحال جمعا ، وإذا كانوا قد جمعوا صفة اسم الجنس الذي ليس بينه وبين واحده تاء التأنيث المحكي بأل بالجمع ، كقولهم : أهلك الناس الدينار الصفر والدرهم البيض ، حيث جمع وصفهما ليس بسديد ، بل هو جائز أورده النحاة مورد الجواز بلا قبح.

وقرأ ابن محيصن : (وَإِسْتَبْرَقٌ) ، وتقدم ذلك والكلام عليه في الكهف. وقال الزمخشري : هنا وقرىء وإستبرق نصبا في موضع الجر على منع الصرف لأنه أعجمي ، وهو غلط لأنه نكرة يدخله حرف التعريف ، تقول : الإستبرق إلا أن يزعم ابن محيصن أنه قد يجعل علما لهذا الضرب من الثياب. وقرىء : وإستبرق ، بوصل الهمزة والفتح على أنه مسمى باستفعل من البريق ، وليس بصحيح أيضا لأنه معرب مشهور تعريبه ، وأن أصله استبره. انتهى. ودل قوله : إلا أن يزعم ابن محيصن ، وقوله : بعد وقرىء وإستبرق بوصل

__________________

(١) سورة الرعد : ١٣ / ١٢.

(٢) سورة ق : ٥٠ / ١٠.

٣٦٧

الألف والفتح ، أن قراءة ابن محيصن هي بقطع الهمزة مع فتح القاف ؛ والمنقول عنه في كتب القراءات أنه قرأ بوصل الألف وفتح القاف. وقال أبو حاتم : لا يجوز ، والصواب أنه اسم جنس لا ينبغي أن يحمل ضميرا ، ويؤيد ذلك دخول لام المعرفة عليه ، والصواب قطع الألف وإجراؤه على قراءة الجماعة. انتهى. ونقول : إن ابن محيصن قارئ جليل مشهور بمعرفة العربية ، وقد أخذ عن أكابر العلماء ، ويتطلب لقراءته وجه ، وذلك أنه يجعل استفعل من البريق. وتقول : برق وإستبرق ، كعجب واستعجب.

ولما كان قوله : (خُضْرٌ) يدل على الخضرة ، وهي لون ذلك السندس ، وكانت الخضرة مما يكون لشدتها دهمة وغبش ، أخبر أن في ذلك اللون بريقا وحسنا يزيل غبشته. فاستبرق فعل ماض ، والضمير فيه عائد على السندس أو على الاخضرار الدال عليه قوله : (خُضْرٌ). وهذا التخريج أولى من تلحين من يعرف العربية وتوهيم ضابط ثقة (أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ) ، وفي موضع آخر (مِنْ ذَهَبٍ) (١) ، أي يحلون منهما على التعاقب أو على الجمع بينهما ، كما يقع للنساء في الدنيا. قال الزمخشري وما أحسن بالمعصم أن يكون فيه سواران ، سوار من ذهب وسوار من فضة. انتهى. فقوله بالمعصم إما أن يكون مفعول أحسن ، وإما أن يكون بدلا منه ، وإمّا أن يكون مفعول أحسن ، وقد فصل بينهما بالجار والمجرور. فإن كان الأول ، فلا يجوز لأنه لم يعهد زيادة الباء في مفعول افعل للتعجب ، لا تقول : ما أحسن بزيد ، تريد : ما أحسن زيدا ، وإن كان الثاني ، ففي مثل هذا الفصل خلاف. والمنقول عن سيبويه أنه لا يجوز ، والمولد منا إذا تكلم ينبغي أن يتحرز في كلامه عما فيه الخلاف.

(وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً) ، طهور صفة مبالغة في الطهارة ، وهي من فعل لازم ؛ وطهارتها بكونها لم يؤمر باجتنابها ، وليست كخمر الدنيا التي هي في الشرع رجس ؛ أو لكونها لم تدس برجل دنسة ، ولم تمس بيد وضرة ، ولم توضع في إناء لم يعن بتنظيفه. ذكره بأبسط من هذا الزمخشري ثم قال : أو لأنه لا يؤول إلى النجاسة ، لأنه يرشح عرقا من أبدانهم له ريح كريح المسك. انتهى. وهذا الآخر قاله أبو قلابة والنخعيّ وإبراهيم التيمي ، قالوا : لا تنقلب إلى البول ، بل تكون رشحا من الأبدان أطيب من المسك. (إِنَّ هذا) : أي النعيم السرمدي ، (كانَ لَكُمْ جَزاءً) : أي لأعمالكم الصالحة ،

__________________

(١) سورة الكهف : ١٨ / ٣١.

