رحلة العبدري

أبو عبدالله العبدري

رحلة العبدري

المؤلف:

أبو عبدالله العبدري


المحقق: د. علي إبراهيم كردي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار سعد الدين للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
الصفحات: ٧٢٨

[الإسكندريّة في العودة]

ثمّ وصلنا إلى الإسكندريّة (١) ، فأنزلنا شيخنا الفقيه زين الدّين بمدرسة إقرائه ، وأولانا من برّه وتأنيسه ما يكافئه الله به.

[الطّريق من الإسكندريّة إلى تونس]

وأقمنا بها سبعة أيّام ، ثم سافرنا على طريقنا الأولى إلى العقبة الصّغيرة ثمّ تياسرنا منها إلى العقبة الكبيرة ، وهذه الطّريق معطشة ، وماؤها في آبار عميقة ، ما رأيت أبعد منها ، وقلّما يتأتّى (٢) الاستقاء منها إلّا بحبال موصولة ، والغالب في ورودها الغبّ (٣) ، فشقّ سلوكها لذلك. ثم منها على طريقنا الأولى إلى البطنان ثم إلى قصر الصّفاقنة (٤) ثم إلى الرّجل المشقوق ثم إلى الحصوي ، وهذه كلّها أسماء مواضع تنزلها العربان ما بها مستعتب سوى قصر الصّفاقنة. ومن الحصوي على الطّريق الوسطى بين طريق الغابة وطريق القبلة إلى أبي شمال ، وهي عين غزيرة (٥) عذبة. ثمّ إلى جرسون ، ثم إلى مراوة ، وتركنا على اليمين طريق المرج ، وقبّة هيت ، وطلميثة وهي مدينة أرض برقة ومرفأ سفنها.

ورأيت ما بين جرسون ومراوة آكاما غليظة ، دائرة بديار منحوتة منها في حجر صلد من أبدع العمل وأغرب الإتقان ، عجيبة محكمة جدّا ، ودخلت

__________________

(١) في ت : مدينة الإسكندرية.

(٢) في ت : يأتي.

(٣) الغبّ : ورد يوم وظمء آخر.

(٤) في ت : قصر الصعاقبة.

(٥) زاد في ت : بيضاء.

٤٨١

منها واحدة بإزاء الطّريق فوجدتها على نعت دار متقنة ، وعن يمين مدخلها حجرة عجيبة للطّبخ ، وعن يساره حجرة للرّحض والتّطهّر ، وفي مقابلة الدّاخل بيت كبير مليح جدا ، ومنقوش على أحسن صفة تكون عليها البيوت المبنيّة ، وتلك الآكام كلّها منحوتة ديارا على تلك الصّفة.

[سوسية]

ومن مراوة إلى سوسية (١) ، وهي حصن خربّ على شرف مرتفع ينظر على فحص (٢) متّسع فيه مواجل (٣) كثيرة لماء المطر ، قلّما تنضب لكثرتها وعظمها ، وفي سمتها آبار الميّاس ، ولم أمرّ راجعا عليها لسبب أوجب ذلك فتيامنّا عنها.

[أرض برنيق]

ثمّ وصلنا إلى أرض [١٢٦ / ب] برنيق ، وهي أرض طيّبة للزّراعة كثيرا ، وبها قصور عدّة يخزن فيها ، وأولّها القمانس ، وهي ثلاثة قصور متقاربة ، وأحدها قمينس ، هكذا ينطقون به على لغتهم المعروفة في القاف. وهي أسماء أعجميّة ، ومررنا على قصر جلّيط ، وهو في آخر أرض برنيق من جهة الغرب. ثمّ على أجدابية ، وهي حصين قديم على قدر دار كبيرة عالية. وذكر بعض المؤرّخين أنّه كان به (٤) ماء جار ونخل ، وليس الآن هنالك إلّا قصر ماثل في خلاء من الأرض ، لا ماء جار ، ولا شجرة واحدة ، ومنها إلى عين أقيان ، وهو

__________________

(١) في الأصل : سوسة وهو تصحيف وسيحدثنا العبدري عن وصوله لسوسة في الصفحة ٤٨٧.

