البحر المحيط في التّفسير - ج ٩

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التّفسير - ج ٩

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٨٢

لا بد من صنعا وإن طال السفر

وفي قوله : (تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً) دليل على كثرة ذلك منهم. وقرأ عمرو بن عبيد : ورضوانا ، بضم الراء. وقرىء : سيمياهم ، بزيادة ياء والمد ، وهي لغة فصيحة كثيرة في الشعر ، قال الشاعر :

غلام رماه الله بالحسن يافعا

له سيمياء لا تشق على البصر

وهذه السيما ، قال مالك بن أنس : كانت جباههم منيرة من كثرة السجود في التراب. وقال ابن عباس ، وخالد الحنفي ، وعطية : وعد لهم بأن يجعل لهم نورا يوم القيامة من أثر السجود. وقال ابن عباس أيضا : السمت : الحسن وخشوع يبدو على الوجه. وقال الحسن ، ومعمر بن عطية : بياض وصفرة وبهيج يعتري الوجه من السهر. وقال عطاء ، والربيع بن أنس : حسن يعترى وجوه المصلين. وقال منصور : سألت مجاهدا : هذه السيما هي الأثر يكون بين عيني الرجل؟ قال : لا ، وقد تكون مثل ركبة البعير ، وهي أقسى قلبا من الحجارة. وقال ابن جبير : ذلك مما يتعلق بجباههم من الأرض عند السجود. وقال الزمخشري : المراد بها السمة التي تحدث في جبهة السجاد من كثرة السجود. وقوله : (مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ) يفسرها : أي من التأثير الذي يؤثره السجود. وكان كل من العليين ، علي بن الحسين زين العابدين ، وعلي بن عبد الله بن العباس أبي الملوك ، يقال له ذو الثفنات ، لأن كثرة سجودهما أحدثت في مواقعه منهما أشباه ثفنات البعير. انتهى. وقرأ ابن هرمز : إثر ، بكسر الهمزة وسكون الثاء ، والجمهور بفتحهما. وقرأ قتادة : من آثار السجود ، بالجمع.

(ذلِكَ) : أي ذلك الوصف من كونهم أشداء رحماء مبتغين سيماهم في وجوههم صفتهم في التوراة. قال مجاهد والفراء : هو مثل واحد ، أي ذلك صفتهم في التوراة والإنجيل ، فيوقف على الإنجيل. وقال ابن عباس : هما مثلان ، فيوقف على ذلك في التوراة ؛ وكزرع : خبر مبتدأ محذوف ، أي مثلهم كزرع ، أو هم كزرع. وقال الضحاك : المعنى ذلك الوصف هو مثلهم في التوراة وتم الكلام ، ثم ابتدأ ومثلهم في الإنجيل كزرع ، فعلى هذا يكون كزرع خبر ومثلهم. وقال قتادة : مثل أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الإنجيل مكتوب أنه سيخرج من أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم قوم ينبتون نباتا كالزرع ، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر. وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون ذلك إشارة مبهمة أوضحت بقوله : (كَزَرْعٍ

٥٠١

أَخْرَجَ شَطْأَهُ) ، كقوله : (وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ) (١). وقال ابن عطية : وقوله : كزرع ، هو على كلا الأقوال ، وفي أي كتاب أنزل ، فرض مثل للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه في أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث وحده ، فكان كالزرع حبة واحدة ، ثم كثر المسلمون فهم كالشطء ، وهو فراخ السنبلة التي تنبت حول الأصل. انتهى. وقال ابن زيد : شطأه : فراخه وأولاده. وقال الزجاج : نباته. وقال قطرب : شتول السنبل يخرج من الحبة عشر سنبلات وتسع وثمان ، قاله الفراء. وقال الكسائي والأخفش : طرفه ، قال الشاعر :

أخرج الشطء على وجه الثرى

ومن الأشجار أفنان الثمر

وقرأ الجمهور : شطأه ، بإسكان الطاء والهمزة ؛ وابن كثير ، وابن ذكوان : بفتحهما ؛ وكذلك : وبالمدّ ، أبو حيوة وابن أبي عبلة وعيسى الكوفي ؛ وبألف بدل الهمزة ، زيد بن علي ؛ فاحتمل أن يكون مقصورا ، وأن يكون أصله الهمز ، فنقل الحركة وأبدل الهمزة ألفا. كما قالوا في المرأة والكمأة : المراة والكماة ، وهو تخفيف مقيس عند الكوفيين ، وهو عند البصريين شاذ لا يقاس عليه. وقرأ أبو جعفر : شطه ، بحذف الهمزة وإلقاء حركتها على الطاء. ورويت عن شيبة ، ونافع ، والجحدري ، وعن الجحدري أيضا : شطوه بإسكان الطاء وواو بعدها. وقال أبو الفتح : هي لغة أو بدل من الهمزة ، ولا يكون الشط إلا في البر والشعير ، وهذه كلها لغات. وقال صاحب اللوامح : شطأ الزرع وأشطأ ، إذا أخرج فراخه ، وهو في الحنطة والشعير وغيرهما. وقرأ ابن ذكوان : فأزره ثلاثيا ؛ وباقي السبعة : فآزره ، على وزن أفعله. وقرىء : فازّره ، بتشديد الزاي. وقول مجاهد وغيره : آزره فاعله خطأ ، لأنه لم يسمع في مضارعه إلا يؤزر ، على وزن يكرم ؛ والضمير المنصوب في آزره عائد على الزرع ، لأن الزرع أول ما يطلع رقيق الأصل ، فإذا خرجت فراخه غلظ أصله وتقوى ، وكذلك أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كانوا أقلة ضعفاء ، فلما كثروا وتقووا قاتلوا المشركين. وقال الحسن : آزره : قواه وشدّ أزره. وقال السدي : صار مثل الأصل في الطول. (فَاسْتَغْلَظَ) : صار من الرقة إلى الغلظ. (فَاسْتَوى) : أي تم نباته. (عَلى سُوقِهِ) : جمع ساق ، كناية عن أصوله. وقرأ ابن كثير : على سؤقه بالهمز. قيل : وهي لغة ضعيفة يهمزون الواو الذي قبلها ضمة ، ومنه قول الشاعر :

أحب المؤقدين إليّ مؤسي

__________________

(١) سورة الحجر : ١٥ / ٦٦.