٣٦٨

(وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً) : أي مقبولا مثابا. قال قتادة : لقد شكر الله سعيا قليلا ، وهذا على إضمار يقال لهم. وهذا القول لهم هو على سبيل التهنئة والسرور لهم بضد ما يقال للمعاقب : إن هذا بعملك الرديء ، فيزداد غما وحزنا.

ولما ذكر أولا حال الإنسان وقسمه إلى العاصي والطائع ، ذكر ما شرف به نبيه محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ) ، وأمره بالصبر بحكمه ، وجاء التوكيد بأن لمضمون الخبر ومدلول المخبر عنه ، وأكد الفعل بالمصدر. (وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً) ، قال قتادة : نزلت في أبي جهل ، قال : إن رأيت محمدا يصلي لأطأن على عنقه ، فأنزل الله تعالى : (وَلا تُطِعْ) الآية. والنهي عن طاعة كل واحد منهما أبلغ من النهي عن طاعتهما ، لأنه يستلزم النهي عن أحدهما ، لأن في طاعتهما طاعة أحدهما. ولو قال : لا تضرب زيدا وعمرا ، لجاز أن يكون نهيا عن ضربهما جميعا ، لا عن ضرب أحدهما. وقال أبو عبيدة : أو بمعنى الواو ، والكفور ، وإن كان إثما ، فإن فيه مبالغة في الكفر. ولما كان وصف الكفور مباينا للموصوف لمجرّد الإثم ، صلح التغاير فحسن العطف. وقيل : الآثم عتبة ، والكفور الوليد ، لأن عتبة كان ركابا للمآثم متعاطيا لأنواع الفسوق ؛ وكان الوليد غالبا في الكفر ، شديد الشكيمة في العتوّ.

(وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً) : يعني صلاة الصبح ، (وَأَصِيلاً) : الظهر والعصر. (وَمِنَ اللَّيْلِ) : المغرب والعشاء. وقال ابن زيد وغيره : كان ذلك فرضا ونسخ ، فلا فرض إلا الخمس. وقال قوم : هو محكم على وجه الندب. (إِنَّ هؤُلاءِ) : إشارة إلى الكفرة. (يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ) : يؤثرونها على الدنيا. (وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ) : أي أمامهم ، وهو ما يستقبلون من الزمان. (يَوْماً ثَقِيلاً) : استعير الثقل لليوم لشدته ، وهو له من ثقل الجرم الذي يتعب حامله. وتقدم شرح الأسر في سورة القتال. (وَإِذا شِئْنا) : أي تبديل أمثالهم بإهلاكهم ، (بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ) ممن يطيع. وقال الزمخشري : وحقه أن يجيء بإن لا بإذا ، كقوله : (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ) (١) ، (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ) (٢). انتهى. يعني أنهم قالوا إن إذا للمحقق وإن للممكن ، وهو تعالى لم يشأ ، لكنه قد توضع إذا موضع إن ، وإن موضع إذا ، كقوله : (أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ) (٣).

__________________

(١) سورة محمد : ٤٧ / ٣٨.

(٢) سورة الأنعام : ٦ / ١٣٣ ، وسورة إبراهيم : ١٤ / ١١٩ ، وسورة فاطر : ٣٥ / ١٦.

(٣) سورة الأنبياء : ٢١ / ٣٤.

٣٦٩

(إِنَّ هذِهِ) : أي السورة ، أو آيات القرآن ، أو جملة الشريعة ليس على جهة التخيير ، بل على جهة التحذير من اتخاذ غير سبيل الله. وقال الزمخشري : لمن شاء ممن اختار الخير لنفسه والعاقبة ، واتخاذ السبيل إلى الله عبارة عن التقرب إليه والتوسل بالطاعة. (وَما تَشاؤُنَ) : الطاعة ، (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) ، يقسرهم عليها. (إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً) بأحوالهم وما يكون منهم ، (حَكِيماً) حيث خلقهم مع علمه بهم. انتهى ، وفيه دسيسة الاعتزال. وقرأ العربيان وابن كثير : وما يشاءون بياء الغيبة ؛ وباقي السبعة : بتاء الخطاب ؛ ومذهب أهل السنة أنه نفي لقدرتهم على الاختراع وإيجاد المعاني في أنفسهم ، ولا يرد هذا وجود ما لهم من الاكتساب. وقال الزمخشري : فإن قلت : ما محل (أَنْ يَشاءَ اللهُ)؟ قلت : النصب على الظرف ، وأصله : إلا وقت مشيئة الله ، وكذلك قرأ ابن مسعود : إلا ما يشاء الله ، لأن ما مع الفعل كان معه. انتهى. ونصوا على أنه لا يقوم مقام الظرف إلا المصدر المصرح به ، كقولك : أجيئك صياح الديك ، ولا يجيزون : أجيئك أن يصيح الديك ، ولا ما يصيح الديك ؛ فعلى هذا لا يجوز ما قاله الزمخشري.

(يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ) : وهم المؤمنون. وقرأ الجمهور : (وَالظَّالِمِينَ) نصبا بإضمار فعل يفسره قوله : (أَعَدَّ لَهُمْ) ، وتقديره : ويعذب الظالمين ، وهو من باب الاشتغال ، جملة عطف فعلية على جملة فعلية. وقرأ ابن الزبير وأبان بن عثمان وابن أبي عبلة : والظالمون ، عطف جملة اسمية على فعلية ، وهو جائز حسن. وقرأ عبد الله : وللظالمين بلام الجر ، وهو متعلق بأعد لهم توكيدا ، ولا يجوز أن يكون من باب الاشتغال ، ويقدر فعل يفسره الفعل الذي بعده ، فيكون التقدير : وأعد للظالمين أعدّ لهم ، وهذا مذهب الجمهور ، وفيه خلاف ضعيف مذكور في النحو ، فتقول : بزيد مررت به ، ويكون التقدير : مررت بزيد مررت به ، ويكون من باب الاشتغال. والمحفوظ المعروف عن العرب نصب الاسم وتفسير مررت المتأخر ، وما أشبهه من جهة المعنى فعلا ماضيا.

٣٧٠

سورة المرسلات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً (١) فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً (٢) وَالنَّاشِراتِ نَشْراً (٣) فَالْفارِقاتِ فَرْقاً (٤) فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً (٥) عُذْراً أَوْ نُذْراً (٦) إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ (٧) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (٨) وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ (٩) وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ (١٠) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (١١) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (١٢) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (١٣) وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ (١٤) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١٥) أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (١٦) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (١٧) كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (١٨) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١٩) أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (٢٠) فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ (٢١) إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (٢٢) فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ (٢٣) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٢٤) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً (٢٥) أَحْياءً وَأَمْواتاً (٢٦) وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً (٢٧) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٢٨) انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢٩) انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ (٣٠) لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللهَبِ (٣١) إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (٣٢) كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ (٣٣) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٣٤) هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ (٣٥) وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (٣٦) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٣٧) هذا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (٣٨) فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (٣٩)وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٠) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ (٤١) وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٤٢) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٤٣) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي

٣٧١

الْمُحْسِنِينَ (٤٤) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٥) كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (٤٦) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٧) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ (٤٨) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٩) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (٥٠)

فرجت الشيء : فتحته فانفرج ، قال الراجز :

الفارجو باب الأمير المبهم

كفت : ضم وجمع ، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام : «اكفتوا صبيانكم». ومنه قيل ليقبع الغرقد : كفت وكفته ، والكفات اسم لما يكفت ، كالضمام والجماع ؛ يقال : هذا الباب جماع الأبواب ، وقال الصمامة بن الطرماح :

فأنت اليوم فوق الأرض حي

وأنت غدا تضمك في كفات

وقال أبو عبيدة : الكفات : الوعاء. شمخ : ارتفع. الشرر : ما تطاير من النار متبدّدا في كل جهة ، واحده شررة ، ولغة تميم : شرار بالألف واحده شرارة. القصر : الدار الكبيرة المشيدة ، والقصر : قطع من الخشب قدر الذراع وفوقه ودونه يستعد به للشتاء ، واحده قصرة ؛ والقصر ، بفتح الصاد : أعناق الإبل والنخل والناس ، واحده قصرة ؛ وبكسر القاف وفتح الصاد جمع قصرة ، كحلقة من الحديد وحلق ، والله تعالى أعلم.

(وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً ، فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً ، وَالنَّاشِراتِ نَشْراً ، فَالْفارِقاتِ فَرْقاً ، فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً ، عُذْراً أَوْ نُذْراً ، إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ ، فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ ، وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ ، وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ ، وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ ، لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ ، لِيَوْمِ الْفَصْلِ ، وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ ، وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ، أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ ، ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ ، كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ ، وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ، أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ ، فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ ، إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ ، فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ ، وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ، أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً ، أَحْياءً وَأَمْواتاً ، وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً ، وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ).

