رحلة العبدري

أبو عبدالله العبدري

رحلة العبدري

المؤلف:

أبو عبدالله العبدري


المحقق: د. علي إبراهيم كردي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار سعد الدين للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
الصفحات: ٧٢٨

«وبدّلت قرحا داميا بعد صحّة

لعلّ منايانا تحوّلن أبؤسا» (١)

وما بقي بها من له بالعلم أدنى عناية ، ولكنّا قد استفدنا بها حكاية [١٤ / ب] وهي أنّ بعض الكتّاب كان يكتب كتابا عن أمير ، فلمّا قرأه عليه لم يرضه فمزّقه ، فكتبه ثانية ، فمزّقه ، فلمّا رأى تعسّفه أخذ قرطاسا ونظم فيه ارتجالا : (٢) [الطويل]

رأيتك تكويني بميسم منّة

كأنّك أنت اليوم علّة تكويني (٣)

وتلويني الحقّ الّذي أنا أهله

وتمطلني فيه بعذل وتلويني (٤)

فأقصر عن العتب الطّويل فبلغة

من العيش تكفيني إلى حين تكفيني (٥)

ولم آخذ هذه الحكاية ممّن أطمئنّ إليه ؛ وأحيل بالعهدة فيها عليه ، ولكنّني قيّدنها لتنظر ، وعرضتها لتخبر ، فإن صحّت فهو الغرض ، وإلا فكم ظنّت صحّة بذي مرض.

__________________

(١) ضمّن بيت امرئ القيس ، وهو في ديوانه : ١٠٧.

(٢) البيتان ١ و ٣ في ديوان الإمام الشافعي ١٧٧ ؛ ووردت الأبيات الثلاثة في ديوان أبي الفتح البستي (٣٢٣) وفي يتيمة الدّهر منسوبة للبستي.

(٣) في ديوان الشافعي : «كأنّك كنت الأصل في علّة تكويني» وفي ديوان البستي «... بميسم ذلّة كأنّك قد أصبحت علّة تكويني» ورد الشطر الثاني في اليتيمة كما جاء في ديوان البستي.

(٤) البيت الثاني وصدر البيت الثالث ساقطان من ت. وجاءت رواية البيت الثاني في ديوان البستي :

«وتلويني الوعد الذي قد وعدتني

وتذهب فيه إلى كلّ تلوين»

وفي اليتيمة «... وتخرج في أمري إلى كلّ تلوين»

(٥) في ط : فأقصر على. وجاءت رواية البيت في ديوان البستي هكذا : «فمهلا ولا تمنن عليّ فبلغة ...» وقد ورد كما في ديوان البستي في اليتيمة ، وفي ديوان الشافعي : «فدعني من المنّ الوخيم فلقمة ...»

٨١

[ذكر الجزائر]

ثمّ وصلنا إلى الجزائر ، وهي مدينة تستوقف بحسنها ناظر النّاظر ، ويقف على جمالها خاطر الخاطر (١) قد حازت مزيّتي البرّ والبحر ، وفضيلتي السّهل والوعر ؛ لها منظر معجب أنيق ، وسور معجز وثيق ، وأبواب محكمة العمل ؛ يسرح الطّرف بها حتّى يملّ ، ولكنّها قد أقفرت من المعنى المطلوب ، كما : [البسيط]

أقفر من أهله ملحوب (٢)

 .............................

فلم يبق بها من هو من أهل العلم محسوب ، ولا شخص إلى فنّ من فنون المعارف منسوب. وقد دخلتها سائلا عن عالم يكشف كربة ، أو أديب يؤنس غربة ، فكأنّي أسأل عن الأبلق العقوق (٣) ، أو أحاول تحصيل بيض الأنوق.

[ذكر بجاية]

ثمّ وصلنا إلى مدينة بجايه (٤) ، مبدأ الاتّفاق (٥) والنّهاية ، وهي مدينة كبيرة ، حصينة شهيرة ، برّية بحريّة ، سنيّة سرية ، وثيقة البنيان ، عجيبة الإتقان ،

__________________

(١) خاطر الأولى : ما يخطر بالذهن من رأي أو أمر أو معنى ، وخاطر الثانية : المتبختر.

(٢) صدر بيت عجزه : «فالقطّبيّات فالذّنوب» وهو مطلع قصيدة عبيد بن الأبرص في ديوانه : ٢٣ ، وملحوب : اسم ماء لبني أسد ، والقطّبيّات : جبل ، والذنوب : موضع في ديار أسد.

(٣) في المثل : «أعزّ من بيض الأنوق ، والأبلق العقوق» ، والعقوق : الحامل من النوق ، والأبلق : من صفات الذكور ؛ فكأنّه قال : طلب الذّكر الحامل انظر الميداني : ٢ / ٤٣ ، والأنوق : طائر تبيض إناثه حيث لا يلحق شيء بيضها. وفي المثل السائر : «كلّفتني بيض الأنوق» يضرب في الرّجل يسأل ما لا يكون وما لا يقدر عليه انظر الميداني ٢ / ٤٤ ، وثمار القلوب ٤٩٤.

(٤) بجاية : مدينة على ساحل البحر بين إفريقية والمغرب ، في الجزائر اليوم ؛ وأوّل من اختطّها الناصر ابن علناس بن حماد بن زيري بن مناد بن بلكين في حدود ٤٥٧ ه‍ وتسمى «الناصرية» أيضا باسم مختطّها انظر وصف إفريقيا : ٢ / ٥٠ وما كتبه محقّق كتاب «عنوان الدراية فيمن عرف من العلماء في المائة السابعة ببجاية» الأستاذ رابح بونار في مقدّمة تحقيقه للكتاب المذكور ، صفحة ٣ ـ ١١.

(٥) في ط : الإتقان.

٨٢

رفيعة المباني ، غريبة المعاني ، موضوعة في سفح جبل وعر ، مقطوعة بنهر وبحر ، مشرفة عليهما إشراف الطّليعة ، متحصّنة بهما منيعة ؛ فلا مطمع (١) فيها لمحارب ، ولا متّسع بها لطاعن وضارب ؛ ولها جامع عجيب ، منفرد في حسنه غريب ، من الجوامع المشهورة ، الموصوفة المذكورة ، وهو مشرف على برّها وبحرها [١٥ / آ] وموضوع بين سحرها ونحرها (٢) ؛ فهو غاية في الفرجة والأنس ، ينشرح الصّدر لرؤيته وترتاح النّفس ؛ وأهلها يواظبون على الصّلاة فيه مواظبة رعاية ، ولهم في القيام به تهمّم وعناية ، فهو بهم مأهول عامر ، يتخلّل أنسه مسلك الأرواح ويخامر.

