البحر المحيط في التّفسير - ج ٩

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التّفسير - ج ٩

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٨٢

قال : وتأكيده بالجميع ، أتبع الجميع مؤكدة قبل مجيء ذلك الخبر ، ليعلم أول الأمر أن الخبر الذي يرد لا يقع عن أرض واحدة ، ولكن عن الأراضي كلهن. انتهى. ولم يذكر العامل في الحال ، ويوم القيامة معمول لقبضته. وقرأ الحسن : قبضته بالنصب. قال ابن خالويه : بتقدير في قبضته ، هذا قول الكوفيين. وأما أهل البصرة فلا يجيزون ذلك ، كما لا يقال : زيد دارا انتهى. وقال الزمخشري : جعلها ظرفا مشبها للوقت بالمبهم. وقرأ عيسى ، والجحدري : مطويات بالنصب على الحال ، وعطف والسموات على الأرض ، فهي داخلة في حيز والأرض ، فالجميع قبضته. وقد استدل بهذه القراءة الأخفش على جواز : زيد قائما في الدار ، إذ أعرب والسموات مبتدأ ، وبيمينه الخبر ، وتقدمت الحال والمجرور ، ولا حجة فيه ، إذ يكون والسموات معطوفا على والأرض ، كما قلنا ، وبيمينه متعلق بمطويات ، ومطويات : من الطي الذي هو ضد النشر ، كما قال تعالى : (يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ) (١) ، وعادة طاوي السجل أن يطويه بيمينه. وقيل : قبضته ملكه بلا مدافع ولا منازع ، وبيمينه : وبقدرته.

قال الزمخشري : وقيل : مطويات بيمينه : مفنيات بقسمه ، لأنه أقسم أن يفنيها ؛ ثم أخذ ينحى على من تأول هذا التأويل بما يوقف عليه في كتابه ، وإنما قدر عظمته بما سبق إردافه أيضا بما يناسب من ذلك ، إذ كان فيما تقدم ذكر حال الأرض والسموات يوم القيامة ، فقال : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ) ، وهل النفخ في الصور ثلاث مرات أو نفختان؟ قول الجمهور : فنفخة الفزع هي نفخة الصعق ، والصعق هنا الموت ، أي فمات من في السموات ومن في الأرض. قال ابن عطية : والصور هنا : القرن ، ولا يتصور هنا غير هذا. ومن يقول : الصور جمع صورة ، فإنما يتوجه قوله في نفخة البعث. وروي أن بين النفختين أربعين. انتهى ، ولم يعين. وقراءة قتادة ، وزيد بن عليّ هنا : في الصور ، بفتح الواو جمع صورة ، يعكر على قول ابن عطية ، لأنه لا يتصور هنا إلا أن يكون القرن ، بل يكون هذا النفخ في الصور مجازا عن مشارفة الموت وخروج الروح. وقرىء : فصعق بضم الصاد ، والظاهر أن الاستثناء معناه : (إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ) ، فلم يصعق : أي لم يمت ، والمستثنون : جبريل ، وميكائيل ، وإسرافيل ، وملك الموت ، أو رضوان خازن الجنة ، والحور ، ومالك ، والزبانية ؛ أو المستثنى الله ، أقوال آخرها للحسن ، وما قبله للضحاك. وقيل : الاستثناء يرجع إلى من مات قبل الصعقة الأولى ، أي يموت من في السموات والأرض إلا من سبق موته ، لأنهم

__________________

(١) سورة الأنبياء : ٢١ / ١٠٤.

٢٢١

كانوا قد ماتوا ، وهذا نظير : (لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى) (١) ثم نفخ فيه أخرى ، واحتمل أخرى على أن تكون في موضع نصب ، والقائم مقام الفاعل الجار والمجرور ، كما أقيم في الأول ، وأن يكون في موضع رفع مقاما مقام الفاعل ، كما صرح به في قوله : (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ) (٢).

(فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ) (٣) : أي أحياء قد أعيدت لهم الأبدان والأرواح ، (يَنْظُرُونَ) : أي ينتظرون ما يؤمرون ، أو ينتظرون ماذا يفعل بهم ، أو يقلبون أبصارهم في الجهات نظر المبهوت إذا فاجأه خطب عظيم. والظاهر قيامهم الذي هو ضد القعود لأجل استيلاء الذهن عليهم. وقرأ زيد بن علي : قياما بالنصب على الحال ، وخبر المبتدأ الظرف الذي هو إذا الفجائية ، وهي حال لا بد منها ، إذ هي محط الفائدة ، إلا أن يقدر الخبر محذوفا ، أي فإذا هم مبعوثون ، أي موجودون قياما. وأن نصبت قياما على الحال ، فالعامل فيها ذلك الخبر المحذوف. إن قلنا الخبر محذوف ، وأن لا عامل ، فالعامل هو العامل في الظرف ، فإن كان إذا ظرف مكان على ما يقتضيه كلام سيبويه ، فتقديره : فبالحضرة هم قياما ؛ وإن كان ظرف زمان ، كما ذهب إليه الرياشي ، فتقديره : ففي ذلك الزمان الذي نفخ فيه ، هم أي وجودهم ، واحتيج إلى تقدير هذا المضاف لأن ظرف الزمان لا يكون خبرا عن الجثة ؛ وإن كانت إذا حرفا ، كما زعم الكوفيون ، فلا بد من تقدير الخبر ، إلا أن اعتقد أن ينظرون هو الخبر ، ويكون ينظرون عاملا في الحال.