(٢) الفحص : ما استوى من الأرض.

(٣) مواجل : واحدها ما جل وهو خزّان الماء.

(٤) في ط : فيه.

٤٨٢

ماء شريب (١) في رملة بيضاء ، وهو حدّ برقة عند المغاربة ، لأنّ برقة عندهم اسم الأرض ويطلقونها على ماردت الإسكندريّة إلى هذا الموضع. وقد تقدّم أنّ برقة اسم مدينة ، وقد رأيت عرب تلك الأرض لا يطلقون اسم برقة إلّا على الغابة وما حاذاها ، وذلك من القمانس إلى الحصوي ، ومنه إلى العقبة الكبيرة البطنان (٢) ومنها إلى الإسكندريّة لا يذكرون إلّا العقبتين.

[برّيّة سنانة ومنهوشة]

ثمّ وصلنا إلى برّيّة سنانة ومنهوشة ، ثم إلى مدينة سرت ثم إلى (٣) الشّبيكة آخر قصورها وأعمرها ، مارّين على الطّريق الأولى إلى مصراته ، وهي مواضع وقرى عامرة آخرها من جهة الغرب سويقة ابن مطكود (٤) ، ومنها إلى بني حسن وهي قربة مجموعة عامرة ، وبينها وبين مصراتة مواضع على السّاحل عامرة ، وقصور قديمة. وهنالك مدينة لبدة (٥). فيها آثار قديمة وبنيان عجيب ، وفيها من أساطين الرّخام وألواحه ما يقصر عنه الوصف ، وفيها صورة امرأة من رخام بإزاء الطّريق ، ولا شكّ أنّ البلد كانت دار مملكة ، وهي الآن متهدّمّة دارسة ليس بها إلّا عمارة قليلة. وفي جنوبي بني حسن مسلاتة ، وهم قوم يبرّون أهل الدّين ويكرمون الحجّاج وهم على خير وصلاح.

__________________

(١) الماء الشروب والشّريب : الذي بين العذب والملح. وقيل : الشّريب : العذب.

(٢) في ط : ثم إلى البطنان.

(٣) في ط : على.

(٤) في ط : مطكوك وسويقة ابن مطكود : بليدة في أوائل إفريقية وآخر برقة ، وهي بينهما ، وقد ورد اسمها في «ياقوت» ابن مكتود ، وفي الروض المعطار : ابن مثكود.

(٥) لبدة : مدينة بين برقة وإفريقية ، وقيل بين طرابلس وجبل نفوسة ، وهو حصن من بنيان الأوائل بالحجر والأجرّ ، وحوله آثار عجيبة. انظر ياقوت : ٥ / ١٠.

٤٨٣

ثمّ وصلنا إلى مدينة أطرابلس ، وكان ذكر لي بها شخص يدّرس الفقه يعرف بابن عبيد ، فحضرت مجلسه ، فرأيته قليل التّوقير لمجلس العلم ، فخرجت ولم أكلّمه.

[قابس]

ثمّ [١٢٧ / آ] وصلنا إلى مدينة قابس وأقمنا بها أيّاما ، وأولانا خطيبها الصّالح الفاضل أبو موسى الشّكري ـ حفظه الله ـ برّا وإكراما ، وزرنا بها قبر أبي لبابة (١) صاحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعليه مسجد ، وهو منه في بيت مغلق.

