رحلة العبدري

أبو عبدالله العبدري

رحلة العبدري

المؤلف:

أبو عبدالله العبدري


المحقق: د. علي إبراهيم كردي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار سعد الدين للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
الصفحات: ٧٢٨

١

٢

هذا الكتاب جزء من رسالة جامعيّة نوقشت بين يدي الجمهور بكليّة الآداب والعلوم الإنسانية بدمشق يوم الثلاثاء الواقع في ٢٠ / ربيع الآخر ١٤٠٩ ه‍ الموافق في ٢٨ / تشرين الثّاني / ١٩٨٨ م ، أمام اللجنة المكوّنة من الأساتذة :

الدّكتور محمّد رضوان الدّاية مشرفا

الدّكتور شاكر الفحّام عضوا

الدّكتورة أحلام الزّعيم عضوا

وبنتيجتها نال صاحبها درجة الماجستير في الآداب بمرتبة امتياز.

٣

تقدير وعرفان

أتقدّم بالشّكر ، خالصه وأجزله إلى أستاذي الدكتور محمّد رضوان الدّاية ، الذي كان لي خير معين خلال إعداد هذا البحث.

وأقدّم الشكر والامتنان للأستاذ الدّكتور شاكر الفحّام الذي حباني بعطفه وتشجيعه ، وكانت له أياد بيض على هذا العمل وصاحبه.

وأشكر الصّديق العزيز الدكتور علي أبو زيد على مواكبته هذا العمل منذ بدايته ، وتقديمه الملاحظات القيّمة الّتي أفدت منها كثيرا. فلهم مني جزيل الشكر والعرفان.

٤

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

المقدّمة

يزخر تراث هذه الأمّة بنفائس الكتب الّتي تحتوي على ضروب من العلم كان لها أثرها في ازدهار الحضارة. وقد آل كثير من هذا التّراث إلى مجلّدات ترصف بها المكتبات ، أو يباهى باقتناء بعضها ، ولم يخرج إلى النّاس إلّا القليل ممّا كتب علماء العرب وخدمة حضارتها.

ولمّا كان من الوفاء لهذا التّراث أن نخرجه للنّاس مخرجا حسنا ، ونخدمه خدمة تليق به ، سعيت باحثا في سبيل ذلك ، فوجدتني أمام نصّ «رحلة العبدريّ» ، وراقني طرافة موضوعه ، وتميزّه في بابه ، ورأيت أنّه لّما يعط حقّه من العناية والتّحقيق ، فرغبت في أن أخرجه إخراجا علميّا أحقّق من خلاله ما أصبو إليه من الإسهام في حركة بعث التّراث.

ولا يخفى ما لأدب الرّحلة في تراثنا من أهميّة بارزة في مختلف المجالات ، وذلك لما تحتويه الرّحلات من فوائد علميّة ، وأدبيّة جمّة تعتمد في كثير منها على المشاهدة ، والرّواية الشّفويّة ، إذ كان بعض الرّحالين النّابهين يقومون بتدوين مشاهدتهم ، ومواقفهم من أحوال العالم آنذاك ، فيصفون

٥

تجوالهم في الأقطار المختلفة التي يمرّون بها ، ولقاءهم لمشاهير الأدباء والعلماء الّذين قابلوهم في رحلاتهم ، وتقييد ما كان يصدر عنهم من شعر وغيره.

والمشهور من الرّحلات بين النّاس رحلة ابن بطوطة ت (٧٧٩ ه‍ / ١٣٧٧ م) ورحلة ابن جبير ت (٦١٤ ه‍ / ١٢١٧ م) ، ويبدو أنّ السّبب في شهرتهما لا يعود إلى مضمون هاتين الرّحلتين فحسب ، وإنما يعود إلى ظهورهما بين النّاس منذ مدّة طويلة ، وعناية الباحثين ـ مستشرقين وعربا ـ بهما ، ومن هنا ذاع صيت الرّحلتين بين النّاس.

ورحلة العبدريّ لا تقلّ أهميّة عن الرّحلتين السّابقتين ، إن لم تكن تفوقهما في بعض الجوانب ، ولا سيما في جانبها الأدبيّ ، لأن العبدريّ صاحب الرّحلة كان أديبا عالما من علماء المغرب في القرن السّابع الهجريّ ، صرف جلّ اهتمامه في رحلته إلى النّاحية العلميّة في البلاد الّتي قطعها برّا من المغرب الأقصى إلى البلاد الحجازية ، والقدس ، والخليل ، فضمّن رحلته تراجم للعلماء الّذين التقاهم في رحلته ، وذكر كثيرا من طبائعهم ، وعاداتهم ، وأخبارهم ، وأشعارهم الّتي لم نقف على كثير منها في غير هذه الرّحلة.