وهذا البلد بقيّة قواعد الإسلام ، ومحلّ جلّة (٣) من العلماء أعلام ؛ وله مع حسن المنظر طيب المخبر ، ومع المرأى الرّائق المعنى الفائق ، ومن الحصانة ووثاقة البنيان ما أزرى بإرم وغمدان (٤) ؛ ولأهله من حسن الخلق والأخلاق ، ما أنبأ عن طيب الهواء والماء ، والتّربة والأعراق ؛ غير أنّه قد اعتراه من الغير ، ما شمل في هذا الأوان البدو والحضر ؛ وقد غاض بحر العلم الّذي كان به حتّى عاد وشلا (٥) ، وعفا رسمه حتّى صار طللا ؛ وبه آحاد من طلبة العلم قد اقتصروا على مطالعة الصّحف والدّفاتر ، وسلكوا في ترك تصحيح الرّواية طريقا لم يرضه الأعلام الأكابر.

__________________

(١) في ط : طمع.

(٢) سحر كلّ شيء : طرفه ، ونحره : أوله.

(٣) في ط : حلّه.

(٤) غمدان : قصر معروف باليمن.

(٥) الوشل : الماء القليل.

٨٣

[لقاؤه للشّاطبيّ]

ولم أر بها من أهل الشّيمة الفضلى ، والطّريقة المثلى (١) ، أمثل من الشّيخ ، الفقيه ، الخطيب ، الصّالح ، المسند ، الرّاوية ، أبي عبد الله محمّد بن صالح ابن أحمد الكنانيّ الشّاطبي (٢) ـ حفظه الله ـ وهو شيخ على سنن أهل الدّين ، سالك سبيل المهتدين ، مقبل على ما يعنيه ، مشتغل بعمر في طاعة الله يفنيه ؛ دأبه الاقتصار على تجويد الكتاب ، والتّردّد ما بين بيته والمحراب. وقد لقي من الشّيوخ أعلاما ، صيّره لقاؤهم والأخذ عنهم إماما ؛ وله مع علوّ الرّواية حظّ وافر من الدّراية ، إلى خلق لو شاب ماء البحر صار فراتا ، ودين ألزمه خشوعا وإخباتا (٣). وقد شاهدت له من غزارة العبرة ، ما هو من أعظم العبرة.

ولمّا ودّعته قال لي : «إنّك توحشني بفراقك! وقد أقبل عليك قلبي لأوّل ما رأيتك». وما كانت مدّة إقامتنا ببجاية إلّا يومين ، قرأت عليه فيهما ـ مع كثرة [١٥ / ب] الشّواغل وتسلّط الهموم الّتي تخلّ بعقل العاقل ـ بعض كتاب «الموطّأ» رواية يحيى بن يحيى (٤) ، وناولني سائره ، وبعض كتابي «التّيسير» (٥)

__________________

(١) استفاد من التعبير القرآني في سورة طه ، ٦٣ : (ويذهبا بطريقتكم المثلى)

(٢) توفي محمد بن صالح بن أحمد الكناني الشاطبي سنة ٦٩٩ ه‍ ، انظر عنوان الدراية : ١٠٤ ، وفيات ابن قنفذ ٣٣٥ ، درّة الحجال ٢ / ١٧ ـ ١٨.

(٣) الإخبات : الخشوع والتواضع.

(٤) هو يحيى بن كثير بن وسلاس ، عالم الأندلس في عصره ، رحل إلى المشرق ، وسمع الموطّأ على الإمام مالك ، وعاد إلى الأندلس ونشر فيها مذهب الإمام مالك ، توفيّ بقرطبة سنة ٢٣٤ ه‍ ، له ترجمة في جذوة المقتبس : ٣٨٢ ، ترتيب المدارك ٢ / ٥٣٤ ، الديباج المذهب ٣٥٠.

(٥) هو كتاب التيسير في القراءات السبع ، وهو مختصر مشتمل على مذاهب القراء السبعة في الأمصار وما اشتهر من الروايات ، وهو مطبوع.

٨٤

و «المقنع» (١) للإمام أبي عمرو الدّاني (٢) ، وناولنيهما ، وقرأت عليه جميع «قصيدة الشّيخ الإمام أبي القاسم ، قاسم بن فيّرة الرّعيني الشّاطبي (٣) في القراءات» ، وحدّثني بها عن الشّيخ الفقيه الخطيب (٤) المقرىء (٥) أبي بكر محمّد بن وضّاح اللّخمي (٦) سماعا عن ناظمها الشّيخ الفقيه الإمام أبي القاسم المذكور. ووجدت على ظهر أصله من هذه القصيدة تنبيها بخطّه على الاختلاف في كنية النّاظم المذكور ، هل هي أبو القاسم أو أبو محمّد؟.

قلت : وهما معا صحيحتان ؛ وأهل مصر لا يعرفونه إلّا بأبي القاسم ، ولهم نظم هذه القصيدة ، وعندهم توفي في عقب جمادى الآخرة ، عام تسعين وخمس مئة ، ومدفنه بمقبرة البيساني ، وكان يكنّى في الأندلس بأبي محمّد ، وبه كنّاه جميع شيوخه الأندلسيّين الّذين قرأ عليهم ، فيما كتبوه له ، كأبي

__________________

(١) هو كتاب المقنع في رسم المصحف ، وهو مختصر في معرفة رسوم المصاحف ، مع بيان القول في كيفية نقطه وإحكام ضبطه على وجه الإيجاز والاختصار ، وهو مطبوع.

(٢) هو عثمان بن سعيد بن عثمان : حافظ عالم بعلوم القرآن وتفسيره ، من أهل دانية بالأندلس ، توفي سنة ٤٤٤ ه‍. ترجمته في الصلة : ٤٠٥ ـ بغية الملتمس : ٤١١ ـ جذوة المقتبس : ٣٠٥.

(٣) قاسم بن فيّرة بن خلف بن أحمد الرّعيني الشاطبي : إمام القرّاء في عصره ، كان عالما بالحديث والتفسير واللغة ، توفي بمصر سنة ٥٩٠ ه‍ ومولده بشاطبة سنة ٥٣٨ ه‍. له «حرز الأماني» وهي قصيدة في القراءات. ترجمته في وفيات ابن قنفذ ٢٩٦ ، وفيها وفاته سنة ٥٨٩ ؛ العبر ٣ / ١٠٢.