[نفطة]

ثمّ سافرنا منها على طريق نفطة (٢) ، وهي موضع على البحر ، فيه ناس صالحون يعرفون بأولاد الرّقيق. ثم منها على الطّريق الوسطى بين طريق القيروان وطريق السّاحل على غابة إفريقية ، وهي غابة عظيمة من زيتون بعل (٣) ، يحمل كثيرا ، ويعتصر (٤) زيتا طيّبا كالحال في زيتون الشّام سواء ، ولكنّه ليس في الشّام منه غابة متصلة كاتّصال هذه مع عظمها. وقد قطعناها في ثلاثة أيّام ، ولكنّها الآن معطّلة لفساد البلاد ، واستيلاء العربان عليها ،

__________________

(١) أبو لبابة بن عبد المنذر الأنصاري ، صحابي ، شهد مع رسول الله عليه الصلاة والسلام أحدا وما بعدها من المشاهد توفي في خلافة عليّ رضي‌الله‌عنه. له ترجمة في الاستيعاب ٤ / ١٦٧ ، والإصابة : ٤ / ١٦٨.

(٢) نفطة : مدينة بإفريقية من أعمال الزاب الكبير ، بينها وبين توزر مرحلة ، وبينها وبين قفصة مرحلتان. انظر ياقوت ٥ / ٢٩٦.

(٣) في ت : الزيتون البعل.

(٤) في ط : يعصر.

٤٨٤

فانقطعت منفعتها رأسا ، حتّى صار الزّيت بإفريقيّة مجلوبا من جزيرة جربة (١) ، وهي جزيرة صغيرة (٢) منقطعة في البحر ، فيها (٣) زيتون ورمّان ، (٤) وتفاحها مشهور يجلب منها إلى البلاد. وأهلها أصحاب مذاهب رديّة (٥) ، وأهواء مضلّة مثل زوّارة وزوّاغة ـ دمّرهم الله جميعا ـ وقد صارت جربة اليوم في حكم النّصارى ، أعطاهم إياها أهلها لشنآن (٦) وقع بينهم ، والعصمة بالله ولا حول ولا قوة إلّا به.

وهذه الطّريق المذكورة ليست بعيدة من طريق السّاحل ، وإنّما تجنّبناها لآفات تتقى بها ، فخطرنا على مدينة سفاقس ، ونحن ننظر إليها ، ثم على المهديّة ، ثم على المنستير ، ولم ندخل بلدا منها. وفي سفاقس دفن الفقيه (٧) أبو الحسن اللّخميّ ، وقبره بها مشهور يتبرّك به ، وقد مضى ذكر تاريخ وفاته. وفي المنستير دفن الإمام أبو عبد الله المازريّ (٨) وقبره بها مشهور ، والمنستير

__________________

(١) جربة : جزيرة في بحر إفريقية أقرب بلادها إليها قابس وطولها من المغرب إلى المشرق ستون ميلا ، وبينها وبين البحرّ نحو ميل. انظر الروض المعطار ١٥٨ ـ ١٥٩ ـ رحلة التجاني ١٢١ وما بعد.

(٢) ليست في ط.

(٣) ليست في ت.

(٤) في ت وط : وثمار.

(٥) ذكر ذلك التجاني في رحلته ١٢٣ ، والحميري في الروض المعطار ١٥٨ نقلا عن البكري.

(٦) الشنان : التباغض.

(٧) ليست في ت.

(٨) هو محمد بن علي بن عمر التميمي المازري : محدّث ، فقيه مالكي ، نسبته إلى مازر بجزيرة صقلّية توفي بالمهدية بتونس سنة ٥٣٦ ه‍ عن ثلاث وثمانين سنة. من كتبه «التلقين» في الفروع و «إيضاح المحصول في الأصول». ترجمته في وفيات الأعيان ٤ / ٢٨٥ ـ أزهار الرياض ٣ / ١٦٥ ـ وانظر الإمام المازري لحسن حسني عبد الوهاب.

٤٨٥

من الرّباطات المشهورة المذكورة ، وتحكى له مآثر وفضائل كثيرة ، وبها من قبور الصّالحين ما لا يعدّ كثرة. والمنستير بضمّ الميم ، هكذا سمعت أهل إفريقية يتلفّظون به.