٥٠٢

(يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ) : جملة في موضع الحال ؛ وإذا أعجب الزراع ، فهو أحرى أن يعجب غيرهم لأنه لا عيب فيه ، إذ قد أعجب العارفين بعيوب الزرع ، ولو كان معيبا لم يعجبهم ، وهنا تم المثل. و (لِيَغِيظَ) : متعلق بمحذوف يدل عليه الكلام قبله تقديره : جعلهم الله بهذه الصفة (لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ). وقال الزمخشري : فإن قلت : ليغيظ بهم الكفار تعليل لما ذا؟ قلت : لما دل عليه تشبيههم بالزرع من نمائهم وترقيهم في الزيادة والقوّة ، ويجوز أن يعلل به. (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا) : لأن الكفار إذا سمعوا بما أعدّ لهم في الآخرة مع ما يعزهم به في الدنيا غاظهم ذلك. ومعنى : (مِنْهُمْ) : للبيان ، كقوله تعالى : (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ) (١). وقال ابن عطية : وقوله منهم ، لبيان الجنس وليست للتبعيض ، لأنه وعد مدح الجميع. وقال ابن جرير : منهم يعني : من الشطء الذي أخرجه الزرع ، وهم الداخلون في الإسلام بعد الزرع إلى يوم القيامة ، فأعاد الضمير على معنى الشطء لا على لفظه. والأجر العظيم : الجنة. وذكر عند مالك بن أنس رجل ينتقص الصحابة ، فقرأ مالك هذه الآية وقال : من أصبح بين الناس في قلبه غيظ من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقد أصابته هذه الآية ، والله الموفق.

__________________

(١) سورة الحج : ٢٢ / ٣٠.

٥٠٣

سورة الحجرات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (٢) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (٣) إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (٤) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ (٦) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (٧) فَضْلاً مِنَ اللهِ وَنِعْمَةً وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٨) وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٩) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٠) يا أَيُّهَا

٥٠٤

الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (١١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (١٢) يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (١٣) قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (١٥) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللهَ بِدِينِكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٦) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٧) إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٨)

التنابز بالألقاب : التداعي بها ، تفاعل من نبزه ، وبنو فلان يتنابزون ويتنازبون ، ويقال : النبز والنزب لقب السوء. اللقب : هو ما يدعى به الشخص من لفظ غير اسمه وغير كنيته ، وهو قسمان : قبيح ، وهو ما يكرهه الشخص لكونه تقصيرا به وذما ؛ وحسن ، وهو بخلاف ذلك ، كالصديق لأبي بكر ، والفاروق لعمر ، وأسد الله لحمزة ، رضي الله تعالى عنهم. تجسس الأمر : تطلبه وبحث عن خفيه ، تفعل من الجس ، ومنه الجاسوس : وهو الباحث عن العورات ليعلم بها ؛ ويقال لمشاعر الإنسان : الحواس ، بالحاء والجيم. الشعب : الطبقة الأولى من الطبقات الست التي عليها العرب وهي : الشعب ، والقبيلة ، والعمارة ، والبطن ، والفخذ ، والفصيلة. فالشعب يجمع القبائل ؛ والقبيلة تجمع العمائر ؛ والعمارة تجمع البطون ؛ والبطن يجمع الأفخاذ ؛ والفخذ يجمع الفصائل. خزيمة شعب ؛

٥٠٥

وكنانة قبيلة ؛ وقريش عمارة ؛ وقصي بطن ؛ وهاشم فخذ ؛ والعباس فصيلة. وسميت الشعوب ، لأن القبائل تشعبت منها. وروي عن ابن عباس : الشعوب : البطون ، هذا غير ما تمالأ عليه أهل اللغة ، ويأتي خلاف في ذلك عند قوله : (وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً). القبيلة دون الشعب ، شبهت بقبائل الرأس لأنها قطع تقابلت. ألت يألت : بضم اللام وكسرها ألتا ، ولات يليت وألات يليت ، رباعيا ، ثلاث لغات حكاها أبو عبيدة ، والمعنى نقص. وقال رؤبة :

وليلة ذات ندى سريت

ولم يلتني عن سراها ليت

أي : لم يمنعني ولم يحبسني. وقال الحطيئة :

أبلغ سراة بني سعد مغلظة

جهد الرسالة لا ألتا ولا كذبا

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ، يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ ، إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ ، إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ ، وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ، يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ ، وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ ، فَضْلاً مِنَ اللهِ وَنِعْمَةً وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ).

هذه السورة مدنية. ومناسبتها لآخر ما قبلها ظاهرة ، لأنه ذكر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه ، ثم قال : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) (١) ، فربما صدر من المؤمن عامل الصالحات بعض شيء مما ينبغي أن ينهى عنه ، فقال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ).

وكانت عادة العرب ، وهي إلى الآن الاشتراك في الآراء ، وأن يتكلم كل بما شاء ويفعل ما أحب ، فجرى من بعض من لم يتمرن على آداب الشريعة بعض ذلك. قال قتادة : فربما قال قوم : ينبغي أن يكون كذا لو أنزل في كذا. وقال الحسن : ذبح قوم ضحايا قبل

__________________

(١) سورة الفتح : ٤٨ / ٢٩.

٥٠٦

النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفعل قوم في بعض غزواته شيئا بآرائهم ، فنزلت هذه الآية ناهية عن جميع ذلك. فقال ابن عباس : نهوا أن يتكلموا بين يدي كلامه. وتقول العرب : تقدمت في كذا وكذا ، وقدمت إذ قلت فيه.

وقرأ الجمهور : لا تقدموا ، فاحتمل أن يكون متعديا ، وحذف مفعوله ليتناول كل ما يقع في النفس مما تقدم ، فلم يقصد لشيء معين ، بل النهي متعلق بنفس الفعل دون تعرض لمفعول معين ، كقولهم : فلان يعطي ويمنع. واحتمل أن يكون لازما بمعنى تقدم ، كما تقول : وجه بمعنى توجه ، ويكون المحذوف مما يوصل إليه بحرف ، أي لا تتقدّموا في شيء ما من الأشياء ، أو بما يحبون. ويعضد هذا الوجه قراءة ابن عباس وأبي حيوة والضحاك ويعقوب وابن مقسم. لا تقدموا ، بفتح التاء والقاف والدال على اللزوم ، وحذفت التاء تخفيفا ، إذ أصله لا تتقدموا. وقرأ بعض المكيين : تقدموا بشد التاء ، أدغم تاء المضارعة في التاء بعدها ، كقراءة البزي. وقرىء : لا تقدموا ، مضارع قدم ، بكسر الدال ، من القدوم ، أي لا تقدموا إلى أمر من أمور الدين قبل قدومها ، ولا تعجلوا عليها ، والمكان المسامت وجه الرجل قريبا منه. قيل : فيه بين يدي المجلوس إليه توسعا ، لما جاور الجهتين من اليمين واليسار ، وهي في قوله : (بَيْنَ يَدَيِ اللهِ) ، مجاز من مجاز التمثيل. وفائدة تصوير الهجنة والشناعة فيها ؛ نهوا عنه من الإقدام على أمر دون الاهتداء على أمثلة الكتاب والسنة ؛ والمعنى : لا تقطعوا أمرا إلا بعد ما يحكمان به ويأذنان فيه ، فتكونوا عاملين بالوحي المنزل ، أو مقتدين برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهذا ، وعلى هذا مدار تفسير ابن عباس. وقال مجاهد : لا تفتاتوا على الله شيئا حتى يقصه الله على لسان رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفي هذا النهي توطئة لما يأتي بعد من نهيهم عن رفع أصواتهم. ولما نهى أمر بالتقوى ، لأن من التقوى اجتناب المنهي عنه. (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ) لأقوالكم ، (عَلِيمٌ) بنياتكم وأفعالكم.