٦

١ ـ ترجمة المؤلّف :

صاحب الرّحلة هو أبو عبد الله محمّد بن محمّد بن علي بن أحمد ابن سعود العبدريّ (١) ، وينتهي نسبه إلى عبد الدّار بن قصيّ بن كلاب وإليه نسبته (٢).

لم تسعفنا المصادر ـ حتى الآن ـ بمعرفه تاريخ ولادة العبدريّ ، وتاريخ وفاته ، وكلّ ما نعرفه أنّه قام برحلته في الخامس والعشرين من ذي القعدة عام ثمانية وثمانين وست مئه ، وكان عندها في عنفوان عمره كما قال له شيخه أبو زيد الدّباغ (٣).

فإذا افترضنا أنّه كان آنذاك في الخامسة والأربعين. بدليل قوله عن ابن خميس التّلمساني الّذي كان ـ حين لقيه في تلمسان ـ في الثّامنة

__________________

(١) ترجمته في : أعلام الزركلي ٧ / ٣١ ـ ٣٢ ـ الإعلام بمن حلّ مراكش وأغمات للمراكشي ٤ / ٢٨٧ ـ ٣٣٠ ـ تاريخ الأدب الجغرافي لكراتشكوفسكي ١ / ٣٦٧ ـ تاريخ الأدب العربي لبروكلمان ١ / ٤٨٢ ـ تاريخ الأدب العربي لفرّوح ٦ / ٤٠١ تاريخ الجغرافية والجغرافيين في الأندلس لحسين مؤنس ٥١٨ ـ تاريخ الفكر الأندلسي لبالنثيا ٣١٨ ـ ٣١٩ ـ الجغرافية والرحلات عند العرب لنقولا زيادة ١٧١ ـ ١٨٠ ـ الجغرافيون العرب لمصطفى الشهابي ٨٦ ـ ٨٨ ـ جذوة الاقتباس لابن القاضي ٢٨٦ ـ ٢٨٨ ـ حوليات الجامعة التونسية العدد الرابع سنة ١٩٦٧ مقال للشاذلي بويحيى ـ دائرة المعارف الإسلامية بالإنكليزية ١ / ٩٦ ـ دليل مؤرخ المغرب لابن سودة ٣٨٠ ـ الذيل والتكملة ٨ ـ ١ / ٤٢ مقدمة الدكتور محمد بن شريفة ـ الرحالة العرب لنقولا زيادة ١١٧ ـ ١٢٠ ـ الرحلة والرحاله المسلمون لأحمد رمضان أحمد ٣٤٧ ـ ٣٥٣ ـ شجرة النور الزكية لمخلوف ١ / ٢١٧ ـ فهرس الفهارس للكتاني ٢ / ٨٠٩ ، إضافة إلى بعض المقالات المتفرقة في المجلّات.

(٢) الأنساب للسّمعاني ٨ / ٣٤٩ ـ ٤ واللّباب في تهذيب الأنساب لابن الأثير ٢ / ٣١٢.

(٣) الرّحلة : ١٦٤.

٧

والثّلاثين من عمره بأنّه «فتيّ السّن» (١) فتكون ولادته حوالي سنة (٦٤٣ ه‍ / ١٢٤٥ م) وأغلب الظّنّ أنّ وفاته كانت بعد سنة سبع مئة للهجرة ، وهذا قريب ممّا قدّره الدّكتور عمر فرّوخ إذ جعل وفاته سنة (٧٢٠ ه‍ / ١٣٢٠) (٢).

