البحر المحيط في التّفسير - ج ٩

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]

البحر المحيط في التّفسير - ج ٩

المؤلف:

محمّد بن يوسف [ أبي حيّان الأندلسي الغرناطي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٨٢

وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ، إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ).

هذه السورة مكية ، وعن ابن عباس : إلا (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ) ، و (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا). وعن مقاتل : إلا (يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا) ، وقوله : (يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ). وعن بعض السلف : إلا (يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا) ، إلى قوله : (تَشْعُرُونَ) ، ثلاث آيات. وعن بعضهم : إلا سبع آيات ، من قوله : (يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا). ومناسبتها لآخر ما قلبها أنه ختم السورة المتقدمة بقوله : (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) (١) ، وبدأ هنا : (تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ). وقال الفراء والزجاج : (تَنْزِيلُ) مبتدأ ، و (مِنَ اللهِ) الخبر ، أو خبر مبتدأ محذوف ، أي هذا تنزيل ، ومن الله متعلق بتنزيل ؛ وأقول إنه خبر ، والمبتدأ هو ليعود على قوله : (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) ، كأنه قيل : وهذا الذكر ما هو؟ فقيل : هو تنزيل الكتاب. وقال الزمخشري : أو غير صلة ، يعني من الله ، كقولك : هذا الكتاب من فلان إلى فلان ، وهو على هذا خبر بعد خبر ، أو خبر مبتدأ محذوف تقديره : هذا تنزيل الكتاب. هذا من الله ، أو حال من تنزيل عمل فيها معنى الإشارة. انتهى. ولا يجوز أن يكون حالا عمل فيها معنى الإشارة ، لأن معاني الأفعال لا تعمل إذا كان ما هو فيه محذوفا ، ولذلك ردوا على أبي العباس قوله في بيت الفرزدق :

وإذ ما مثلهم بشر

أن مثلهم منصوب بالخبر المحذوف وهو مقدر ، أي وأن ما في الوجود في حال مماثلتهم بشر. والكتاب يظهر أنه القرآن ، وكرر في قوله : (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ) على جهة التفخيم والتعظيم ، وكونه في جملة غير السابقة ملحوظا فيه إسناده إلى ضمير العظمة وتشريف من أنزل إليه بالخطاب وتخصيصه بالحق. وقرأ ابن أبي عبلة وزيد بن علي وعيسى : تنزيل بالنصب ، أي اقرأ والزم. وقال ابن عطية : قال المفسرون في تنزيل الكتاب هو القرآن ، ويظهر لي أنه اسم عام لجميع ما تنزل من عند الله من الكتب ، وكأنه أخبر إخبارا مجردا أن الكتب الهادية الشارعة إنما تنزيلها من الله ، وجعل هذا الإخبار تقدمة وتوطئة لقوله : (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ) ، والعزيز في قدرته ، الحكيم في ابتداعه.

__________________

(١) سورة ص : ٣٨ / ٨٧.

١٨١

والكتاب الثاني هو القرآن ، لا يحتمل غير ذلك. وقال الزمخشري : فإن قلت : ما المراد بالكتاب؟ قلت : الظاهر على الوجه الأول أنه القرآن ، وعلى الثاني أنه السورة. انتهى. وبالحق في موضع الحال ، أي ملتبسا بالحق ، وهو الصدق الثابت فيما أودعناه من إثبات التوحيد والنبوة والمعاد والتكاليف ، فهذا كله حق وصدق يجب اعتقاده والعمل به ، أو يكون بالحق : بالدليل على أنه من عند الله ، وهو عجز الفصحاء عن معارضته. وقال ابن عطية : أي متضمنا الحق فيه وفي أحكامه وفي أخباره ، أو بمعنى الاستحقاق وشمول المنفعة للعالم في هدايتهم ودعوتهم إلى الله. انتهى ملخصا.

ولما امتن تعالى على رسوله بإنزال الكتاب عليه بالحق ، وكان الحق إخلاص العبادة لله ، أمره تعالى بعبادته فقال : (فَاعْبُدِ اللهَ) ، وكأن هذا الأمر ناشىء عن إنزال الكتاب ، فالفاء فيه للربط ، كما تقول : أحسن إليك زيد فاشكره. (مُخْلِصاً) : أي ممحضا ، (لَهُ الدِّينَ) : من الشرك والرياء وسائر ما يفسده. وقرأ الجمهور : الدين بالنصب. وقرأ ابن أبي عبلة : بالرفع فاعلا بمخلصا ، والراجع لذي الحال محذوف على رأي البصريين ، أي الدين منك ، أو يكون أل عوضا من الضمير ، أي دينك. وقال الزمخشري : وحق من رفعه أن يقرأ مخلصا بفتح اللام ، كقوله تعالى : (وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ) (١) ، حتى يطابق قوله : (أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ) ، والخالص والمخلص واحد ، إلا أن يصف الدين بصفة صاحبه على الإسناد المجازي ، كقولهم : شعر شاعر. وأما من جعل مخلصا حالا من العابد ، وله الدين مبتدأ وخبر ، فقد جاء بإعراب رجع به الكلام إلى قولك : لله الدين ، أي لله الدين الخالص. انتهى. وقد قدمنا تخريجه على أنه فاعل بمخلصا ، وقدرنا ما يربط الحال بصاحبها ، وممن ذهب إلى أن له الدين مستأنف مبتدأ وخبر الفراء. (أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ) : أي من كل شائبة وكدر ، فهو الذي يجب أن تخلص له الطاعة ، لاطاعه على الغيوب والأسرار ، ولخلوص نعمته على عباده من غير استجرار منفعة منهم. قال الحسن : الدين الخالص : الإسلام ؛ وقال قتادة : شهادة أن لا إله إلا الله.

(وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا) : مبتدأ ، والظاهر أنهم المشركون ، واحتمل أن يكون الخبر قال المحذوف المحكي به قوله : (ما نَعْبُدُهُمْ) ، أي والمشركون المتخذون من دون الله أولياء قالوا : ما نعبد تلك الأولياء (إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) ، واحتمل أن يكون الخبر :

__________________

(١) سورة النساء : ٤ / ١٤٦.

١٨٢

(إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ) ، وذلك القول المحذوف في موضع الحال ، أي اتخذوهم قائلين ما نعبدهم. وأجاز الزمخشري أن يكون الخبر (إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ) ، وقالوا : المحذوفة بدل من اتخذوا صلة الذين ، فلا يكون له موضع من الإعراب ، وكأنه من بدل الاشتمال. وفي مصحف عبد الله : قالوا ما نعبدهم ، وبه قرأ هو وابن عباس ومجاهد وابن جبير ، وأجاز الزمخشري أن يكون (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا) بمعنى المتخذين ، وهم الملائكة وعيسى واللات والعزى ونحوهم ، والضمير في اتخذوا عائد على الموصول محذوف تقديره : والذين اتخذهم المشركون أولياء ، وأولياء مفعول ثان ، وهذا الذي أجازه خلاف الظاهر ، وهذه المقالة شائعة في العرب ، فقال ذلك ناس منهم في الملائكة وناس في الأصنام والأوثان. قال مجاهد : وقد قال ذلك قوم من اليهود في عزيز ، وقوم من النصارى في المسيح. وقرىء : ما نعبدهم بضم النون ، اتباعا لحركة الباء.

(إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ) : اقتصر في الرد على مجرد التهديد ، والظاهر أن الضمير في بينهم عائد على المتخذين ، والمتخذين والحكم بينهم هو بإدخال الملائكة وعيسى عليه‌السلام الجنة ، ويدخلهم النار مع الحجارة والخشب التي نحتوها وعبدوها من دون الله ، يعذبهم بها ، حيث يجعلهم وإياها حصب جهنم. واختلافهم أن من عبدوه كالملائكة وعيسى كانوا متبرئين منهم لاعنين لهم موحدين لله. وقيل : الضمير في بينهم عائد على المشركين والمؤمنين ، إذا كانوا يلومونهم على عبادة الأصنام فيقولون : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) ، والحكم إذ ذاك هو في يوم القيامة بين الفريقين.

(إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ) : كاذب في دعواه أن لله شريكا ، كفار لأنعم الله حيث جعل مكان الشكر الكفر ، والمعنى : لا يهدي من ختم عليه بالموافاة على الكفر فهو عام ، والمعنى على الخصوص : فكم قد هدى من سبق منه الكذب والكفر. قال ابن عطية : لا يهدي الكاذب الكافر في حال كذبه وكفره. وقال الزمخشري : المراد بمنع الهداية : منع اللطف تسجيلا عليهم بأن لا لطف لهم ، وأنهم في علم الله من الهالكين. انتهى ، وهو على طريق الاعتزال. وقرأ أنس بن مالك ، والجحدري ، والحسن ، والأعرج ، وابن يعمر : كذاب كفار. وقرأ زيد بن علي : كذوب وكفور.

ولما كان من كذبهم دعوى بعضهم أن الملائكة بنات الله ، وعبدوها عقبه بقوله : (لَوْ أَرادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً) ، تشريفا له وتبنيا ، إذ يستحيل أن يكون ذلك في حقه تعالى بالتوالد

١٨٣

المعروف ، (لَاصْطَفى) : أي اختار من مخلوقاته ما يشاء ولدا على سبيل التبني ، ولكنه تعالى لم يشأ ذلك لقوله : (وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً) (١) ، وهو عام في اتخاذ النسل واتخاذ الاصطفاء. ويدل على أن الاتخاذ هو التبني ، والاصطفاء قوله : (مِمَّا يَخْلُقُ) : أي من التي أنشأها واخترعها ؛ ثم نزه تعالى نفسه تنزيها مطلقا فقال : (سُبْحانَهُ) ، ثم وصف نفسه بالوحدانية والقهر لجميع العالم. وقال الزمخشري : يعني لو أراد اتخاذ الولد لا متنع ، ولم يصح لكونه محالا ، ولم يتأت إلا أن يصطفي من خلقه بعضهم ، ويختصهم ويقربهم كما يختص الرجل ولده ويقربه ، وقد فعل ذلك بالملائكة ، فافتتنتم به وغركم اختصاصه إياهم ، فزعمتم أنه أولاده جهلا منكم به وبحقيقة المخالفة لحقائق الأجسام والأعراض ، كأنه قال : لو أراد اتخاذ الولد ، لم يزد على ما فعل من اصطفاء ما شاء من خلقه ، وهم الملائكة ، إلا أنكم لجهلكم به ، حسبتم اصطفاءهم اتخاذهم أولادا ، ثم تماديتم في جهلكم وسفهكم ، فجعلتموهم بنات ، وكنتم كذابين كفارين مبالغين في الافتراء على الله وملائكته. انتهى. والذي يدل عليه تركيب لو وجوابها أنه كان يترتب اصطفاء الولد مما يخلق على تقديره اتخاذه ، لكنه لم يتخذه ، فلا يصطفيه. وأما ما ذكره الزمخشري من قوله يعني : لو أراد إلى آخره ، وقوله : بعد ، كأنه قال : لو أراد اتخاذ الولد ، لم يزد على ما فعل من اصطفاء ما شاء من خلقه ، وهم الملائكة ، فليس مفهوما من قوله : (لَوْ أَرادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ).

ولما نزه تعالى نفسه ووصف ذاته بالوحدة والقهر ، ذكر ما دل على ذلك من اختراع العالم العلوي والسفلي بالحق ، وتكوير الليل والنهار ، وتسخير النيرين وجريهما على نظام واحد ، واتساق أمرهما على ما أراد إلى أجل مسمى ، وهو يوم القيامة ، حيث تخرب بنية هذا العالم فيزول جريهما ، أو إلى وقت مغيبهما كل يوم وليلة ، أو وقت قوايسها كل شهر. والتكوير : تطويل منهما على الآخر ، فكأن الآخر صار عليه جزء منه. قال ابن عباس : يحمل الليل على النهار. وقال الضحاك : يدخل الزيادة في أحدهما بالنقصان من الآخر. وقال أبو عبيدة : يدخل هذا على هذا. وقال الزمخشري : وفيه أوجه : منها أن الليل والنهار خلفة ، يذهب هذا ويغشى مكانه هذا ؛ وإذا غشي مكانه فكأنما ألبسه ولف عليه كما يلف على اللابس اللباس ؛ ومنها أن كل واحد منهما يغيب الآخر إذا طرأ عليه ، فشبه في تغييبه إياه بشيء ظاهر لف عليه ما غيبه من مطامح الأبصار ؛ ومنها أن هذا يكر على هذا كرورا

__________________

(١) سورة مريم : ١٩ / ٩٢.

١٨٤

متتابعا ، فشبه ذلك بتتابع أكوار العمامة بعضها على أثر بعض. انتهى. (أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ) : العزيز الذي لا يغالب ، الغفار لمن تاب ، أو الحليم الذي لا يعجل ، سمى الحلم غفرانا مجازا.

ولما ذكر ما دل على وحدانيته وقهره ، ذكر الإنسان ، وهو الذي كلف بأعباء التكاليف ، فذكر أنه أوجدنا من نفس واحدة ، وهي آدم عليه‌السلام ، وذلك أن حواء على ما روي خلقت من آدم ، فقد صار خلقا من نفس واحدة لوساطة حواء. وقيل : أخرج ذرية آدم من ظهره كالذر ، ثم خلق بعد ذلك حواء ، فعلى هذا كان خلقا من آدم بغير واسطة. وجاءت على هذا القول على وضعها ، ثم للمهلة في الزمان ، وعلى القول الأول يظهر أن خلق حواء كان بعد خلقنا ، وليس كذلك. فثم جاء لترتيب الأخبار كأنه قيل : ثم كان من أمره قبل ذلك أن جعل منها زوجها ، فليس الترتيب في زمان الجعل. وقيل : ثم معطوف على الصفة التي هي واحدة ، أي من نفس وحدت ، أي انفردت.