ثم ناداهم ثانيا ، تحريكا لما يلقيه إليهم ، واستبعادا لما يتجدد من الأحكام ، وتطرية للإنصات. ونزلت بسبب عادة الأعراب من الجفاء وعلو الصوت. (لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ) : أي إذا نطق ونطقتم ، (وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ) إذا كلمتموه ، لأن رتبة النبوة والرسالة يجب أن توقر وتجل ، ولا يكون الكلام مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم كالكلام مع غيره. ولما نزلت ، قال أبو بكر رضي‌الله‌عنه : لا أكلمك يا رسول الله إلا السرار أو أخا السرار حتى ألقى الله. وعن عمر رضي‌الله‌عنه ، أنه كان يكلم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كأخي السرار ، لا يسمعه حتى يستفهمه. وكان أبو بكر ، إذا قدم على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قوم ، أرسل إليهم من يعلمهم كيف يسلمون ، ويأمرهم

٥٠٧

بالسكينة والوقار عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولم يكن الرفع والجهر إلا ما كان في طباعهم ، لا أنه مقصود بذلك الاستخفاف والاستعلاء ، لأنه كان يكون فعلهم ذلك كفرا ، والمخاطبون مؤمنون. (كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ) : أي في عدم المبالاة وقلة الاحترام ، فلم ينهوا إلا عن جهر مخصوص. وكره العلماء رفع الصوت عند قبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبحضرة العالم ، وفي المساجد.

وعن ابن عباس : نزلت في ثابت بن قيس بن شماس ، وكان في أذنه وقر ، وكان جهير الصوت ، وحديثه في انقطاعه في بيته أياما بسبب ذلك مشهور ، وأنه قال : يا رسول الله ، لما أنزلت ، خفت أن يحبط عملي ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنك من أهل الجنة». وقال له مرة : «أما ترضى أن تعيش حميدا وتموت شهيدا»؟ فعاش كذلك ، ثم قتل باليمامة ، رضي الله تعالى عنه يوم مسيلمة. (أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ) : إن كانت الآية معرضة بمن يجهر استخفافا ، فذلك كفر يحبط معه العمل حقيقة ؛ وإن كانت للمؤمن الذي يفعل ذلك غفلة وجريا على عادته ، فإنما يحبط عمله البر في توقير النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وغض الصوت عنده ، أن لو فعل ذلك ، كأنه قال : مخافة أن تحبط الأعمال التي هي معدة أن تعملوها فتؤجروا عليها. وأن تحبط مفعول له ، والعامل فيه ولا تجهروا ، على مذهب البصريين في الاختيار ، ولا ترفعوا على مذهب الكوفيين في الاختيار ، ومع ذلك ، فمن حيث المعنى حبوط العمل علة في كل من الرفع والجهر. وقرأ عبد الله وزيد بن علي : فتحبط بالفاء ، وهو مسبب عن ما قبله.

(إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ) ، قيل : نزلت في أبي بكر وعمر ، رضي الله تعالى عنهما ، لما كان منهما من غض الصوت والبلوغ به أخا السرار. (امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى) : أي جربت ودربت للتقوى ، فهي مضطلعة بها ، أو وضع الامتحان موضع المعرفة ، لأن تحقيق الشيء باختباره ، أي عرف قلوبهم كائنة للتقوى في موضع الحال ، أو ضرب الله قلوبهم بأنواع المحن لأجل التقوى ، أي لتثبت وتظهر تقواها. وقيل : أخلصها للتقوى من قولهم : امتحن الذهب وفتنه إذا أذابه ، فخلص إبريزه من خبثه. وجاءت في هذه الآية إن مؤكدة لمضمون الجملة ، وجعل خبرها جملة من اسم الإشارة الدال على التفخيم والمعرفة بعده ، جائيا بعد ذكر جزائهم على غض أصواتهم. وكل هذا دليل على أن الارتضاء بما فعلوا من توقير النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بغض أصواتهم ، وفيها تعريض بعظيم ما ارتكب رافعو أصواتهم واستيجابهم ضد ما استوجبه هؤلاء.

٥٠٨

(إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ) : نزلت في وفد بني تميم الأقرع بن حابس ، والزبرقان بن بدر ، وعمرو بن الأهتم وغيرهم. وفدوا ودخلوا المسجد وقت الظهيرة ، والرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم راقد ، فجعلوا ينادونه بجملتهم : يا محمد ، اخرج إلينا. فاستيقظ فخرج ، فقال له الأقرع بن حابس : يا محمد ، إن مدحي زين وذمي شين ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ويلك! ذلك الله تعالى». فاجتمع الناس في المسجد فقالوا : نحن بني تميم بخطيبنا وشاعرنا ، نشاعرك ونفاخرك ؛ فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما بالشعر بعثت ، ولا بالفخار أمرت ، ولكن هاتوا». فقال الزبرقان لشاب منهم : فخر واذكر فضل قومك ، فقال : الحمد لله الذي جعلنا خير خلقه ، وآتانا أموالا نفعل فيها ما نشاء ، فنحن من خير أهل الأرض ، من أكثرهم عددا ومالا وسلاحا ، فمن أنكر علينا فليأت بقول هو أحسن من قولنا ، وفعل هو أحسن من فعلنا. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لثابت بن قيس بن شماس ، وكان خطيبه : «قم فأجبه» ، فقال : «الحمد لله أحمده وأستعينه وأومن به وأتوكل عليه ، وأشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، دعا المهاجرين من بني عمه أحسن الناس وجوها وأعظمهم أحلاما فأجابوه ، والحمد لله الذي جعلنا أنصار دينه ووزراء رسوله وعزا لدينه ، فنحن نقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ، فمن قالها منع نفسه وماله ، ومن أباها قتلناه وكان رغمه علينا هينا ، أقول قولي هذا وأستغفر الله للمؤمنين والمؤمنات». وقال الزبرقان لشاب : قم فقل أبياتا تذكر فيها فضل قومك ، فقال :

نحن الكرام فلا حي يعادلنا

فينا الرءوس وفينا يقسم الربع

ونطعم النفس عند القحط كلهم

من السديف إذا لم يؤنس الفزع

إذا أبينا فلا يأبى لنا أحد

إنا كذلك عند الفخر نرتفع

فأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فدعا حسان بن ثابت ، فقال له : «أعدلي قولك فأسمعه» ، فأجابه :

إن الذوائب من فهر وإخوتهم

قد شرعوا سنة للناس تتبع

يوصي بها كل من كانت سريرته

تقوى الإله فكل الخير يطلع

ثم قال حسان في أبيات :