ولا يذكر العبدريّ شيئا عن دراسته الأولى ، ولا تنجدنا المصادر في معرفة بدايات تكوينه الثّقافي ، ولا يستبعد أنهّ تتلمذ على والده ـ المعلّم ـ ودخل الكتّاب ـ كما كانت العادة ـ في بلدته «حاحة» فحفظ القرآن ، وتعلّم على الطّريقة المتّبعة حينئذ من التّدرّج في حفظ المتون ، وتعلم العمليّات الحسابيّة ، ثم ارتقى إلى أن أصبح من الطّلّاب ، عندها انتقل إلى مرّاكش الّتي كانت مركزا علميّا مرموقا آنذاك ، فأخذ عن جلّة من علمائها أمثال محمّد بن علي بن يحيى الشّريف الّذي كان شيخه وشيخ صاحبه ابن عبد الملك المراكشي. (٣)

وقد أفاد العبدريّ من كثرة مشايخه ، وتنوّع ثقافاتهم فأتقن كثيرا من الفنون ، ظهرت جليّة في رحلته الّتي بدا فيها المؤلّف حافظا للقرآن والحديث ، مطّلعا على الأدب العربي نثره وشعره ، وخطبه ورسائله ، عارفا بأيّام العرب وغزواتهم ، وفصحاء خطبائهم ، وله معرفة بالأسماء والألقاب والكنى ، وأسماء الأماكن ، وبمصطلحات علوم الأدب والبلاغة والعروض.

__________________

(١) الرّحلة : ٥٣.

(٢) تاريخ الأدب العربي : ٦ / ٤٠١.

(٣) الرّحلة : ٣٠٢.

٨

٢ ـ مؤلفاته :

لا نعرف حتّى الآن للعبدريّ مؤلّفا غير الرّحلة الّتي بين أيدينا غير أنّنا لا نسلّم بهذا ، ولا نظنّ أنّ علم الرّجل عقم عن كتاب آخر وهو من هو في علمه ومكانته.

ويبدو أنّ غوائل الدّهر قد أتت على ما أنتجه هذا العالم ، ولم يسلم لنا سوى الرّحلة. وممّا يعيننا على ما نذهب إليه ويقويه أن البلويّ أورد في رحلته قصيدة العبدريّ التّائيّة الّتي عارض فيها القاضي عياضا في كتابه «الشّفا» ومطلعها (١) : [الكامل]

يا ساكني دار الحبيب عليكم

منّي سلام طيّب النّفحات

وكذلك فقد أتى العبدريّ ببيت مفرد في رحلته وهو : (٢) [الطويل]

شبابي وال جاء شيبي بعزله

فقام بأعلى الرّأس أيّ خطيب

وقال قبل إيراده : «وقد كان هذا المعنى عرض لي قديما فنظمته في بيت من قصيدة» وهذا يعني أنّ ديوان شعره ما خلا بعض الشّذرات منه الّتي وقفنا عليها قد ضاع.

وكذلك أشار الكتّاني صاحب «فهرس الفهارس» إلى أنّه يروي «فهرسة العبدريّ» من طريقين مختلفين (٣) ، ولا نظنّ أنّه عنى بالفهرسة الرّحلة ، لأنّه ضرب من التّأليف يختلف اختلافا بيّنا عن التّأليف في الرّحلات.

__________________

(١) تاج المفرق ٢ / ١٠٩.

(٢) الرّحلة : ١٣٧.

(٣) فهرس الفهارس ٢ / ٨٠٩.

٩

٣ ـ أسباب الرّحلة ومدّتها :

كان وراء رحلة العبدريّ سببان حملاه على المضيّ فيها :

الأول : سبب دينيّ : وهو القيام بفريضة الحج ، وزيارة الأماكن المقدّسة ، والاتّصال بالمتصوّفة والصّالحين ، وقد صرّح العبدريّ مرارا بأنّه كان ينوي الإقامة بمكّة والمجاورة بها ، وبأنّه قد اكترى المنزل وجهّز لوازمه ، وصرف الرّكب إلى المغرب ، لولا حدوث فتنة هناك أرغمته على الرّحيل عن مكّة (١).

الثّاني : هو رغبته في لقاء العلماء والمشايخ والأخذ عنهم ، وكان العبدريّ حريصا على البحث عن السّند العالي فيما أخذه عن هؤلاء العلماء والمحدّثين ، ورأينا العبدريّ في سؤال دائم عن الأحوال العلميّة والثّقافيّة في البلاد الّتي مرّ بها ؛ فإذا صادف مجموعة من العلماء في بلد من البلاد طرب لذلك وانشرحت نفسه فانطلق لسانه ثناء وحمدا كما حدث معه في تونس (٢). وإذا لم يجد هذا النّوع من العلماء هجا بلسانه الذّرب هذه البلاد وأهلها كصنيعه في قابس وطرابلس (٣).