هذه السورة مكية. وحكي عن ابن عباس وقتادة ومقاتل أن فيها آية مدنية وهي : (وَإِذا قِيلَ : لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ). ومناسبتها لما قبلها ظاهرة جدّا ، وهو أنه تعالى يرحم من يشاء ويعذب الظالمين ، فهذا وعد منه صادق ، فأقسم على وقوعه في هذه فقال : (إِنَّما

٣٧٢

تُوعَدُونَ لَواقِعٌ). ولما كان المقسم به موصوفات قد حذفت وأقيمت صفاتها مقامها ، وقع الخلاف في تعيين تلك الموصوفات. فقال ابن مسعود وأبو هريرة وأبو صالح ومقاتل والفرّاء : (وَالْمُرْسَلاتِ) : الملائكة ، أرسلت بالعرف ضد النكر وهو الوحي ، فبالتعاقب على العباد طرفي النهار. وقال ابن عباس وجماعة : الأنبياء ، ومعنى عرفا : إفضالا من الله تعالى على عباده ، ومنه قول الشاعر :

لا يذهب العرف بين الله والناس

وانتصابه على أنه مفعول له ، أي أرسلن للإحسان والمعروف ، أو متتابعة تشبيها بعرف الفرس في تتابع شعره وأعراف الخيل وتقول العرب : الناس إلى فلان عرف واحد إذا توجهوا إليه متتابعين ، وهم عليه كعرف الضبع إذا تألبوا عليه ، وانتصابه على الحال. وقال ابن مسعود أيضا وابن عباس أيضا ومجاهد وقتادة : الرّياح. وقال الحسن : السحاب. وقرأ الجمهور : (عُرْفاً) بسكون الراء ، وعيسى : بضمها.

(فَالْعاصِفاتِ) ، قال ابن مسعود : الشديدات الهبوب. وقيل : الملائكة تعصف بأرواح الكفار ، أي تزعجها بشدّة ، أو تعصف في مضيها كما تعصف الرّياح تحققا في امتثال أمره. وقيل : هي الآيات المهلكة ، كالزلازل والصواعق والخسوف. (وَالنَّاشِراتِ) ، قال السدّي وأبو صالح ومقاتل : الملائكة تنشر صحف العباد بالأعمال. وقال الربيع : الملائكة تنشر الناس من قبورهم. وقال ابن مسعود والحسن ومجاهد وقتادة : الرّياح تنشر رحمة الله ومطره. وقال أبو صالح : الأمطار تحيي الأرض بالنبات. وقال الضحاك : الصحف تنشر على الله تعالى بأعمال العباد ، فعلى هذا تكون الناشرات على معنى النسب ، أي ذات النشر. (فَالْفارِقاتِ) ، قال ابن عباس وابن مسعود وأبو صالح ومجاهد والضحاك : الملائكة تفرق بين الحق والباطل ، والحلال والحرام. وقال قتادة والحسن وابن كيسان : آيات القرآن فرقت بين الحلال والحرام. وقال مجاهد أيضا : الرّياح تفرق بين السحاب فتبدّده. وقيل : الرسل ، حكاه الزجاج. وقيل : السحاب الماطر تشبيها بالناقة الفاروق ، وهي الحامل التي تجزع حين تضع. وقيل : العقول تفرق بين الحق والباطل ، والصحيح والفاسد. (فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً) ، قال ابن عباس وقتادة والجمهور : الملائكة تلقي ما حملت من الوحي إلى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. وقال قطرب : الرسل تلقي ما أنزل عليها إلى الأمم. وقال الرّبيع : آيات القرآن ألقيت على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٣٧٣

واختار الزمخشري من الأقوال أن تكون (وَالْمُرْسَلاتِ) إلى آخر الأوصاف : إما للملائكة ، وإما للرّياح. فللملائكة تكون عذرا للمحققين ، أو نذرا للمبطلين ؛ وللرّياح يكون المعنى : فألقين ذكرا ، إما عذرا للذين يعتذرون إلى الله تعالى بتوبتهم واستغفارهم إذا رأوا نعمة الله في الغيث ويشكرونها ، وإما إنذارا للذين يغفلون عن الشكر لله وينسبون ذلك إلى الأنواء ، وجعلن ملقيات للذكر لكونهن سببا في حصوله إذا شكرت النعمة فيهن ، أو كفرت ، قاله الزمخشري. والذي أراه أن المقسم به شيئان ، ولذلك جاء العطف بالواو في (وَالنَّاشِراتِ) ، والعطف بالواو يشعر بالتغاير ، بل هو موضوعه في لسان العرب. وأما العطف بالفاء إذا كان في الصفات ، فيدل على أنها راجعة إلى العاديات ، وهي الخيل ؛ وكقوله :