وقرأ الجمهور : (وَأَشْرَقَتِ) مبنيا للفاعل ، أي أضاءت ؛ وابن عباس ، وعبيد بن عمير ، وأبو الجوزاء : مبنيا للمفعول من شرقت بالضوء تشرق ، إذا امتلأت به واغتصت وأشرقها الله ، كما تقول : ملأ الأرض عدلا وطبقها عدلا ، قاله الزمخشري. وقال ابن عطية : وهذا إنما يترتب على فعل يتعدى ، فهذا على أن يقال : أشرق البيت وأشرقه السراج ، فيكون الفعل مجاوزا وغير مجاوز ، كرجع ورجعته ووقف ووقفته. والأرض في هذه الآية : الأرض المبدلة من الأرض المعروفة ، ومعنى أشرقت : أضاءت وعظم نورها. انتهى. وقال صاحب اللوامح : وجب أن يكون الإشراق على هذه القراءة منقولا من شرقت الشمس إذا طلعت ، فيصير متعديا بالفعل بمعنى : أذهبت ظلمة الأرض ، ولا يجوز أن يكون من أشرقت إذا أضاءت ، فإن ذلك لازم ، وهذا قد تعدى إلى الأرض لما لم يذكر الفاعل ، وأقيمت

__________________

(١) سورة الدخان : ٤٤ / ٥٦.

(٢ ـ ٣) سورة الحاقة : ٦٩ / ١٣.

٢٢٢

الأرض مقامه ؛ وهذا على معنى ما ذهب إليه بعض المتأخرين من غير أن يتقدم في ذلك ، لأن من الأفعال ما يكون متعديا لازما معا على مثال واحد. انتهى.

وفي الحديث الصحيح : «يحشر الناس على أرض بيضاء عفراء كقرصة النقي ، ليس بها علم لأحد بنور ربها». قيل : يخلق الله نورا يوم القيامة ، فيلبسه وجه الأرض ، فتشرق الأرض به ، وقال ابن عباس : النور هنا ليس من نور الشمس والقمر ، بل هو نور يخلقه الله فيضيء الأرض. وروي أن الأرض يومئذ من فضة ، والمعنى : أشرقت بنور خلقه الله تعالى ، أضافه إليه إضافة الملك إلى الملك. وقال الزمخشري : استعار الله النور للحق ، والقرآن والبرهان في مواضع من التنزيل ، وهذا من ذلك. والمعنى : وأشرقت الأرض بما يقيمه فيها من الحق والعدل ، وبسط من القسط في الحسنات ، ووزن الحسنات والسيئات ، وينادي عليه بأنه مستعار إضافته إلى اسمه ، لأنه هو الحق العدل ، وإضافة اسمه إلى الأرض ، لأنه يزينها حين ينشر فيها عدله ، وينصب فيها موازين قسطه ، ويحكم بالحق بين أهلها ، ولا ترى أزين للبقاع من العدل ولا أعمر لها منه ، ويقولون للملك العادل : أشرقت الآفاق بعدلك وأضاءت الدنيا بقسطك ، كما يقولون : أظلمت البلاد بجور فلان. وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الظلم ظلمات يوم القيامة» ، وكما فتح الآية بإثبات العدل ، ختمها بنفي الظلم.

(وَوُضِعَ الْكِتابُ) : أي صحائف الأعمال ووحد ، لأنه اسم جنس ، وكل أحد له كتاب على حدة ، وأبعد من قال : الكتاب هنا اللوح المحفوظ. وروي ذلك عن ابن عباس ، ولعله لا يصح ، وقد ضعف بأن الآية سيقت مقام التهديد في سياق الخبر. (وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ) ليشهدوا على أممهم ، (وَالشُّهَداءِ) ، قيل : جمع شاهد ، وهم الذين يشهدون على الناس بأعمالهم. وقيل : هم الرسل من الأنبياء. وقيل : أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يشهدون للرسل. وقال عطاء ، ومقاتل ، وابن زيد : الحفظة. وقال ابن زيد أيضا : النبيون ، والملائكة ، وأمة محمد عليه‌السلام ، والجوارح. وقال قتادة : الشهداء جمع شهيد ، وليس فيه توعد ، وهو مقصود الآية. (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) : أي بين العالم ، ولذلك قسموا بعد إلى قسمين : أهل النار وأهل الجنة ، (بِالْحَقِ) : أي بالعدل. (وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ) : أي جوزيت مكملا. (وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ) ، فلا يحتاج إلى كاتب ولا شاهد ، وفي ذلك وعيد وزيادة تهديد.

(وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها

٢٢٣

أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ ، قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ ، وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ ، وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ ، وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ).

ولما ذكر أشياء من أحوال يوم القيامة على سبيل الإجمال ، بين بعد كيفية أحوال الفريقين وما أفضى إليه كل واحد منهما فقال : (وَسِيقَ) ، والسوق يقتضي الحث على المسير بعنف ، وهو الغالب فيه. وجواب إذا : (فُتِحَتْ أَبْوابُها) ، ودل ذلك على أنه لا يفتح إلا إذا جاءت ؛ كسائر أبواب السجون ، فإنها لا تزال مغلقة حتى يأتي أصحاب الجرائم الذين يسجنون فيها فيفتح ثم يغلق عليهم. وتقدم ذكر قراءة التخفيف والتشديد في فتحت وأبوابها سبعة ، كما ذكر في سورة الحجر. (وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها) ، على سبيل التقريع والتوبيخ ، (أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ) : أي من جنسكم ، تفهمون ما ينبئونكم به ، وسهل عليكم مراجعتهم. وقرأ ابن هرمز : تأتكم بتاء التأنيث ؛ والجمهور : بالياء. (يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ) : أي الكتب المنزلة للتبشير والنذارة ، (وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) : وهو يوم القيامة ، وما يلقى فيه المسمى من العذاب ، (قالُوا بَلى) : أي قد جاءتنا ، وتلوا وأنذروا ، وهذا اعتراف بقيام الحجة عليهم ، (وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ) أي قوله تعالى : (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ) (١). (عَلَى الْكافِرِينَ) : وضع الظاهر موضع المضمر ، أي علينا ، صرحوا بالوصف الموجب لهم العقاب.

ولما فرغت محاورتهم مع الملائكة ، أمروا بدخول النار.

(وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً) : عبر عن الإسراع بهم إلى الجنة مكرمين بالسوق ، والمسوق دوابهم ، لأنهم لا يذهبون إليها إلا راكبين. ولمقابلة قسيمهم ساغ لفظ السوق ، إذ لو لم يتقدم لفظ وسيق لعبر بأسرع ، وإذا شرطية وجوابها قال الكوفيون : وفتحت ، والواو زائدة ؛ وقال غيره محذوف. قال الزمخشري : وإنما حذف لأنه في صفة ثواب أهل الجنة ، فدل على أنه شيء لا يحيط به الوصف ، وحق موقعه ما بعد

__________________

(١) سورة الأعراف : ٧ / ١٨.

٢٢٤

خالدين. انتهى. وقدره المبرد بعد خالدين سعدوا. وقيل الجواب : (وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها) ، على زيادة الواو ، قيل : (حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها). ومن جعل الجواب محذوفا ، أو جعله : (وَقالَ لَهُمْ) ، على زيادة الواو ؛ وجعل قوله : وفتحت جملة حالية ، أي وقد فتحت أبوابها لقوله : (جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ) (١). وناسب كونها حالا أن أبواب الأفراح تكون مفتحة لانتظار من تجيء إليها ، بخلاف أبواب السجون. (وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ) : يحتمل أن يكون تحية منهم عند ملاقاتهم ، وأن كون خبرا بمعنى السلامة والأمن. (طِبْتُمْ) : أي أعمالا ومعتقدا ومستقرا وجزاء. (فَادْخُلُوها خالِدِينَ) : أي مقدرين الخلود.

(وَقالُوا) ، أي الداخلون ، الجنة (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ) : أي ملكناها نتصرف فيها كما نشاء ، تشبيها بحال الوارث وتصرفه فيما يرثه. وقيل : ورثوها من أهل النار ، وهي أرض الجنة ، ويبعد قول من قال هي أرض الدنيا ، قاله قتادة وابن زيد والسدي. (نَتَبَوَّأُ) منها ، (حَيْثُ نَشاءُ) : أي نتخذ أمكنة ومساكن. والظاهر أن قوله : (فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ) : أي بطاعة الله هذا الأجر من كلام الداخلين. وقال مقاتل : هو من كلام الله تعالى. (وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ) : الخطاب للرسول حافين. قال الأخفش : واحدهم حاف. وقال الفراء : لا يفرد. وقيل : لأن الواحد لا يكون حافا ، إذ الحفوف : الإحداق بالشيء من حول العرش. قال الأخفش : من زائدة ، أي حافين حول العرش ؛ وقيل : هي لابتداء الغاية. والظاهر عود الضمير من بينهم على الملائكة ، إذ ثوابهم ، وإن كانوا معصومين ، يكون على حسب تفاضل مراتبهم. فذلك هو القضاء بينهم بالحق ؛ وقيل : ضمير (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ). الظاهر أن قائل ذلك هم من ذوات بينهم المخاطبة من الداخلين الجنة ومن خزنتها ، ومن الملائكة الحافين حول العرش ، إذ هم في نعم سرمدي منجاة من عذاب الله. وقال الزمخشري : المقضي بينهم ، إما جميع العباد ، وإما الملائكة ، كأنه قيل : (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِ). وقالوا : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) على إفضاله وقضائه بيننا بالحق ، وأنزل كل منا منزلة التي هي حقه. وقال ابن عطية : وقيل : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) خاتمة المجالس المجتمعات في العلم.

__________________

(١) سورة ص : ٣٨ / ٥٠.

٢٢٥

سورة غافر

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٢) غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (٣) ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ (٤) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (٥) وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ (٦) الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (٧) رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٨) وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٩) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ (١٠) قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (١١) ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (١٢) هُوَ

٢٢٦

الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً وَما يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَنْ يُنِيبُ (١٣) فَادْعُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (١٤) رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ (١٥) يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (١٦) الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٧) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ (١٨) يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ (١٩) وَاللهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (٢٠) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ (٢١) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢٢) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (٢٣) إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ (٢٤) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (٢٥) وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ (٢٦) وَقالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ (٢٧) وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي

٢٢٧

يَعِدُكُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (٢٨) يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللهِ إِنْ جاءَنا قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ إِلاَّ ما أَرى وَما أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشادِ (٢٩) وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ (٣٠) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ (٣١) وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ (٣٢) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٣) وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ (٣٤) الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (٣٥) وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ (٣٦) أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبابٍ (٣٧) وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ (٣٨) يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ (٣٩) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ (٤٠) وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (٤١) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (٤٢) لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ

٢٢٨

أَصْحابُ النَّارِ (٤٣) فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (٤٤) فَوَقاهُ اللهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ (٤٥) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ (٤٦) وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ (٤٧) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها إِنَّ اللهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ (٤٨) وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ (٤٩) قالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا بَلى قالُوا فَادْعُوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (٥٠) إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ (٥١) يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (٥٢) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ (٥٣) هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٥٤) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (٥٥) إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (٥٦) لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٥٧) وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلا الْمُسِيءُ قَلِيلاً ما تَتَذَكَّرُونَ (٥٨) إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (٥٩) وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ

٢٢٩

جَهَنَّمَ داخِرِينَ (٦٠) اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (٦١) ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٦٢) كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ (٦٣) اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٦٤) هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٦٥) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (٦٦) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٦٧) هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٦٨) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (٦٩) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٧٠) إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ (٧١) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (٧٢) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (٧٣) مِنْ دُونِ اللهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ الْكافِرِينَ (٧٤) ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (٧٥) ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٧٦) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (٧٧) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ

٢٣٠

مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ (٧٨) اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٧٩) وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (٨٠) وَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَأَيَّ آياتِ اللهِ تُنْكِرُونَ (٨١) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨٢) فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٨٣) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (٨٤) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ (٨٥)

أزف الشيء : قرب ، قال الشاعر :

أزف الترحل غير أن ركابنا

لما تزل برحالنا وكأن قد

التباب : الخسران ، السلسلة معروفة ، السحب : الجر ، سجرت التنور : ملأنه نارا.