أمّا مدّة الرّحلة فيبدو أنّها استمرّت أكثر من سنتين ، ويذكر البحاثّة حسن حسني عبد الوهاب أنّ العبدريّ زار تونس مرّتين في طريق ذهابه إلى

__________________

(١) الرّحلة : ٣٩١.

(٢) الرّحلة : ١٠٨.

(٣) الرحلة : ١٨٤.

١٠

الحج سنة (٦٨٨ ه‍ / ١٢٨٩ م) ، وعند رجوعه سنة (٦٩١ ه‍ / ١٢٩٢ م) (١). فعلى هذا يكون العبدريّ قد أمضى ثلاث سنوات في رحلته ويؤكّد هذا البلويّ حين أورد أبياتا للعبدريّ في رحلته. فقال : «أنشدها في تونس في رجب الفرد سنة (٦٩٠ ه‍ / ١٢٩١ م)» (٢). فمن المحتمل إذا أن يكون العبدريّ قد عاد في هذه السّنة من الحجاز وأقام في تونس سنة أخرى كما فعل نظيره ابن رشيد السّبتي ت (٧٢١ ه‍ / ١٣٢١ م) صاحب «ملء العيبة». ويؤكّد هذا الاحتمال ما ذكره العبدريّ عن أهل تونس ، وكياستهم ، وعلمهم ، فقد أعجب بعلمائها ومجالسهم العلميّة ، ودليل ذلك قوله عند دخوله تونس بعد عودته من الحجاز : «وقد أقمت بها مدّة حتّى شفيت الحشا العليل ، ونقعت بوردها الغليل ، وقطعت فيها الغدوّ والأصيل ، بمجالسة كلّ فاضل جليل ، فما أنفصل عن عالم يوضح الحلك مهما أجاب ، إلّا إلى صالح يحتلب به درّ السّحاب ، ولا أغدو عن مجلس أدب كقطع الرّياض ، إلّا إلى محفل وعظ يسقي الخدود بالدّمع الفيّاض ، فقطعتها أيّاما من غفلات الدّهر مختلسات ، وانتظم لي شمل أنس طالما مني بالشّتات ، فلم يبق بها شيخ مذكور إلا رأيته ، ولا علم مشهور إلّا أتيته» (٣).

فالرّحلة إذا كانت ذات هدف مزدوج ككثير من الرّحلات الحجازيّة الّتي كان أصحابها يقصدون الدّيار المقدّسة لأداء فريضة الحجّ ، ويغتنمون الفرصة ليلتقوا الشّيوخ في المدن الّتي كانوا يمرّون بها ، ويأخذون عنهم ما يتيسّر لهم من العلوم المختلفة.

__________________

(١) مقدمة رحلة التجاني صفحة : يز.

(٢) تاج المفرق : ٢ / ١٠٩.

(٣) الرحلة : ٤٨٩.

١١

٤ ـ منهج العبدريّ في تأليف الرّحلة :

أوضح العبدريّ في مقدّمة الرّحلة منهجه في تأليفها فقال : (١) «... وبعد فإنّي قاصد بعد استخارة الله سبحانه إلى تقييد ما أمكن تقييده ، ورسم ما تيسّر رسمه وتسويده. ممّا سما إليه النّاظر المطرق ، في خبر الرّحلة إلى بلاد المشرق ، من ذكر بعض أوصاف البلدان ، وأحوال من بها من القطّان ، حسبما أدركه الحسّ والعيان ، وقام عليه بالمشاهدة شاهد البرهان ، من غير تورية ولا تلويح ، ولا تقبيح حسن ، ولا تحسين قبيح ، بلفظ قاصد لا يحجم معرّدا ، ولا يجمح فيتعدّى المدى ، مسطّرا لما رأيته بالعيان ، ومقرّرا له بأوضح بيان».

وقد كان العبدريّ وفيّا لهذا المنهج الّذي ارتضاه لرحلته ، مطبّقا له ، فقد وصف البلدان وصفا دقيقا بمبانيها ، وآثارها ، وكثيرا ما كان يعّرج على أهلها فيصف عاداتهم وتقاليدهم ، ولباسهم ، ومستواهم العلمي ، ولم يكن متساهلا في نقد ما كان يراه غير طبيعّي سواء في أخلاق النّاس أو في عاداتهم ، وخصوصا فيما يتعلّق بالنّاحية العلميّة للبلاد الّتي كان يدخلها ، كقوله عن طرابلس : (٢) «... ثم وصلنا مدينة طرابلس ، وهي للجهل مأتم ، وما للعلم فيها عرس ...». وقوله عن تلمسان : (٣) «... وأمّا العلم فقد درس رسمه في أكثر البلاد ، وغاضت أنهاره فازدحم على الثّماد ، فما ظنّك بها وهي رسم عفا طلله ، ومنهل جفّ وشله ...»