يا لهف زيابة للحارث فالصا

بح فالغانم فالآيب

فهذه راجعة لموصوف واحد وهو الحارث. فإذا تقرر هذا ، فالظاهر أنه أقسم أولا بالرياح ، فهي مرسلاته تعالى ، ويدل عليه عطف الصفة بالفاء ، كما قلنا ، وأن العصف من صفات الريح في عدّة مواضع من القرآن. والقسم الثاني فيه ترق إلى أشرف من المقسم به الأول وهم الملائكة ، ويكون (فَالْفارِقاتِ) ، (فَالْمُلْقِياتِ) من صفاتهم ، كما قلنا في عطف الصفات وإلقاؤهم الذكر ، وهو ما أنزل الله ، يصح إسناده إليهم. وقرأ الجمهور : (فَالْمُلْقِياتِ) اسم فاعل خفيف ، أي نطرقه إليهم ؛ وابن عباس : مشدد من التلقية ، وهي أيضا إيصال الكلام إلى المخاطب. يقال : لقيته الذكر فتلقاه. وقرأ أيضا ابن عباس ، فيما ذكره المهدوي : بفتح اللام والقاف مشددة اسم مفعول ، أي تلقته من قبل الله تعالى.

وقرأ إبراهيم التيمي والنحويان وحفص : (عُذْراً أَوْ نُذْراً) بسكون الذالين ؛ وزيد بن ثابت وابن خارجة وطلحة وأبو جعفر وأبو حيوة وعيسى والحسن : بخلاف ؛ والأعشى ، عن أبي بكر : بضمهما ؛ وأبو جعفر أيضا وشيبة وزيد بن علي والحرميان وابن عامر وأبو بكر : بسكونها في عذرا وضمها في نذرا ، فالسكون على أنهما مصدران مفردان ، أو مصدران جمعان. فعذرا جمع عذير بمعنى المعذرة ، ونذرا جمع نذير بمعنى الإنذار. وانتصابهما على البدل من (ذِكْراً) ، كأنه قيل : فالملقيات عذرا أو نذرا ، أو على المفعول من أجله ، أو على أنهما مصدران في موضع الحال ، أي عاذرين أو منذرين. ويجوز مع الإسكان أن يكونا جمعين على ما قررناه. وقيل : يصح انتصاب (عُذْراً) أو (نُذْراً) على المفعول به بالمصدر الذي هو (ذِكْراً) ، أي فالملقيات ، أي فذكروا عذرا ، وفيه بعد لأن المصدر هنا

٣٧٤

لا يراد به العمل ، إنما يراد به الحقيقة لقوله : أألقى عليه الذكر. والإعذار هي بقيام الحجة على الخلق ، والإنذار هو بالعذاب والنقمة. (إِنَّما تُوعَدُونَ) : أي من الجزاء بالثواب والعقاب ، (لَواقِعٌ) : وما موصولة ، وإن كانت قد كتبت موصولة بأن. وهذه الجملة هي المقسم عليها. وقرأ الجمهور : (أَوْ نُذْراً) بواو التفصيل ؛ وإبراهيم التيمي : ونذرا بواو العطف.

(فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ) : أي أذهب نورها فاستوت مع جرم السماء ، أو عبر عن إلحاق ذواتها بالطمس ، وهو انتثارها وانكدارها ، أو أذهب نورها ثم انتثرت ممحوقة النور. (وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ) : أي صار فيها فروج بانفطار. وقرأ عمرو بن ميمون : طمست ، فرجت ، بشد الميم والراء ؛ والجمهور : بخفهما. (وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ) : أي فرقتها الرياح ، وذلك بعد التسيير وقبل كونها هباء. وقرأ الجمهور : (أُقِّتَتْ) بالهمز وشد القاف ؛ وبتخفيف القاف والهمز النخعي والحسن وعيسى وخالد. وقرأ أبو الأشهب وعمرو بن عبيد وعيسى أيضا وأبو عمرو : بالواو وشد القاف. قال عيسى : وهي لغة سفلى مضر. وعبد الله والحسن وأبو جعفر : بواو واحدة وخف القاف ؛ والحسن أيضا : ووقتت بواوين على وزن فوعلت ، والمعنى : جعل لها وقت منتظر فحان وجاء ، أو بلغت ميقاتها الذي كانت تنتظره وهو يوم القيامة ، والواو في هذا كله أصل والهمزة بدل. قال الزمخشري : ومعنى توقيت الرسل : تبيين وقتها الذي يحضرون فيه للشهادة على أممهم ، وجواب إذا محذوف لدلالة ما قبله عليه وتقديره : إذا كان كذا وكذا وقع ما توعدون. (لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ) : تعظيم لذلك اليوم ، وتعجيب لما يقع فيه من الهول والشدة. والتأجيل من الأجل ، أي ليوم عظيم أخرت ، (لِيَوْمِ الْفَصْلِ) : أي بين الخلائق. (وَيْلٌ) : تقدم الكلام فيه في أول ثاني حزب من سورة البقرة ، يومئذ : يوم إذ طمست النجوم وكان ما بعدها. وقرأ الجمهور : (نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ) بضم النون ، وقتادة : بفتحها. قال الزمخشري : من هلكه بمعنى أهلكه. قال العجاج :

ومهمه هالك من تعرجا

انتهى.

