البحر المحيط في التّفسير - ج ٩

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التّفسير - ج ٩

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٨٢

المقتين الأول في الدنيا والآخرة هو قول مجاهد وقتادة وابن زيد والأكثرين ، وتقدم لنا أن منهم من قال في الآخرة ، وهو قول الحسن. قال الزمخشري : وعن الحسن لما رأوا أعمالهم الخبيثة مقتوا أنفسهم فنودوا : (لَمَقْتُ اللهِ). وقيل : معناه لمقت الله إياكم الآن أكبر من مقت بعضكم لبعض ، كقوله تعالى : (يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) (١) ، و (إِذْ تُدْعَوْنَ) تعليل. انتهى. وكان قوله : (إِذْ تُدْعَوْنَ) تعليل من كلام الزمخشري. وقال قوم : إذ تدعون معمول ، لأذكر محذوفة ، ويتجه ذلك على أن يكون مقت الله إياهم في الآخرة ، على قول الحسن ، قيل لهم ذلك توبيخا وتقريعا وتنبيها على ما فاتهم من الإيمان والثواب. ويحتمل أن يكون قوله : من مقت أنفسكم ، أن كل واحد يمقت نفسه ، أو أن بعضكم يمقت بعضا ، كما قيل : إن الأتباع يمقتون الرؤساء لما ورطوهم فيه من الكفر ، والرؤساء يمقتون الأتباع ، وقيل : يمقتون أنفسهم حين قال لهم الشيطان : (فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ) ، والمقت أشد البغض ، وهو مستحيل في حق الله تعالى ، فمعناه : الإنكار والزجر.

(قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ) : وجه اتصال هذه بما قبلها أنهم كانوا ينكرون البعث ، وعظم مقتهم أنفسهم هذا الإنكار ، فلما مقتوا أنفسهم ورأوا حزنا طويلا رجعوا إلى الإقرار بالبعث ، فأقروا أنه تعالى أماتهم اثنتين وأحياهم اثنتين تعظيما لقدرته وتوسلا إلى رضاه ، ثم أطمعوا أنفسهم بالاعتراف بالذنوب أن يردوا إلى الدنيا ، أي إن رجعنا إلى الدنيا ودعينا للإيمان بادرنا إليه. وقال ابن عباس ، وقتادة ، والضحاك ، وأبو مالك : موتهم كونهم ماء في الأصلاب ، ثم إحياؤهم في الدنيا ، ثم موتهم فيها ، ثم إحياؤهم يوم القيامة. وقال السدي : إحياؤهم في الدنيا ، ثم إماتتهم فيها ، ثم إحياؤهم في القبر لسؤال الملكين ، ثم إماتتهم فيه ، ثم إحياؤهم في الحشر. وقال ابن زيد : إحياؤهم نسما عند أخذ العهد عليهم من صلب آدم ، ثم إماتتهم بعد ، ثم إحياؤهم في الدنيا ، ثم إماتتهم ، ثم إحياؤهم ، فعلى هذا والذي قبله تكون ثلاثة إحياءات ، وهو خلاف القرآن. وقال محمد بن كعب : الكافر في الدنيا حي الجسد ، ميت القلب ، فاعتبرت الحالتان ، ثم إماتتهم حقيقة ، ثم إحياؤهم في البعث ، وتقدم الكلام في أول البقرة على الإماتتين والإحياءين في قوله : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً) (٢) الآية ، وكررنا ذلك هنا لبعد ما بين الموضعين. قال الزمخشري : فإن قلت : كيف صح أن يسمي خلقهم أمواتا إماتة؟ قلت : كما صح أن يقول : سبحان من

__________________

(١) سورة العنكبوت : ٢٩ / ٢٥.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ٢٨.

٢٤١

صغر جسم البعوضة وكبر جسم الفيل ، وقولك للحفار ضيق فم الركية ووسع أسفلها ، وليس ثم نقل من كبر إلى صغر ، ولا من صغر إلى كبر ، ولا من ضيق إلى سعة ، ولا من سعة إلى ضيق ، وإنما أردت الإنشاء على تلك الصفات. والسبب في صحته أن الصغر والكبر جائزان معا على المصنوع الواحد من غير ترجيح لأحدهما ، وكذلك الضيق والسعة ، فإذا اختار الصانع أحد الجائزين ، وهو متمكن منهما على السواء ، فقد صرف المصنوع إلى الجائز الآخر ، فجعل صرفه عنه كنقله منه. انتهى. يعني أن خلقهم أمواتا ، كأنه نقل من الحياة وهو الجائز الآخر. وظاهر (فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا) أنه متسبب عن قبولهم.

(رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ) ، وثم محذوف ، أي فعرفنا قدرتك على الإماتة والإحياء ، وزال إنكارنا للبعث ، (فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا) السابقة من إنكار البعث وغيره. (فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ) : أي سريع أو بطيء من النار ، (مِنْ سَبِيلٍ) : وهذا سؤال من يئس من الخروج ، ولكنه تعلل وتحير. (ذلِكُمْ) : الظاهر أن الخطاب للكفار في الآخرة ، والإشارة إلى العذاب الذي هم فيه ، أو إلى مقتهم أنفسهم ، أو إلى المنع من الخروج والزجر والإهانة ، احتمالات. قوله. وقيل : الخطاب لمحاضري رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والضمير في فإنه ضمير الشأن. (إِذا دُعِيَ اللهُ وَحْدَهُ) : أي إذا أفرد بالإلهية ونفيت عن سواه ، (كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ) : أي ذكرت اللات والعزى وأمثالها من الأصنام صدقتم بألوهيتها وسكنت نفوسكم إليها. (فَالْحُكْمُ) بعذابكم ، (لِلَّهِ) ، لا لتلك الأصنام التي أشركتمها مع الله ، (الْعَلِيِ) عن الشرك ، (الْكَبِيرِ) : العظيم الكبرياء. وقال محمد بن كعب : لأهل النار خمس دعوات ، يكلمهم الله في الأربعة ، فإذا كانت الخامسة سكتوا. (قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ) الآية ، وفي إبراهيم : (رَبَّنا أَخِّرْنا) (١) الآية ، وفي السجدة : (رَبَّنا أَبْصَرْنا) (٢) الآية ، وفي فاطر : (رَبَّنا أَخْرِجْنا) (٣) الآية ، وفي المؤمنون : (رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا) (٤) الآية ، فراجعهم اخسؤا فيها ولا تكلمون ، قال : فكان آخر كلامهم ذلك.

ولما ذكر تعالى ما يوجب التهديد الشديد في حق المشركين ، أردفه بذكر ما يدل على كمال قدرته وحكمته ، ليصير ذلك دليلا على أنه لا يجوز جعل الأحجار المنحوتة والخشب المعبودة شركاء لله ، فقال : (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ) ، أيها الناس ، ويشمل آيات قدرته من الريح السحاب والرعد والبرق والصواعق ونحوها من الآثار العلوية ، وآيات كتابه المشتمل

__________________

(١) سورة إبراهيم : ١٤ / ٤٤.

(٢) سورة السجدة : ٣٢ / ١٢.

(٣) سورة فاطر : ٣٥ / ٣٧.

(٤) سورة المؤمنون : ٢٣ / ١٠٦.

٢٤٢

على الأولين والآخرين ، وآيات الإعجاز على أيدي رسله. وهذه الآيات راجعة إلى نور العقل الداعي إلى توحيد الله. ثم قال : (وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً) ، وهو المطر الذي هو سبب قوام بنية البدن ، فتلك الآيات للأديان كهذا الرزق للأبدان. (وَما يَتَذَكَّرُ) : أي يتعظ ويعتبر ، وجعله تذكرا لأنه مركوز في العقول دلائل التوحيد ، ثم قد يعرض الاشتغال بعبادة غير الله فيمنع من تجلى نور العقل ، فإذا تاب إلى الله تذكر.

(فَادْعُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ ، رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ ، يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ ، الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ ، وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ ، يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ ، وَاللهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ، أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ ، ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ).