(ثُمَّ جَعَلَ) ، قال الزمخشري : فإن قلت : ما وجه قوله تعالى : (ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها) ، وما تعطيه من معنى التراخي؟ قلت : هما آيتان من جملة الآيات التي عددها ، دالا على وحدانيته وقدرته. تشعب هذا الفائت للحصر من نفس آدم وخلق حواء من قصيراه ، إلا أن إحداهما جعلها الله عادة مستمرة ، والأخرى لم تجر بها العادة ، ولم تخلق أنثى غير حواء من قصيري رجل ، فكانت أدخل في كونها آية ، وأجلب لعجب السامع ، فعطفها بثم على الآية الأولى ، للدلالة على مباينتها فضلا ومزية ، وتراخيها عنها فيما يرجع إلى زيادة كونها آية ، فهو من التراخي في الحال والمنزلة ، لا من التراخي في الوجود. انتهى. وأما (ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها) ، فقد تقدّم الكلام على هذا الجعل في أول سورة النساء ، ووصف الأنعام بالإنزال مجازا ما ، لأن قضاياه توصف بالنزول من السماء ، حيث كتب في اللوح : كل كائن يكون وأما لعيشها بالنبات والنبات ناشىء عن المطر والمطر نازل من السماء فكأنه تعالى أنزلها ، فيكون مثل قول الشاعر :

أسنمة الإبال في ربابه

أي : في سحابه ، وقال آخر :

صار الثريد في رؤوس العيدان

وقيل : خلقها في الجنة ثم أنزلها ، فعلى هذا يكون إنزال أصولها حقيقة. والأنعام :

١٨٥

الإبل والبقر والضأن والمعز ، (ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ) ، لأن كلا منها ذكر وأنثى ، والزوج ما كان معه آخر من جنسه ، فإذا انفرد فهو فرد ووتر. وقال تعالى : (فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) (١).

قال ابن زيد : (خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ) : آخر من ظهر آدم وظهور الآباء. وقال عكرمة ومجاهد والسدي : رتبا (خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ) على المضغة والعلقة وغير ذلك. وأخذه الزمخشري فقال : حيوانا سويا ، من بعد عظام مكسوة لحما ، من بعد عظام عارية ، من بعد مضغ ، من بعد علق ، من بعد نطف. انتهى. وقرأ عيسى وطلحة : يخلقكم ، بإدغام القاف في الكاف ، والظلمات الثلاث : البطن والرحم والمشيمة ، وقيل : الصلب والرحم والبطن. (ذلِكُمُ) : إشارة إلى المتصف بتلك الأوصاف السابقة من خلق السموات وما بعد ذلك من الأفعال. (فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) : أي كيف تعدلون عن عبادته إلى عبادة غيره؟

(إِنْ تَكْفُرُوا) ، قال ابن عباس : خطاب للكفار الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم. وعباده : هم المؤمنون ، ويؤيده قوله قبله : (فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) ، وهذا للكفار ، فجاء (إِنْ تَكْفُرُوا) خطابا لهم ، (فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ) ، وعن عبادتكم ، إذ لا يرجع إليه تعالى منفعة بكم ولا بعبادتكم إذ هو الغني المطلق. قال ابن عطية : ويحتمل أن يكون مخاطبا لجميع الناس ، لأنه تعالى غني عن جميعهم ، وهم فقراء إليه. انتهى. ولفظ عباده عام ، فقيل : المراد الخصوص ، وهم الملائكة ومؤمنو الإنس والجن. والرضا بمعنى الإرادة ، فعلى هذا صفة ذات. وقيل : المراد العموم ، كما دل عليه اللفظ ، والرضا مغاير للإرادة ، عبر به عن الشكر والإثابة ، أي لا يشكره لهم دينا ولا يثيبهم به خيرا ، فالرضا على هذا صفة فعل بمعنى القبول والإثابة. قال ابن عطية : وتأمل الإرادة ، فإن حقيقتها إنما هي فيما لم يقع بعد ، والرضا حقيقته إنما هو فيما قد وقع ، واعتبر هذا في آيات القرآن تجده ، وإن كانت العرب قد تستعمل في أشعارهم على جهة التجوز هذا بدل هذا. وقال الزمخشري : ولقد تمحل بعض الغواة ليثبت لله ما نفاه عن ذاته من الرضا لعباده الكفر ، فقال : هذا من العام الذي أريد به الخاص ، وما أراد إلا عباده الذين عناهم في قوله : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ*) (٢) ، يريد المعصومين لقوله : (عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ) (٣) ، تعالى الله

__________________

(١) سورة القيامة : ٧٥ / ٣٩.

(٢) سورة الحجر : ١٥ / ٤٢ ، وسورة الإسراء : ١٧ / ٦٥.

(٣) سورة الإنسان : ٧٦ / ٦.

١٨٦

عما يقول الظالمون. انتهى. فسمى عبد الله بن عباس ترجمان القرآن وأعلام أهل السنة بعض الغواة ، وأطلق عليهم اسم الظالمين ، وذلك من سفهه وجرأته ، كما قلت في قصيدتي التي ذكرت فيها ما ينقد عليه :

ويشتم أعلام الأممة ضلة

ولا سيما إن أولجوه المضايقا

(وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ) ، قال ابن عباس : يضاعف لكم ، وكأنه يريد ثواب الشكر ؛ وقيل : يقبله منكم. قال صاحب التحرير : قوة الكلام تدل على أن معنى تشكروا : تؤمنوا حتى يصير بإزاء الكفر ، والله تعالى قد سمى الأعمال الصالحة والطاعات شكرا في قوله : (اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً) (١). انتهى. وتقدم الكلام على هذه الآية في سبأ. وقرأ النحويان ، وابن كثير : يرضه بوصل ضمة الهاء بواو ؛ وابن عامر وحفص : بضمة فقط ؛ وأبو بكر : بسكون الهاء ، قال أبو حاتم : وهو غلط لا يجوز. انتهى. وليس بغلط ، بل ذلك لغة لبني كلاب وبني عقيل. وقوله : (وَلا تَزِرُ) إلى : (بِذاتِ الصُّدُورِ) ، تقدم الكلام عليه.

(وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ ، أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ ، قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللهِ واسِعَةٌ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ ، قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ ، وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ ، قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ، قُلِ اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي ، فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ ، لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذلِكَ يُخَوِّفُ اللهُ بِهِ عِبادَهُ يا عِبادِ فَاتَّقُونِ).

الظاهر أن الإنسان هنا جنس الكافر ، وقيل : معين ، كعتبة بن ربيعة. ويدخل في الضر جميع المكاره في جسم أو أهل أو مال. (دَعا رَبَّهُ) : استجار ربه وناداه ، ولم يؤمل في كشف الضر سواه ، (مُنِيباً إِلَيْهِ) : أي راجعا إليه وحده في إزالة ذلك. (ثُمَّ إِذا

__________________

(١) سورة سبأ : ٣٤ / ١٣.