[قصر الجمّ]

وعلى الطّريق الّتي سلكناها قصر الجمّ ، وهو قصر الكاهنة ، وما وقع بصري في كلّ ما رأيت على [١٢٧ / ب] بنيّة أعجب ولا أغرب (١) منه ، وهو ممّا لا يمكن تصوّره ، بالوصف ، ولا غنى في تصوّره عن المشاهدة لغرابته ، ومختصر وصفه أنّه قصر مستدير متّسع عال جدا من صخور منحوتة كبار ، محكمة الوضع والرّصف ، حتّى كأنّه حجر واحد ، وقد فتحت في أعلاه أبواب مرصوفة (٢) محيطة به ، وعلى تلك الأبواب أبواب أخر مثلها ، دائرة بالقصر أيضا ، ويظهر ما فوق الأبواب من بعد كأنه قصر واقف في الهواء. وأظنّ تلك الأبواب لمكان اختراق الرّيح احتياطا على القصر من عاديتها لإفراط علّوه ، ويمكن أن تكون لغير ذلك وبناء داخل القصر أعجب ، فإنّه لو جعل دورا واحدا لم يكن فيه كبير منتفع ، وإن اتّسع في السّاحة على وضع واحد ضاقت وحجبت عنها (٣) الشّمس ؛ فجعل البناء فيه مدرّجا كلّما طلع نقص منه دور ، حتّى ارتفع البناء إلى حدّ لا يحجب فيه بعضه (٤) الشّمس عن البعض ، حتّى يضربها دوام الظّلّ عليها ، وصارت السّقوف المدرّجة من جملة السّاحة يرتفق بها إذ لم يبق من السّاحة غير مبنيّ إلّا دائرة ضيّقة.

__________________

(١) في ت : أغرب ولا أعجب.

(٢) في ت وط : مصفوفة.

(٣) في ت : عنه.

(٤) في ت : فيه بعض.

٤٨٦

وهذا القدر هو الّذي يمكن إثباته في صفة هذا القصر ، وهو من جملة المباني الغريبة الّتي لا تتصوّر تصوّرا تامّا إلّا بالمشاهدة ، وليس في داخله عمارة معتبرة ولكنّ العمارة خارجة (١) عنه ، وهنالك ديار وبساتين وجامع مليح ؛ وأهلها ناس صالحون شملتهم بركة الشّيخ الصّالح أبي زيد اللّخميّ ـ رحمه‌الله ـ وأولاده الآن على طريقته في الدّين والصّلاح وإطعام الطّعام ، نفعهم الله ، ونفع بهم.

[ذكر سوسة]

ثمّ وصلنا إلى مدينة سوسة (٢) ، وهي مدينة مليحة ، برّية ، بحرّية ، حولها بساتين وثمار ، وهي في نفسها متقنة محكمة (٣) العمل ، مؤسّسة بقّوة ، وكلّها صخر منحوت ، وفيها رباط متّسع ، عجيب ، مليح (٤) جدّا ، ينزله الحجّاج والمسافرون ، ولكنّه قد سحب الزّمان على الكلّ ذيل البلى ، ورمى الدّاخل والخارج بسهم التّوى (٥) ، فعادت بعد الصّون برزة مكشوفة ، وصارت محاسنها ممحوّة (٦) مكسوفة ، فخضعت خضوع العزيز إن ذلّ (٧) ، وخشعت [١٢٨ / آ] خشوع الكثير إذا قلّ. ترنو إلى البرّ والبحر بمقلة خائف ، وتحاذر.

__________________

(١) في ت وط : خارجا.

(٢) سوسة : مدينة كبيرة عتيقة بناها الرومان على ساحل البحر المتوسط على بعد ١٠٠ ميل من تونس.

انظر وصف افريقيا ٢ / ٨٣.

(٣) في ت : محكمة متقنة.

(٤) ليست في ط.

(٥) التّوى : الهلاك.