الأمر بقوله : (فَادْعُوا اللهَ) للمنيبين المؤمنين أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أي اعبدوه ، (مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) من الشرك على كل حال ، حتى في حال غيظ أعدائكم المتمالئين عليكم وعلى استئصالكم. ورفيع : خبر مبتدأ محذوف. وقال الزمخشري : ثلاثة أخبار مترتبة على قوله : (الَّذِي يُرِيكُمْ) (١) ، أو أخبار مبتدأ محذوف ، وهي مختلفة تعريفا وتنكيرا. انتهى. أما ترتبها على قوله : (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ) ، فبعيد كطول الفصل ، وأما كونها أخبارا لمبتدأ محذوف ، فمبني على جواز تعدد الأخبار ، إذا لم تكن في معنى خبر واحد ، والمنع اختيار أصحابنا. وقرىء : رفيع بالنصب على المدح ، واحتمل أن يكون رفيع للمبالغة على فعيل من رافع ، فيكون الدرجات مفعولة ، أي رافع درجات المؤمنين ومنازلهم في الجنة. وبه فسر ابن سلام ، أو عبر بالدرجات عن السموات ، أرفعها سماء فوق سماء ، والعرش فوقهنّ. وبه فسر ابن جبير ، واحتمل أن يكون رفيع فعيلا من رفع الشيء علا فهو رفيع ، فيكون من باب الصفة المشبهة ، والدرجات : المصاعد الملائكة إلى أن تبلغ العرش ، أضيفت إليه دلالة على عزه وسلطانه ، أي درجات ملائكته ، كما وصفه بقوله :

__________________

(١) سورة الرعد : ١٣ / ١٢.

٢٤٣

(ذِي الْمَعارِجِ) (١) ، أو يكون ذلك عبارة عن رفعه شأنه وعلو سلطانه. كما أن قوله : (ذُو الْعَرْشِ) عبارة عن ملكه ، وبنحوه فسر ابن زيد قال : عظيم الصفات. و (الرُّوحَ) : النبوة ، قاله قتادة والسدي ، كما قال : (رُوحاً مِنْ أَمْرِنا) (٢) ؛ وعن قتادة أيضا : الوحي. وقال ابن عباس : القرآن ، وقال الضحاك : جبريل يرسله لمن يشاء. وقيل : الرحمة ، وقيل : أرواح العباد ، وهذان القولان ضعيفان ، والأولى الوحي ، استعير له الروح لحياة الأديان المرضية به ، كما قال : (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ) (٣). وقال ابن عطية : ويحتمل أن يكون إلقاء الروح عامل لكل ما ينعم الله به على عباده المهتدين في تفهيم الإيمان والمعقولات الشريفة. انتهى. وقال الزجاج : الروح : كل ما به حياة الناس ، وكل مهتد حي ، وكل ضال ميت. انتهى. وقال ابن عباس : (مِنْ أَمْرِهِ) : من قضائه. وقال مقاتل : بأمره ، وحكى الشعبي من قوله ، ويظهر أن من لابتداء الغاية.

وقرأ الجمهور : (لِيُنْذِرَ) مبنيا للفاعل ، (يَوْمَ) بالنصب ، والظاهر أن الفاعل يعود على الله ، لأنه هو المحدث عنه. واحتمل يوم أن يكون مفعولا على السعة ، وأن يكون ظرفا ، والمنذر به محذوف. وقرأ أبيّ وجماعة : كذلك ، إلا أنهم رفعوا يوم على الفاعلية مجازا. وقيل : الفاعل في القراءة الأولى ضمير الروح. وقيل : ضمير من. وقرأ اليماني فيما ذكر صاحب اللوامح : لينذر مبنيا للمفعول ، يوم التلاق ، برفع الميم. وقرأ الحسن واليماني فيما ذكر ابن خالويه : لتنذر بالتاء ، فقالوا : الفاعل ضمير الروح ، لأنها تؤنث ، أو فيه ضمير الخطاب الموصول. وقرىء : التلاق والتناد ، بياء وبغير ياء ، وسمي يوم التلاق لالتقاء الخلائق فيه ، قاله ابن عباس. وقال قتادة ومقاتل : يلتقي فيه الخالق والمخلوق. وقال ميمون بن مهران : يلتقي فيه الظالم والمظلوم. وحكى الثعلبي : يلتقي المرء بعلمه. وقال السدّي : يلاقي أهل السماء أهل الأرض. وقيل : يلتقي العابدون ومعبودهم. (يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ) : أي ظاهرون من قبورهم ، لا يسترهم شيء من جبل أو أكمة أو بناء ، لأن الأرض إذ ذاك قاع صفصف ، ولا من ثياب ، لأنهم يحشرون حفاة عراة. ويوما بدل من يوم التلاق ، وكلاهما ظرف مستقبل. والظرف المستقبل عند سيبويه لا يجوز إضافته إلى الجملة الاسمية ، لا يجوز : أجيئك يوم زيد ذاهب ، إجراء له مجرى إذا ، فكما لا يجوز أن تقول :

__________________

(١) سورة المعارج : ٧٠ / ٣.

(٢) سورة الشورى : ٤٢ / ٥٢.

(٣) سورة الأنعام : ٦ / ١٢٢.

٢٤٤

أجيئك إذا زيد ذاهب ، فكذلك لا يجوز هذا. وذهب أبو الحسن إلى جواز ذلك ، فيتخرج قوله : (يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ) على هذا المذهب. وقد أجاز ذلك بعض أصحابنا على قلة ، والدلائل مذكورة في علم النحو. وقال ابن عطية : ويحتمل أن يكون انتصابه على الظرف ، والعامل فيه قوله : (لا يَخْفى) ، وهي حركة إعراب لا حركة بناء ، لأن الظرف لا يبنى إلا إذا أضيف إلى غير متمكن ، كيومئذ. وقال الشاعر :

على حين عاتبت المشيب على الصبا

وكقوله تعالى : (هذا يَوْمُ يَنْفَعُ) (١). وأما في هذه الآية فالجملة اسم متمكن ، كما تقول : جئت يوم زيد أمير ، فلا يجوز البناء. انتهى. يعني أن ينتصب على الظرف قوله : (يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ). وأما قوله لا يبنى إلا إذا أضيف إلى غير متمكن ، فالبناء ليس متحتما ، بل يجوز فيه البناء والإعراب. وأما تمثيله بيوم ينفع ، فمذهب البصريين أنه لا يجوز فيه إلا الإعراب ، ومذهب الكوفيين جواز البناء والإعراب فيه. وأما إذا أضيف إلى جملة اسمية ، كما مثل من قوله : جئت يوم زيد أمير ، فالنقل عن البصريين تحتم الإعراب ، كما ذكر ، والنقل عن الكوفيين جواز الإعراب والبناء. وذهب إليه بعض أصحابنا ، وهو الصحيح لكثرة شواهد البناء على ذلك. ووقع في بعض تصانيف أصحابنا أنه يتحتم فيه البناء ، وهذا قول لم يذهب إليه أحد ، فهو وهم. (لا يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ) : أي من سرائرهم وبواطنهم. قال ابن عباس : إذا هلك من في السموات ومن في الأرض ، فلم يبق إلا الله قال : (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ) ، فلا يجيبه أحد ، فيرد على نفسه : (لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ). وقال ابن مسعود : يجمع الله الخلائق يوم القيامة في صعيد بأرض بيضاء ، كأنها سبيكة فضة لم يعص الله فيها قط ، فأول ما يتكلم به أن ينادي مناد : (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ)؟ فيجيبوا كلهم : (لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ). روي أنه تعالى يقرر هذا التقرير ويسكت العالم هيبة وجزعا ، فيجيب نفسه بقوله : (لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) ، فيجيب الناس ، وإنما خص التقرير باليوم ، وإن كان الملك له تعالى في ذلك اليوم وفي غيره ، لظهور ذلك للكفرة والجهلة ووضوحه يوم القيامة.