وخرج بعضهم هالك من تعرجا على أن هالكا هو من اللازم ، ومن موصول ، فاستدل به على أن الصفة المشبهة باسم الفاعل قد يكون معمولها موصولا. وقرأ الجمهور : (نُتْبِعُهُمُ) بضم العين على الاستئناف ، وهو وعد لأهل مكة. ويقوي الاستئناف قراءة

٣٧٥

عبد الله : ثم سنتبعهم ، بسين الاستقبال ؛ والأعرج والعباس عن أبي عمرو : بإسكانها ؛ فاحتمل أن يكون معطوفا على (نُهْلِكِ) ، واحتمل أن يكون سكن تخفيفا ، كما سكن (وَما يُشْعِرُكُمْ) ، فهو استئناف. فعلى الاستئناف يكون الأولين الأمم التي تقدمت قريشا أجمعا ، ويكون الآخرين من تأخر من قريش وغيرهم. وعلى التشريك يكون الأولين قوم نوح وإبراهيم عليهما‌السلام ومن كان معهم ، والآخرين قوم فرعون ومن تأخر وقرب من مدة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. والإهلاك هنا إهلاك العذاب والنكال ، ولذلك جاء (كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ) ، فأتى بالصفة المقتضية لإهلاك العذاب وهي الإجرام.

ولما ذكر إفناء الأولين والآخرين ، ذكر ووقف على أصل الخلقة التي يقتضي النظر فيها تجويز البعث ، (مِنْ ماءٍ مَهِينٍ) : أي ضعيف هو مني الرجل والمرأة ، (فِي قَرارٍ مَكِينٍ) : وهو الرحم ، (إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ) : أي عند الله تعالى ، وهو وقت الولادة. وقرأ عليّ بن أبي طالب : فقدرنا بشد الدال من التقدير ، كما قال : (مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ) (١) ؛ وباقي السبعة : بخفها من القدرة؟ وانتصب (أَحْياءً وَأَمْواتاً) بفعل يدل عليه ما قبله ، أي يكفت أحياء على ظهرها ، وأمواتا في بطنها. واستدل بهذا من قال : إن النباش يقطع ، لأن بطن الأرض حرز للكفن ، فإذا نبش وأخذ منه فهو سارق. وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون المعنى : نكفتكم أحياء وأمواتا ، فينتصبا على الحال من الضمير لأنه قد علم أنها كفات الإنس. انتهى. و (رَواسِيَ) : جبالا ثابتات ، (شامِخاتٍ) : مرتفعات ، ومنه شمخ بأنفه : ارتفع ، شبه المعنى بالجرم. (وَأَسْقَيْناكُمْ) : جعلناه سقيا لمزراعكم ومنافعكم.

(انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ، انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ ، لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللهَبِ ، إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ ، كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ ، وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ، هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ ، وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ ، وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ، هذا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ ، فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ ، وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ، إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ ، وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ ، كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ، إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ، وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ، كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ ، وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ، وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ ، وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ، فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ). يقال للمكذبين : (انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) : أي من العذاب. (انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍ) :

__________________

(١) سورة الأنعام : ٦ / ١٠٩.

٣٧٦

أمر ، قراءة الجمهور تكرارا أو بيان للمنطلق إليه. وقرأ رويس عن يعقوب : بفتح اللام على معنى الخبر ، كأنهم لما أمروا امتثلوا فانطلقوا ، إذ لا يمكنهم التأخير ، إذ صاروا مضطرين إلى الانطلاق ؛ (ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ) ، قال عطاء : هو دخان جهنم. وروي أنه يعلو من ثلاثة مواضع ، يظن الكفار أنه مغن من النار ، فيهرعون إليه فيجدونه على أسوإ وصف. وقال ابن عباس : يقال ذلك لعبدة الصليب. فالمؤمنون في ظل الله عزوجل ، وهم في ظل معبودهم وهو الصليب له ثلاث شعب ، والشعب : ما تفرق من جسم واحد. (لا ظَلِيلٍ) : نفي لمحاسن الظل ، (وَلا يُغْنِي) : أي ولا يغني عنهم من حر اللهب شيئا. (إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ) : الضمير في إنها لجهنم. وقرأ الجمهور : (بِشَرَرٍ) ، وعيسى : بشرار بألف بين الراءين ، وابن عباس وابن مقسم كذلك ، إلا أنه كسر الشين ، فاحتمل أن يكون جمع شرر ، أي بشرار من العذاب ، وأن يكون صفة أقيمت مقام موصوفها ، أي بشرار من الناس ، كما تقول : قوم شرار جمع شر غير أفعل التفضيل ، وقوم خيار جمع خير غير أفعل التفضيل ؛ ويؤنث هذا فيقال للمؤنث شرة وخيرة بخلافهما ، إذا كانا للتفضيل ، فلهما أحكام مذكورة في النحو. وقرأ الجمهور : (كَالْقَصْرِ) ؛ وابن عباس وابن جبير ومجاهد والحسن وابن مقسم : بفتح القاف والصاد ؛ وابن جبير أيضا والحسن أيضا : كالقصر ، بكسر القاف وفتح الصاد ؛ وبعض القراء : بفتح القاف وكسر الصاد ؛ وابن مسعود : بضمهما ، كأنه مقصور من القصور ، كما قصروا النجم والنمر من النجوم والنمور ، قال الراجز :