(٦) ليس في ط.

(٧) في ط : ذي عز قد ذل. وقد استفاد من الحديث (ارحموا عزيز قوم ذلّ).

٤٨٧

منهما أنواع المتالف ، لا ترى بها زعيم محبر ، ولا فارس دفتر ، قد خرس بها لسان الطّلب ، وعاد لفريق الجهل على فئة العلم الغلب ، فامّحقت بها آثار كلّ فضيلة ، وصيّرها الجهل معرّسه ومقيله ؛ تلاشت قواها فلم يبق بها إلّا رمق ، وكساها الزّمان ثوب الهوان فامّحى رونقها وامّحق ؛ لا تمدّ في الأمن ساعة من الدّهر باعا ؛ ولا تمير فتشبع أهلا جياعا ؛ وجامعها المليح قد علا عليه الشّحوب ، وأبلى حسنه وقائع الخطوب. نازلته وليس له يدان بالدّفاع ؛ فاستكان وأطرق إطراق الشّجاع (١) ، وما عصم من ريب الزّمان فريق ؛ ولا أعصم معتصم (٢) بذروة نيق ، وبالله الاستعانة والتّوفيق.

ثم وصلنا (٣) إلى منزل أبي نصر ، وهي بليدة مسوّرة عامرة غاصّة بالخلق ولكنّها في حكم البادية إذ ليس بها من معاني الحضارة شيء ، وبها سوق كبيرة يكثر إليها الجلب لكثرة العربان هنالك.

ثمّ خطرنا على مدينة الحمّامات ، وهي مدينة صغيرة مبيّضة السّور ، وليس بها ما يذكر لفنائها ، وقلّة عمارتها ، وهي على البحر ، ولم أدخلها لقلّة تشوّفي (٤) إليها ، وما ذكر لي من الضّعف عنها.

[تونس في العودة]

ثمّ وصلنا إلى (٥) مدينة تونس ـ حرسها الله ـ وهي كما مرّ ذكرها ، واستقرّ عند المؤالف والمخالف شكرها. وهي مؤنسة عند اسمها ، ومسعفة

__________________

(١) هذا مثل مأخوذ من قول المتلمس :

وأطرق إطراق الشجاع ، ولو رأى

مسافا لنابيه الشجاع لصمّما

انظر الميداني ١ / ٤٣١.

(٢) في ط : اعتصم.

(٣) ليست في ط.

(٤) في ت : تشوّقي.

(٥) ليست في ط.

٤٨٨

على مقتضى رسمها ، وما أنصف من ذمّها بالمحال ، وتعسّف عليها فقال : (١) [الطويل]

لعمرك ما ألفيت تونس كاسمها

ولكنّني ألفيتها وهي توحش

وقد أقمت بها مدّة حتّى شفيت الحشا العليل ، ونقعت بوردها الغليل ، وقطعت فيها الغدوّ والأصيل بمجالسة كلّ فاضل جليل ، فما أنفصل عن عالم يوضح الحلك مهما أجاب ، إلّا إلى صالح يحتلب به درّ (٢) السّحاب. ولا أغدو عن مجلس أدب كقطع الرّياض ، إلّا إلى محفل وعظ يسقي الخدود بالدّمع الفيّاض [١٢٨ / ب] فقطعتها أيّاما من غفلات الدّهر مختلسات ؛ وانتظم لي بها شمل أنس طالما مني بالشّتات ؛ فلم يبق بها شيخ مذكور إلّا رأيته ، ولا علم (٣) مشهور إلّا أتيته.