وإذا تأمّل من له مسكة عقل تسخير أهل السموات الأرض ، ونفوذ القضاء فيهم ، وتيقن أن لا ملك إلا لله ، ومن نتائج ملكه في ذلك اليوم جزاء كل نفس بما كسبت ، وانتفاء

__________________

(١) سورة المائدة : ٥ / ١١٩.

٢٤٥

الظلم ، وسرعة الحساب ، إن حسابهم في وقت واحد لا يشغله حساب عن حساب. قال ابن عطية : وهذه الآية نص في أن الثواب والعقاب معلق باكتساب العبد. انتهى ، وهو على طريقة الأشعرية. وروي أن يوم القيامة لا ينتصف حتى يقيل المؤمنون في الجنة والكافرون في النار. و (يَوْمَ الْآزِفَةِ) : هو يوم القيامة ، يأمر تعالى نبيه أن ينذر العالم ويحذرهم منه ومن أهواله ، قاله مجاهد وابن زيد. والآزفة صفة لمحذوف تقديره يوم الساعة الآزفة ، أو الطامة الآزفة ونحو هذا. ولما اعتقب كل إنذار نوعا من الشدة والخوف وغيرهما ، حسن التكرار في الآزفة القريبة ، كما تقدم ، وهي مشارفتهم دخول النار ، فإنه إذ ذاك تزيغ القلوب عن مقارها من شدة الخوف. وقال أبو مسلم : يوم الآزفة : يوم المنية وحضور الأجل ، يدل عليه أنه يعدل وصف يوم القيامة بأنه يوم التلاق ، ويوم بروزهم ، فوجب أن يكون هذا اليوم غيره ، وهذه الصفة مخصوصة في سائر الآيات ، يوم الموت بالقرب أولى من وصف يوم القيامة بالقرب ، وأيضا فالصفات المذكورة بعد قوله : (يَوْمَ الْآزِفَةِ) ، لائقة بيوم حضور المنية ، لأن الرجل عند معاينة ملائكة العذاب لعظم خوفه ، يكاد قلبه يبلغ حنجرته من شدّة الخوف ، ولا يكون له حميم ولا شفيع يرفع عنه ما به من أنواع الخوف.

(إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ) ، قيل : يجوز أن يكون ذلك يوم القيامة حقيقة ، ويبقون أحياء مع ذلك بخلاف حالة الدنيا ، فإن من انتقل قلبه إلى حنجرته مات ، ويجوز أن يكون ذلك كناية عن ما يبلغون إليه من شدة الجزع ، كما تقول : كادت نفسي أن تخرج ، وانتصب كاظمين على الحال. قال الزمخشري : هو حال عن أصحاب القلوب على المعنى ، إذ المعنى : إذ قلوبهم لدى حناجرهم كاظمين عليها ، ويجوز أن تكون حالا عن القلوب ، وأن القلوب كاظمة على غم وكرب فيها ، مع بلوغها الحناجر. وإنما جمع الكاظم جمع السلامة ، لأنه وصفها بالكظم الذي هو من أفعال العقلاء ، كما قال : (رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ) (١). وقال : فظلت أعناقهم لها خاضعين ، ويعضده قراءة من قرأ : كاظمون ، ويجوز أن يكون حالا عن قوله : أي وانذرهم مقدرين. وقال ابن عطية : كاظمين حال ، مما أبدل منه قوله تعالى : (تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ مُهْطِعِينَ) (٢) : أراد تشخص فيه أبصارهم ، وقال الحوفي : القلوب رفع بالإبتداء ، ولدي الحناجر الخبر متعلق بمعنى الاستقرار. وقال أبو البقاء : كاظمين حال من القلوب ، لأن المراد أصحابها. انتهى. (ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ) : أي مجب مشفق ، ولا شفيع يطاع في موضع الصفة لشفيع ، فاحتمل أن يكون في

__________________

(١) سورة يوسف : ١٢ / ٤.

(٢) سورة إبراهيم : ١٤ / ٤٢ ـ ٤٣.

٢٤٦

موضع خفض على اللفظ ، وفي موضع رفع على الموضع ، واحتمل أن ينسحب النفي على الوصف فقط ، فيكون من شفيع ، ولكنه لا يطاع ، أي لا تقبل شفاعته ، واحتمل أن ينسحب النفي على الموصوف وصفته : أي لا شفيع فيطاع ، وهذا هو المقصود في الآية أن الشفيع عند الله إنما يكون من أوليائه تعالى ، ولا تكون الشفاعة إلا لمن ارتضاه الله وأيضا فيكون في زيادة التفضل والثواب ولا يمكن شيء من هذا في حق الكافر. وعن الحسن : والله لا يكون لهم شفيع البتة ، (يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ) ، كقوله :

وإن سقيت كرام الناس فاسقينا

أي الناس الكرام ، وجوزوا أن تكون خائنة مصدرا ، كالعافية والعاقبة ، أي يعلم خيانة الأعين. ولما كانت الأفعال التي يقصد بها التكتم بدنية ، فأخفاها خائنة الأعين من كسر جفن وغمز ونظر يفهم معنى ويريد صاحب معنى آخر وقلب ، وهو ما تحتوي عليه الضمائر ، قسم ما ينكتم به إلى هذين القسمين ، وذكر أن علمه متعلق بهما التعلق التام. وقال الزمخشري : ولا يحسن أن يراد الخائنة من الأعين ، لأن قوله : (وَما تُخْفِي الصُّدُورُ) لا يساعد عليه. انتهى ، يعني أنه لا يناسب أن يكون مقابل المعنى إلا المعنى ، وتقدم أن الظاهر أن يكون التقدير الأعين الخائنة ، والظاهر أن قوله : (يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ) الآية متصل بما قبله ، لما أمر بإنكاره يوم الآزفة ، وما يعرض فيه من شدة الكرب والغم ، وأن الظالم لا يجد من يحميه من ذلك ، ولا من يشفع له.

ذكر اطلاعه تعالى على جميع ما يصدر من العبد ، وأنه مجازى بما عمل ، ليكون على حذر من ذلك اليوم إذا علم أن الله مطلع على أعماله. وقال ابن عطية : (يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ) متصل بقوله : (سَرِيعُ الْحِسابِ) ، لأن سرعة حسابه للخلق إنما هي بعلمه الذي لا يحتاج معه إلى روية وفكر ، ولا لشيء مما يحتاجه المحاسبون. وقالت فرقة : يعلم متصل بقوله : (لا يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ) ، وهذا قول حسن ، يقويه تناسب المعنيين ، ويضعفه بعد الآية من الآية وكثرة الحائل. انتهى. وقال الزمخشري : فإن قلت : بم اتصل قوله : (يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ)؟ قلت : هو خبر من أخبار هو في قوله : (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ) (١) ، مثل : (يُلْقِي الرُّوحَ) ، ولكن من يلقي الروح قد علل بقوله : (لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ) ، ثم أسقط

__________________

(١) سورة الرعد : ١٣ / ١٢.

٢٤٧

وتذكر أحوال يوم التلاق إلى قوله : (وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ) ، فبعد لذلك عن إخوانه. انتهى. وفي بعض الكتب المنزلة ، أنا مرصاد الهمم ، أنا العالم بحال الفكر وكسر العيون. وقال مجاهد : خائنة الأعين : مسارقة النظر إلى ما لا يجوز ؛ ومثل المفسرون خائنة الأعين بالنظر الثاني إلى حرمة غير الناظر ، وما تخفي الصدور بالنظر الأول الذي لا يمكن رفعه.