__________________

(١) الرّحلة : ٢٨.

(٢) الرّحلة : ١٨٤.

(٣) الرّحلة : ٤٩. وغاض الماء : نقص ـ والثّماد : الحفر يكون فيها الماء القليل. والوشل : الماء القليل يتحلّب من جبل أو صخرة ، يقطر منه قليلا قليلا.

١٢

وهذا ما جعل بعض الباحثين (١) يصف آراءه بالتّطرّف ، لأنّ العبدريّ لم يترك بلدا دون أن يوجّه إليه نقده بصراحة ، لا مداراة فيها ولا مواربة.

ولجأ العبدريّ إلى ذكر الأخبار الّتي استفادها ، والأشعار الّتي كان أنشده إيّاها العلماء. ونقل بعض المعلومات المهمّة الّتي كان يراها تخدم غرضه من الكتب المختلفة لتوضيح ما يذهب إليه ، وإن لم يشاهدها عيانا على الشّرط الذّي اشترطه على نفسه في مقدمة الرّحلة.

ولقي العبدريّ مجموعة من المحدّثين الذّين سمع منهم كثيرا من الأحاديث الشّريفة ، وأثبت بعضها في رحلته ، معتنيا بالسّند العالي عناية كبيرة كما سلف.

أمّا تقسيم الكتاب فلا نكاد نلمح تقسيما واضحا له ، ولكنّنا نجد فيه بعض الفصول الّتي كان كثيرا ما يلجأ إلى عقدها عند ما يريد الوقوف على ظاهرة ، والتّفصيل فيها تفصيلا يبعد قليلا عن غرض الرّحلة ومنهجها ، مستطردا في حديثه عن بلد وما يختصّ به ، أو عن تاريخه ، كما صنع في الحديث عن عجائب مصر ونيلها (٢) ، والحديث عن بناء المسجد الحرام (٣) ، والكعبة وأسمائها (٤).

__________________

(١) مثل د. حسين مؤنس الذي نعت العبدريّ بالتطرف والتعقيد ، انظر «تاريخ الجغرافية والجغرافيين في الأندلس ٥٢٠».

(٢) الرّحلة : ٣١١.

(٣) الرّحلة : ٣٨٤.

(٤) الرّحلة : ٣٧٦.

١٣

وكثيرا ما كان العبدريّ يستطرد إلى بعض الآراء الّتي تستوجب منه مناقشة وتوضيحا ، كما صنع في مشاركاته الفقهيّة ، ومناقشاته العلميّة (١).

٥ ـ مصادره في تأليفها :

تحتوي رحلة العبدريّ معلومات جغرافيّة وتاريخيّة وأدبيّة واجتماعيّة إضافة إلى المعلومات الفقهيّة. لذلك نلاحظ أنّ مصادره متنوعة تنوّعا كبيرا ، ويأتي في أوّلها المشاهدة ، ثم الرّواية الشّفويّة ، ثم المصنّفات المختلفة الّتي نقل منها.

أمّا المشاهدة فقد ظهر أثرها واضحا في المعلومات الجغرافيّة عن المناطق والبلاد الّتي مرّ بها ، وخصائصها العمرانية ، وتضاريسها ، وكان وصفه لها وصف شاهد عيان.

وقد حملت هذه الرّحلة طائفة من المعلومات والقضايا العلميّة الّتي أخذها المؤلفّ من صدور العلماء مشافهة ، وقيّدها في رحلته ، وحوت كثيرا من المعلومات الّتي لا نجدها في غير هذه الرّحلة. ومن هاهنا تزداد قيمة الكتاب العلميّة ، ويسمو درجة نحو الجودة والفائدة.

أما المصدر الثّالث فهو المصنّفات الّتي نقل عنها العبدريّ ، وقد لجأ إليها مستعينا بها على ما لم يشاهده ، أو شاهده ولكنّه يريد التّوكيد والتّوضيح والاستدلال.

ويمكن أن نصنّف مصادره الّتي نقل عنها ضمن الطّوائف التّالية :

__________________

(١) الرّحلة : ١٥١.