(حم ، تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ، غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ ، ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ ، كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ ، وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ).

سبع الحواميم مكيات ، قالوا بإجماع. وقيل : في بعض آيات هذه السور مدني. قال ابن عطية : وهو ضعيف. وفي الحديث : «أن الحواميم ديباج القرآن» وفيه : «من أراد أن يرتع في رياض مونقة من الجنة فليقرأ الحواميم» ، وفيه : «مثل الحواميم في القرآن مثل

٢٣١

الحبرات في الثياب وهذه الحواميم مقصورة على المواعظ والزجر وطرق الآخرة وهي قصار لا تلحق فيها سآمة».

ومناسبة أول هذه السورة لآخر الزمر أنه تعالى لما ذكر ما يؤول إليه حال الكافرين وحال المؤمنين ، ذكر هنا أنه تعالى (غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ) ، ليكون ذلك استدعاء للكافر إلى الإيمان ، وإلى الإقلاع عما هو فيه ، وأن باب التوبة مفتوح. وذكر شدة عقابه وصيرورة العالم كلهم فيه ليرتدع عما هو فيه ، وأن رجوعه إلى ربه فيجازيه بما يعمل من خير أو شر. وقرىء : بفتح الحاء ، اختيار أبي القاسم بن جبارة الهذلي ، صاحب كتاب : (الكامل في القرآن) ، وأبو السمال : بكسرها على أصل التقاء الساكنين ، وابن أبي إسحاق وعيسى : بفتحها ، وخرج على أنها حركة التقاء الساكنين ، وكانت فتحة طلبا للخفة كأين ، وحركة إعراب على انتصابها بفعل مقدر تقديره : اقرأ حم. وفي الحديث : «أن أعرابيا سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن حم ما هو؟ فقال : أسماء وفواتح سور» ، وقال شريح بن أبي أوفى العبسي :

يذكرني حاميم والرمح شاجر

فهلا تلا حاميم قبل التقدم

وقال الكميت :

وجدنا لكم في آل حميم آية

تأولها منا تقي ومعرب

أعربا حاميم ، ومنعت الصرف للعلمية ، أو العلمية وشبه العجمة ، لأن فاعيل ليس من أوزان أبنية العرب ، وإنما وجد ذلك في العجم ، نحو : قابيل وهابيل. وتقدم فيما روي في الحديث جمع حم على الحواميم ، كما جمع طس على الطواسين. وحكى صاحب زاد المسير عن شيخه ابن منصور اللغوي أنه قال : من الخطأ أن تقول : قرأت الحواميم ، وليس من كلام العرب ؛ والصواب أن يقول : قرأت آل حم. وفي حديث ابن مسعود : «إذا وقعت في آل حميم وقعت في روضات دمثات» انتهى. فإن صح من لفظ الرسول أنه قال : «الحواميم كان حجة على من منع ذلك» ، وإن كان نقل بالمعنى ، أمكن أن يكون من تحريف الأعاجم. ألا ترى لفظ ابن مسعود : «إذا وقعت في آل حميم» ، وقول الكميت : وجدنا لكم في آل حاميم؟ وتقدم الكلام على هذه الحروف المقطعة في أول البقرة ، وقد زادوا في حاميم أقوالا هنا ، وهي مروية عن السلف ، غنينا عن ذكرها ، لاضطرابها وعدم الدليل على صحة شيء منها.

فإن كانت حم اسما للسورة ، كانت في موضع رفع على الابتداء ، وإلا فتنزيل مبتدأ ،

٢٣٢

ومن الله الخبر ، أو خبر ابتداء ، أي هذا تنزيل ، ومن الله متعلق بتنزيل. و (الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) : صفتان دالتان على المبالغة في القدرة والغلبة والعلم ، وهما من صفات الذات. وقال الزجاج : غافر وقابل صفتان ، وشديد بدل. انتهى. وإنما جعل غافر وقابل صفتين وإن كانا اسمي فاعل ، لأنه فهم من ذلك أنه لا يراد بهما التجدد ولا التقييد بزمان ، بل أريد بهما الاستمرار والثبوت ؛ وإضافتهما محضة فيعرف ، وصح أن يوصف بهما المعرفة ، وإنما أعرب (شَدِيدِ الْعِقابِ) بدلا ، لأنه من باب الصفة المشبهة ، ولا يتعرف بالإضافة إلى المعرفة ، وقد نص سيبويه على أن كل ما إضافته غير محضة ، إذا أضيف إلى معرفة ، جاز أن ينوي بإضافته التمحض ، فيتعرف وينعت به المعرفة ، إلا ما كان من باب الصفة المشبهة ، فإنه لا يتعرف. وحكى صاحب المقنع عن الكوفيين أنهم أجازوا في حسن الوجه وما أشبهه أن يكون صفة للمعرفة ، قال : وذلك خطأ عند البصريين ، لأن حسن الوجه نكرة ، وإذا أردت تعريفه أدخلت فيه أل. وقال أبو الحجاج الأعلم : لا يبعد أن يقصد بحسن الوجه التعريف ، لأن الإضافة لا تمنع منه. انتهى ، وهذا جنوح إلى مذهب الكوفيين.