١٨٧

خَوَّلَهُ) : أناله وأعطاه بعد كشف ذلك الضر عنه. وحقيقة خوله أن يكون من قولهم : هو خائله ، قال : إذا كان متعهدا حسن القيام عليه ، أو من خال يخول ، إذا اختال وافتخر ، وتقول العرب :

إن الغني طويل الذيل مياس

(نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا) : أي ترك ، والظاهر أن ما بمعنى الذي ، أي نسي الضر الذي كان يدعو الله إلى كشفه. وقيل : ما بمعنى من ، أي نسي ربه الذي كان يتضرع إليه ويبتهل في كشف ضره. وقيل : ما مصدرية ، أي نسي كونه يدعو. وقيل : تم الكلام عند قوله : (نَسِيَ) ، أي نسي ما كان فيه من الضر. وما نافية ، نفى أن يكون دعاء هذا الكافر خالصا لله مقصورا من قبل الضرر ، وعلى الأقوال السابقة. (مِنْ قَبْلُ) : أي من قبل تخويل النعمة ، وهو زمان الضرر. (وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً) : أي أمثالا يضاد بعضها بعضا ويعارض. قال قتادة : أي من الرجال يطيعونهم في المعصية. وقال غيره : أوثانا ، وهذا من سخف عقولهم. حين مس الضر ، دعوا الله ولم يلتجئوا في كشفه إلا إليه ؛ وحين كشف ذلك وخول النعمة أشركوا به ، فاللام لام العلة ، وقيل : لام العاقبة. وقرأ الجمهور : (لِيُضِلَ) ، بضم الياء : أي ما اكتفى بضلال نفسه حتى جعل غيره يضل. وقرأ ابن كثير ، وأبو عمر ، وعيسى : بفتحها ، ثم أتى بصيغة الأمر فقال : (تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً) : أي تلذذ واصنع ما شئت قليلا ، أي عمرا قليلا ، والخطاب للكافر جاعل الأنداد لله. (إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ) : أي من سكانها المخلدين فيها. وقال الزمخشري : وقوله (تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ) ، أي من باب الخذلان والتخلية ، كأنه قيل له : إذ قد أبيت قبل ما أمرت به من الإيمان والطاعة ، فمن حقك أن لا تؤمر به بعد ذلك. ويؤمر بتركه مبالغة في خذلانه وتخليته وشأنه ، لأنه لا مبالغة في الخذلان أشد من أن يبعث على عكس ما أمروا به ، ونظيره في المعنى : (مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ) (١). انتهى.

ولما شرح تعالى شيئا من أحوال الظالمين الضالين المشركين ، أردفه بشرح أحوال المهتدين الموحدين فقال : (أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ). وقرأ ابن كثير ، ونافع ، وحمزة ، والأعمش ، وعيسى ، وشيبة ، والحسن في رواية : أمن ، بتخفيف الميم. والظاهر أن الهمزة لاستفهام التقرير ، ومقابله محذوف لفهم المعنى ، والتقدير : أهذا القانت خير أم الكافر المخاطب

__________________

(١) سورة آل عمران : ٣ / ١٩٧.

١٨٨

بقوله (قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ)؟ ويدل عليه قوله : (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ). ومن حذف المقابل قول الشاعر :

دعاني إليها القلب إني لأمرها

سميع فما أدري أرشد طلابها

تقديره : أم غيّ. وقال الفراء : الهمزة للنداء ، كأنه قيل : يا من هو قانت ، ويكون قوله قل خطابا له ، وهذا القول أجنبي مما قبله وما بعده. وضعف هذا القول أبو علي الفارسي ، ولا التفات لتضعيف الأخفش وأبي حاتم هذه القراءة. وقرأ باقي السبعة ، والحسن ، وقتادة ، والأعرج ، وأبو جعفر : أمّن ، بتشديد الميم ، وهي أم أدغمت ميمها في ميم من ، فاحتملت أم أن تكون متصلة ومعادلها محذوف قبلها تقديره : أهذا الكافر خير أم من هو قانت؟ قال معناه الأخفش ، ويحتاج مثل هذا التقدير إلى سماع من العرب ، وهو أن يحذف المعادل الأول. واحتملت أم أن تكون منقطعة تتقدر ببل ، والهمزة والتقدير : بل أم من هو قانت صفته كذا ، كمن ليس كذلك. وقال النحاس : أم بمعنى بل ، ومن بمعنى الذي ، والتقدير : بل الذي هو قانت أفضل ممن ذكر قبله. انتهى. ولا فضل لمن قبله حتى يجعل هذا أفضل ، بل يقدر الخبر من أصحاب الجنة ، يدل عليه مقابله : (إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ). والقانت : المطيع ، قال ابن عباس ، وتقدم الكلام في القنوت في البقرة.

وقرأ الجمهور : (ساجِداً وَقائِماً) ، بالنصب على الحال ؛ والضحاك : برفعهما إما على النعت لقانت ، وإما على أنه خبر بعد خبر ، والواو للجمع بين الصفتين. (يَحْذَرُ الْآخِرَةَ) : أي عذاب الآخرة ، (وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ) : أي حصولها ، وقيل : نعيم الجنة ، وهذا المتصف بالقنوت إلى سائر الأوصاف ، قال مقاتل : عمار ، وصهيب ، وابن مسعود ، وأبو ذر. وقال ابن عمر : عثمان. وقال ابن عباس في رواية الضحاك : أبو بكر وعمر. وقال يحيى بن سلام : رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. والظاهر أنه من اتصف بهذه الأوصاف من غير تعيين. وفي الآية دليل على فضل قيام الليل ، وأنه أرجح من قيام النهار.

ولما ذكر العمل ذكر العلم فقال : (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) ، فدل أن كما الإنسان محصور في هذين المقصودين ، فكما لا يستوي هذان ، كذلك لا يستوي المطيع والعاصي. والمراد بالعلم هنا : ما أدى إلى معرفة الله ونجاة العبد من سخطه. وقرأ : يذكر ، بإدغام تاء يتذكر في الذال. (قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ) ، وروي أنها نزلت في جعفر بن أبي طالب وأصحابه حين عزموا على الهجرة إلى

١٨٩

أرض الحبشة ، وعدهم تعالى فقال : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ). والظاهر تعلق في هذه بأحسنوا ، وأن المحسنين في الدنيا لهم في الآخرة حسنة ، أي حسنة عظيمة ، وهي الجنة ، قاله مقاتل ، والصفة محذوفة يدل عليها المعنى ، لأن من أحسن في الدنيا لا يوعد أن يكون له في الآخرة مطلق حسنة. وقال السدي : في هذه من تمام حسنة ، أي ولو تأخر لكان صفة ، أي الذين يحسنون لهم حسنة كائنة في الدنيا. فلما تقدم انتصب على الحال ، والحسنة التي لهم في الدنيا هي العافية والظهور وولاية الله تعالى.

ثم حض على الهجرة فقال : (وَأَرْضُ اللهِ واسِعَةٌ) ، كقوله : (أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها) (١) ، أي لا عذر للمفرطين البتة ، حتى لو اعتلوا بأوطانهم ، وأنهم لا يتمكنون فيها من أعمال الطاعات ، قيل لهم : إن بلاد الله كثيرة واسعة ، فتحولوا إلى الأماكن التي تمكنكم فيها الطاعات. وقال عطاء : وأرض الله : المدينة للهجرة ، قيل : فعلى هذا يكون أحسنوا : هاجروا ، وحسنة : راحة من الأعداء. وقال قوم : أرض الله هنا : الجنة. قال ابن عطية : وهذا القول تحكم ، لا دليل عليه. انتهى. وقال أبو مسلم : لا يمتنع ذلك ، لأنه تعالى أمر المؤمنين بالتقوى ؛ ثم بين أنه من اتقى له في الآخرة الحسنة ، وهي الخلود في الجنة ؛ ثم بين أن أرض الله واسعة لقوله : (وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ) (٢) ، وقوله : (وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) (٣).