فيها عنابيل أسود ونمر

وتقدم شرح أكثر هذه القراءات في المفردات. وقرأ الجمهور ، ومنهم عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه : جمالات بكسر الجيم وبالألف والتاء ، جمع جمال جمع الجمع وهي الإبل ، كقولهم : رجالات قريش ؛ وابن عباس وقتادة وابن جبير والحسن وأبو رجاء : بخلاف عنهم كذلك ، إلا أنهم ضموا الجيم ، وهي جمال السفن ، الواحد منها جملة لكونه جملة من الطاقات والقوى ، ثم جمع على جمل وجمال ، ثم جمع جمال ثانيا جمع صحة فقالوا : جمالات. وقيل : الجمالات : قلوص الجسور. وقرأ حمزة والكسائي وحفص وأبو عمرو في رواية الأصمعي ، وهارون عنه : جمالة بكسر الجيم ، لحقت جمالا التاء لتأنيث الجمع ، كحجر وحجارة. وقرأ ابن عباس والسلمي والأعمش وأبو حيوة وأبو نحرية وابن أبي عبلة ورويس : كذلك ، إلا أنهم ضموا الجيم. قال ابن عباس وابن جبير : الجمالات : قلوص السفن ، وهي حباله العظام ، إذا اجتمعت مستديرة بعضها إلى بعض

٣٧٧

جاء منها أجرام عظام. وقال ابن عباس أيضا : الجمالات : قطع النحاس الكبار ، وكان اشتقاق هذه من اسم الجملة. وقرأ الحسن : صفر ، بضم الفاء ؛ والجمهور : بإسكانها ، شبه الشرر أولا بالقصر ، وهو الحصن من جهة العظم ومن جهة الطول في الهواء ؛ وثانيا بالجمال لبيان التشبيه. ألا تراهم يشبهون الإبل بالأفدان ، وهي القصور؟ قال الشاعر :

فوقفت فيها ناقتي فكأنها

فدن لأقصى حاجة المتلوم

ومن قرأ بضم الجيم ، فالتشبيه من جهة العظم والطول. والصفرة الفاقعة أشبه بلون الشرر ، قاله الجمهور : وقيل : صفر سود ، وقيل : سود تضرب إلى الصفرة. وقال عمران بن حطان الرقاشي :

دعتهم بأعلى صوتها ورمتهم

بمثل الجمال الصفر نزاعة الشوى

وقرأ الأعمش والأعرج وزيد بن علي وعيسى وأبو حيوة وعاصم في رواية : (هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ) ، بفتح الميم ؛ والجمهور : برفعها. قال ابن عطية : لما أضاف إلى غير متمكن بناه فهي فتحة بناء ، وهي في موضع رفع. وقال صاحب اللوامح : قال عيسى : هي لغة سفلى مضر ، يعني بناءهم يوم مع لا على الفتح ، لأنهم جعلوا يوم مع لا كالاسم الواحد ، فهو في موضع رفع لأنه خبر المبتدأ. انتهى. والجملة المصدرة بمضارع مثبت أو منفي لا يجيز البصريون في الظرف المضاف إليها البناء بوجه ، وإنما هذا مذهب كوفي. قال صاحب اللوامح : ويجوز أن يكون نصبا صحيحا على الظرف ، فيصير هذا إشارة إلى ما تقدمه من الكلام دون إشارة إلى يوم ، ويكون العامل في نصب يوم نداء تقدمه من صفة جهنم ، ورميها بالشرر في يوم لا ينطقون ، فيكون يومئذ كلام معترض لا يمنع من تفريغ العامل للمعمول ، كما كانت (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ، ذَواتا أَفْنانٍ) (١). انتهى. وقال ابن عطية : ويحتمل أن يكون ظرفا ، وتكون الإشارة بهذا إلى رميها بشرر. وقال الزمخشري : ونصبه الأعمش ، أي هذا الذي قص عليكم واقع يومئذ ، وهنا نفي نطقهم. وقد أخبر الله تعالى عنهم أنهم نطقوا في مواضع من هذا اليوم ، وذلك باعتبار طول اليوم ، فيصح أن ينفي القول فيه في وقت ويثبت في وقت ، أو نفي نطقهم بحجة تنفع وجعل نطقهم بما لا ينفع كلا نطق.