(وَاللهُ يَقْضِي بِالْحَقِ) : هذا يوجب عظيم الخوف ، لأن الحاكم إذا كان عالما بجميع الأحوال لا يقضي إلا بالحق في ما دق وجل خافه الخلق غاية. (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ) : هذا قدح في أصنامهم وتهكم بهم ، لأن ما لا يوصف بالقدرة ، لا يقال فيه يقضي ولا يقضى. وقرأ الجمهور : (يَدْعُونَ) بياء الغيبة لتناسب الضمائر الغائبة قبل. وقرأ أبو جعفر ، وشيبة ، ونافع : بخلاف عنه ؛ وهشام : تدعون بتاء الخطاب ، أي قل لهم يا محمد. (إِنَّ اللهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) : تقرير لقوله : (يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ) ، وعيد لهم بأنه يسمع ما يقولون ويبصر ما يعملون وتعريض بأصنامهم أنها لا تسمع ولا تبصر. (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ) : أحال قريشا على الاعتبار بالسير ، وجاز أن يكون فينظروا مجزوما عطفا على يسيروا وأن يكون منصوبا على جواب النفي ، كما قال :

ألم تسأل فتخبرك الرسوم

وتقدم الكلام على مثل هذه الجملة ، وحمل الزمخشري هم على أن يكون فصلا ولا يتعين ، إذ يجوز أن يكون هم توكيدا لضمير كانوا. وقرأ الجمهور : منهم بضمير الغيبة ؛ وابن عامر : منكم بضمير الخطاب على سبيل الالتفات. (وَآثاراً فِي الْأَرْضِ) : معطوف على قوة ، أي مبانيهم وحصونهم وعددهم كانت في غاية الشدة. (وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً) (١). وقال الزمخشري : أو أرادوا أكثر آثارا لقوله :

متقلدا سيفا ورمحا

انتهى. أي : ومعتقلا رمحا ، ولا حاجة إلى ادعاء الحذف مع صحة المعنى بدونه. (مِنْ واقٍ) : أي وما كان لهم من عذاب الله من ساتر بمنعهم منه. (ذلِكَ) : أي الأخذ ، وتقدم تفسير نظير ذلك.

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ ، إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ فَقالُوا ساحِرٌ

__________________

(١) سورة الشعراء : ٢٦ / ١٤٩.

٢٤٨

كَذَّابٌ ، فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ ، وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ ، وَقالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ ، وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ ، يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللهِ إِنْ جاءَنا قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ إِلَّا ما أَرى وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ).

ابتدأ تعالى قصة موسى عليه‌السلام مع فرعون تسلية للرسول عليه الصلاة والسلام ، ووعيدا لقريش أن يحل بهم ما حل بفرعون وقومه من نقمات الله ، ووعد للمؤمنين بالظفر والنصر وحسن العاقبة. وآيات موسى عليه‌السلام كثيرة ، والذي تحدى به من المعجز العصا واليد. وقرأ عيسى : وسلطان بضم اللام ، والسلطان المبين : الحجة والبرهان الواضح. والظاهر أن قارون هو الذي ذكره تعالى في قوله : (إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى) (١) ، وهو من بني إسرائيل. وقيل : هو غيره ، ونص على هامان وقارون لمكانتهما في الكفر ، ولأنهما أشهر أتباع فرعون. (فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ) : أي هذا ساحر ، لما ظهر على يديه من قلب العصا حية ، وظهور النور الساطع على يده ، كذاب لكونه ادعى أنه رسول من رب العالمين. (فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا) : أي بالمعجزات والنبوة والدعاء إلى الإيمان بالله ، (قالُوا) ، أي أولئك الثلاثة ، (اقْتُلُوا). قال ابن عباس : أي أعيدوا عليهم القتل كالذي كان أولا. انتهى. يريد أن هذا غير القتل الأول ، وإنما أمروا بقتل أبناء المؤمنين لئلا يتقوى بهم موسى عليه‌السلام ، وباستحياء النساء للاستخدام والاسترقاق ، ولم يقع ما أمروا به ولا تم لهم ، ولا أعانهم الله عليه. (وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) : أي في حيرة وتخبط ، لم يقع منه شيء ، ولا أنجح سعيهم ، وكانوا باشروا القتل أولا ، فنفذ قضاء الله في إظهار من خافوا هلاكهم على يديه. وقيل : كان فرعون قد كف عن قتل الأبناء ، فلما بعث موسى ، وأحس أنه قد وقع ما كان يحذره ، أعاد القتل عليهم غيظا وحنقا وظنا منه أنه يصدهم بذلك عن مظاهرة موسى ، وما علم أن كيده ضائع في الكرتين معا.

(وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ) ، قال الزمخشري : وبعضه من كلام

__________________

(١) سورة القصص : ٢٨ / ٧٦.

٢٤٩

الحسن ، كان إذا هم بقتله كفوه بقولهم : ليس بالذي تخافه ، هو أقل من ذلك وأضعف ، وما هو إلا بعض السحرة ، ومثله لا يقاومه إلا ساحر مثله ، ويقولون : إن قتلته أدخلت الشبهة على الناس ، واعتقدوا أنك عجزت عن مظاهرته بالحجة. والظاهر أن فرعون ، لعنه الله ، كان قد استيقن أنه نبي ، وأن ما جاء به آيات وما هو سحر ، ولكن الرجل كان فيه خبث وجبروت ، وكان قتالا سفاكا للدماء في أهون شيء ، فكيف لا يقتل من أحسن منه بأنه هو الذي يثل عرشه ، ويهدم ملكه؟ ولكنه يخاف إن هم بقتله أن يعاجل بالهلاك. وقوله : (وَلْيَدْعُ رَبَّهُ) : شاهد صدق على فرط خوفه منه ومن دعوته ربه ، كان قوله : (ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى) تمويها على قومه وإيهاما أنهم هم الذين يكفونه ، وما كان يكفه إلا ما في نفسه من هول الفزع. وقال ابن عطية : الظاهر من أمر فرعون أنه لما بهرت آيات موسى انهدّ ركنه واضطربت معتقدات أصحابه ، ولم يفقد منهم من يجاذبه الخلاف في أمره ، وذلك بين من غير ما موضع في قصتهما ، وفي ذلك على هذا دليلان : أحدهما : قوله (ذَرُونِي) ، فليست هذه من ألفاظ الجبابرة المتمكنين من إنفاذ أوامرهم. والدليل الثاني : في مقالة المؤمن وما صدع به ، وأن مكاشفته لفرعون خير من مساترته ، وحكمه بنبوة موسى أظهر من تقريبه في أمره. وأما فرعون ، فإنه نحا إلى المخرقة والاضطراب والتعاطي ، ومن ذلك قوله : (ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ) : أي إني لا أبالي من رب موسى ، ثم رجع إلى قومه يريهم النصحة والخيانة لهم ، فقال : (إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ) ، والدين : السلطان ، ومنه قول زهير :

لئن حللت بجوّ في بني أسد

في دين عمرو وحالت بيننا فدك

انتهى. وتبديل دينهم هو تغييره ، وكانوا يعبدونه ويعبدون الأصنام ، كما قال : (وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ) (١). أو أن يظهر الأرض الفساد ، وذلك بالتهارج الذي يذهب معه الأمن ، وتتعطل المزارع والمكاسب ، ويهلك الناس قتلا وضياعا ، فأخاف فساد دينكم ودنياكم معا. وبدأ فرعون بخوفه تغيير دينهم على تغيير دنياهم ، لأن حبهم لأديانهم فوق حبهم لأموالهم. وقيل : (ذَرُونِي) يدل على أنهم كانوا يمنعونه من قتله ، إما لكون بعضهم كان مصدقا له فيتحيل في منع قتله ، وإما لما روي عن الحسن مما ذكر الزمخشري ، وإما الشغل قلب فرعون بموسى حتى لا يتفرغ لهم ، ويأمنوا من شره ؛ كما يفعلون مع الملك ، إذا خرج عليه خارجي شغلوه به حتى يأمنوا من شره. وقرأ الكوفيون : أو أن ، بترديد الخوف بين تبديل

__________________

(١) سورة الأعراف : ٧ / ١٢٧.