ولما كانت رتبة الإحسان منتهى الرتب ، كما جاء : ما الإحسان؟ قال : أن تعبد الله كأنك تراه. وكان الصبر على ذلك من أشق الأشياء ، وخصوصا من فارق وطنه وعشيرته وصبر على بلاء الغربة. ذكر أن الصابرين يوفون أجورهم بغير حساب ، أي لا يحاسبون في الآخرة ، كما يحاسب غيرهم ؛ أو يوفون ما لا يحصره حساب من الكثرة. (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ) : أمره تعالى أن يصدع الكفار بما أمر به من عبادة الله ، يخلصها من الشوائب ، (وَأُمِرْتُ) : أي أمرت بما أمرت ، لأكون أول من أسلم ، أي انقاد لله تعالى ، ويعني من أهل عصره أو من قومه ، لأنه أول من حالف عباد الأصنام ، أو أول من دعوتهم إلى الإسلام إسلاما ، أو أول من دعا نفسه إلى ما دعا إليه غيره ، لأكون مقتدى بي قولا وفعلا ، لا كالملوك الذين يأمرون بما لا يفعلون ، أو أن أفعل ما أستحق به الأولية من أعمال السابقين دلالة على السبب بالمسبب. وقال الزمخشري : فإن قلت : كيف عطف

__________________

(١) سورة النساء : ٤ / ٩٧.

(٢) سورة الزمر وهذه السورة : آية ٧٤.

(٣) سورة آل عمران : ٣ / ١٣٣.

١٩٠

أمرت على أمرت وهما واحد؟ قلت : ليسا بواحد لاختلاف جهتيهما ، وذلك أن الأمر بالإخلاص وتكليفه شيء ، والأمر به لتحرز به قصب السبق في الدين شيء. وإذا اختلف وجها الشيء وصفتاه ينزل بذلك منزلة شيئين مختلفين ، ولك أن تجعل اللام مزيدة مثلها في أردت ، لأن أفعل لا تزاد إلا مع أن خاصة دون الاسم الصريح ، كأنها زيدت عوضا من ترك الأصل إلى ما يقوم مقامه ، كما عوض السين في اسطاع عوضا من ترك الأصل الذي هو أطوع. والدليل على هذا الوجه مجيئه بغير لام في قوله : (أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ) (١). انتهى. ويحتمل في أن أكون في ثلاثة المواضع أصله لأن أكون ، فيكون قد حذفت اللام ، والمأمور به محذوف ، وهو المصرح به هنا (إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ). (قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) : تقدّم الكلام على هذه الجملة مقول القول في سورة يونس.

لما أمره أولا أن يخبر بأنه أمر بعبادة الله ، أمر ثانيا أن يخبر بأنه يعبد الله وحده. وتقديم الجلالة دال على الاهتمام بمن يعبد ، وعند الزمخشري يدل على الاختصاص ، قال : ولدلالته على ذلك ، قدم المعبود على فعل العبادة ، وأخره في الأول. فالكلام أولا واقع في الفعل في نفسه وإيجاده ، وثانيا فيمن يفعل الفعل لأجله ، ولذلك رتب عليه قوله : (فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ). والمراد بهذا الأمر الوارد على وجه التخيير المبالغة في الخذلان والتخلية. انتهى. وقال غيره : (فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ) : صيغة أمر على جهة التهديد لقوله : (قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ) (٢). (قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ) : أي حقيقة الخسران ، (الَّذِينَ خَسِرُوا) : أي هم الذين خسروا أنفسهم ، حيث صاروا من أهل النار ، (وَأَهْلِيهِمْ) : الذين كانوا معهم في الدنيا ، حيث كانوا معهم في النار ، فلم ينتفعوا منهم بشيء ، وإن كان أهلوهم قد آمنوا ، فخسرانهم إياهم كونهم لا يجتمعون بهم ولا يرجعون إليهم. وقال قتادة : كأن الله قد أعد لهم أهلا في الجنة فخسروهم ، وقال معناه ميمون بن مهران. وقال الحسن : هي الحور العين ، ثم ذكر ذلك الخسران وبالغ فيه في التنبيه عليه أولا ، والإشارة إليه ، وتأكيده بالفعل ، وتعريفه بأل ، ووصفه بأنه المبين : أي الواضح لمن تأمله أدنى تأمل.

ولما ذكر خسرانهم أنفسهم وأهليهم ، ذكر حالهم في جهنم ، وأنه من فوقهم ظلل ومن تحتهم ظلل ، فيظهر أن النار تغاشهم من فوقهم ومن تحتهم ، وسمى ما تحتهم ظللا

__________________

(١) سورة الأنعام : ٦ / ١٤.

(٢) سورة الزمر : ٨.

١٩١

لمقابلة ما فوقهم ، كما قال : (يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) ، وقال لهم : (مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ) (١) وقيل : هي ظلل للذين هم تحتهم ، إذ النار طباق. وقيل : إنما تحتهم يلتهب ويتصاعد منه شيء حتى يكون ظلة ، فسمي ظلة باعتبار ما آل إليه أخيرا. (ذلِكَ) : أي ذلك العذاب ، (يُخَوِّفُ اللهُ بِهِ عِبادَهُ) : ليعلموا ما يخلصكم منه ، ثم ناداهم وأمرهم فقال : (يا عِبادِ فَاتَّقُونِ) : أي اتقوا عذابي.

(وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَأَنابُوا إِلَى اللهِ لَهُمُ الْبُشْرى فَبَشِّرْ عِبادِ ، الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ ، أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ ، لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ الْمِيعادَ ، أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ ، أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ).

قال ابن زيد : نزلت (وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ) في زيد بن عمرو بن نفيل وسلمان وأبي ذر. وقال ابن إسحاق : الإشارة بها إلى عبد الرحمن بن عوف ، وسعد بن أبي وقاص ، وسعيد بن زيد ، والزبير ، وذلك أنه لما أسلم أبو بكر ، سمعوا ذلك فجاؤوه وقالوا : أسلمت؟ قال : نعم ، وذكرهم بالله ، فآمنوا بأجمعهم ، فنزلت فيهم ، وهي محكمة في الناس إلى يوم القيامة. والطاغوت : تقدم الكلام عليها في البقرة. وقرأ الحسن : الطواغيت جمعا. (أَنْ يَعْبُدُوها) : أي عبادتها ، وهو بدل اشتمال. (لَهُمُ الْبُشْرى) : أي من الله تعالى بالثواب. (فَبَشِّرْ عِبادِ) : هم المجتنبون الطاغوت إلى الله. وضع الظاهر موضع المضمر ليدل على أنهم هم ، وليترتب على الظاهر الوصف ، وهو : (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ) ، وهو عام في جميع الأقوال ، (فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) : ثناء عليهم بنفوذ بصائرهم وتمييزهم الأحسن ، فإذا سمعوا قولا تبصروه. قيل : وأحسن القول : القرآن وما يرجع إليه. وقيل : القول : القرآن ، وأحسنه : ما فيه من صفح وعفو واحتمال ونحو ذلك. وقال قتادة : أحسن القول طاعة الله. وعن ابن عباس : هو الرجل يجلس مع القوم ، فيسمع الحديث فيه محاسن ومساو ، فيحدث بأحسن ما سمع ، ويكف عن ما سواه. و (الَّذِينَ) : وصف لعباد. وقيل : الوقف على عباد ، والذين مبتدأ خبره أولئك وما بعده.