وقد جعل بعضهم (غافِرِ الذَّنْبِ) وما بعده أبدالا ، اعتبارا بأنها لا تتعرف بالإضافة ، كأنه لا حظ في غافر وقابل زمان الاستقبال. وقيل : غافر وقابل لا يراد بهما المضي ، فهما يتعرفان بالإضافة ويكونان صفتين ، أي إن قضاءه بالغفران وقبول التوب هو في الدنيا. قال الزمخشري : جعل الزجاج (شَدِيدِ الْعِقابِ) وحده بدلا بين الصفات فيه نبو ظاهر ، والوجه أن يقال : لما صودف بين هذه المعارف هذه النكرة الواحدة ، فقد آذنت بأن كلها أبدال غير أوصاف ، ومثال ذلك قصيدة جاءت تفاعيلها كلها على مستفعلن ، فهي محكوم عليها أنها من الرجز ، فإن وقع فيها جزء واحد على متفاعلن كانت من الكامل ، ولا نبو في ذلك ، لأن الجري على القواعد التي قد استقرت وصحت هو الأصل. وقوله : فقد آذنت بأن كلها أبدال تركيب غير عربي ، لأنه جعل فقد أذنت جواب لما ، وليس من كلامهم : لما قام زيد فقد قام عمرو ، وقوله : بأن كلها أبدال فيه تكرار الأبدال ، أما بدل البدل عند من أثبته فقد تكررت فيه الأبدال ، وأما بدل كل من كل ، وبدل بعض من كل ، وبدل اشتمال ، فلا نص عن أحد من النحويين أعرفه في جواز التكرار فيها ، أو منعه ، إلا أن في كلام بعض أصحابنا ما يدل على أن البدل لا يكرر ، وذلك في قول الشاعر :

فإلى ابن أم أناس ارحل ناقتي

عمرو فتبلغ ناقتي أو تزحف

ملك إذا نزل الوفود ببابه

عرفوا موارد مزنه لا تنزف

٢٣٣

قال : فملك بدل من عمرو ، بدل نكرة من معرفة ، قال : فإن قلت : لم لا يكون بدلا من ابن أم أناس؟ قلت : لأنه قد أبدل منه عمرو ، فلا يجوز أن يبدل منه مرة أخرى ، لأنه قد طرح. انتهى. فدل هذا على أن البدل لا يتكرر ، ويتحد المبدل منه ؛ ودل على أن البدل من البدل جائز ، وقوله : جاءت تفاعيلها ، هو جمع تفعال أو تفعول أو تفعول أو تفعيل ، وليس شيء من هذه الأوزان يكون معدولا في آخر العروض ، بل أجزاؤها منحصرة ، ليس منها شيء من هذه الأوزان ، فصوابه أن يقول : جاءت أجزاؤها كلها على مستفعلن. وقال سيبويه أيضا : ولقائل أن يقول هي صفات ، وإنما حذفت الألف واللام من شديد العقاب ليزاوج ما قبله وما بعده لفظا ، فقد غيروا كثيرا من كلامهم عن قوانينه لأجل الازدواج ، حتى قالوا : ما يعرف سحادليه من عنادليه ، فثنوا ما هو وتر لأجل ما هو شفع. على أن الخليل قال في قولهم : لا يحسن بالرجل مثلك أن يفعل ذلك ، ويحسن بالرجل خير منك أن يفعل ، على نية الألف واللام ، كما كان الجماء الغفير على نية طرح الألف واللام. ومما يسهل ذلك أمن اللبس وجهالة الموصوف. انتهى. ولا ضرورة إلى اعتقاد حذف الألف واللام من شديد العقاب ، وترك ما هو أصل في النحو ، وتشبيه بنادر مغير عن القوانين من تثنية الوتر للشفع ، وينزه كتاب الله عن ذلك كله.

وقال الزمخشري : ويجوز أن يقال قد تعمد تنكيره وإبهامه للدلالة على فرط الشدة ، وعلى ما لا شيء أدهى منه ، وأمر لزيادة الإنذار. ويجوز أن يقال هذه النكتة هي الداعية إلى اختيار البدل على الوصف إذا سلكت طريقة الإبدال. انتهى. وأجاز مكي في غافر وقابل البدل حملا على أنهما نكرتان لاستقبالهما ، والوصف حملا على أنهما معرفتان لمضيهما. وقال أبو عبد الله الرازي : لا نزاع في جعل غافر وقابل صفة ، وإنما كانا كذلك ، لأنهما يفيدان معنى الدوام والاستمرار ، وكذلك شديد العقاب تفيد ذلك ، لأن صفاته منزهة عن الحدوث والتجدد ، فمعناه : كونه بحيث شديد عقابه ، وهذا المعنى حاصل أبدا ، لا يوصف بأنه حصل بعد أن لم يكن. انتهى. وهذا كلام من لم يقف على علم النحو ، ولا نظر فيه ، ويلزمه أن يكون حكيم عليم من قوله : (مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ) (١) ، ومليك مقتدر من قوله : (عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) (٢) ، معارف لتنزيه صفاته عن الحدوث والتجدد ، ولأنها صفات لم تحصل بعد أن لم تكن ، ويكون تعريف صفات بأل وتنكيرها سواء ، وهذا لا يذهب إليه مبتدىء في علم النحو ، فضلا عمن صنف فيه ، وقدم على تفسير كتاب الله.

__________________

(١) سورة النمل : ٢٧ / ٦.

(٢) سورة القمر : ٥٤ / ٥٥.

٢٣٤

وتلخص من هذا الكلام المطوّل أن غافر الذنب وما عطف عليه وشديد العقاب أوصاف ، لأن المعطوف على الوصف وصف ، والجميع معارف على ما تقرر أو أبدال ، لأن المعطوف على البدل بدل لتنكير الجميع. أو غافر وقابل وصفان ، وشديد بدل لمعرفة ذينك وتنكير شديد. وقال الزمخشري : فإن قلت : ما بال الواو في قوله : (وَقابِلِ التَّوْبِ)؟ قلت : فيها نكتة جليلة ، وهي إفادة الجمع للمذنب التائب بين رحمتين ، بين أن يقبل توبته فيكتبها له طاعة من الطاعات ، وأن يجعلها محاءة للذنوب ، كأن لم يذنب ، كأنه قال : جامع المغفرة والقبول. انتهى. وما أكثر تلمح هذا الرجل وشقشقته ، والذي أفاد أن الواو للجمع ، وهذا معروف من ظاهر علم النحو. وقال صاحب الغنيان : وإنما عطف لاجتماعهما وتلازمهما وعدم انفكاك أحدهما عن الآخر ، وقطع شديد العقاب عنهما فلم يعطف لانفراده. انتهى ، وهي نزغة اعتزالية. ومذهب أهل السنة جواز غفران الله للعاصي ، وإن لم يتب إلا الشرك. والتوب يحتمل أن يكون كالذنب ، اسم جنس ؛ ويحتمل أن يكون جمع توبة ، كبشر وبشرة ، وساع وساعة. والظاهر من قوله : (وَقابِلِ التَّوْبِ) أن توبة العاصي بغير الكفر ، كتوبة العاصي بالكفر مقطوع بقبولها. وذكروا في القطع بقبول توبة العاصي قولين لأهل السنة.