٢٥٠

الدين أو ظهور الفساد. وقرأ باقي السبعة : وأن بانتصاب الخوف عليهما معا. وقرأ أنس بن مالك ، وابن المسيب ، ومجاهد ، وقتادة ، وأبو رجاء ، والحسن ، والجحدري ، ونافع ، وأبو عمرو ، وحفص : (يُظْهِرَ) من أظهر مبنيا للفاعل ، (الْفَسادَ) : نصبا. وقرأ باقي السبعة ، والأعرج ، والأعمش ، وابن وثاب ، وعيسى : يظهر من ظهر مبنيا للفاعل ، الفساد : رفعا. وقرأ مجاهد : يظهر بشد الظاء والهاء ، الفساد : رفعا. وقرأ زيد بن عليّ : يظهر : بضم الياء وفتح الهاء مبنيا للمفعول ، الفساد : رفعا.

ولما سمع موسى بمقالة فرعون ، استعاذ بالله من شر كل متكبر منكر للمعاد. وقال : (وَرَبِّكُمْ) : بعثا على الاقتداء به ، فيعوذون بالله ويعتصمون به ومن كل متكبر يشمل فرعون وغيره من الجبابرة ؛ وكان ذلك على طريق التعريض ، وكان أبلغ. والتكبر : تعاظم الإنسان في نفسه مع حقارته ، لأنه يفعل ولا يؤمن بيوم الحساب ، أي بالجزاء ، وكان ذلك آكد في جراءته ، إذ حصل له التعاظم في نفسه ، وعدم المبالاة بما ارتكب. وقرأ أبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي : عدت بالإدغام ؛ وباقي السبعة : بالإظهار. وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه ، قيل : كان قبطيا ابن عم فرعون ، وكان يجري مجرى ولي العهد ، ومجرى صاحب الشرطة. وقيل : كان قبطيا ليس من قرابته. وقيل : قيل فيه من آل فرعون ، لأنه كان في الظاهر على دينه ودين أتباعه. وقيل : كان إسرائيليا وليس من آل فرعون ، وجعل آل فرعون متعلقا بقوله : (يَكْتُمُ إِيمانَهُ) ، لا في موضع الصفة لرجل ، كما يدل عليه الظاهر ، وهذا فيه بعد ، إذ لم يكن لأحد من بني إسرائيل أن يتجاسر عند فرعون بمثل ما تكلم به هذا الرجل. وقد رد قول من علق من آل فرعون بيكتم ، فإنه لا يقال : كتمت من فلان كذا ، إنما يقال : كتمت فلانا كذا ، قال تعالى : (وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً) (١) ، وقال الشاعر :

كتمتك ليلا بالجمومين ساهرا

وهمين هما مستكنا وظاهرا

أحاديث نفس تشتكي ما يريبها

وورد هموم لن يجدن مصادرا

أي : كتمتك أحاديث نفس وهمين. قيل : واسمه سمعان. وقيل : حبيب. وقيل : حزقيل. وقرأ الجمهور : (رَجُلٌ) بضم الجيم. وقرأ عيسى ، وعبد الوارث ، وعبيد بن عقيل ، وحمزة بن القاسم عن أبي عمرو : بسكون ، وهي لغة تميم ونجد. (أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً

__________________

(١) سورة النساء : ٤ / ٤٢.

٢٥١

أَنْ يَقُولَ) : أي لأن يقول (رَبِّيَ اللهُ) ، وهذا إنكار منه عظيم وتبكيت لهم ، كأنه قال : أترتكبون الفعلة الشنعاء التي هي قتل نفس محرمة وما لكم عليه في ارتكابها إلا كلمة الحق التي نطق بها ، وهي قوله : (رَبِّيَ اللهُ) ، مع أنه (قَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ) : أي من عند من نسب إليه الربوبية ، وهو ربكم لا ربه وحده؟ وهذا استدراج إلى الاعتراف. وقال الزمخشري : ولك أن تقدر مضافا محذوفا ، أي وقت أن يقول ، والمعنى : أتقتلونه ساعة سمعتم منه هذا القول من غير روية ولا فكر في أمره؟ انتهى. وهذا الذي أجازه من تقدير المضاف المحذوف الذي هو وقت لا يجوز ، تقول : جئت صياح الديك ، أي وقت صياح الديك ، ولا أجيء أن يصيح الديك ، نص على ذلك النحاة ، فشرط ذلك أن يكون المصدر مصرحا به لا مقدرا ، وأن يقول ليس مصدرا مصرحا به. (بِالْبَيِّناتِ) : بالدلائل على التوحيد ، وهي التي ذكرها في طه والشعراء حالة محاورته له في سؤاله عن ربه تعالى.

ولما صرح بالإنكار عليهم ، غالطهم بعد في أن قسم أمره إلى كذب وصدق ، وأدّى ذلك في صورة احتمال ونصيحة ، وبدأ في التقسيم بقوله : (وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ) ، مداراة منه وسالكا طريق الإنصاف في القول ، وخوفا إذا أنكر عليهم قتله أنه ممن يعاضده ويناصره ، فأوهمهم بهذا التقسيم والبداءة بحالة الكذب حتى يسلم من شره ، ويكون ذلك أدنى لتسليمهم. ومعنى (فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ) : أي لا يتخطاه ضرره. (وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ) ، وهو يعتقد أنه نبي صادق قطعا ، لكنه أتى بلفظ بعض لإلزام الحجة بأسرها في الأمر ، وليس فيه نفي أن يصيبهم كل ما يعدهم. وقالت فرقة : يصبكم بعض العذاب الذي يذكر ، وذلك كان في هلاكهم ، ويكون المعنى : يصبكم القسم الواحد مما يعد به ، وذلك هو بعض مما يعد ، لأنه عليه‌السلام وعدهم إن آمنوا بالنعمة ، وإن كفروا بالنقمة. وقالت فرقة : بعض الذي يعدكم عذاب الدنيا ، لأنه بعض عذاب الآخرة ، ويصيرون بعد ذلك إلى النار. وقال أبو عبيدة وغيره : بعض بمعنى كل ، وأنشدوا قول عمرو بن شسيم القطامي :

قد يدرك المتأني بعض حاجته

وقد يكون مع المستعجل الزلل

وقال الزمخشري : وذلك أنه حين فرض صادقا ، فقد أثبت أنه صادق في جميع ما يعد ، ولكنه أردفه (يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ) ، ليهضمه بعض حقه في ظاهر الكلام ، فيريهم أنه ليس بكلام من أعطاه وافيا فضلا أن يتعصب له. فإن قلت : وعن أبي عبيدة أنه قسم البعض بالكل ، وأنشد بيت لبيد وهو :

٢٥٢

تراك أمكنة إذا لم أرضها

ويريك من بعض النفوس حمامها

قلت : إن صحت الرواية عنه فقد حق في قول المازني في مسألة العافي كان أحفى من أن يفقه ما أقول له. انتهى ، ويعني أن أبا عبيدة خطأه الناس في اعتقاده أن بعضا يكون بمعنى كل ، وأنشدوا أيضا في كون بعض بمعنى كل قول الشاعر :