نصرنا رسول الله والدين عنوة

على رغم غاب من معد وحاضر

بضرب كأنواع المخاض مشاشة

وطعن كأفواه اللقاح المصادر

وسل أحدا يوم استقلت جموعهم

بضرب لنا مثل الليوث الخوادر

٥٠٩

ألسنا نخوض الموت في حومة الوغا

إذا طاب ورد الموت بين العساكر

فنضرب هاما بالذراعين ننتمي

إلى حسب من جذع غسان زاهر

فلو لا حياء الله قلنا تكرما

على الناس بالحقين هل من منافر

فأحياؤنا من خير من وطئ الحصا

وأمواتنا من خير أهل المقابر

قال : فقام الأقرع بن حابس فقال : إني والله لقد جئت لأمر ، وقد قلت شعرا فاسمعه ، وقال :

أتيناك كيما يعرف الناس فضلنا

إذا خالفونا عند ذكر المكارم

وإنا رءوس الناس في كل غارة

تكون بنجد أو بأرض التهائم

وأن لنا المرباع في كل معشر

وأن ليس في أرض الحجاز كدارم

فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لحسان : «قم فأجبه» ، فقام وقال :

بني دارم لا تفخروا إن فخركم

يصير وبالا عند ذكر المكارم

هبلتم علينا تفخرون وأنتم

لنا خول من بين ظئر وخادم

فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لقد كنت غنيا يا أخا دارم أن يذكر منك ما ظننت أن الناس قد لتنوه». فكان قوله عليه الصلاة والسلام أشد عليهم من جميع ما قاله حسان ، ثم رجع حسان إلى شعره فقال :

فإن كنتم جئتم لحقن دمائكم

وأموالكم أن تقسموا في المقاسم

فلا تجعلوا لله ندا وأسلموا

ولا تفخروا عند النبي بدارم

وإلا ورب البيت قد مالت القنا

على هامكم بالمرهفات الصوارم

فقال الأقرع بن حابس : والله ما أدري ما هذا الأمر ، تكلم خطيبنا ، فكان خطيبهم أحسن قولا ، وتكلم شاعرنا ، فكان شاعرهم أشعر وأحسن قولا ، ثم دنا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما يضرك ما كان قبل هذا» ، ثم أعطاهم وكساهم.

ومناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة ، وذلك أن المناداة من وراء الحجرات فيها رفع الصوت وإساءة الأدب ، والله قد أمر بتوقير رسوله وتعظيمه. والوراء : الجهة التي يواريها عنك الشخص من خلف أو قدام ، ومن لابتداء الغاية ، وإن المناداة نشأت من ذلك المكان. وقال الزمخشري : فإن قلت : أفرق بين الكلامين ، بين ما تثبت فيه وما تسقط عنه.

٥١٠

قلت : الفرق بينهما : أن المنادى والمنادي في أحدهما يجوز أن يجمعهما الوراء ، وفي الثاني لا يجوز ، لأن الوراء تصير بدخول من مبتدأ الغاية ، ولا يجتمع على الجهة الواحدة أن يكون مبتدأ ومنتهى لفعل واحد. والذي يقول : ناداني فلان من وراء الدار ، لا يريد وجه الدار ولا دبرها ، ولكن أي قطر من أقطارها ، كان مطلقا بغير تعين ولا اختصاص. انتهى. وقد أثبت أصحابنا في معاني من أنها تكون لابتداء الغاية وانتهائها في فعل واحد ، وأن الشيء الواحد يكون محلا لهما. وتأولوا ذلك على سيبويه وقالوا من ذلك قولهم : أخذت الدرهم من زيد ، فزيد محل لابتداء الأخذ منه وانتهائه معا. قالوا : فمن تكون لابتداء الغاية فقط في أكثر المواضع ، وفي بعض المواضع لابتداء الغاية وانتهائها معا. وهذه المناداة التي أنكرت ، ليس إنكارها لكونها وقعت في إدبار الحجرات أو في وجوهها ، وإنما أنكر ذلك لأنهم نادوه من خارج ، مناداة الأجلاف التي ليس فيها توقير ، كما ينادي بعضهم بعضا.

والحجرات : منازل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكانت تسعة. والحجرة : الرفعة من الأرض المحجورة بحائط يحوط عليها. وحظيرة الإبل تسمى حجرة ، وهي فعلة بمعنى مفعولة ، كالغرفة والقبضة. وقرأ الجمهور : الحجرات ، بضم الجيم اتباعا للضمة قبلها ؛ وأبو جعفر ، وشيبة : بفتحها ؛ وابن أبي عبلة : بإسكانها ، وهي لغى ثلاث ، في كل فعلة بشرطها المذكور في علم النحو. والظاهر أن من صدر منه النداء كانوا جماعة. وذكر الأصم أن من ناداه كان الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن ، فإن صح ذلك ، كان الإسناد إلى الجماعة ، لأنهم راضون بذلك ؛ وإذا كانوا جماعة ، احتمل أن يكونوا تفرقوا ، فنادى بعض من وراء هذه الحجرة ، وبعض من وراء هذه ، أو نادوه مجتمعين من وراء حجرة حجرة ، أو كانت الحجرة واحدة ، وهي التي كان فيها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وجمعت إجلالا له ؛ وانتفاء العقل عن أكثرهم دليل على أن فيهم عقلا. وقال الزمخشري : ويحتمل أن يكون الحكم بقلة العقلاء فيهم قصدا إلى نفي أن يكون فيهم من يعقل ، فإن القلة تقع موقع النفي في كلامهم. انتهى. وليس في الآية الحكم بقلة العقل منطوقا به ، فيحتمل النفي ، وإنما هو مفهوم من قوله : (أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ). والنفي المحض المستفاد إنما هو من صريح لفظ التقليل ، لا من المفهوم ، فلا يحمل قوله : (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ*) (١) النفي المحض للشكر ، لأن النفي لم يستفد من صريح التقليل. وهذه الآية سجلت على الذين نادوه بالسفه والجهل.

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٢٤٣.

٥١١

وابتدأ أول السورة بتقديم الأمور التي تنتمي إلى الله تعالى ورسوله على الأمور كلها ، ثم على ما نهى عنه من التقديم بالنهي عن رفع الصوت والجهر ، فكان الأول بساطا للثاني ، ثم يلي بما هو ثناء على الذين امتنعوا من ذلك ، فغضوا أصواتهم دلالة على عظم موقعه عند الله تعالى. ثم جيء على عقبه بما هو أفظع ، وهو الصياح برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حال خلوته ببعض حرمه من وراء الجدار ، كما يصاح بأهون الناس ، ليلبيه على فظاعة ما جسروا عليه ، لأن من رفع الله قدره عن أن يجهر له بالقول ، كان صنيع هؤلاء معه من المنكر المتفاحش. ومن هذا وأمثاله تقتبس محاسن الآداب. كما يحكى عن أبي عبيد ومحله من العلم والزهد وثقة الرواية ما لا يخفى أنه قال : ما دققت بابا على عالم قط حتى يخرج في وقت خروجه.

(وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ) ، قال الزمخشري : (أَنَّهُمْ صَبَرُوا) في موضع الرفع على الفاعلية ، لأن المعنى : ولو ثبت صبرهم. انتهى ، وهذا ليس مذهب سيبويه ، أن أن وما بعدها بعد لو في موضع مبتدأ ، لا في موضع فاعل. ومذهب المبرد أنها في موضع فاعل بفعل محذوف ، كما زعم الزمخشري. واسم كان ضمير يعود على المصدر المفهوم من صبروا ، أي لكان هو ، أي صبرهم خيرا لهم. وقال الزمخشري : في كان ، إما ضمير فاعل الفعل المضمر بعد لو. انتهى ، لأنه قدر أن وما بعدها فاعل بفعل مضمر ، فأعاد الضمير على ذلك الفاعل ، وهو الصبر المنسبك من أن ومعمولها خيرا لهم في الثواب عند الله ، وفي انبساط نفس الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقضائه لحوائجهم. وقد قيل : إنهم جاءوا في أسارى ، فأعتق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم النصف وفادى على النصف ، ولو صبروا لأعتق الجميع بغير فداء. وقيل : لكان صبرهم أحسن لأدبهم. (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ، لن يضيق غفرانه ورحمته عن هؤلاء إن تابوا وأنابوا.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ) الآية ، حدث الحارث بن ضرار قال : قدمت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فدعاني إلى الإسلام ، فأسلمت ، وإلى الزكاة فأقررت بها ، فقلت : أرجع إلى قومي وأدعوهم إلى الإسلام وأداء الزكاة ، فمن أجابني جمعت زكاته ، فترسل من يأتيك بما جمعت. فلما جمع ممن استجاب له ، وبلغ الوقت الذي أراد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يبعث إليه ، واحتبس عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال لسروات قومه : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقت لي وقتا إلى من يقبض الزكاة ، وليس من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الخلف ، ولا أرى حبس الرسول إلا من سخطه. فانطلقوا بها إليه ، وكان عليه‌السلام البعث بعث الوليد بن الحارث ، ففرق ، فرجع فقال : منعني الحارث الزكاة وأراد قتلي ، فضرب

٥١٢

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الحارث ، فاستقبل الحارث البعث وقد فصل من المدينة ، فقالوا : هذا الحارث ، إلى من بعثتم؟ قالوا : إليك قال : ولم؟ فقالوا : بعث إليك الوليد ، فرجع وزعم أنك منعته الزكاة وأردت قتله ، قال : لا والذي بعث محمدا بالحق ما رأيت رسولك ، ولا أتاني ، وما أقبلت إلا حين احتبس عليّ رسولك خشية أن يكون سخطة من الله ورسوله ، قال : فنزلت هذه الآية.

وفاسق وبنبإ مطلقان ، فيتناول اللفظ كل واحد على جهة البدل ، وتقدم قراءة فتبينوا وفتثبتوا في سورة النساء ، وهو أمر يقتضي أن لا يعتمد على كلام الفاسق ، ولا يبنى عليه حكم. وجاء الشرط بحرف إن المقتضي للتعليق في الممكن ، لا بالحرف المقتضي للتحقيق ، وهو إذا ، لأن مجيء الرجل الفاسق للرسول وأصحابه بالكذب ، إنما كان على سبيل الندرة. وأمروا بالتثبت عند مجيئه لئلا يطمع في قبول ما يلقيه إليهم ، ونبا ما يترتب على كلامه. فإذا كانوا بمثابة التبين والتثبت ، كف عن مجيئهم بما يريد. (أَنْ تُصِيبُوا) : مفعول له ، أي كراهة أن يصيبوا ، أو لئلا تصيبوا ، (بِجَهالَةٍ) حال ، أي جاهلين بحقيقة الأمر معتمدين على خبر الفاسق ، (فَتُصْبِحُوا) : فتصيروا ، (عَلى ما فَعَلْتُمْ) : من إصابة القوم بعقوبة بناء على خبر الفاسق ، (نادِمِينَ) : مقيمين على فرط منكم ، متمنين أنه لم يقع. ومفهوم (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ) : قبول كلام غير الفاسق ، وأنه لا يتثبت عنده ، وقد يستدل به على قبول خبر الواحد العدل. وقال قتادة : لما نزلت هذه الآية ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «التثبت من الله والعجلة من الشيطان». وقال مقلد بن سعيد : هذه الآية ترد علي من قال : إن المسلمين كلهم عدول حتى تثبت الجرحة ، لأن الله تعالى أمر بالتبين قبل القبول. انتهى. وليس كما ذكر ، لأنه ما أمر بالتبيين إلا عند مجيء الفاسق ، لا مجيء المسلم ، بل بشرط الفسق. والمجهول الحال يحتمل أن يكون فاسقا ، فالاحتياط لازم.

(وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ) : هذا توبيخ لمن يكذب للرسول عليه الصلاة والسلام ، ووعيد بالنصيحة. ولا يصدر ذلك إلا ممن هو شاك في الرسالة ، لأن الله تعالى لا يترك نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعتمد على خبر الفاسق ، بل بين له ذلك. والظاهر أن قوله : (وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ) كلام تام ، أمرهم بأن يعلموا أن الذي هو بين ظهرانيكم هو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلا تخبروه بما لا يصح ، فإنه رسول الله يطلعه على ذلك.

ثم أخبر تعالى أن رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لو أطاعكم في كثير من الأمر الذي يؤدي إليه اجتهادكم وتقدمكم بين يديه (لَعَنِتُّمْ) : أي لشق عليكم. وقال مقاتل : لأثمتم. وقال الزمخشري :

٥١٣

والجملة المصدرة بلو لا تكون كلاما مستأنفا لأدائه إلى تنافر النظم ، ولكن متصلا بما قبله حالا من أحد الضميرين في فيكم المستتر المرفوع ، أو البارز المجرور ، وكلاهما مذهب سديد ، والمعنى : أن فيكم رسول الله ، وأنتم على حالة يجب عليكم تغييرها ، وهو أنكم تحاولون منه أن يعمل في الحوادث على مقتضى ما يعن لكم من رأي واستصواب فعل المطواع لغيره ، والتابع له فيما يرتئيه المحتذي على أمثلته ، ولو فعل ذلك (لَعَنِتُّمْ) : أي لوقعتم في الجهد والهلاك.