__________________

(١) الأعراف : ٧ / ٤١.

١٩٢

(أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ) : قيل نزلت في أبي جهل ، أي نفذ عليه الوعيد بالعذاب. والظاهر أنها جملة مستقلة ، ومن موصولة مبتدأ ، والخبر محذوف ، فقيل تقديره : يتأسف عليه ، وقيل : يتخلص منه. وقدره الزمخشري : فأنت تخلصه ، قال : حذف لدلالة أفأنت تنقذ عليه؟ وقدر الزمخشري بين الهمزة والفاء جملة حتى تقر الهمزة في مكانها والفاء في مكانها ، فقال : التقدير : أأنت مالك أمرهم؟ فمن حق عليه كلمة العذاب ، وهو قول انفرد به فيما علمناه. والذي تقوله النحاة أن الفاء للعطف وموضعها التقديم على الهمزة ، لكن الهمزة ، لما كان لها صدر الكلام ، قدمت ، فالأصل عندهم : فأمن حق عليه ، وعلى القول أنها جملة مستقلة يكون قوله : (أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ) ، استفهام توقيف ، وقدم فيه الضمير إشعارا بأنك لست تقدر أن تنقذه من النار ، بل لا يقدر على ذلك أحد إلا الله. وذهبت فرقة ، منهم الحوفي والزمخشري ، إلى أن من شرطية ، وجواب الشرط أفأنت ، فالفاء فاء الجواب دخلت على جملة الجزاء ، وأعيدت الهمزة لتوكيد معنى الإنكار والاستبعاد ، ووضع من في النار ، وهو ظاهر ، موضع المضمر ، إذ كان الأصل تنقذه ، وإنما أظهر تشهيرا لحالهم وإظهارا لخسة منازلهم. قال الحوفي : وجيء بألف الاستفهام لما طال الكلام توكيدا ، ولولا طوله ، لم يجز الإتيان بها ، لأنه لا يصلح في العربية أن يأتي بألف الاستفهام في الاسم ، وألف أخرى في الجزاء. ومعنى الكلام : أفأنت تنقذه؟ انتهى. وعلى هذا القول ، يكون قد اجتمع استفهام وشرط على قول الجماعة أن الهمزة قدمت من تأخر ، فيجيء الخلاف بين سيبويه ويونس : هل الجملة الأخيرة هي للمستفهم عنها أو هي جواب الشرط؟ وعلى تقدير الزمخشري : لم تدخل الهمزة على اسم الشرط ، فلم يجتمع استفهام وشرط ، لأن الاستفهام عنده دخل على الجملة المحذوفة عنده ، وهو : أأنت مالك أمرهم؟ وفمن معطوف على تلك الجملة المحذوفة ، عطفت جملة الشرط على جملة الاستفهام ، ونزل استحقاقهم العذاب ، وهم في الدنيا بمنزلة دخولهم النار ، ونزل اجتهاد الرسول عليه‌السلام في دعائهم إلى الإيمان منزلة إنقاذهم من النار.

ولما ذكر حال الكفار في النار ، وأن الخاسرين لهم ظلل ، ذكر حال المؤمنين ، وناسب الاستدراك هنا ، إذ هو واقع بين الكافرين والمؤمنين ، فقال : (لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا). ففي ذلك حض على التقوى ، لهم علالي مرتفعة فوقها علالي مبنية ، أي بناء المنازل التي سويت على الأرض. والضمير في (مِنْ تَحْتِهَا) عائد على الجمعين ، أي من تحت الغرف السفلى والغرف العليا ، لا تفاوت بين أعلاها وأسفلها وانتصب (وَعْدَ اللهِ) على المصدر

١٩٣

المؤكد لمضمون الجملة قبله ، إذ تضمنت معنى الوعد. (أَلَمْ تَرَ) : خطاب وتوقيف للسامع على ما يعتبر به من أفعال الله الدالة على فناء الدنيا واضمحلالها. (فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ) : أد أدخله مسالك وعيونا. والظاهر أن ماء العيون هو من ماء المطر ، تحبسه الأرض ويخرج شيئا فشيئا. (ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً) ، ذكر منته تعالى علينا بما تقوم به معيشتنا. (مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ) : من أحمر وأبيض وأصفر ، وشمل لفظ الزرع جميع ما يرزع من مقتات وغيره ، أو مختلفا أصنافه من بر وشعير وسمسم وغير ذلك. (ثُمَّ يَهِيجُ) : يقارب الثمار ، (فَتَراهُ مُصْفَرًّا) : أي زالت خضرته ونضارته. وقرأ أبو بشر : ثم يجعله ، بالنصب في اللام. قال صاحب الكامل وهو ضعيف. انتهى. (إِنَّ فِي ذلِكَ) : أي فيما ذكر من إنزال المطر وإخراج الزرع به وتنقلاته إلى حالة ، الحطامية ، (لَذِكْرى) : أي لتذكرة وتنبيها على حكمة فاعل ذلك وقدرته.

(أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ) : نزلت في حمزة ، وعلي ، ومن مبتدأ ، وخبره محذوف يدل عليه (فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ) تقديره : كالقاسي المعرض عن الإسلام ، وأبو لهب وابنه كانا من القاسية قلوبهم ، وشرح الصدر استعارة عن قبوله للإيمان والخير والنور والهداية. وفي الحديث : «كيف انشراح الصدور؟ قال : إذا دخل النور القلب انشرح وانفسح ، قلنا : وما علامة ذلك؟ قال : الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والتأهب للموت قبل الموت». (فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ) : أي من أجل ذكره ، أي إذا ذكر الله عندهم قست قلوبهم. وقال مالك بن دينار : ما ضرب عبد بعقوبة أعظم من قسوة قلب. (أُولئِكَ) : أي القاسية قلوبهم ، (فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) : أي في حيرة واضحة ، لا تخفى على من تأملها.

(اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ ، أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ ، كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ ، فَأَذاقَهُمُ اللهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ ، وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ، قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ، ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ ، إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ، ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ).