ولما ذكر تعالى شدة عقابه أردفه بما يطمع في رحمته ، وهو قوله : (ذِي الطَّوْلِ) ، فجاء ذلك وعيدا اكتنفه وعدان. قال ابن عباس : الطول : السعة والغنى ؛ وقال قتادة : النعم ؛ وقال ابن زيد : القدرة ، وقوله : طوله ، تضعيف حسنات أوليائه وعفوه عن سيئاتهم.

ولما ذكر جملة من صفاته العلا الذاتية والفعلية ، ذكر أنه المنفرد بالألوهية ، المرجوع إليه في الحشر ؛ ثم ذكر حال من جادل في الكتاب ، وأتبع بذكر الطائعين من ملائكته وصالحي عباده فقال : (ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا) ، وجدالهم فيها قولهم : مرة سحر ، ومرة شعر ، ومرة أساطير الأولين ، ومرة إنما يعلمه بشر ، فهو جدال بالباطل ، وقد دل على ذلك بقوله : (وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَ) (١). وقال السدي : ما يجادل : أي ما يماري. وقال ابن سلام : ما يجحد. وقال أبو العالية : نزلت في الحارث بن قيس ، أحد المستهزئين. وأما ما يقع بين أهل العلم من النظر فيها ، واستيضاح معانيها ، واستنباط الأحكام والعقائد منها ، ومقارعة أهل البدع بها ، فذلك فيه الثواب الجزيل. ثم نهى السامع

__________________

(١) سورة غافر : ٤٠ / ٥.

٢٣٥

أن يغتر بتقلب هؤلاء الكفار في البلاد وتصرفاتهم فيها ، بما أمليت لهم من المساكن والمزارع والممالك والتجارات والمكاسب ، وكانت قريش تتجر في الشام والمين ؛ فإن ذلك وبال عليهم وسبب في إهلاكهم ، كما هلك من كان قبلهم من مكذبي الرسل.

وقرأ الجمهور : (فَلا يَغْرُرْكَ) ، بالفك ، وهي لغة أهل الحجاز. وقرأ زيد بن علي : وعبيد بن عمير : فلا يغرك ، بالإدغام مفتوح الراء ، وهي لغة تميم. ولما كان جدال الكفار ناشئا عن تكذيب ما جاء به الرسول ، عليه‌السلام ، من آيات الله ، ذكر من كذب قبلهم من الأمم السالفة ، وما صار إليه حالهم من حلول نقمات الله بهم ، ليرتدع بهم كفار من بعث الرسول ، عليه‌السلام ، إليهم ؛ فبدأ بقوم نوح ، إذ كان عليه‌السلام أول رسول في الأرض ، وعطف على قومه الأحزاب ، وهم الذين تحزبوا على الرسل. ولم يقبلوا ما جاءوا به من عند الله ، ومنهم : عاد وثمود وفرعون وأتباعه ، وقدم الهم بالأخذ على الجدال بالباطل ، لأن الرسل لما عصمهم الله منهم أن يقتلوهم رجعوا إلى الجدال بالباطل. وقرأ الجمهور : (بِرَسُولِهِمْ) ؛ وقرأ عبد الله : برسولها ، عاد الضمير إلى لفظ أمة. (لِيَأْخُذُوهُ) : ليتمكنوا منه بحبس أو تعذيب أو قتل. وقال ابن عباس : ليأخذوه : ليملكوه ، وأنشد قطرب :

فأما تأخذوني تقتلوني

فكم من آخذ يهوى خلودي

ويقال للقتيل والأسير : أخيذ. وقال قتادة : (لِيَأْخُذُوهُ) : ليقتلوه ، عبر عن المسبب بالسبب. (وَجادَلُوا بِالْباطِلِ) : أي بما هو مضمحل ذاهب لا ثياب له. وقيل : الباطل : الكفر. وقيل : الشيطان. وقيل : بقولهم : (ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا) (١). (لِيُدْحِضُوا) : ليزلقوا ، (بِهِ الْحَقَ) : أي الثابت الصدق. (فَأَخَذْتُهُمْ) : فأهلكتهم. (فَكَيْفَ كانَ عِقابِ) إياهم ، استفهام تعجيب من استئصالهم ، واستعظام لما حل بهم ، وليس استفهاما عن كيفية عقابهم ، وكانوا يمرون على مساكنهم ويرون آثار نعمة الله فيهم ؛ واجتزأ بالكسر عن ياء الإضافة لأنها فاصلة ، والأصل عقابي. (وَكَذلِكَ حَقَّتْ) : أي مثل ذلك الوجوب من عقابهم وجب على الكفرة ، كونهم من أصحاب النار ، من تقدم منهم ومن تأخر. و (أَنَّهُمْ) : بدل من (كَلِمَةُ رَبِّكَ) ، فهي في موضع رفع ، ويجوز أن يكون التقدير لأنهم وحذف لام العلة. والمعنى : كما وجب إهلاك أولئك الأمم ، وجب إهلاك هؤلاء ، لأن الموجب لإهلاكهم وصف جامع لهم ، وهو كونهم من أصحاب النار. وفي مصحف

__________________

(١) سورة يس : ٣٦ / ١٥.