١٤

١ ـ المصادر الجغرافيّة والتّاريخيّة : ومنها كتاب «المسالك والممالك» لأبي عبيد البكري ت (٤٨٧ ه‍ / ١٠٩٤ م). و «أخبار مكّة» لأبي الوليد الأزرقي ت (٢٥٠ ه‍ / ٨٦٥ م). و «طبقات الأمم» للقاضي صاعد ت (٤٦٢ ه‍ / ١٠٧٠ م) و «مروج الذّهب» للمسعودي ت (٣٤٦ ه‍ / ٩٥٧ م).

٢ ـ كتب الحديث المختلفة : الصّحاح وغيرها ، وكتاب «غريب الحديث» لأبي عبيد القاسم بن سلّام ت (٢٢٤ ه‍ / ٨٣٨ م) و «مشارق الأنوار» للقاضي عياض ت (٥٤٤ ه‍ / ١١٤٩ م).

٣ ـ كتب السّيرة النّبويّة : كسيرة ابن إسحاق ت (١٥١ ه‍ / ٧٦٨ م) ، و «الرّوض الأنف» لأبي القاسم السّهيلي ت (٥٨١ ه‍ / ١١٨٥ م) و «الاكتفاء» لأبي الرّبيع بن سالم الكلاعي ت (٦٣٤ ه‍ / ١٢٣٧ م) ، و «الشمائل» للتّرمذي ت (٢٧٩ ه‍ / ٨٩٢ م).

٤ ـ كتب الفقه المالكيّ : مثل «المدوّنة» لعبد الرّحمن بن القاسم ت (١٩١ ه‍ / ٨٠٧ م) ، و «العتبيّة» لمحمد بن العتبي القرطبي ت (٢٥٤ ه‍ / ٨٦٨ م) ، و «التّلقين» للقاضي عبد الوهاب ت (٤٢٢ ه‍ / ١٠٣١ م).

٥ ـ كتب التّصوّف : ككتاب «التّشوّف» لابن الزّيات ت (٦٢٧ ه‍ / ١٢٣٠ م) ، و «منار العلم» لأبي سعيد الحاحّي المترازيّ.

٦ ـ الدّواوين الشعرية والمجموعات : ك «ديوان المتنبّي» و «ديوان النّابغة» و «الحماسة» و «يتيمة الدّهر» للثعالبي ت «٤٢٩ ه‍ / ١٠٣٨ م».

٧ ـ كتب أخرى في القراءات والترّاجم ككتاب «التيّسير» و «المقنع» لأبي عمرو الداني ت (٤٤٤ ه‍ / ١٠٥٣ م) وغيرها.

١٥

٦ ـ أهميّة الرّحلة :

لم تنل رحلة العبدريّ مكانتها بين الرّحلات ، وأوّل من تنبّه إلى شأنها علماء الاستشراق ، الّذين انكبّوا عليها دراسة وترجمة ، وكان «أول من اشتغل بها المستشرق الفرنسي «مانسان» في مقال نشره بالجريدة الآسيويّة ، ثم نشر المستشرق «شربونو» بالجريدة الآسيوية كذلك سنة ١٨٥٤ م مقالا عنها ، أتبعه بترجمة بعض فصولها» (١).

وبقيت هذه الرّحلة حبيسة الرّفوف إلى أن جاء الأستاذ أحمد بن جدّو وحاول أن يخرجها للناس ، فطبعها منقوصة غير تامّة ، وزاد في سوئها كثرة الأخطاء ، ثم طبعت في المغرب بعناية الدكتور محمّد الفاسي ، إلّا أن هذه الطّبعة أيضا لم تف بحقّ الرّحلة ، ولم تقدّمها للنّاس على شكلها الصّحيح ، ويبدو أنّ وقت الدّكتور الفاسي لم يتّسع لأكثر من ذلك ، فدفعها للطّبع بسرعة تحدوه الرّغبة في أن يطّلع عليها جمهور الباحثين والقرّاء ، فخرجت الرّحلة يعتورها بعض النّقص ، والتّصحيف والتّحريف ، وخلت ـ أو كادت ـ من التّعليقات الضّروريّة لا يضاح ما يستغلق فهمه لدى قراءتها.