(٤) ليست في ت.

(٥) ليست في ت وط.

(٦) محمد بن ابراهيم بن وضّاح اللخمي ، عالم مقرىء أديب ، من أهل غرناطة ، رحل في طلب العلم والحجّ ، نزل جزيرة شقر من أعمال بلنسية ، وأقرأ فيها القرآن نحوا من أربعين سنة ، توفي سنة ٥٨٧ ه‍. ترجمته في نفح الطيب ٢ / ١٦٠.

٨٥

الحسن بن هذيل (١) وغيره ، وعادة النّاس إلى الآن مختلفة في تكنية قاسم على الوجهين المذكورين.

وقرأت عليه أيضا بعض كتاب «الشّمائل» للتّرمذي ، وبعض كتاب «رياضة المتعلّمين» للحافظ أبي نعيم (٢) ، وناولني سائرهما ، وناولني «المفردات» لأبي عمرو ، وكتاب «فضل قيام اللّيل» وكتاب «فضل تلاوة القرآن» للإمام أبي بكر الآجرّي (٣) ، وأجازني (٤) إجازة عامّة ، وكتب بذلك خطّ يده ، وقيّد لي جملة من أسماء شيوخه ومرويّاته ، وقد جمع ذلك في «برنامج» له ، قرأته عليه حين لقيته المرّة الثّانية حسبما يأتي ذكره إن شاء الله تعالى. وسألته عن مولده فأخبرني أنّه كان في التّاسع والعشرين من ذي قعدة عام أربعة عشر وستّ مئة. وقرأت عليه حديث كميل بن زياد (٥) عن عليّ بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه من «رياضة المتعلّمين» ، وحدّثني به عن الشّيخ الرّاوية أبي الحسين (٦)

__________________

(١) علي بن محمد بن علي بن هذيل البلنسي : شيخ المقرئين بالأندلس ، روى الصحيحين وسنن أبي داود ، ولد سنة ٤٧١ ه‍ وتوفي سنة ٥٦٤ ه‍. ترجمته في بغية الملتمس ٤١٤ ، والمعجم لابن الأبّار ٢٩٦ ، والعبر ٣ / ٤٤.

(٢) هو أحمد بن عبد الله بن أحمد الأصبهاني : حافظ ، محدث فقيه ، له : حلية الأولياء وطبقات الأصفياء ، توفي بأصبهان سنة ٤٣٠ ه‍. ترجمته في ميزان الاعتدال : ١ / ١١١ ، ولسان الميزان : ١ / ٢٠١.

(٣) هو محمد بن الحسين بن عبد الله : فقيه شافعي ، محدّث ، نسبته إلى آجرّ من قرى بغداد ، انتقل إلى مكة المكرمة وتوفي فيها سنة ٣٦٠ ه‍ ، له تصانيف منها : أخبار عمر بن عبد العزيز ، وأخلاق العلماء ، والأربعون حديثا. ترجمته في وفيات الأعيان ٤ / ٢٩٢ ـ ٢٩٣ ـ شذرات الذهب ٣ / ٣٥.

(٤) تكون الإجازة مشافهة وإذنا باللفظ ، أو بالكتابة بحضرة المجاز أو مغيبه ، انظر أقسام الإجازة في : الباعث الحثيث لابن كثير ١١٤.

(٥) كميل بن زياد بن نهيك النّخعي : تابعي ، ثقة ، من أصحاب عليّ بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه ، شهد صفّين مع عليّ ، وسكن الكوفة ، وروى الحديث ، قتله الحجّاج صبرا سنة ٨٢ ه‍ ، ومولده سنة ١٢ ه‍.

ترجمته في الإصابة : ٣ / ٣٠٠ ، وتهذيب التهذيب : ٨ / ٤٤٧ ، والأعلام : ٥ / ٢٣٤.

(٦) في ت : الحسن.

٨٦

أحمد بن محمّد ابن أحمد بن السّرّاج سماعا عليه [١٦ / آ] بقراءة الشّيخ العالم أبي عبد الله القضاعي ، عن أبي القاسم بن بشكوال بسنده فيها إلى كميل «قال : أخذ عليّ بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه بيدي فأخرجني إلى ناحية الجبّانة (١) ، فلمّا أصحر (٢) تنفّس الصّعداء ، ثمّ قال : يا كميل! إنّ هذه القلوب أوعية فخيرها أوعاها للخير ؛ يا كميل! احفظ عنّي ما أقول : النّاس ثلاثة : عالم ربّاني ؛ ومتعلّم على سبيل نجاة ؛ وهمج رعاع ، لكّل ناعق أتباع يميلون مع كلّ ريح ، لم يستضيئوا بنور العلم ، ولم يلجؤوا إلى ركن وثيق ؛ يا كميل! العلم خير من المال ، العلم يحرسك ، وأنت تحرس المال ، والمال تنقصه النّفقة ، والعلم يزكو على الإنفاق ؛ يا كميل! محبّة العالم (٣) دين يدان به ، يكسبه الطّاعة في حياته ، وجميل الأحدوثة بعد وفاته ، ومنفعة المال تزول بزواله ، والعلم حاكم والمال محكوم عليه ؛ يا كميل! مات خزّان المال ، والعلماء باقون ما بقي الدّهر ، أعيانهم مفقودة ، وأمثالهم في القّلوب موجودة. ثمّ قال ، ها إنّ هاهنا علما ـ وأشار إلى صدره ـ لو أصبت له حملة! بلى ، أصبت لقنا غير مأمون يستعمل آلة الدّين في طلب الدّنيا ، ويستظهر بحجج الله على أوليائه ، وبنعم الله على معاصيه ، أو منقادا لحملة العلم لا بصيرة له في أنحائه ، يقدح الشّكّ في قلبه بأوّل عارض من شبهة ؛ ألا لا ذا ولا ذاك ؛ فمن هو منهوم باللّذّات ، سلس القياد إلى الشّهوات ، مغرم بالجمع والادّخار ، وليس من دعاة الدّين أقرب

__________________

(١) في بقية النسخ : الجبّان. والجبّان والجبّانة بالتشديد : الصحراء ، وتسمى بها المقابر ، لأنها تكون في الصحراء ، تسمية للشيء بموضعه.

(٢) أصحر الرجل : خرج إلى الصحراء.

(٣) في ت : العلماء ، وفي نهج البلاغة : العلم.