٢٣٦

عبد الله : وكذلك سبقت ، وهو تفسير معنى ، لا قراءة. وقرأ ابن هرمز ، وشيبة ، وابن القعقاع ، ونافع ، وابن عامر : كلمات على الجمع ؛ وأبو رجاء ، وقتادة ، وباقي السبعة : على الإفراد.

(الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ ، رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ، وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ، إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ ، قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ ، ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ ، هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً وَما يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ).

لما ذكر جدال الكفار في آيات الله وعصيانهم ، ذكر طاعة هؤلاء المصطفين من خلقه ، وهم حمله العرش ، (وَمَنْ حَوْلَهُ) ، وهم الحافون به من الملائكة. وذكروا من وصف تلك الجملة وعظم خلقهم ، ووصف العرش ، ومن أي شيء خلق ، والحجب السبعينيات التي اختلفت أجناسها ، قالوا : احتجب الله عن العرش وعن حامليه ، والله أعلم به على أن قدرته تعالى محتملة لكل ما ذكروه مما لا يقتضي تجسيما ، لكنه يحتاج إلى نقل صحيح. وقرأ الجمهور : (الْعَرْشَ) بفتح العين ؛ وابن عباس وفرقة : بضمها ، كأنه جمع عرش ، كسقف وسقف ، أو يكون لغة في العرش.

(يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) : أي ينزهونه عن جميع النقائص ، (بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) : بالثناء عليه بأنه المنعم على الإطلاق. والتسبيح : إشارة إلى الإجلال ؛ والتحميد : إشارة إلى الإكرام ، فهو قريب من قوله : (تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) (١) ، ونظيره : (وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِ) (٢) ؛ وقولهم : ونحن نسبح بحمدك. (وَيُؤْمِنُونَ) : أي ويصدقون بوجوده تعالى وبما وصف به نفسه من صفاته العلا ، وتسبيحهم إياه يتضمن الإيمان. قال الزمخشري : فإن قلت : ما فائدة قوله : (وَيُؤْمِنُونَ بِهِ) ، ولا يخفى على أحد أن حملة العرش ومن حوله من الملائكة

__________________

(١) سورة الرحمن : ٥٥ / ٧٨.

(٢) سورة الزمر : ٣٩ / ٧٥.

٢٣٧

الذين يسبحون بحمده مؤمنون؟ قلت : فائدته إظهار شرف الإيمان وفضله والترغيب فيه ، كما وصف الأنبياء في غير موضع من كتابه بالصلاح لذلك ، وكما عقب أعمالهم الخير بقوله : (ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) (١) ، فأبان بذلك فضل الإيمان. وفائدة أخرى ، وهي التنبيه على أن الأمر لو كان كما تقول المجسمة ، لكان حملة العرش ومن حوله مشاهدين معاينين ، ولما وصفوا بالإيمان لأنه إنما يوصف بالإيمان الغائب. ولما وصفوا به على سبيل الثناء عليهم ، علم أن إيمانهم وإيمان من في الأرض وكل من غاب عن ذلك المقام سواء في أن إيمان الجميع بطريق النظر والاستدلال لا غير ، وأنه لا طريق إلى معرفته إلا هذا ، وأنه منزه عن صفات الإجرام.

وقد روعي التناسب في قوله : (وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا) ، كأنه قيل : ويؤمنون ويستغفرون لمن في مثل حالهم وصفتهم ، وفيه تنبيه على أن الاشتراك في الإيمان يجب أن يكون أدعى شيء إلى النصيحة ، وأبعثه على إمحاض الشفقة ، وإن تفاوتت الأجناس وتباعدت الأماكن ، فإنه لا تجانس بين ملك وإنسان ، ولا بين سماء وأرض قط ثم لما جاء جامع الإيمان ، جاء معه التجانس الكلي والتناسب الحقيقي ، حتى استغفر من حول العرش لمن فوق الأرض ، قال تعالى : (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ) (٢). انتهى ، وهو كلام حسن. إلا أن قوله : إن إيمان الجميع بطريق النظر والاستدلال لا غير فيه نظر ، وقوله : (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا) تخصيص لعموم قوله : (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ). وقال مطرف بن الشخير : وجدنا أنصح العباد للعباد الملائكة ، وأغش العباد للعباد الشياطين ، وتلا هذه الآية. انتهى. وينبغي أن يقال : أنصح العباد للعباد الأنبياء والملائكة. (رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً) : أي يقولون : ربنا واحتمل هذا المحذوف بيانا ليستغفرون ، فيكون في محل رفع ، وأن يكون حالا ، فيكون في موضع نصب. وكثيرا ما جاء النداء بلفظ ربنا ورب ، وفيه استعطاف العبد لمولاه الذي رباه وقام بمصالحه من لدن نشأته إلى وقت ندائه ، فهو جدير بأن لا يناديه إلا بلفظ الرب. وانتصب رحمة وعلما على التمييز ، والأصل : وسعت رحمتك كل شيء ، وعلمك كل شيء ؛ وأسند الوسع إلى صاحبها مبالغة ، كأن ذاته هي الرحمة والعلم ، وقد وسع كل شيء. وقدم الرحمة ، لأنهم بها يستمطرون إحسانه ويتوسلون بها إلى حصول مطلوبهم من سؤال المغفرة.

__________________

(١) سورة البلد : ٩٠ / ١٧.

(٢) سورة الشورى : ٤٢ / ٥.

٢٣٨

ولما حكى تعالى عنهم كيفية ثنائهم عليه ، وأخبر باستغفارهم ، وهو قولهم : (فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ). وطلب المغفرة نتيجة الرحمة ، وللذين تابوا يتضمن أنك علمت توبتهم ، فهما راجعان إلى قوله : (رَحْمَةً وَعِلْماً) ، و (اتَّبَعُوا سَبِيلَكَ) ، وهي سبيل الحق التي نهجتها لعبادك ، (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ) : الذي لا تغالب ، (الْحَكِيمُ) : الذي يضع الأشياء مواضعها التي تليق بها. ولما طلب الغفران يتضمن إسقاط العذاب ، أردفوه بالتضرع بوقايتهم العذاب على سبيل المبالغة والتأكيد ، فقالوا : (وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ) ، وطلب المغفرة ، ووقاية العذاب للتائب الصالح ، وقد وعد بذلك الوعد الصادق بمنزلة الشفاعة في زيادة الثواب والكرامة.