وممّا يدلّ على أهميّة هذه الرّحلة انتشار نسخها المخطوطة في كثير من مكتبات العالم (٢). واحتفال المؤرخين بها إذ نقل كثير منهم عنها كالتّنبكتي صاحب «نيل الابتهاج» الّذي أفاد منها أيّما إفادة ونقل كثيرا من التّراجم عنها ، وعدّها مصدرا من مصادر كتابه (٣). ونقل عنها الوزير السّرّاج في

__________________

(١) مقدّمة طبعة الرّباط صفحة ١ ج.

(٢) حاولنا حصر بعض نسخها المخطوطة في منهج التحقيق.

(٣) انظر نيل الابتهاج : ٦٨ ـ ١٠٣ ـ ١٥٢ ـ ١٦٣ ـ ١٦٤ ـ ٢٠٣ ـ ٢٢٢.

١٦

كتابه «الحلل السّندسيّة في الأخبار التّونسيّة» فقرات طويلة في الأوصاف والتّراجم ، وعّدها أيضا من مصادره في تأليف كتابه (١).

وقد اهتدى بها عدد من الرّحالين ونقلوا عنها ، واسترشدوا بها ، فقد نقل عنها ناسخ رحلة ابن بطوطة فقرات كثيرة (٢) ، وكذلك شأن الرّحّالة ابن عبد السّلام النّاصري الّذي كان يستحضرها في كلّ مراحل رحلتيه الكبرى والصّغرى ، وعبد القادر الجيلاني الإسحاقي (٣) ، واعتمد العيّاشي عليها في كثير من تدقيقاته إذ نراه يقف كثيرا مع ما ذكره العبدريّ محقّقا ومدقّقا (٤) ، وصنع الورثلاني صنيعه أيضا في رحلته (٥).

ونظرا إلى أهمّيتها فقد قام أبو العبّاس بن قنفذ القسنطيني ت (٨٠٩ ه‍ / ١٤٠٦ م) باختصارها بعنوان : «المسافة السّنيّة في اختصار الرّحلة العبدريّة» ، ومازال هذا المختصر مخطوطا.

وبقي العلماء والباحثون حتّى العصر الحاضر يهتمون برحلة العبدريّ ، ويقدّرونها ، إذ عمد العلامة عبّاس بن إبراهيم المراكشيّ إلى تلخيصها في كتابه الجليل : «الإعلام بمن حلّ مراكش وأغمات من الأعلام» (٦).

__________________

(١) انظر الحلل السّندسيّة : ١ / ٢٤٥ ـ ٢٤٦ ـ ٢٤٧ ـ ٢٥٦ ـ ٤٩٩ ـ ٥٠٠ ـ ٥٦٠ ـ ٦٦٧ ـ ٦٦٨.

(٢) انظر وصف ابن بطوطة والعبدريّ لمنار الإسكندرية ، ولعمود السواري ، وللنيل ، وللأهرام والبرابي ، وللمزارات بقرافة مصر ، وكذلك وصفها لمدينة الخليل ، وتربة لوط ، وقبر فاطمة بنت الحسين ، وبيت لحم ، والمسجد الأقصى وقبّة الصّخرة ، ووادي جهنم ، ومصعد عيسى عليه‌السلام ، وقبر رابعة البدوية ، ووصف عسقلان.

(٣) انظر مقدّمة طبعة الرباط صفحة ط.

(٤) رحلة العياشي ١ / ٩٢ و ١١٠

(٥) الرّحلة الورثلانية : ١٨٢ ـ ٢٢٢ ـ ٢٣٣ ـ ٣٣٨ ـ ٣٣٩ ـ ٣٩٢.

(٦) الإعلام ٤ / ٢٨٧ ـ ٣٣٠.

١٧

وممّا يزيد في أهميّة الرّحلة أنهّا تعدّ وثيقة مهمّة عن الحياة الثّقافيّة في أواخر القرن السّابع الهجري في البلاد الّتي مرّ بها العبدريّ ، والتقى علماءها فقد أعطانا صاحب الرّحلة فكرة موسّعة عن المستوى الثقافي في هذه البلاد ، وعرّفنا بأعلام العلماء ، وما كان يهتمّ به من العلوم المختّلفة ، كما دلّنا على الكتب التي كانت رائجة آنذاك ، وطرائق التّدريس المتّبعة عصرئذ.

وترجم العبدريّ لمجموعة من العلماء الّذين لا نكاد نعثر لهم على صورة واضحة في المصادر المختلفة ، فأضاء جوانب من شخصياتهم ، وعرّفنا بهم وبطبائعهم ، وكانت أوصافه وأحكامه تتّصف بالدّقّة لأنّها صادرة عن شاهد عيان.