إن الأمور إذا الأحداث دبرها

دون الشيوخ في بعضها خللا

أي : إذا رأى الأحداث ، ولذلك قال دبرها ولم يقل دبروها ، راعى المضاف المحذوف. (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ) فيه : إشارة إلى علو شأن موسى ، عليه‌السلام ، وأن من اصطفاه الله للنبوة لا يمكن أن يقع منه إسراف ولا كذب ، وفيه تعريض بفرعون ، إذ هو غاية الإسراف على نفسه بقتل أبناء المؤمنين ، وفي غاية الكذب ، إذ ادّعى الإلهية والربوبية ، ومن هذا شأنه لا يهديه الله. وفي الحديث : «الصديقون ثلاثة : حبيب النجار مؤمن آل يس ، ومؤمن آل فرعون ، وعليّ بن أبي طالب». وفي الحديث : «أنه عليه‌السلام ، طاف بالبيت ، فحين فرغ أخذ بمجامع ردائه ، فقالوا له : أنت الذي تنهانا عما كان يعبد آباؤنا؟ فقال : أنا ذاك ، فقام أبو بكر ، رضي‌الله‌عنه ، فالتزمه من ورائه وقال : أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله ، وقد جاءكم بالبينات من ربكم» ، رافعا صوته بذلك وعيناه تسفحان بالدموع حتى أرسلوه. وعن جعفر الصادق : أن مؤمن آل فرعون قال ذلك سرّا ، وأبو بكر قاله ظاهرا. وقال السدي : مسرف بالقتل. وقال قتادة : مسرف بالكفر. وقال صاحب التحرير والتحبير : هذا نوع من أنواع علم البيان تسميه علماؤنا استدراج المخاطب ، وذلك أنه لما رأى فرعون قد عزم على قتل موسى ، والقوم على تكذيبه ، أراد الانتصار له بطريق يخفي عليهم بها أنه متعصب له ، وأنه من أتباعه ، فجاءهم من طريق النصح والملاطفة فقال : (أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ) ، ولم يذكر اسمه ، بل قال رجلا يوهم أنه لا يعرفه ولا يتعصب له ، (أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ) ، ولم يقل رجلا مؤمنا بالله ، أو هو نبي الله ، إذ لو قال شيئا من ذلك لعلموا أنه متعصب. ولم يقبلوا قوله ، ثم اتبعه بما بعد ذلك ، فقدم قوله : (وَإِنْ يَكُ كاذِباً) ، موافقة لرأيهم فيه. ثم تلاه بقوله : (وَإِنْ يَكُ صادِقاً) ، ولو قال هو صادق وكل ما يعدكم ، لعلموا أنه متعصب ، وأنه يزعم أنه نبي ، وأنه يصدقه ، فإن الأنبياء لا تخل بشيء مما يقولونه ، ثم أتبعه بكلام يفهم منه أنه ليس بمصدق ، وهو قوله : (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ). انتهى.

ثم قال : (يا قَوْمِ) نداء متلطف في موعظتهم. (لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ) : أي

٢٥٣

عالمين ، (فِي الْأَرْضِ) : في أرض مصر ، قد غلبتم بني إسرائيل فيها ، وقهرتموهم واستعبدتموهم ، وناداهم بالملك الذي هو أعظم مراتب الدنيا وأجهلها ، وهو من جهة شهواتهم ، وانتصب ظاهرين على الحال ، والعامل فيها هو العامل في الجار والمجرور ، وذو الحال هو ضمير لكم. ثم حذرهم أن يفسدوا على أنفسهم بأنه إن جاءهم بأس الله لم يجدوا ناصرا لهم ولا دافعا ، وأدرج نفسه في قوله : (يَنْصُرُنا) ، و (جاءَنا) لأنه منهم في القرابة ، وليعلمهم أن الذي ينصحهم به هو مشارك لهم فيه. وأقوال هذا المؤمن تدل على زوال هيبة فرعون من قبله ، ولذلك استكان فرعون وقال : (ما أُرِيكُمْ إِلَّا ما أَرى) : أي ما أشير عليكم إلا بقتله ، ولا أستصوب إلا ذلك ، وهذا قول من لا تحكم له ، وأتى بما وإلا للحصر والتأكيد.

(وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ) ، لا ما تقولونه من ترك قتله وقد كذب ، بل كان خائفا وجلا ، وقد علم أن ما جاء به موسى عليه‌السلام حق ، ولكنه كان يتجلد ، ويرى ظاهره خلاف ما أبطن. وأورد الزمخشري وابن عطية وأبو القاسم الهذلي هنا أن معاذ بن جبل قرأ الرشاد بشد الشين. قال أبو الفتح : وهو اسم فاعل في بنية مبالغة من الفعل الثلاثي رشد ، فهو كعباد من عبد. وقال الزمخشري : أو من رشد ، كعلام من علم. وقال النحاس : هو لحن ، وتوهمه من الفعل الرباعي ، ورد عليه أنه لا يتعين أن يكون من الرباعي ، بل هو من الثلاثي ، على أن بعضهم قد ذهب إلى أنه من الرباعي ، فبنى فعال من أفعل ، كدراك من أدرك ، وسآر من أسأر ، وجبار من أجبر ، وقصار من أقصر ، ولكنه ليس بقياس ، فلا يحمل عليه ما وجدت عنه مندوحة ، وفعال من الثلاثي مقيس فحمل عليه. وقال أبو حاتم : كان معاذ بن جبل يفسرها بسبيل الله. قال ابن عطية : ويبعد عندي على معاذ رضي‌الله‌عنه. وهل كان فرعون إلا يدعي أنه إله؟ وتعلق بناء اللفظ على هذا التأويل. انتهى. وإيراد الخلاف في هذا الحرف الذي هو من قول فرعون خطأ ، وتركيب قول معاذ عليه خطأ ، والصواب أن الخلاف فيه هو قول المؤمن : (اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ). قال أبو الفضل الرازي في (كتاب اللوامح) له من شواذ القراءات ما نصه : معاذ بن جبل سبيل الرشاد ، الحرف الثاني بالتشديد ، وكذلك الحسن ، وهو سبيل الله تعالى الذي أوضح الشرائع ، كذلك فسره معاذ بن جبل ، وهو منقول من مرشد ، كدراك من مدرك ، وجبار من مجبر ، وفصار من مقصر عن الأمر ، ولها نظائر معدودة ، فأما قصار فهو من قصر من الثوب قصارة. وقال ابن خالويه ، بعد أن ذكر الخلاف في التناد وفي صد عن السبيل ما نصه : سبيل الرشاد بتشديد الشين ، معاذ بن جبل. قال ابن خالويه : يعني بالرشاد الله تعالى.

٢٥٤

انتهى. فهذا لم يذكر الخلاف إلا في قول المؤمن : (أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ) ، فذكر الخلاف فيه في قول فرعون خطأ ، ولم يفسر معاذ بن جبل الرشاد أنه الله تعالى إلا في قول المؤمن ، لا في قول فرعون. قال ابن عطية : ذلك التأويل من قول فرعون وهم.

(وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ ، مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ ، وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ ، يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ ، وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ ، الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ ، وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ ، أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبابٍ ، وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ ، يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ ، مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ). الجمهور : على أن هذا المؤمن هو الرجل القائل : (أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً) ، قص الله أقاويله إلى آخر الآيات. لما رأى ما لحق فرعون من الخور والخوف ، أتى بنوع آخر من التهديد ، وخوفهم أن يصيبهم ما أصاب الأمم السابقة من استئصال الهلاك حين كذبوا رسلهم ، وقويت نفسه حتى سرد عليه ما سرد ، ولم يهب فرعون. وقالت فرقة : بل كلام ذلك المؤمن قد تم ، وإنما أراد تعالى بالذي آمن بموسى ، عليه‌السلام ، واحتجوا بقوة كلامه ، وأنه جنح معهم بالإيمان ، وذكر عذاب الآخرة وغير ذلك ، ولم يكن كلام الأول الاعلانية لهم ، وأفرد اليوم ، إما لأن المعنى مثل أيام الأحزاب ، أو أراد به الجمع ، أي مثل أيام الأحزاب لأنه معلوم أن كل حزب كان له يوم. و (الْأَحْزابِ) : الذين تحزبوا على أنبياء الله. و (مِثْلَ دَأْبِ) ، قال ابن عطية : بدل. وقال الزمخشري : عطف بيان. وقال الزجاج : مثل يوم حزب ودأب عادتهم وديدنهم في الكفر والمعاصي. (وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ) ، أي إن إهلاكه إياهم كان عدلا منه ، وفيه مبالغة في نفي الظلم ، حيث علقه بالإرادة. فإذا نفاه عن الإرادة ، كان نفيه عن الوقوع أولى وأحرى. ولما خوفهم أن يحل بهم في الدنيا ما حل بالأحزاب ، خوفهم أمر الآخرة فقال ، تعطفا لهم بندائهم : (يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ) ، وهو

٢٥٥

يوم الحشر. والتنادي مصدر تنادى القوم : أي نادى بعضهم بعضا. قال الشاعر :