١٩٤

عن ابن عباس ، أن قوما من الصحابة قالوا : يا رسول الله ، حدثنا بأحاديث حسان ، وبأخبار الدهر ، فنزل : (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ). وعن ابن مسعود ، أن الصحابة ملأوا مكة ، فقالوا له : حدثنا ، فنزلت. والابتداء باسم الله ، وإسناد نزل لضميره مبنيا عليه فيه تفخيم للمنزل ورفع منه ، كما تقول : الملك أكرم فلانا ، هو أفخم من : أكرم الملك فلانا. وحكمة ذلك البداءة بالأشرف من تذكر ما تسند إليه ، وهو كثير في القرآن ، كقوله : (اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً) (١) ،

و (كِتاباً) بدل من (أَحْسَنَ الْحَدِيثِ). وقال الزمخشري : ويحتمل أن يكون حالا. انتهى. وكان بناء على أن (أَحْسَنَ الْحَدِيثِ) معرفة لإضافته إلى معرفة. وأفعل التفضيل ، إذا أضيف إلى معرفة ، فيه خلاف. فقيل : إضافته محضة ، وقيل : غير محضة. و (مُتَشابِهاً) : مطلق في مشابهة بعضه بعضا. فمعانيه متشابهة ، لا تناقض فيها ولا تعارض ، وألفاظه في غاية الفصاحة والبلاغة والتناسب ، بحيث أعجزت الفصحاء والبلغاء. وقرأ الجمهور : (مَثانِيَ) ، بفتح الياء ؛ وهشام ، وابن عامر ، وأبو بشر : بسكون الياء ، فاحتمل أن يكون خبر مبتدأ محذوف ، واحتمل أن يكون منصوبا ، وسكن الياء على قول من يسكن الياء في كل الأحوال ، لانكسار ما قبلها استثقالا للحركة عليها. ومثاني يظهر أنه جمع مثنى ، ومعناه : موضع تثنية القصص والأحكام والعقائد والوعد والوعيد. وقيل : يثنى في الصلاة بمعنى : التكرير والإعادة. انتهى. ووصف المفرد بالجمع ، لأن فيه تفاصيل ، وتفاصيل الشيء جملته. ألا ترى أنك تقول : القرآن سور وآيات؟ فكذلك تقول : أحكام ومواعظ مكررات ، وأصله كتابا متشابها فصولا مثاني ، حذف الموصوف وأقيمت صفته مقامه. وأجاز الزمخشري أن يكون من باب برمة أعشار وثوب أخلاق ، وأن يكون تمييزا عن متشابها ، فيكون منقولا من الفاعل ، أي متشابها مثانيه. كما تقول : رأيت رجلا حسنا شمائل ، وفائدة تثنيته وتكرره رسوخه في النفوس ، إذ هي أنفر شيء عن سماع الوعظ والنصيحة. والظاهر حمل القشعريرة على الحقيقة ، إذ هو موجود عند الخشية ، محسوس يدركه الإنسان من نفسه ، وهو حاصل من التأثر القلبي. وقيل : هو تمثيل تصوير لإفراط خشيتهم ، والمعنى : أنه حين يسمعونه يتلي ما فيه من آيات الوعيد ، عرتهم خشية تنقبض منها جلودهم.

__________________

(١) سورة الحج : ٢٢ / ٧٥.

١٩٥

ثم إذا ذكروا لله ورحمته لانت جلودهم ، أي زال عنها ذلك التقبض الناشئ عن خشية القلوب بزوال الخشية عنها ، وضمن تلين معنى تطمئن جلودهم لينة غير منقبضة ، وقلوبهم راجية غير خاشية ، ولذلك عداه بإلى. وكان في ذكر القلوب في هذه الجملة دليل على تأثرها عند السماع ، فاكتفى بقشعريرة الجلود عن ذكر خشية القلوب لقيام المسبب مقام السبب. فلما ذكر اللين ذكرهما ، وفي ذكر اللين دليل على المحذوف الذي هو رحمة الله ، كما كان في قوله : (إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) (١) ، دليل بقوله : (وَجِلَتْ) عن ذكر المحذوف ، أي إذا ذكر وعيد الله وبطشه. وقال العباس بن عبد المطلب : قال النبي عليه‌السلام : «من اقشعر جلده من خشية الله تحاتت عنه ذنوبه كما يتحات عن الشجرة اليابسة ورقها». وقال ابن عمر : وقدر أي ساقطا من سماع القرآن فقال : إنا لنخشى الله ، وما نسقط هؤلاء يدخل الشيطان في جوف أحدهم. وقالت أسماء بنت أبي بكر : كان أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تدمع أعينهم وتقشعر جلودهم عند سماع القرآن ، قيل لها : إن قوما اليوم إذا سمعوا القرآن خر أحدهم مغشيا عليه ، فقالت : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. وقال ابن سيرين : بيننا وبين هؤلاء الذين بصرعون عند قراءة القرآن أن يجعل أحدهم على حائط باسطا رجليه ، ثم يقرأ عليه القرآن كله ، فإن رمى بنفسه فهو صادق. والإشارة بذلك إلى الكتاب ، أو إلى ذينك الوصفين من الاقشعرار واللين ، أي أثر هدى الله. (أَفَمَنْ يَتَّقِي) : أي يستقبل ، كما قال الشاعر :

سقط النصيف ولم ترد إسقاطه

فتناولته واتقتنا باليد

أي : استقبلتنا بيدها لتقي بيدها وجهها أن يرى. والظاهر حمل بوجهه على حقيقته. لما كان يلقى في النار مغلولة يداه إلى رجليه مع عنقه ، لم يكن له ما يتقي به النار إلا وجهه. قال مجاهد : يجر على وجهه في النار ، ويجوز أن يعبر بالوجه عن الجملة. وقيل : المعنى وصف كثرة ما ينالهم من العذاب ، يتقيه أولا بجوارحه ، فيتزيد حتى يتقيه بوجهه الذي هو أشرف جوارحه ، وفيه جواب ، وهو غاية العذاب. قال ابن عطية : وهذا المعنى عندي أبين بلاغة. في هذا المضمار يجري قول الشاعر :

يلقي السيوف بوجهه وبنحره

ويقيم هامته مقام المغفر

لأنه إنما أراد عظم جرأته عليها ، فهو يلقاها بكل مجن ، وبكل شيء عنه ، حتى بوجهه

__________________

(١) سورة الحج : ٢٢ / ٣٥.

١٩٦

وبنحره. انتهى. و (سُوءَ الْعَذابِ) : أشده ، وخبر من محذوف قدره الزمخشري : كمن أمن العذاب ، وابن عطية : كالمنعمين في الجنة. (وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ) : أي قال ذلك خزنة النار ، (ذُوقُوا ما كُنْتُمْ) : أي وبال ما كنتم (تَكْسِبُونَ) من الأعمال السيئة. (كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) : تمثيل لقريش بالأمم الماضية ، وما آل إليه أمرهم من الهلاك. (فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ) : من الجهة التي لا يشعرون أن العذاب يأتيهم من قبلها ، ولا يخطر ببالهم أن الشر يأتيهم منها. كانوا في أمن وغبطة وسرور ، فإذا هم معذبون مخزيون ذليلون في الدنيا من ممسوخ ومقتول ومأسور ومنفي. ثم أخبر أن ما أعد لهم في الآخرة أعظم. وانتصب (قُرْآناً عَرَبِيًّا) على الحال ، وهي حال مؤكدة ، والحال في الحقيقة هو عربيا ، وقرآنا توطئة له. وقيل : انتصب على المدح ، ونفى عنه العوج ، لأنه مستقيم يرى من الاختلاف والتناقض. وقال عثمان بن عفان : غير مضطرب. وقال ابن عباس : غير مختلف. وقال مجاهد : غير ذي لبس. وقال السدي : غير مخلوق. وقيل : غير ذي لحن. قال الزمخشري : فإن قلت : فهلا قيل مستقيما أو غير معوج؟ قلت : فيه فائدتان : إحداهما : نفي أن يكون فيه عوج قط ، كما قال : (وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً) (١) والثانية : أن لفظ العوج مختص بالمعاني دون الأعيان. وقيل : المراد بالعوج : الشك واللبس ، وأنشد :

وقد أتاك يقينا غير ذي عوج

من الإله وقول غير مكذوب

انتهى.