ولما سألوا إزالة العقاب ، سألوا اتصال الثواب ، وكرر الدعاء بربنا فقالوا : (رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ). وقرأ الجمهور : جنات جمعا ؛ وزيد بن علي ، والأعمش : جنة عدن بالإفراد ، وكذا في مصحف عبد الله ، وتقدم الكلام في إعراب التي في قوله : (جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ) (١) في سورة مريم. وقرأ ابن أبي عبلة : صلح بضم اللام ، يقال : صلح فهو صليح وصلح فهو صالح. وقرأ عيسى : وذريتهم ، بالإفراد ؛ والجمهور بالجمع. وعن ابن جبير في تفسير ذلك أن الرجل يدخل الجنة قبل قرابته فيقول : أين أبي؟ أين أمي؟ أين ابني؟ أين زوجتي؟ فيلحقون به لصلاحه ولتنبيهه عليه وطلبه إياهم ، وهذه دعوة الملائكة. انتهى. وإذا كان الإنسان في خير ، ومعه عشيرته وأهله ، كان أبهج عنده وأسر لقلبه. والظاهر عطف ومن على الضمير في وأدخلهم ، إذ هم المحدث عنهم والمسئول لهم. وقال الفراء ، والزجاج : نصبه من مكانين : إن شئت على الضمير في (وَأَدْخِلْهُمْ) ، وإن شئت على الضمير في (وَعَدْتَهُمْ).

(وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ) : أي امنعهم من الوقوع فيها حتى لا يترتب عليها جزاؤها ، أو وقهم جزاء السيئات التي اجترحوها ، فحذف المضاف ولا تكرار في هذا ، وقوله : (وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ) لعدم توافق المدعو لهم أن الدعاء الأول للذين تابوا ، والثاني أنه لهم ولمن صلح من المذكورين ، أو لاختلاف الدعاءين إذا أريد بالسيئات أنفسها ، فذلك وقاية عذاب الجحيم ، وهذا وقاية الوقوع في السيئات. والتنوين في يومئذ تنوين العوض ، والمحذوف جملة عوض منها التنوين ، ولم تتقدم جملة يكون التنوين عوضا منها ، كقوله :

__________________

(١) سورة مريم : ١٩ / ٦١.

٢٣٩

(فَلَوْ لا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ) (١) ، (وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ) (٢) أي حين إذ بلغت الحلقوم ، فلا بد من تقدير جملة يكون التنوين عوضا منها كقوله ، يدل عليها معنى الكلام ، وهي (وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ) : أي جزاءها يوم إذ يؤاخذ بها (فَقَدْ رَحِمْتَهُ). ولم يتعرض أحد من المفسرين الذين وقفنا على كلامهم في الآية للجملة التي عوض منها التنوين في يومئذ ، وذلك إشارة إلى الغفران. ودخول الجنة ووقاية العذاب هو الفوز بالظفر العظيم الذي عظم خطره وجل صنعه.

ولما ذكر شيئا من أحوال المؤمنين ، ذكر شيئا من أحوال الكافرين ، وما يجري لهم في الآخرة من اعترافهم بذنوبهم واستحقاقهم العذاب وسؤالهم الرجوع إلى الدنيا. ونداؤهم ، قال السدي : في النار. وقال قتادة : يوم القيامة ، والمنادون لهم الزبانية على جهة التوبيخ والتقريع. واللام في (لَمَقْتُ) لام الابتداء ولام القسم ، ومقت مصدر مضاف إلى الفاعل ، التقدير : لمقت الله إياكم ، أو لمقت الله أنفسكم ، وحذف المفعول لدلالة ما بعده عليه في قوله : (أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ). والظاهر أن مقت الله إياهم هو في الدنيا ، ويضعف أن يكون في الآخرة ، كما قال بعضهم لبقاء (إِذْ تُدْعَوْنَ) ، مفلتا من الكلام ، لكونه ليس له عامل تقدم ، ولا مفسر لعامل. فإذا كان المقت السابق في الدنيا ، أمكن أن يضمر له عامل تقديره : مقتكم إذ تدعون. وقال الزمخشري : وإذ تدعون منصوب بالمقت الأول ، والمعنى : أنه يقال لهم يوم القيامة : إن الله مقت أنفسكم الأمارة بالسوء والكفر حين كان الأنبياء يدعونكم إلى الإيمان ، فتأبون قبوله وتختارون عليه الكفر ، أشد مما تمقتونهن اليوم وأنتم في النار ، إذ أوقعتكم فيها بأتباعكم هواهن. انتهى ، وفيه دسيسة الاعتزال. وأخطأ في قوله : (إِذْ تُدْعَوْنَ) منصوب بالمقت الأول ، لأن المقت مصدر ، ومعموله من صلته ، ولا يجوز أن يخبر عنه إلا بعد استيفائه صلته ، وقد أخبر عنه بقوله : (أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ) ، وهذا من ظواهر علم النحو التي لا تكاد تخفى على المبتدئين ، فضلا عما تدعي العجم أنه في العربية شيخ العرب والعجم.

ولما كان الفصل بين المصدر ومعموله بالخبر ، لا يجوز قدرنا العامل فيه مضمر ، أي مقتكم إذ تدعون ، وشبيهه قوله تعالى : (إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ) (٣). قدروا العامل برجعه (يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ) للفصل ب (لَقادِرٌ) بين المصدر ويوم. واختلاف زماني

__________________

(١) سورة الواقعة : ٥٦ / ٨٣.

(٢) سورة الواقعة : ٥٦ / ٨٤.

(٣) سورة الطارق : ٨٦ / ٨ ـ ٩.

٢٤٠