تنادوا فقالوا أردت الخيل فارسا

فقلت أعند الله ذلكم الردى

وسمي يوم التنادي ، إما لنداء بعضهم لبعض بالويل والثبور ، وإما لتنادي أهل الجنة وأهل النار على ما ذكر في سورة الأعراف ، وإما لأن الخلق ينادون إلى المحشر ، وإما لنداء المؤمن : (هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ) (١) ، والكافر : (يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ) (٢). وقرأت فرقة : التناد ، بسكون الدال في الوصل أجراه مجرى الوقف وقرأ ابن عباس ، والضحاك ، وأبو صالح ، والكلبي ، والزعفراني ، وابن مقسم : التناد ، بتشديد الدال : من ندّ البعير إذا هرب ، كما قال : (يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ) (٣) الآية. وقال ابن عباس وغيره في التناد ، خفيفة الدال : هو التنادي ، أي يكون بين الناس عند النفخ في الصور ونفخة الفزع في الدنيا ، وأنهم يفرون على وجوههم للفزع التي نالهم ، وينادي بعضهم بعضا. وروي هذا التأويل عن أبي هريرة ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقال ابن عطية : ويحتمل أن يكون التذكر بكل نداء في القيامة فيه مشقة على الكفار والعصاة. انتهى. قال أمية بن أبي الصلت :

وبث الخلق فيها إذ دحاها

فهم سكانها حتى التنادي

وفي الحديث : «إن للناس جولة يوم القيامة يندّون» ، يظنون أنهم يجدون مهربا ؛ ثم تلا : (يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ) ، قال مجاهد : معناه فارين. وقال السدّي : (ما لَكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ) في فراركم حتى تعذبوا في النار. وقال قتادة : ما لكم في الانطلاق إليها من عاصم ، أي مانع ، يمنعكم منها ، أو ناصر. ولما يئس المؤمن من قبولها قال : (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ). ثم أخذ يوبخهم على تكذيب الرسل ، بأن يوسف قد جاءهم بالبينات. والظاهر أنه يوسف بن يعقوب ، وفرعون هو فرعون موسى ، وروى أشهب عن مالك أنه بلغه أن فرعون عمر أربعمائة سنة وأربعين سنة. وقيل : بل الجائي إليهم هو يوسف بن إبراهيم بن يوسف بن يعقوب ، وأن فرعون هو فرعون ، غير فرعون موسى. و (بِالْبَيِّناتِ) : بالمعجزات. فلم يزالوا شاكين في رسالته كافرين ، حتى إذا توفي ، (قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً). وليس هذا تصديقا لرسالته ، وكيف وما زالوا في شك منه ، وإنما المعنى : لا رسول من عند الله فيبعثه إلى الخلق ، ففيه نفي الرسول ، ونفي بعثته. وقرىء : ألن يبعث ، بإدخال همزة الاستفهام على حرف النفي ، كأن بعضهم يقرر بعضا

__________________

(١) سورة الحاقة : ٦٩ / ١٩.

(٢) سورة الحاقة : ٦٩ / ٢٥.

(٣) سورة عبس : ٨٠ / ٣٤.

٢٥٦

على نفي البعثة. (كَذلِكَ) : أي مثل إضلال الله إياكم ، أي حين لم تقبلوا من يوسف ، (يُضِلُّ اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ) : يعنيهم ، إذ هم المسرفون المرتابون في رسالات الأنبياء.

وجوزوا في (الَّذِينَ يُجادِلُونَ) أن تكون صفة لمن ، وبدلا منه : أي معناه جمع ومبتدأ على حذف مضاف ، أي جدال الذين يجادلون ، حتى يكون الضمير في (كَبُرَ) عائدا على ذلك أولا ، أو على حذف مضاف ، والفاعل بكبر ضمير يعود على الجدال المفهوم من قوله : (يُجادِلُونَ) ، أو ضمير يعود على من على لفظها ، على أن يكون الذين صفة ، أو بدلا أعيد أولا على لفظ من في قوله : (هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ). ثم جمع الذين على معنى من ، ثم أفرد في قوله : (كَبُرَ) على لفظ من. وقال الزمخشري : ويحتمل أن يكون (الَّذِينَ يُجادِلُونَ) مبتدأ وبغير (سُلْطانٍ أَتاهُمْ) خبرا ، وفاعل (كَبُرَ) قوله : (كَذلِكَ) ، أي (كَبُرَ مَقْتاً) مثل ذلك الجدال ، و (يَطْبَعُ اللهُ) كلام مستأنف ، ومن قال (كَبُرَ مَقْتاً ، عِنْدَ اللهِ) جدالهم ، فقد حذف الفاعل ، والفاعل لا يصح حذفه. انتهى ، وهذا الذي أجازه لا يجوز أن يكون مثله في كلام فصيح ، فكيف في كلام الله؟ لأن فيه تفكيك الكلام بعضه من بعض ، وارتكاب مذهب الصحيح خلافه. أما تفكيك الكلام ، فالظاهر أن بغير سلطان متعلق بيجادلون ، ولا يتعقل جعله خيرا للذين ، لأنه جار ومجرور ، فيصير التقدير : (الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ) : كائنونن ، أو مستقرون ، (بِغَيْرِ سُلْطانٍ) ، أي في غير سلطان ، لأن الباء إذ ذاك ظرفية خبر عن الجثة ، وكذلك في قوله (يَطْبَعُ) أنه مستأنف فيه تفكيك الكلام ، لأن ما جاء في القرآن من (كَذلِكَ يَطْبَعُ) ، أو نطبع ، إنما جاء مربوطا بعضه ببعض ، فكذلك هنا. وأما ارتكاب مذهب الصحيح خلافه ، فجعل الكاف اسما فاعلا بكبر ، وذلك لا يجوز على مذهب البصريين إلا الأخفش ، ولم يثبت في كلام العرب ، أعني نثرها : جاءني كزيد ، تريد : مثل زيد ، فلم تثبت اسميتها ، فتكون فاعلة.

وأما قوله : ومن قال إلى آخره ، فإنّ قائل ذلك وهو الحوفي ، والظن به أنه فسر المعنى ولم يرد الإعراب. وأما تفسير الإعراب أن الفاعل بكبر ضمير يعود على الجدال المفهوم من يجادلون ، كما قالوا : من كذب كان شرا له ، أي كان هو ، أي الكذب المفهوم من كذب. والأولى في إعراب هذا الكلام أن يكون الذين مبتدأ وخبره كبر ، والفاعل ضمير المصدر المفهوم من يجادلون ، وهذه الصفة موجودة في فرعون وقومه ، ويكون الواعظ لهم قد عدل عن مخاطبتهم إلى الاسم الغائب ، لحسن محاورته لهم واستجلاب قلوبهم ، وإبراز ذلك

٢٥٧

في صورة تذكيرهم ، ولا يفجأهم بالخطاب. وفي قوله : (كَبُرَ مَقْتاً) ضرب من التعجب والاستعظام لجدالهم والشهادة على خروجه عن حدّ إشكاله من الكبائر. (كَذلِكَ) : أي مثل ذلك الطبع على قلوب المجادلين ، (يَطْبَعُ اللهُ) : أي يحتم بالضلالة ويحجب عن الهدى. وقرأ أبو عمرو بن ذكوان ، والأعرج ، بخلاف عنه : قلب بالتنوين ، وصف القلب بالتكبر والجبروت ، لكونه مركزهما ومنبعهما ، كما يقولون : رأت العين ، وكما قال : (فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) (١) ، والإثم : الجملة ، وأجاز الزمخشري أن يكون على حذف المضاف ، أي على كل ذي قلب متكبر ، بجعل الصفة لصاحب القلب. انتهى ، ولا ضرورة تدعو إلى اعتقاد الحذف. وقرأ باقي السبعة : قلب متكبر بالإضافة ، والمضاف فيه العام عام ، فلزم عموم متكبر جبار. وقال مقاتل : المتكبر : المعاند في تعظيم أمر الله ، والجبار المسلط على خلق الله.

(وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً) ، أقوال فرعون : (ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى) ، (ما أُرِيكُمْ إِلَّا ما أَرى) ، (يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً) ، حيدة عن محاجة موسى ، ورجوع إلى أشياء لا تصح ، وذلك كله لما خامره من الجزع والخوف وعدم المقاومة ، والتعرف أن هلاكه وهلاك قومه على يد موسى ، وأن قدرته عجزت عن التأثير في موسى ، هذا على كثرة سفكه الدماء. وتقدم الكلام في الصرح في سورة القصص فأغنى عن إعادته. قال السدي : الأسباب : الطرق. وقال قتادة : الأبواب ؛ وقيل : عنى لعله يجد ، مع قربه من السماء ، سببا يتعلق به ، وما أدراك إلى شيء فهو سبب ، وأبهم أولا الأسباب ، ثم أبدل منها ما أوضحها. والإيضاح بعد الإبهام يفيد تفخيم الشيء ، إذ في الإبهام تشوق للمراد ، وتعجب من المقصود ، ثم بالتوضيح يحصل المقصود ويتعين. وقرأ الجمهور : فأطلع رفعا ، عطفا على أبلغ ، فكلاهما مترجي. وقرأ الأعرج ، وأبو حيوة ، وزيد بن علي ، والزعفراني ، وابن مقسم ، وحفص : فأطلع ، بنصب العين. وقال أبو القاسم بن جبارة ، وابن عطية : على جواب التمني. وقال الزمخشري : على جواب الترجي ، تشبيها للترجي بالتمني. انتهى. وقد فرق النحاة بين التمني والترجي ، فذكروا أن التمني يكون في الممكن والممتنع ، والترجي يكون في الممكن. وبلوغ أسباب السموات غير ممكن ، لكن فرعون أبرز ما لا يمكن في صورة الممكن تمويها على سامعيه. وأما النصب بعد الفاء في جواب الترجي فشيء أجازه الكوفيون ومنعه البصريون ، واحتج الكوفيون بهذه القراءة وبقراءة عاصم ،

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٢٨٣.

٢٥٨

فتنفعه الذكرى في سورة عبس ، إذ هو جواب الترجي في قوله : (لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى) (١). وقد تأولنا ذلك على أن يكون عطفا على التوهم ، لأن خبر لعل كثيرا جاء مقرونا بأن في النظم كثيرا ، وفي النثر قليلا. فمن نصب ، توهم أن الفعل المرفوع الواقع خبرا كان منصوبا بأن ، والعطف على التوهم كثير ، وإن كان لا ينقاس ، لكن إن وقع شيء وأمكن تخريجه عليه خرج ، وأما هنا ، فأطلع ، فقد جعله بعضهم جوابا للأمر ، وهو قوله : (ابْنِ لِي صَرْحاً) ، كما قال الشاعر :

يا ناق سيري عنقا فسيحا

إلى سليمان فنستريحا

ولما قال : (فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى) ، كان ذلك إقرارا بإله موسى ، فاستدرك هذا الإقرار بقوله : (وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً) : أي في ادعاء الإلهية ، كما قال في القصص : (لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ) (٢). (وَكَذلِكَ) أي مثل ذلك التزيين في إيهام فرعون أنه يطلع إلى إله موسى. (زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ). وقرأ الجمهور : (زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ) مبنيا للمفعول ؛ وقرىء : زين مبنيا للفاعل. وقرأ الجمهور : (وَصُدَّ) مبنيا للفاعل : أي وصد فرعون ؛ والكوفيون : بضم الصاد مناسبا لزين مبنيا للمفعول ؛ وابن وثاب : بكسر الصاد ، أصله صدد ، نقلت الحركة إلى الصاد بعد توهم حذفها ؛ وابن أبي إسحاق ، وعبد الرحمن بن أبي بكرة ، بفتح الصاد وضم الطاء ، منونة عطفا على (سُوءُ عَمَلِهِ). والتباب : الخسران ، خسر ملكه في الدنيا فيها بالغرق ، وفي الآخرة بخلود النار ، وتكرر وعظ المؤمن إثر كلام فرعون بندائه قومه مرتين ، متبعا كل نداء بما فيه زجر واتعاظ لو وجد من يقبل ، وأمر هنا باتباعه لأن يهديهم سبيل الرشاد. وقرأ معاذ بن جبل : بشد الشين ، وتقدم الكلام على ذلك. والرد على من جعل هذه القراءة في كلام فرعون ، وأجمل أولا في قوله : (سَبِيلَ الرَّشادِ) ، وهو سبيل الإيمان بالله واتباع شرعه. ثم فسر ، فافتتح بذم الدنيا وبصغر شأنها ، وأنها متاع زائل ، هي ومن تمتع بها ، وأن الآخرة هي دار القرار التي لا انفكاك منها ، إما إلى جنة ، وإما إلى نار. وكذلك قال : (مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها). وقرأ أبو رجاء ، وشيبة ، والأعمش ، والإخوان ، والصاحبان ، وحفص : (يَدْخُلُونَ) مبنيا للفاعل ، وباقي السبعة ، والأعرج ، والحسن ، وأبو جعفر ، وعيسى : مبنيا للمفعول.

(وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ ، تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللهِ وَأُشْرِكَ

__________________

(١) سورة عبس : ٨٠ / ٤.

(٢) سورة القصص : ٢٨ / ٣٨.

٢٥٩

بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ ، لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ ، فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ ، فَوَقاهُ اللهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ ، النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ ، وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ ، قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها إِنَّ اللهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ ، وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ ، قالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا بَلى قالُوا فَادْعُوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ ، إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ ، يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ).

بدأ المؤمن بذكر المتسبب عن دعوتهم ، وأبدى التفاضل بينهما. ولما ذكر المسببين ، ذكر سببهما ، وهو دعاؤهم إلى الكفر والشرك ، ودعاؤه إياهم إلى الإيمان والتوحيد. وأتى بصيغة العزيز ، وهو الذي لا نظير له ، والغالب الذي العالم كلهم في قبضته يتصرف فيهم كما يشاء ، الغفار لذنوب من رجع إليه وآمن به ، وأوصل سبب دعائهم بمسببه ، وهو الكفر والنار ، وأخر سبب مسببه ليكون افتتاح كلامه واختتامه بما يدعو إلى الخير. وبدأ أولا بجملة اسمية ، وهو استفهام المتضمن التعجب من حالتهم ، وختم أيضا بجملة اسمية ليكون أبلغ في توكيد الأخبار. وجاء في حقهم (وَتَدْعُونَنِي) بالجملة الفعلية التي لا تقتضي توكيدا ، إذ دعوتهم باطلة لا ثبوت لها ، فتؤكد ، و (ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ) هي الأوثان ، أي لم يتعلق به علمي ، إذ ليس لها مدخل في الألوهية ولا لفرعون. قال الزمخشري : فإن قلت : لم جاء بالواو في النداء الثالث دون الثاني؟ قلت : لأن الثاني داخل في كلام هو بيان للمجمل وتفسير له ، فأعطى الداخل عليه حكمه في امتناع دخول الواو ، وأما الثالث فداخل على كلام ليس بتلك المثابة. انتهى. وتقدم الكلام على لا جرم.

وقال الزمخشري هنا ، وروي عن العرب : لا جرم أنه يفعل بضم الجيم وسكون الراء ، يريد لا بد ، وفعل وفعل أخوان ، كرشد ورشد ، وعدم وعدم. (أَنَّما) : أي أن الذي تدعونني إليه ، أي إلى عبادته ، (لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ) ، أي قدر وحق يجب أن يدعى إليه ، أو ليس له دعوة إلى نفسه ، لأن الجماد لا يدعو ، والمعبود بالحق يدعو العباد إلى طاعته ، ثم يدعو العباد إليها إظهارا لدعوة ربهم. وقال الزجاج : المعنى ليس له استجابة دعوة توجب

٢٦٠