__________________

(١) سورة الرحمن : ٥٥ / ٤٧ ـ ٤٨.

٣٧٨

وقرأ القراء كلهم فيما أعلم : (وَلا يُؤْذَنُ) مبنيا للمفعول. وحكى أبو علي الأهوازي أن زيد بن علي قرأ : ولا يأذن ، مبنيا للفاعل ، أي الله تعالى ، (فَيَعْتَذِرُونَ) : عطف على (وَلا يُؤْذَنُ) داخل في حيز نفي الإذن ، أي فلا إذن فاعتذار ، ولم يجعل الاعتذار متسببا عن الإذن فينصب. وقال ابن عطية : ولم ينصب في جواب النفي لتشابه رؤوس الآي ، والوجهان جائزان. انتهى. فجعل امتناع النصب هو تشابه رؤوس الآي وقال : والوجهان جائزان ، فظهر من كلامه استواء الرفع والنصب وأن معناهما واحد ، وليس كذلك لأن الرفع كما ذكرنا لا يكون متسببا بل صريح عطف ، والنصب يكون فيه متسببا فافترقا. وذهب أبو الحجاج الأعلم إلى أن قد يرفع الفعل ويكون معناه المنصوب بعد الفاء وذلك قليل ، وإنما جعل النحويون معنى الرفع غير معنى النصب رعيا للأكثر في كلام العرب ، وجعل دليله ذلك ، وهذه الآية كظاهر كلام ابن عطية ، وقد رد ذلك عليه ابن عصفور وغيره.

(هذا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ) للكفار ، (وَالْأَوَّلِينَ) : قوم نوح عليه‌السلام وغيرهم من الكفار الذين تقدم زمانهم على زمان المخاطبين ، أي جمعناكم للفصل بين السعداء والأشقياء. (فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ) : أي في هذا اليوم ، كما كان لكم في الدنيا ما تكيدون به دين الله وأولياءه ، (فَكِيدُونِ) اليوم ، وهذا تعجيز لهم وتوبيخ. ولما كان في سورة الإنسان ذكر نزرا من أحوال الكفار في الآخرة ، وأطنب في وصف أحوال المؤمنين فيها ، جاء في هذه السورة الإطناب في وصف الكفار والإيجاز في وصف المؤمنين ، فوقع بذلك الاعتدال بين السورتين. وقرأ الجمهور : (فِي ظِلالٍ) جمع ظل ؛ والأعمش : في ظلل جمع ظلة. (كُلُوا وَاشْرَبُوا) : خطاب لهم في الآخرة على إضمار القول ، ويدل عليه (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ). (كُلُوا وَتَمَتَّعُوا) : خطاب للكفار في الدنيا ، (قَلِيلاً) : أي زمانا قليلا ، إذ قصارى أكلكم وتمتعكم الموت ، وهو خطاب تهديد لمن أجرم من قريش وغيرهم.

(وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا) : من قال إنها مكية ، قال هي في قريش ؛ ومن قال إن هذه الآية مدنية ، قال هي في المنافقين. وقال مقاتل : نزلت في ثقيف ، قالوا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : حط عنا الصلاة فإنا لا ننحني إنها مسبة ، فأبى وقال : «لا خير في دين لا صلاة فيه». ومعنى اركعوا : اخشعوا لله وتواضعوا له بقبول وحيه. وقيل : الركوع هنا عبارة عن الصلاة ؛ وخص من أفعالها الركوع ، لأن العرب كانوا يأنفون من الركوع والسجود. وجاه في هذه السورة بعد كل جملة قوله : (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) ، لأن كل جملة منها فيها إخبار الله تعالى عن أشياء من أحوال الآخرة وتقريرات من أحوال الدنيا ، فناسب أن نذكر الوعيد عقيب كل

٣٧٩

جملة منها للمكذب بالويل في يوم الآخرة. والضمير في (بَعْدَهُ) عائد على القرآن ، والمعنى أنه قد تضمن من الإعجاز والبلاغة والإخبار المغيبات وغير ذلك مما احتوى عليه ما لم يتضمنه كتاب إلهي ، فإذا كانوا مكذبين به ، فبأي حديث بعده يصدقون به؟ أي لا يمكن تصديقهم بحديث بعد أن كذبوا بهذا الحديث الذي هو القرآن. وقرأ الجمهور : (يُؤْمِنُونَ) بياء الغيبة ؛ ويعقوب وابن عامر في رواية : بتاء الخطاب.

٣٨٠