٨٧

شبها به الأنعام. كذلك يموت العلم بموت حامليه (١). ثم قال : اللهمّ! بلى لا تخلو الأرض من قائم [لك](٢) بحجّة إمّا ظاهرا مشهورا ، وإمّا خافيا مغمورا ، لئلّا تبطل حجج (٣) الله وميثاقه ؛ وكم وأين أولئك الأقلّون عددا ، والأعظمون قدرا؟ بهم يحفظ الله حججه حتّى يودعها في قلوب أشباههم ، هجم بهم العلم على حقائق الأمور ، فباشروا روح اليقين فاستلانوا ما استوعر المترفون ، وأنسوا بما استوحش منه [١٦ / ب] الجاهلون ؛ صحبوا الدّنيا بأبدان أرواحها معلّقة بالملكوت الأعلى ؛ يا كميل! أولئك خلفاء الله في أرضه والدّعاة إلى دينه. هاه هاه شوقا إليهم وإلى رؤيتهم! واستغفر الله لنا ولهم ، انصرف إذا شئت»(٤).

وقرأت عليه فيها بسنده إلى عليّ أيضا ، قال : «إنّ من حقّ العالم ألّا تكثر عليه السّؤال ، ولا تعنته (٥) في الجواب ، ولا تلحّ عليه إذا كسل ، ولا تأخذ بثوبه إذا نهض ، ولا تشير إليه بيدك ، ولا تفشينّ له سرّا ، ولا تغتابنّ عنده أحدا ، ولا تطلبنّ عثرته ، فإن زلّ انتظرت أوبته ، وقبلت معذرته (٦) ، وأن توقّره وتعظّمه لله ، ولا تمشي أمامه ، وإن كانت له حاجة سبقت القوم إلى خدمته ، ولا تتبرّمنّ طول صحبته ، فإنّما هو بمنزلة النّخلة تنتظر ما سقط عليك منها منفعة ، وإذا جئت فسلّم على القوم وخصّه بالتّحية ، واحفظه شاهدا وغائبا. وليكن ذلك كلّه لله ، فإنّ العالم أعظم أجرا من الصّائم القائم المجاهد في

__________________

(١) في ت : حامله

(٢) ليست في الأصل.

(٣) في ت : حجّة الله.

(٤) ورد قول عليّ رضي‌الله‌عنه في نهج البلاغة ٤٩٥ وفي شرحه لابن أبي الحديد ٥ / ٤٣٤.

(٥) أعنته : سأله عن شيء أراد به اللّبس والمشقة عليه.

(٦) في ط : معذورته.

٨٨

سبيل الله. وإذا مات العالم انثلمت في الإسلام ثلمة (١) إلى يوم القيامة لا يسدّها إلّا خلف مثله ، وطالب العلم تشيّعه الملائكة من السّماء».

وقرأت عليه فيها بسنده إلى الحارث الأعور (٢) عن عليّ أيضا قال : قيل لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنّ أمّتك ستفتتن من بعدك ، فسئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما المخرج من ذلك؟ قال : «كتاب الله الّذي (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ)(٣) من ابتغى العلم في غيره أضلّه الله ، ومن ولي هذا الأمر من جبّار فحكم بغيره قصمه الله ؛ هو الذّكر الحكيم ، والنّور المبين ، والصّراط المستقيم ؛ فيه خبر ما قبلكم ، ونبأ ما بعدكم ، وحكم ما بينكم ؛ وهو الفصل ليس بالهزل ؛ وهو الّذي سمعته الجنّ فلم تتناه أن (فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ)(٤) لا يخلق على طول الرّدّ ، ولا تنقضي عبره ، ولا تفنى عجائبه» (٥) ثمّ قال للحارث : خذها يا أعور.

وأنشدني ـ حفظه الله ـ لنفسه : (٦) [الطّويل]

[١٧ / آ]أرى العمر يفنى والرّجاء طويل

وليس إلى قرب الحبيب سبيل

حباه إله الخلق أحسن سيرة

فما الصّبر عن ذاك الجمال جميل (٧)

__________________

(١) الثلمه : الخلل في الحائط وغيره.

(٢) هو الحارث بن عبد الله بن كعب بن أسد بن نخلة الهمداني : فقيه كان له قول في الفتيا ، وكان صاحب عليّ كرّم الله وجهه انظر ابن أبي الحديد : ٥ / ٢٢٧.

(٣) سورة فصّلت : ٤٢.

(٤) سورة الجنّ : ١ و ٢.

(٥) أخرجه الترمذي في ثواب القرآن ، باب فضل القرآن ، رقم ٢٩٠٨ ، وأبو نعيم في الحلية ٥ / ٢٥٣ ، والدّارمي : ٢ / ٤٣٥ ، والشفا لعياض : ١ / ٣٩٢ ، والمصنف لابن أبي شيبة : ١٠ / ٤٨٢.

(٦) الأبيات في درّة الحجال : ٢ / ١٨ ، ونفح الطيب : ٤ / ٣٤٠ ، وأنس الساري والسارب : ١٢٤.

(٧) في درّة الحجال : إله العرش ، وقد ضمّن الشاعر أوائل الأبيات اسم أحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٨٩

متى يشتفي قلبي بلثم ترابه

ويسمح دهر بالمزار بخيل؟

دللت عليه في أوائل أسطري

فذاك نبيّ مصطفى ورسول

وأنشدني أيضا قال : أنشدني الشّيخ الفقيه الخطيب أبو محمّد عبد الله ابن عبد الرّحمن بن عبد الله ، هو ابن برطله (١) ، لنفسه : (٢) [مخلّع البسيط]

أسلمني للبلى وحيدا

من هو في ملكه وحيد (٣)

قضى عليّ الفناء حتما

فلم يكن عنه لي محيد

وكيف يبقى غريق ترب

بدأته أوّلا صعيد (٤)

يعيده آخرا إليه

من نعته المبدئ المعيد (٥)

وأنشدني كذلك له أيضا : (٦) [الطويل]

أيا ناظرا نحوي ترحّم لراحل

أتته المنايا في ثياب مقيم (٧)

فلم يلتمس زادا سوى حسن ظنّه

ومن يبتغي زادا لدار كريم؟ (٨)

__________________

(١) عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد الله بن موسى بن سليمان الأزدي : فقيه مالكي ، قاض ، محدّث ، من أهل مرسية ، انتقل إلى المغرب الأوسط ، فسكن بجاية ، وتوفي بتونس سنة ٦٦١ ه‍. ترجمته في : عنوان الدّراية : ١٠٩ ، وفيات ابن قنفذ : ٣٣٠ ، شجرة النور : ١ / ١٩٦ وفيها : عبد الحق بن برطلة.