كذلك فإنّ هذه الرّحلة تفيد علماء الجغرافية والتّاريخ في دراسة الظّواهر الّتي كانت سائدة آنذاك ، كما تفيد مؤرخي الأدب في التأريخ الأدبيّ للأقطار الّتي مرّ بها العبدريّ ، فهي تضمّ نصوصا أدبيّة ـ شعريّة ونثريّة ونقديّة ـ مهمّة تتفرّد الرّحلة في بعضها ، بما يزيد في أهميّة الرحّلة ويضعها في مكانها الصّحيح بين كتب الرّحلات المختلفة.

١٨

نسخ الكتاب ومنهج التّحقيق

للرّحلة نسخ متعدّدة في المكتبات العامّة والخاصّة ، ذكرها الأستاذ محمّد الفاسي في مقدمة طبعته ، وهذه المخطوطات المعروفة هي :

آ ـ المخطوطات الموجودة في المغرب وهي :

١ ـ مخطوطة خزانة جامع القرويين بفاس ورقمه ج ل ٤٠ / ٥٦٧.

٢ ـ مخطوط الخزانة العامّة بالرّباط ورقمه د ١٠١٢.

٣ ـ مخطوط ثان بالخزانة نفسها ورقمه ك ٣٥٦.

٤ ـ مخطوط الخزانة الملكيّة بالرّباط ورقمه ٢٨١٠.

٥ ـ مخطوطان في الزّاوية الحمزوية بجبال الأطلس المتوسط.

٦ ـ مخطوط في المكتبة الخاصة للأستاذ محمد المختار السّوسي رحمه‌الله.

٧ ـ مخطوط في المكتبة الخاصة للأستاذ عبد السّلام بن سودة.

ب ـ المخطوطات الموجودة خارج المغرب وهي :

١ ـ مخطوط مكتبة الإسكوريال ورقمه فيها ١٧٣٨.

٢ ـ مخطوط مكتبة جامعة ليدن بهولاندا ورقمه ٨٠١.

٣ ـ مخطوط المكتبه الوطنية بتونس ورقمه ١٥٩٥٢.

٤ ـ مخطوط المكتبه الوطنية بباريس ورقمه ٢٢٨٣.

٥ ـ مخطوط كان عند المستشرق الفرنسي ألفونس روسو.

١٩

٦ ـ مخطوط كان عند المستشرق الفرنسي شربونو.

٧ ـ مخطوط عند المستشرق الفرنسي مارتان.

٨ ـ مخطوط كان يوجد في خزانة جامعة الجزائر ورقمه ٢٠١٧.

وكنت قد وقفت أثناء وجودي في تونس ـ بعد أن دفعت الكتاب للطّبع (١). على ثلاث نسخ خطّية ـ عدا الّتي اعتمدتها في التّحقيق ـ وجميعها آلت إلى المكتبة الوطنيّة ، وهذا بيان بأرقامها :

٩ ـ مخطوط المكتبة الوطنية رقم ٤٨٣٥.

١٠ ـ مخطوط في مكتبة العلّامة حسن حسني عبد الوهاب ورقمها ١٨٦٠٠.

١١ ـ مخطوط المكتبة الأحمدية رقم ٤٤٤١ ، وهي نسخة عتيقة عدد أوراقها (١٤٢) ورقة ، استطعت أن أملأ منها بعض الفراغات الموجودة في بقّية النّسخ ، وأشرت إلى ذلك في موضعه.

وقد تيسّر لي الوقوف على ثلاث نسخ خطيّة منها اعتمدتها في التحقيق إضافة إلى الطّبعتين اللّتين طبعتا من قبل ، وهذه النّسخ هي :

١ ـ نسخة باريس : وهي المحفوظة بالمكتبة الوطنيّة بباريس تحت رقم ٢٢٨٣ ، وعدد أوراقها مئة وإحدى وخمسون ورقة. في كل صفحة بين واحد وعشرين وثلاثة وعشرين سطرا ، كتبت بخطّ مغربي واضح جميل ، ضبط

__________________

(١) كنت قد دفعت الكتاب إلى دار الغرب الإسلامي ببيروت لطباعته ، وبقي الكتاب حبيس الرفّ مدّة عامين ، دون أن تتيسر طباعته هناك ، فآثرت إخراجه في دار سعد الدين بعد أن سحبت الكتاب من الدار المذكورة.

٢٠