وهذا يدل على أن بعض المؤمنين زينوا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الإيقاع ببني المصطلق ، وتصديق قول الوليد ، وأن نظائر ذلك من الهنات كانت تفرط منهم ، وأن بعضهم كانوا يتصونون ، ويزعهم جدهم في التقوى عن الجسارة على ذلك ، وهم الذين استثناهم بقوله : (وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ) : أي إلى بعضكم ، ولكنه أغنت عن ذكر البعض صفتهم المفارقة لصفة غيرهم ، وهذا من إيجازات القرآن ولمحاته اللطيفة التي لا يفطن إليها إلا الخواص. وعن بعض المفسرين : هم الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى. انتهى ، وفيه تكثير. ولا بعد أن تكون الجملة المصدرة بلو مستأنفة لا حالا ، فلا تعلق لها بما قبلها من جهة الإعراب. وتقديم خبر أن على اسمها قصد إلى توبيخ بعض المؤمنين على ما استهجن من استتباعهم رأي الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لآرائهم ، فوجب تقديمه لانصباب الغرض إليه. وقيل : يطيعكم دون أطاعكم ، للدلالة على أنه كان في إرادتهم استمرار عملهم على ما يستصوبونه ، وأنه كلما عنّ لهم رأي في أمر كان معمولا عليه بدليل قوله في كثير من الأمر ، وشريطة لكن مفقودة من مخالفة ما بعدها لما قبلها من حيث اللفظ ، حاصلة من حيث المعنى ، لأن الذين حبب إليهم الإيمان قد غايرت صفتهم صفة المتقدم ذكرهم فوقعت لكن في حاق موقعها من الاستدراك. انتهى ، وهو ملتقط من كلام الزمخشري.

وقال الزمخشري أيضا : ومعنى تحبيب الله وتكريهه اللطف والإمداد بالتوفيق وسبيله الكناية ، كما سبق وكل ذي لب ، وراجع إلى بصيرة وذهن لا يغبا عليه أن الرجل لا يمدح بفعل غيره. وحمل الآية على ظاهرها يؤدي إلى أن يثني عليهم بفعل الله ، وقد نفى الله هذا عن الذين أنزل فيهم ، ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا. انتهى ، وهي على طريق الاعتزال. وعن الحسن : حبب الإيمان بما وصف من الثناء عليه ، وكره الثلاثة بما وصف من العقاب. انتهى. (أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ) : التفات من الخطاب إلى الغيبة. (فَضْلاً مِنَ اللهِ وَنِعْمَةً) ، قال ابن عطية : مصدر مؤكد لنفسه ، لأن ما قبله هو بمعناه ، إذا التحبيب

٥١٤

والتزيين هو نفس الفضل. وقال الحوفي : فضلا نصب على الحال. انتهى ، ولا يظهر هذا الذي قاله. وقال أبو البقاء : مفعول له ، أو مصدر في معنى ما تقدم. وقال الزمخشري : فضلا مفعول له ، أو مصدر من غير فعله. فإن قلت : من أين جاز وقوعه مفعولا له ، والرشد فعل القوم ، والفضل فعل الله تعالى ، والشرط أن يتحد الفاعل؟ قلت : لما وقع الرشد عبارة عن التحبيب والتزيين والتكريه مسندة إلى اسمه ، تقدست أسماؤه ، وصار الرشد كأنه فعله ، فجاز أن ينتصب عنه ولا ينتصب عن الراشدون ، ولكن عن الفعل المسند إلى اسم الله تعالى.

والجملة التي هي (أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ) اعتراض ، أو عن فعل مقدر ، كأنه قيل : جرى ذلك ، أو كان ذلك فضلا من الله. وأما كونه مصدرا من غير فعله ، فأن يوضع موضع رشدا ، لأن رشدهم فضل من الله لكونهم موفقين فيه ، والفضل والنعمة بمعنى الأفضال والأنعام. (وَاللهُ عَلِيمٌ) بأحوال المؤمنين وما بينهم من التمايز والتفاضل ، (حَكِيمٌ) حين يفضل وينعم بالتوفيق على أفاضلهم. انتهى. أما توجيهه كون فضلا مفعولا من أجله ، فهو على طريق الاعتزال. وأما تقديره أو كان ذلك فضلا ، فليس من مواضع إضمار كان ، ولذلك شرط مذكور في النحو.

(وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ، إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ، يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ، يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ).

سبب نزولها ما جرى بين الأوس والخزرج حين أساء الأدب عبد الله بن أبيّ بن سلول على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو متوجه إلى زيارة سعد بن عبادة في موضعه ، وتعصب بعضهم لعبد الله ، ورد عبد الله بن رواحة على ابن أبي ، فتجالد الحيان ، قيل : بالحديد ، وقيل : بالجريد والنعال والأيدي ، فنزلت ، فقرأها عليهم ، فاصطلحوا. وقال السدّي : وكانت بالمدينة امرأة من الأنصار يقال لها أم بدر ، وكان لها زوج من غيرهم ، فوقع بينهم شيء

٥١٥

أوجب أن يأنف لها قومها وله قومه ، فوقع قتال ، فنزلت الآية بسببه. وقرأ الجمهور : (اقْتَتَلُوا) جمعا ، حملا على المعنى ، لأن الطائفتين في معنى القوم والناس. وقرأ ابن أبي عبلة : اقتتلتا ، على لفظ التثنية ؛ وزيد بن عليّ ، وعبيد بن عمير : اقتتلتا على التثنية ، مراعى بالطائفتين. الفريقان اقتتلوا ، وكل واحد من الطائفتين باغ ؛ فالواجب السعي بينهما بالصلح ، فإن لم تصطلحا وأقامتا على البغي قوتلتا ، أو لشبهة دخلت عليهما ، وكل منهما يعتقد أنه على الحق ؛ فالواجب إزالة الشبه بالحجج النيرة والبراهين القاطعة ، فإن لجا ، فكالباغيتين ؛ (فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما) ، فالواجب أن تقاتل حتى تكف عن البغي. ولم تتعرض الآية من أحكام التي تبغي لشيء إلا لقتالها ، وإلى الإصلاح إن فاءت. والبغي هنا : طلب العلو بغير الحق ، والأمر في فأصلحوا وقاتلوا هو لمن له الأمر من الملوك وولاتهم. وقرأ الجمهور : (حَتَّى تَفِيءَ) ، مضارع فاء بفتح الهمزة ؛ والزهري : حتى تفي ، بغير همزة وفتح الياء ، وهذا شاذ ، كما قالوا في مضارع جاء يجي بغير همز ، فإذا أدخلوا الناصب فتحوا الياء أجروه مجرى يفي مضارع وفي شذوذا.

(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) : أي إخوة في الدين. وفي الحديث : «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله». وقرأ الجمهور : (بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) مثنى ، لأن أقل من يقع بينهم الشقاق اثنان ، فإذا كان الإصلاح لازما بين اثنين ، فهو ألزم بين أكثر من اثنين. وقيل : المراد بالأخوين : الأوس والخزرج. وقرأ زيد بن ثابت ، وابن مسعود ، والحسن : بخلاف عنه ؛ والجحدري ، وثابت البناني ، وحماد بن سلمة ، وابن سيرين : بين إخوانكم جمعا ، بالألف والنون ، والحسن أيضا ، وابن عامر في رواية ، وزيد بن عليّ ، ويعقوب : بين إخوتكم جمعا ، على وزن غلمة. وروى عبد الوهاب عن أبي عمرو القراءات الثلاث ، ويغلب الأخوان في الصداقة ، والإخوة في النسب ، وقد يستعمل كل منهما مكان الآخر ، ومنه (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) ، وقوله : (أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ) (١).