(٢) الأبيات في الإحاطة : ٤ / ١٩٨ ، وعنوان الدراية : ١٠٩.

(٣) في الإحاطة : أسلمني للبلاء ، وفي ط : للبلاد.

(٤) في العنوان : بذاته ، والإحاطة : فذاته ، والصّعيد : التّراب.

(٥) الشطر الأوّل في الإحاطة : يعيد أحواله إليه ، والمبدىء المعيد : من أسمائه تعالى.

(٦) البيتان في عنوان الدراية : ١٠٩.

(٧) في عنوان الدّراية : يا ناظرا.

(٨) في عنوان الدّراية : ومن يرتضي ... لقصد كريم.

٩٠

قلت : (١) وأظنّ هذا الشّعر مأخوذا من قول الآخر (٢) : [السريع]

قالت لي النّفس : أتاك الرّدى

وأنت في بحر الخطايا مقيم

وما انتقيت الزّاد ، قلت : ارعوي

هل يحمل الزّاد لدار الكريم؟ (٣)

وأنشدني كذلك له أيضا : (٤) [مخلّع البسيط]

دنياك مهما اعتبرت فيها

كجيفة عرضة انتهاب (٥)

إن شئتها فاحتمل أذاها

واصبر على خلطة الكلاب

قلت : وكأنّ هذا أيضا مأخوذ من قول الآخر ، أخبرنا به الشّريف أبو الحسن علي بن أحمد إجازة عن الشّيخ أبي الحسن محمّد بن أحمد بن القطيعي المؤرّخ ، عن الإمام أبي الفرج بن الجوزيّ (٦) ممّا أنشده في صفة الدّنيا (٧) : [١٧ / ب] [الطويل]

__________________

(١) ليس في ط.

(٢) الشاعر هو أبو الحجّاج يوسف المنصفي ، وهو زاهد مشهور سكن سبتة ، والبيتان في : المغرب : ٢ / ٣٥٤ وتحفة القادم ٨٤ ، ورايات المبرّزين ٢٤٣ ، والتشوّف : ٤٢٦ ، والنفح : ١ / ١٨١.

(٣) في المغرب والنفح والرايات والتحفة : فما ادّخرت الزاد. وفي التّشوّف : وما ذخرت. وفي المغرب والنفح والرايات والتحفة : قلت : اقصري ـ وفي الرايات : هل يحمل الزاد لباب الكريم.

(٤) البيتان في عنوان الدراية : ١٠٦ دون نسبة ، وفي الكتيبة الكامنة : ٣٣ لإبراهيم بن محمد بن إبراهيم بن أبي العاص التنوخي. وفي درّة الحجال : ٢ / ١٨ منسوبة خطأ للعبدري صاحب الرحلة.

(٥) البيت في عنوان الدراية :

دنياك مهما اعتبرت جيفة

قد عرضت فرصة انتهاب

وفي درّة الحجال : دنياي مهما اغتررت ... النهاب. وفي الكتيبة الكامنة : واصبر عليها مع الكلاب.

(٦) عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي : مؤرخ محدّث ، توفي ببغداد سنة ٥٩٧ ه‍ ، له : الأذكياء وأخبارهم ، ومناقب عمر بن عبد العزيز. ترجمته في : غربال الزمان : ٤٨٤ ـ شذرات الذهب : ٤ / ٣٢٩ ـ وفيات ابن قنفذ : ٣٠١ ، وفيه وفاته سنة ٥٥٩ ه‍.

(٧) البيتان للشافعي في ديوانه : ٣٤ ، ومطلع البيت الأوّل فيه : وما هي إلّا جيفة ...

٩١

وهل هي إلّا جيفة مستحيلة

عليها كلاب همّهنّ اجتذابها

فإن تجتنبها كنت سلما لأهلها

وإن تجتذبها نازعتك كلابها

وأمّا ضبط هذا الاسم فقد قيّدته على شيخنا أبي عبد الله : برطلة ، بتاء التّأنيث المنقلبة هاء في الوقف ، وبضمّ الباء والطاء ، وقيّده الفقيه أبو الحسن ابن رزين (١) بضمّ اللّام وهاء ساكنة ، وقال هكذا ثبت عنه ؛ وهو من أهل مرسية ، علم من أعلامها وعالم من علمائها ، خطب بها وببجاية بخطب بليغة من إنشائه ، وولي القضاء بمواضع من عمل تونس ، وبها استقرّ أخيرا ، بعد أسر ناله مرّتين ، وحجّ ثمّ رجع إلى تونس فتوفي بها عام أحد وستّين وستّ مئة.

وقرأت عليه أيضا أوّل قصيدة أبي عبد الله بن أبي الخصال (٢) ، الّتي سمّاها : «معراج المناقب (٣)» وناولنيها ، وحدّثني بها عن ابن السرّاج قراءة عن أبوي القاسم : ابن بشكوال وابن غالب الشرّاط ، سماعا عليهما ، بقراءة خاله أبي بكر محمّد بن خير ، عن ناظمها المذكور ، وأوّلها : (٤) [الطويل]

إليك! فهمّي والفؤاد بيثرب

وإن عاقني عن مطلع الوحي مغربي

__________________

(١) هو علي بن محمد بن أبي القاسم بن رزين التونسي : فقيه محدّث ، له رواية واسعة ، له فهرسة جمع بها أسماء شيوخه. توفي بتونس سنة : ٦٩٢ ه‍ ، ترجمته في برنامج الوادي اشي : ٦٥ ـ فهرس الفهارس : ١ / ٤٤١.

(٢) هو محمد بن مسعود بن طيب بن فرج بن خلصة الغافقي : وزير أندلسي ، شاعر أديب ، توفي بقرطبة سنة ٥٤٠ ه‍. له رسائل وشعر قام بتحقيقها الدكتور محمد رضوان الدايّة. انظر خريدة القصر قسم المغرب ٣ / ٤٤٩.

(٣) اسمها كاملا : معراج المناقب ومنهاج الحسب الثاقب في نسب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومعجزاته ومناقب أصحابه» وتقع في واحد وعشرين ومئة بيت انظر برنامج الوادي آشي ٢٢٤.

(٤) القصيدة كاملة في رسائل أبي الخصال وشعره : ٦٢٧ ـ ٦٣٧.