ولما ذكر تعالى أنه ضرب في القرآن (مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) : أي محتاج إليه ، ضرب هنا مثلا لعابد آلهة كثيرة ، ومن يعبد الله وحده ، ومثل برجل مملوك اشترك فيه ملاك سيئو الأخلاق ، فهو لا يقدر أن يوفي كل واحد منهم مقصوده ، إذ لا يتغاضى بعضهم لبعض لمشاحتهم ، وطلب كل منهم أن يقضي حاجته على التمام ، فلا يزال في عناء وتعب ولوم من كل منهم. ورجل آخر مملوك جميعه لرجل واحد ، فهو معني بشغله لا يشغله عنه شيء ، ومالكه راض عنه إن قد خلص لخدمته وبذل جهده في قضاء حوائجه ، فلا يلقى من سيده إلا إحسانا ، وتقدم الكلام في نصب المثل وما بعده. وقال الكسائي : انتصب رجلا على إسقاط الخافض ، أي مثلا لرجل ، أو في رجل فيه ، أي في رقه مشتركا ، وفيه صلة لشركاء. وقرأ عبد الله ، وابن عباس ، وعكرمة ، ومجاهد ، وقتادة ، والزهري ، والحسن :

__________________

(١) سورة الكهف : ١٨ / ١.

١٩٧

بخلاف عنه ؛ والجحدري ، وابن كثير وأبو عمرو : سالما اسم فاعل من سلم ، أي خالصا من الشركة. وقرأ الأعرج ، وأبو جعفر ، وشيبة ، وأبو رجاء ، وطلحة ، والحسن : بخلاف عنه ؛ وباقي السبعة : سلما بفتح السين واللام. وقرأ ابن جبير : سلما بكسر السين وسكون اللام ، وهما مصدران وصف بهما مبالغة في الخلوص من الشركة. وقرىء : ورجل سالم ، برفعهما. وقال الزمخشري : أي وهناك رجل سالم لرجل. انتهى ، فجعل الخبر هناك. ويجوز أن يكون ورجل مبتدأ ، لأنه موضع تفصيل ، إذ قد تقدم ما يدل عليه ، فيكون كقول امرئ القيس :

إذا ما بكى من خلفها انحرفت له

بشقّ وشق عندنا لم يحوّل

وقال الزمخشري : وإنما جعله رجلا ليكون أفظن لما شقي به أو سعد ، فإن المرأة والصبي قد يغفلان عن ذلك. وانتصب مثلا على التمييز المنقول من الفاعل ، إذ التقدير : هل يستوي مثلهما؟ واقتصر في التمييز على الواحد ، لأنه المقتصر عليه أولا في قوله : (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً) ، ولبيان الجنس. وقرىء : مثلين ، فطابق حال الرجلين. وقال الزمخشري : ويجوز فيمن قرأ مثلين أن يكون الضمير في يستويان للمثلين ، لأن التقدير مثل رجل ، والمعنى : هل يستويان فيما يرجع إلى الوصفية؟ كما يقول : كفى بهما رجلين. انتهى. والظاهر أنه يعود الضمير في يستويان إلى الرجلين ، فأما إذا جعلته عائدا إلى المثلين اللذين ذكر أن التقدير مثل رجل ورجل ، فإن التمييز إذ ذاك يكون قد فهم من المميز الذي هو الضمير ، إذ يصير التقدير : هل يستوي المثلان مثلين؟ قل : (الْحَمْدُ لِلَّهِ) : أي الثناء والمدح لله لا لغيره ، وهو الذي ثبتت وحدانيته ، فهو الذي يجب أن يحمد ، (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) ، فيشركون به غيره. ولفظة الحمد لله تشعر بوقوع الهلاك بهم بقوله : (فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (١).

ولما لم يلتفتوا إلى هذه الدلائل الباهرة ، أخبر الجميع بأنهم ميتون وصائرون إليه ، وأن اختصامكم يكون بين يديه يوم القيامة ، وهو الحكم العدل ، فيتميز المحق من المبطل ، وهو عليه‌السلام وأتباعه المحقون الفائزون بالظفر والغلبة ، والكافرون هم المبطلون. فالضمير في وإنك خطاب للرسول ، وتدخل معه أمته في ذلك. والظاهر عود الضمير في (وَإِنَّهُمْ) على الكفار ، وغلب ضمير الخطاب في (إِنَّكَ) على ضمير الغيبة في إنهم ،

__________________

(١) سورة الأنعام : ٦ / ٤٥.

١٩٨

ولذلك جاء (تَخْتَصِمُونَ) بالخطاب ، فتحتج أنت عليهم بأنك قد بلغت ، وكذبوا واجتهدت في الدعوة ، ولجوا في العناد. وقال أبو العالية : هم أهل القبلة ، يختصمون بينهم يوم القيامة في مظالمهم. وأبعد من ذهب إلى أن هذا الخصام سببه ما كان في قتل عثمان ، وما جرى بين علي ومعاوية بسبب ذلك ، رضي‌الله‌عنهم. وقيل : يختصم الجميع ، فالكفار يخاصم بعضهم بعضا حتى يقال لهم : لا تختصموا لدي. والمؤمنون يتلقون الكافرين بالحجج ، وأهل القبلة يكون بينهم الخصام. وقرأ ابن الزبير ، وابن أبي إسحاق ، وابن محيصن ، وعيسى ، واليماني ، وابن أبي غوث ، وابن أبي عبلة : إنك مائت وإنهم مائتون ، وهي تشعر بحدوث الصفة ؛ والجمهور : ميت وميتون ، وهي تشعر بالثبوت واللزوم كالحي.

فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (٣٢) وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (٣٣) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (٣٤) لِيُكَفِّرَ اللهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (٣٥) أَلَيْسَ اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٦) وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ (٣٧) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (٣٨) قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣٩) مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (٤٠) إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (٤١) اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي

١٩٩

قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٤٢) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ شُفَعاءَ قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ (٤٣) قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٤٤) وَإِذا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (٤٥) قُلِ اللهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٤٦) وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (٤٧) وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٤٨) فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٤٩) قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (٥٠) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (٥١) أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥٢) قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٥٣) وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (٥٤) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (٥٥) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (٥٦) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (٥٧) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ

٢٠٠