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ) : هذه الآية والتي بعدها تأديب للأمّة ، لما كان فيه أهل الجاهلية من هذه الأوصاف الذميمة التي وقع النهي عنها. وقيل : نزلت بسبب عكرمة بن أبي جهل ، كان يمشي بالنميمة ، وقد أسلم ، فقال له قوم : هذا ابن فرعون هذه الأمة ، فعز ذلك عليه وشكاهم ، فنزلت. وقوم مرادف رجال ، كما قال تعالى : (الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ) (٢) ، ولذلك قابله هنا بقوله : (وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ) ، وفي قول زهير :

__________________

(١) سورة النور : ٢٤ / ٦١.

(٢) سورة النساء : ٤ / ٣٤.

٥١٦

وما أدري وسوف إخال أدري

أقوم آل حصن أم نساء

وقال الزمخشري : وهو في الأصل جمع قائم ، كصوم وزور في جمع صائم وزائر. انتهى وليس فعل من أبنية الجموع إلا على مذهب أبي الحسن في قوله : إن ركبا جمع راكب. وقال أيضا الزمخشري : وأما قولهم في قوم فرعون وقوم عاد : هم الذكور والإناث ، فليس لفظ القوم بمتعاط للفريقين ، ولكن قصد ذكر الذكور وترك ذكر الإناث ، لأنهن توابع لرجالهن. انتهى. وغيره يجعله من باب التغليب والنهي ، ليس مختصا بانصبابه على قوم ونساء بقيد الجمعية من حيث المعنى ، وإن كان ظاهر اللفظ ذلك ، بل المعنى : لا يسخر أحد من أحد ، وإنما ذكر الجمع ، والمراد به كل فرد فرد ممن يتناوله عموم البدل. فكأنه إذا سخر الواحد ، كان بمجلسه ناس يضحكون على قوله ، أو بلغت سخريته ناسا فضحكوا ، فينقلب الحال إلى جماعة. (عَسى أَنْ يَكُونُوا) : أي المسخور منهم ، (خَيْراً مِنْهُمْ) : أي من الساخرين بهم. وهذه الجملة مستأنفة ، وردت مورد جواب المستخبر عن العلة الموجبة لما جاء النهي عنه ، أي ربما يكون المسخور منه عند الله خيرا من الساخر ، لأن العلم بخفيات الأمور إنما هو لله تعالى. وعن ابن مسعود : لو سخرت من كلب ، خشيت أن أحول كلبا.

(وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ) : روي أن عائشة وحفصة ، رضي الله تعالى عنهما ، رأتا أم سلمة ربطت حقويها بثوب أبيض وسدلت طرفه خلفها ، فقالت عائشة لحفصة : انظري إلى ما يجر خلفها ، كأنه لسان كلب. وعن عائشة ، أنها كانت تسخر من زينب بنت خزيمة الهلالية ، وكانت قصيرة. وعن أنس : كان نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعيرن أم سلمة بالقصر. وقالت صفية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يعيرنني ويقلن يا يهودية بنت يهوديين ، فقال لها : هلا قلت إن أبي هارون ، وإن عمي موسى ، وإن زوجي محمد؟ وقرأ عبد الله وأبي : عسوا أن يكونوا ، وعسين أن يكن ، فعسى ناقصة ، والجمهور : عسى فيهما تامّة ، وهي لغتان : الإضمار لغة تميم ، وتركه لغة الحجاز.

(وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ) : ضم الميم في تلمزوا ، الحسن والأعرج وعبيد عن أبي عمرو. وقال أبو عمرو : هي عربية ؛ والجمهور ؛ بالكسر ، واللمز بالقول والإشارة ونحوه مما يفهمه آخر ، والهمز لا يكون إلا باللسان ، والمعنى : لا يعب بعضكم بعضا ، كما قال : فاقتلوا أنفسكم ، كأن المؤمنين نفس واحدة ، إذ هم إخوة كالبنيان يشد بعضه بعضا ، وكالجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى سائره بالسهر والحمى. ومفهوم أنفسكم أن له أن

٥١٧

يعيب غيره ، مما لا يدين بدينه. ففي الحديث : «اذكروا الفاجر بما فيه كي يحذره الناس». وقيل : المعنى لا تفعلوا ما تلمزون به ، لأن من فعل ما استحق اللمز ، فقد لمز نفسه.

(وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ) : اللقب إن دل على ما يكرهه المدعو به ، كان منهيا ، وأما إذا كان حسنا ، فلا ينهى عنه. وما زالت الألقاب الحسنة في الأمم كلها من العرب والعجم تجري في مخاطباتهم ومكاتباتهم من غير نكير. وروي أن بني سلمة كانوا قد كثرت فيهم الألقاب ، فنزلت الآية بسبب ذلك. وفي الحديث : «كنوا أولادكم». قال عطاء : مخافة الألقاب. وعن عمر : «أشيعوا الكنى فإنها سنة». انتهى ، ولا سيما إذا كانت الكنية غريبة ، لا يكاد يشترك فيها أحد مع من تكنى بها في عصره ، فإنه يطير بها ذكره في الآفاق ، وتتهادى أخباره الرفاق ، كما جرى في كنيتي بأبي حيان ، واسمي محمد. فلو كانت كنيتي أبا عبد الله أو أبا بكر ، مما يقع فيه الاشتراك ، لم أشتهر تلك الشهرة ، وأهل بلادنا جزيرة الأندلس كثيرا ما يلقبون الألقاب ، حتى قال فيهم أبو مروان الطنبي :

يا أهل أندلس ما عندكم أدب

بالمشرق الأدب النفاخ بالطيب

يدعى الشباب شيوخا في مجالسهم

والشيخ عندكم يدعى بتلقيب

فمن علماء بلادنا وصالحيهم من يدعى الواعي وباللص وبوجه نافخ ، وكل هذا يحرم تعاطيه. قيل : وليس من هذا قول المحدثين سليمان الأعمش وواصل الأحدب ونحوه مما تدعو الضرورة إليه ، وليس فيه قصد استخفاف ولا أذى. قالوا : وقد قال ابن مسعود لعلقمة : وتقول أنت ذلك يا أعور. وقال ابن زيد : أي لا يقول أحد لأحد يا يهودي بعد إسلامه ، ولا يا فاسق بعد توبته ، ونحو ذلك. وتلاحى ابن أبي حدرد وكعب بن مالك ، فقال له مالك : يا أعرابي ، يريد أن يبعده من الهجرة ، فقال له الآخر : يا يهودي ، يريد المخاطبة لليهود في يثرب.

(بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ) : أي بئس اسم تنسبونه بعصيانكم نبزكم بالألقاب ، فتكونون فساقا بالمعصية بعد إيمانكم ، أو بئس ما يقوله الرجل لأخيه يا فاسق بعد إيمانه. وقال الرماني : هذه الآية تدل على أنه لا يجتمع الفسوق والإيمان. انتهى. وقال الزمخشري : نحو قول الرماني ، قال : استقباح الجمع بعد الإيمان ، والفسق الذي يأباه الإيمان ، وهذه نزغة اعتزالية. وقال الزمخشري : الاسم هاهنا بمعنى الذكر من قولهم : طار اسمه في الناس بالكرم أو باللوم ، كما يقال : طار ثناؤه وصيته وحقيقة ما سمي من ذكره

٥١٨

وارتفع بين الناس ، كأنه قيل : بئس الذكر المرتفع للمؤمنين بسبب ارتكاب هذه الجرائم أن تذكروا بالفسق. (وَمَنْ لَمْ يَتُبْ) : أي عن هذه الأشياء (فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) : تشديد وحكم بظلم من لم يتب.

(اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِ) : أي لا تعملوا على حسبه ، وأمر تعالى باجتنابه ، لئلا يجترىء أحد على ظن إلا بعد نظر وتأمل وتمييز بين حقه وباطله. والمأمور باجتنابه هو بعض الظن المحكوم عليه بأنه إثم ، وتمييز المجتنب من غيره أنه لا يعرف له أمارة صحيحة وسبب ظاهر ، كمن يتعاطى الريب والمجاهرة بالخبائث ، كالدخول والخروج إلى حانات الخمر ، وصحبة نساء المغاني ، وإدمان النظر إلى المرد. فمثل هذا يقوي الظن فيه أنه ليس من أهل الصلاح ، ولا إثم فيه ، وإن كنا لا نراه يشرب الخمر ، ولا يزني ، ولا يعبث بالشبان ، بخلاف من ظاهره الصلاح فلا يظن به السوء. فهذا هو المنهي عنه ، ويجب أن يزيله. والإثم : الذنب الذي يستحق صاحبه العقاب. وقال الزمخشري : والهمزة فيه بدل عن الواو ، كأنه يثم الأعمال ، أي يكسرها بإحباطه ، وهذا ليس بشيء ، لأن تصريف هذه الكلمة مستعمل فيه الهمز. تقول : أثم يأثم فهو آثم ، والإثم والآثام ، فالهمزة أصل وليست بدلا عن واو. وأما يثم فأصله يوثم ، وهو من مادة أخرى. وقيل : الإثم متعلق بتكلم الظان. أما إذا لم يتكلم ، فهو في فسحة ، لأنه لا يقدر على رفع الخواطر التي يبيحها قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الحزم سوء الظن». وقرأ الجمهور : ولا تجسسوا بالجيم. وقرأ الحسن وأبو رجاء وابن سيرين بالحاء وهما متقاربان ، نهى عن تتبع عورات المسلمين ومعايبهم والاستكشاف عما ستروه. وقيل لابن مسعود : هل لك في فلان تقطر لحيته خمرا؟ فقال : إنا قد نهينا عن التجسس ، فإن ظهر لنا شيء أخذنا به. وفي الحديث : «أن الأمير إذا ابتغى الريبة في الناس أفسدهم» ، وقد وقع عمر رضي الله تعالى عنه في حراسته على من كان في ظاهره ريبة ، وكان دخل عليه هجما ، فلما ذكر له نهي الله تعالى عن التجسس ، انصرف عمر.

(وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) ، يقال : غابه واغتابه ، كغاله واغتاله ؛ والغيبة من الاغتياب ، كالغيلة من الاغتيال ، وهي ذكر الرجل بما يكره مما هو فيه. وفي الحديث : «سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما الغيبة فقال : أن تذكر من المرء ما يكره أن يسمع ، فقال : يا رسول الله وإن كان حقا؟ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إذا قلت باطلا فذلك البهتان» ، وفي الصحيحين فقد بهته. وقال ابن عباس : الغيبة أدام كلاب الناس. وقالت عائشة عن امرأة : ما رأيت أجمل

٥١٩

منها ، إلا أنها قصيرة. فقال لها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «اغتبتيها ، نظرت إلى أسوأ ما فيها فذكرتيه». وحكى الزهراوي عن جابر ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «الغيبة أشد من الزنا ، لأن الزاني يتوب الله عليه ، والذي يغتاب فلا يتاب عليه حتى يستحل ، وعرض المسلم مثل دمه في التحريم». وفي الحديث المستفيض : «فإن الله حرم عليكم دماءكم وأموالكم وأعراضكم». ولا يباح من هذا المعنى إلا ما تدعو الضرورة إليه ، من تجريح الشهود والرواة ، والخطاب إذا استنصح من يخطب إليه من يعرفهم ، والعرب تشبه الغيبة بأكل اللحم ، ومنه :

وإن أكلوا لحمي وفرت لحومهم

(أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ) ، قال الزمخشري : تمثيل وتصوير لما يناله المغتاب من عرض المغتاب على أفظع وجه وأفحشه ، وفيه مبالغات شتى ، منها : الاستفهام الذي معناه التقرير ، ومنها : جعل ما هو في الغاية من الكراهة موصولا بالمحبة ، ومنها : إسناد الفعل إلى أحدكم والإشعار بأن أحدا من الأحدين لا يحب ذلك ، ومنها : أنه لم يقتصر على تمثيل الاغتياب بأكل لحم الإنسان حتى جعل الإنسان أخا ، ومنها : أنه لم يقتصر على أكل لحم الأخ حتى جعله ميتا. انتهى. وقال الرماني : كراهية هذا اللحم يدعو إليه الطبع ، وكراهية الغيبة يدعو إليها العقل ، وهو أحق أن يجاب ، لأنه بصير عالم ، والطبع أعمى جاهل. انتهى. وقال أبو زيد السهيلي : ضرب المثل لأخذه العرض بأكل اللحم ، لأن اللحم ستر على العظم ، والشاتم لأخيه كأنه يقشر ويكشف ما عليه من ستر.

وقال تعالى : (مَيْتاً) ، لأن الميت لا يحس ، وكذلك الغائب لا يسمع ما يقول فيه المغتاب ، ثم هو في التحريم كآكل لحم الميت. انتهى. وروي في الحديث : «ما صام من أكل لحوم الناس». وقال أبو قلابة الرياشي : سمعت أبا عاصم يقول : ما اغتبت أحدا منذ عرفت ما في الغيبة. وقيل : لعمر بن عبيد : لقد وقع فيك فلان حتى رحمناك ، قال : إياه فارحموا. وقال رجل للحسن : بلغني أنك تغتابني ، قال : لم يبلغ قدرك عندي أن أحكمك في حسناتي. وانتصب ميتا على الحال من لحم ، وأجاز الزمخشري أن ينتصب عن الأخ ، وهو ضعيف ، لأن المجرور بالإضافة لا يجيء الحال منه إلا إذا كان له موضع من الإعراب ، نحو : أعجبني ركوب الفرس مسرجا ، وقيام زيد مسرعا. فالفرس في موضع نصب ، وزيد في موضع رفع. وقد أجاز بعض أصحابنا أنه إذا كان الأول جزأ أو كالجزء ، جاز انتصاب الحال من الثاني ، وقد رددنا عليه ذلك فيما كتبناه في علم النحو.

٥٢٠