٩٢

[ذكر بني ورار]

ثمّ وصلنا إلى بني ورار ، ثم إلى ميلة (١) ، فلم نر إلا رسوما بحوادث الدّهر محيلة ؛ يقتصر في وصفهما (٢) من أراد أن يعمل بيانه ، على ما تقدّم من وصف مليانة ، وكلتاهما على شكل مدينة ، ليست بثمينة ولا متينة ؛ عمل البلى فيهما وفي السكّان ، وأدخل الجميع في خبر كان ؛ وفي كلتيهما عين تسحّ ، وعنصر (٣) يجود ولا يشحّ ؛ وبنو ورار أعمر المحلّين ، وعينها أغزر العينين ، تسقي البلد نهلا وعللا (٤) ، وتفيض عليه غللا يشفي غللا (٥) ؛ وعين ميلة في داخل البلد ، ليست بفيض ولا ثمد (٦) ، وقد طويت (٧) طيّا بديع الإحكام ، وبنيت بنيانا يدلّ على فرط اعتناء واهتمام (٨) ، تقف [١٨ / آ] عليه النّواظر وقوف استغراب ، وتصفه الألسنة على جهة الإغراب (٩) ، وكفى ببلد خلاء وفناء ألّا يحوي ما يوصف إلّا ماء وبناء.

[ذكر قسنطينة]

ثمّ وصلنا الى البلد الذي نشّفت الخطوب معينه ، وأبت الأقدار أن تكون له معينة ؛ بلد الوضع العجيب ، والموضع الخصيب ، مدينة

__________________

(١) ميلة : مدينة صغيرة تقع في الجزائر اليوم ، وتبعد عن قسنطينة ٤٠ كم إلى الشمال الغربي منها الروض المعطار : ٥٦٨ ـ وصف إفريقيا : ٢ / ٦٠.

(٢) في بقية النسخ : وصفها.

(٣) العنصر : الأصل ، وفي الحديث : (يرجع كلّ ماء إلى عنصره)

(٤) في ط : علّا ، والعلّ والعلل : الشربة الثانية.

(٥) غلل الأولى بمعنى : الماء ، وغلل الثانية بمعنى : شدّة العطش.

(٦) الثّمد والثّمد : الماء القليل الذي لا مادّ له.

(٧) طويت : عرشت بالحجارة والآجرّ.

(٨) في ت : الاعتناء والاهتمام.

(٩) في ط : الاغتراب.

٩٣

قسنطينة (١) ، جبر الله صدعها ، وكفاها من نوائب الدّهر ما واصل قرعها ؛ وهي مدينة عجيبة حصينة ، غير أنّها لخطوب الدّهر مستكينة ؛ قد ذبلت ببوارح الغير ، وفوادح الضّرر رياضها ، ونضبت بسهائم الآفات ، وعظائم الملمّات حياضها ، حتّى صارت كالحسناء لبست أسمالا ، والكريم فقد مالا ، والبطل أثخنته الجراحة حتّى لم يطق احتمالا ؛ فهي تري الحوادث لمحا باصرا (٢) ، وتنادي بلسان الحال : «ذلّ لو أجد ناصرا» (٣) [الخفيف]

من رأيت المنون خلّدن أم من

ذا لديه من أن يضام خفير (٤)

وبها للأوائل آثار عجيبة ، ومبان متقنة الوضع غريبة ، وأكثرها من حجر منحوت ، يعجز الوصف إتقانه ويفوت ؛ وقد دار بها واد شديد الوعر ، بعيد القعر ، أحاط بها كما يحيط السّوار بالمعصم ، ومنعها (٥) كما يمنع النّيق (٦) الأعصم (٧) ؛ ولكن سهام الدّهر لا تقيها الجنن (٨) ، ولا تمنع منها القنن (٩) ؛ وريب المنون وصرف الزّمن ، قد أعيت الحيلة فيها من ومن.

__________________

(١) قسنطينة ، مدينة كبيرة من مشاهير بلاد إفريقية ، بناها الرومان على جبل شاهق. انظر وصف إفريقية : ٢ / ٥٥ ـ ٥٦.

(٢) إشارة إلى المثل : لأرينك لمحا باصرا. وهو في الميداني ٢ / ١٧٧.

(٣) المثل في : أمثال الضبي : ١١٨ ، وأمثال أبي عبيد ٢٦٨ ، والمستقصى : ٢ / ٨٦ ، والميداني : ١ / ٢٨٠.

(٤) البيت لعديّ بن زيد في ديوانه : ٨٧ ، وروايته فيه : من ذا عليه.

(٥) في ت وط : ومنعاها.

(٦) في الأصل وط : النّوق ، والنيق أرفع موضع بالجبل.

(٧) الأعصم : الوعل.

(٨) الجنن : جمع جنّة : الدّرع.

(٩) القنن : أعالي الجبال.

٩٤

[لقاؤه لابن باديس]

ولم أر بها من ينتمي إلى طلب ، ولا من له في فنّ من فنون العلم (١) أرب ، سوى الشّيخ أبي عليّ حسن بن بلقاسم بن باديس (٢) ، وهكذا قيّد لي اسم أبيه بخطّه مخلوطا (٣) ، وقال لي : إنّه اسم وكنية ؛ وهو شيخ من أهل العلم يذكر فقها ومسائل ، ذو سمت وهيئة ووقار ؛ وليس في البلد من يذكر بعلم سواه البتّة ؛ وليست (٤) له بالرّواية عناية ، ولم يرو إلّا «الموطّأ» وحده ، فإنّه قد قرأه على الشّيخ الفقيه المحدّث أبي يعقوب [١٨ / ب] يوسف بن موسى الغماري الحسّاني (٥) حين خطر على قسنطينة راجعا من المشرق ، فأقام عندهم مدّة لتوالي الأمطار ، فقرأه عليه وهو إذ ذاك كبير ، وفارقه وهو عنده مجهول ، وما عرف من هو حتّى عرّفته به حين رأيت خطّه الّذي كتبه له (٦) على «الموطّأ» ، وقد قرأت عليه صدرا منه ، وحدّثني به عنه ، وسمعته يقول : سمعت الشّيخ الصّالح الحاجّ المسنّ حسنا الحلفاوي يقول ، «عمّرت خمسا وثمانين سنة ، ما تمّ لي بها سرور قطّ إلّا ثلاثة أيّام : يوم دخولي مكّة ، ويوم وقوفي بعرفة ، ويوم دخولي مدينة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم» وسمعته أيضا يقول : وقع

__________________

(١) في ت وط : المعارف.

(٢) في بقية النسخ : بادس ، ولم أقف على وفاته ، وكان لقاء العبدري له في أواخر القرن السابع. وقد نقل صاحب : نيل الابتهاج : ١٠٣ ـ ١٠٤ ترجمته من الرّحلة ، وكذلك فعل صاحب : تعريف الخلف : ١ / ١٢٦.

(٣) في ت وط : مخطوطا.

(٤) ليس في ت وط.

(٥) يوسف بن موسى الغماري الحسّاني : فقيه محدّث ، رحل إلى المشرق وأخذ عن أبي الوقت عبد الأوّل بن عيسى السجزي. صنّف كتابين على رسالة الشيخ أبي زيد ، سمّاهما : الإفادة الصغرى ، والكبرى. توفي أواخر المئة السّابعة. ترجمته في درّة الحجال : ٣ / ٣٤٤ ـ ٣٤٥.

(٦) ليست في : ت وط.

٩٥

الكلام بين يدي الفقيه الإمام أبي الحسن اللّخمي (١) في حكم السّفر إلى الحجّ مع فساد الطّريق ، وهل الأولى تركه احتياطا على النّفس ، أو الاستسلام في التّوجّه إليه؟ وكان اللّخمي مائلا إلى ترجيح التّرك. قال : وكان في المجلس رجل واعظ ، فقال له : يا فقيه! تسمع ما أقول؟ قال : نعم ، فأنشد : (٢) [البسيط]

إن كان سفك دمي أقصى مرادهم

فما غلت نظرة منهم بسفك دمي (٣)

فاستحسن كلّ من حضر منزعه ، وانفصل المجلس على أنّ الأولى هو تحمّل الخطر في التّوجّه ، والإعراض عن تلك العوائق. وسألته عن الأديب أبي عليّ حسن بن علي بن عمر (٤) القسنطيني المعروف بابن الفكون ، فذكر لي أنّه أدركه وهو طفل صغير ، ولم يحفظ له مولدا ولا وفاة. ورمت أن أجد من أروي عنه قصيدته المشهورة في رحلته من قسنطينة إلى مرّاكش فلم أجده ، فقيدّتها هنالك غير مرويّة ؛ وكان القسنطينيّ كتب بها إلى أبي البدر بن مردنيش وهو بقسنطينة ، وهي هذه : (٥) [الوافر]

__________________

(١) هو علي بن محمّد الربعيّ المعروف باللخمي. فقيه مالكي ، قيرواني الأصل سكن سفاقس ، وتوفي بها سنة ٤٧٨ ه‍ ، له مصنّفات منها «التبصرة» وهو تعليق على «المدوّنة» في فقه المالكية ، أورد فيه آراء خرج بها عن المذهب. ترجمته في : الديباج : ٢٠٣ وفيه وفاته سنة ٤٩٨ ه‍ وفيات ابن قنفذ : ٢٥٨ ـ الرحلة الورثيلانية ٤٣٠ ـ شجرة النور الزكية : ١١٧.

(٢) تمثّل بهذا البيت التجيبيّ لبيان أنّ الأجر يكون على قدر المشقّة انظر مستفاد الرحلة والاغتراب : ٢١٦ ، وهو في رحلة القلصادي : ٩٨ ، والتشوّف : ١٤٣ و ٢٠٨ ، ونفح الطّيب : ٥ / ٤٢٧ ، ونيل الابتهاج : ٢٩٦ ، وأزهار الرياض : ٤ / ٢٢٤ وهما فيه منسوبان لأبي الطيّب الواعظ ، وكان معاصرا للخميّ.

(٣) في رحلة القلصادي والنفح : مرادكم ... منكم

(٤) في ط : ابن محمد وهو خطأ ناتج عن تصحيف ، وهو شاعر مجيد ، ناثر ، من أهل قسنطينة ، رحل إلى مراكش ، ومدح خليفة بني عبد المؤمن ، لم أقف على وفاته ؛ وإن كنت أرجّح أنّها كانت في أوائل القرن السابع الهجري. ترجمته في : عنوان الدراية : ٢٨٠ ـ ٢٨٦ ، ودرة الحجال : ١ / ٢٣٦ ، ونفح الطيب : ٢ / ٤٨٣ ، وجذوة الاقتباس : ١٨٤.

(٥) القصيدة في : أزهار الرياض : ٤ / ٣٠٤ ـ ٣٠٧ ما عدا الأبيات من ٢ إلى ٦ ، ونفح الطيب : ٢ / ٤٨٣ ـ ٤٨٤ ، وتعريف الخلف : ٢ / ١٣١ ـ ١٣٢ ، والإعلام للمراكشي : ٣ / ١٣٨ ـ ١٤٠ ، ودرّة الحجال : ١ / ٢٣٦ ـ ٢٣٨ عدا الأبيات من ٢ إلى ٦ وجذوة الاقتباس ١٨٤ ـ ١٨٦.

٩٦

[قصيدة ابن الفكون]

ألا قل للسّريّ ابن السّريّ

أبي البدر الجواد الأريحيّ

أيا معنى السّيادة والمعالي

ويا بحر النّدى بدر النّديّ

[١٩ / أ] أما وبحقّك المبدي جلالا

وما قد حزت من حسب عليّ

وما بيني وبينك من ذمام

وما أوتيت من خلق رضيّ

٥ ـ لقد رمت العيون سهام غنج

وليس سوى فؤادي من رميّ

فحسبك نار قلبي من سعير

وحسبك دمع عيني من أتيّ (١)

وكنت أظنّ أنّ النّاس طرّا

سوى زيد وعمرو غير شيّ

فلمّا جئت ميلة خير دار

أمالتني بكلّ رشا أبيّ (٢)

وكم أورت ظباء بني ورار

أوار الشّوق بالرّيق الشّهيّ (٣)

١٠ ـ وجئت بجاية فجلت بدورا

يضيق بوصفها حرف الرّويّ

وفي أرض الجزائر هام قلبي

بمعسول المراشف كوثريّ

وفي مليانة قد ذبت شوقا

بلين العطف والقلب القسيّ (٤)

وفي تنس نسيت جميل صبري

وهمت بكلّ ذي وجه وضيّ (٥)

__________________

(١) في ت : نار وجدي. والأتيّ : السّيل.

(٢) رشا : أصله بالهمز ، وهو الغزال.

(٣) في درّة الحجال : بني فزار.

(٤) في درّة الحجال قد همت شوقا.

(٥) تنس : مدينة بقرب مليانة ، بينها وبين البحر ميلان ، وهي مسوّرة حصينة. وبعضها على جبل وقد أحاط به السور ، وبعضها في سهل الأرض. انظر الروض المعطار : ١٣٨.

٩٧

وفي مازونة ما زلت صبّا

بوسنان المحاجر لوذعيّ (١)

١٥ ـ وفي وهران قد أمسيت رهنا

لظامي الخصر ذي ردف رويّ (٢)

وأبدت لي تلمسان بدورا

جلبن الشّوق للقلب الخليّ

ولمّا جئت وجدة همت وجدا

بمنخنث المعاطف معنويّ (٣)

وحلّ رشا الرّباط رشا رباطي

وتيّمني بطرف بابليّ (٤)

وأطلع قطر فاس لي شموسا

مغاربهنّ في قلب الشّجيّ (٥)

٢٠ ـ وما مكناسة إلّا كناس

لأحوى الطّرف ذي حسن سنيّ (٦)

وإن تسلا عن ارض سلا ففيها

ظباء صائدات للكميّ (٧)

وفي مرّاكش يا ويح قلبي

«أتى الوادي فطمّ على القريّ» (٨)

__________________

(١) مازونة : مدينة جزائرية بالقرب من مستغانم ، وهي على ستة أميال من البحر. انظر الروض المعطار : ٥٢١. وقال الوزان : على بعد نحو ٤٠ ميلا من البحر انظر وصف إفريقيا : ٢ / ٣٦.

(٢) في ط لضامر وبها لا يستقيم الوزن. ووهران : مدينة جزائرية على ساحل البحر ، بينها وبين تلمسان ١٤٠ ميلا. انظر وصف إفريقيا ٢ / ٣٠.

(٣) وجدة : مدينة بالمغرب ، بينها وبين تلمسان ثلاث مراحل ، وتبعد عن البحر المتوسط ٤٠ ميلا جنوبا.

انظر وصف إفريقيا : ٢ / ١٢. والانخناث : التثنّي.

(٤) المقصود بها تازة ، وتدعى رباط تازة ، وهي غير رباط الفتح التي أسسّت بعدها بعدّة قرون ، واتخذها الفرنسيون عاصمة لهم بعد احتلالهم المغرب. انظر حاشية الفاسي : ٤٠.

(٥) في ت : قلبي الشجيّ.

(٦) مكناسة : مدينة بالمغرب في بلاد البربر ، وهي مدينتان صغيرتان ، اختطّ إحداهما يوسف بن تاشفين ملك المغرب من الملثمين ، والأخرى قديمة ، وأكثر شجرها الزيتون ، وسميت لذلك مكناسة الزيتون. انظر ياقوت : ٥ / ١٨١. والأحوى : شديد الخضرة ، المائل إلى السواد. والرواية في درّة الحجال : لأحور ذي جمال يوسفيّ.

(٧) في ت والنفح والجذوة : تسأل.

(٨) القريّ : مسيل الماء من الربوة إلى الروضة ، وهو مثل ، كما في الميداني : ١ / ١٥٩ ، والرواية فيه جرى الوادي فطمّ على القريّ.

٩٨

بدور بل شموس بل صباح

بهيّ في بهيّ في بهيّ (١)

أتحن مصارع العشّاق لمّا

سعين به فكم ميت وحيّ (٢)

٢٥ ـ بقامة كلّ أسمر سمهريّ

ومقلة كلّ أبيض مشرفيّ (٣)

[١٩ / ب] إذا أنسوني الولدان حسنا

أنسّيهم هوى غيلان ميّ (٤)

فها أنا قد تخذت الغرب دارا

وأدعى اليوم بالمرّاكشيّ

على أنّ اشتياقي نحو زيد

كشوقي نحو عمرو بالسّويّ (٥)

تقسّمني الهوى شرقا وغربا

فيا للمشرقيّ المغربيّ (٦)

٣٠ ـ فلي قلب بأرض الشّرق عان

وجسم حلّ بالغرب القصيّ (٧)

فهذا بالغدوّ يهيم غربا

وذاك يهيم شرقا بالعشيّ

ولولا الله متّ هوى ووجدا

وكم لله من لطف خفيّ (٨)

قلت : قال أهل اللغة (٩) : الغنج والغنج : الدّلّ وحسن الشّكل ؛ فقوله :

لقد رمت العيون سهام غنج

 ........................

__________________

(١) في جذوة الاقتباس : بل ظباء.

(٢) في النفح : أبحن.

(٣) السمهريّ : الرمح الصّليب العود.

(٤) المقصود بغيلان : ذو الرّمة الشاعر المشهور. ولعلّه أراد بالولدان الذين وصفهم الله تعالى في قوله : (يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً). الإنسان : ١٩. والرواية في درة الحجال : إذا أنسيتني حسنا فإنّي ...

(٥) في الأصل : كشوقك وهو تحريف.

(٦) في درّة الحجال : تقاسمني.

(٧) العاني : الأسير.

(٨) في نفح الطيب : فلولا. وفي النفح والجذوة : هوى وشوقا.

(٩) انظر في اللسان : غنج.

٩٩

غير ملائم ، وقائله لا يسلم من لائم ، ولا يحسن في الأدب خطاب ذوي الرّتب بمثل قوله :

فحسبك نار قلبي من سعير

 ................................

وإذا نعي على أبي الطّيّب قوله : (١) [الطويل]

كفى بك داء أن ترى الموت شافيا

 .................................

وقوله : (٢) [الطويل]

إذا ما لبست الدّهر مستمتعا به

تخرّقت والملبوس لم يتخرّق

وقد علم أنّ المخاطب بذلك غير الممدوح ، فما الظّن بهذا وقبله (٣)

أما وبحقّك المبدي جلالا

 ......................... البيتين؟

وقوله :

بوسنان المحاجر لوذعيّ

 ................................

موضوع في غير موضعه ، فإنّ الوسن إنّما يوصف به الجفن والعين والطّرف وما جرى مجراه ، كما قال عديّ بن الرّقاع (٤) : [الكامل]

__________________

(١) صدر بيت للمتنبيّ ، وعجزه : «وحسب المنايا أن يكنّ أمانيا» ديوانه : ٤ / ٢٨١.

(٢) ديوان المتنبيّ : ٢ / ٣٠٧.

(٣) في بقية النسخ : وقوله.

(٤) هو عديّ بن زيد بن مالك بن عديّ بن الرّقاع ، من عاملة : شاعر كبير من أهالي دمشق توفي سنة ٩٥ ه‍ ، ترجمته في الأغاني ٩ / ٣٠٧. والبيت من قصيدة في ديوانه ١٢٢.

١٠٠