[ملازمته لابن الغماز]

فممّن واظبته مدّة الإقامة ، ولزمته لزوم الطّوق للحمامة ، الشّيخ الفقيه الفاضل والحبر النّزيه الكامل ، قاضي القضاة ، وزين الحملة والرّواة ، ذو التّواضع والإنصاف ، والمعروف بوطاءة الأكناف ، مسند عصره ، والمرجوع إليه في مصره ، أبو العبّاس أحمد بن محمّد بن حسن بن محمّد بن (٤)

__________________

(١) البيت في المغرب للبكري ٤٠ ، ومعجم البلدان ٢ / ٦١ دون عزو. وكذلك في الروض المعطار ١٤٤ ، وفي آثار البلاد وأخبار العباد ١٧٤ معزوّ لبعض ولاتها حين خرج عليه أهل تونس ولقي منهم التباريح.

(٢) ليست في ط.

(٣) في ت : عالم.

(٤) «ابن» ليست في ط.

٤٨٩

الغمّاز الخرزجي (١) ، وصل الله صيانته ، وأدام على الخيرات إعانته ؛ فلقيت منه عالما يأخذ بالأسماع والأبصار ، وفاضلا خلت من مثله القرى والأمصار ، وغرّة أجلى من ضوء الصّباح ، مع سكون الطّائر وخفض الجناح ؛ يدأب على الإسماع دؤوب من عدّ العلم أرفع صناعة ، ورأى الاشتغال به أنفع بضاعة ، لا يشغله عنه الإبقاء على أعضائه الواهية ، ولا يصدّه عنه ما تتحمّل (٢) فيه من المشقّة نفسه السّامية ، ولم يؤثّر في قوّة اجتهاده ضعف قواه ، ولا هوى به إلى استيطاء الرّاحة هواه ، بل يستعذب في خدمة العلم ما يلاقي ، ويعدّه عدّة ليوم التّلاقي ؛ ولقد منحني الله من قبوله وإقباله ، ما لم يتيسّر لي إلّا بمنّ الله وأفضاله. ولمّا اجتمعت به وجدته مواظبا للإسماع بداره غدوة وعشيّة ، فكلّمته في قراءة جامع البخاريّ عليه ، وأتيته بأصل منه ، استشرته في شرائه ، فاستغرب حالي في ذلك ؛ وقال لي : إن أردت أن تقرأ في أصلي ، ويتوفّر عليك ما تشتري به فافعل ؛ فقلت له (٣) : أريد أن أقرأ هذا الكتاب في أصل يكون لي ، أرجع إليه ؛ فأعجبه ذلك منيّ ، وأنعم بقراءته عليه ، وعطّل لأجلي أكثر الدّول ، وكان يداري أصحابها (٤) إذا رأى منهم قلقا ، فإذا أكثروا (٥) عليه ، وعظهم في رفق وقال لهم : إنّه ضيف علينا فاصبروا له حتّى يتمّ الكتاب ، فترجعوا إلى دولكم ، وأنتم مقيمون ، فكان يجلس لي من أوّل النّهار إلى قريب الظّهر ، ومن العصر إلى الغروب ، وربّما قام مرارا إلى تجديد الطّهارة ثم يرجع ويتكلّف ذلك على كبر سنّه وضعف قواه ، فقرأت عليه أكثر [١٢٩ / آ] الكتاب المذكور قراءة

__________________

(١) توفي ابن الغماز بتونس يوم عاشوراء سنة ٦٩٣ ه‍. انظر وفيات ابن قنفذ ٣٣٤.

(٢) في ت : تتحمله.

(٣) له : ليست في ت.

(٤) في ت وط : أصحابه.

(٥) في ت : كثروا.

٤٩٠

ضبط وإتقان ، وولده الفقيه ، الفاضل المتقن ، المحقّق أبو عبد الله يمسك عليه أصله العتيق المقروء على الإمام أبي ذرّ الهرويّ ، وعليه خطّه. وكان يناوبني القراءة وأمسك أنا الأصل حتّى كمل لي الكتاب بقراءتي في الأكثر ، وسماعي بقراءة المذكور أحيانا.

وسمعت عليه أثناء ذلك دولا كثيرة من الموطّأ ، وصحيح مسلم ، وسنن أبي داود ، وجامع التّرمذيّ ، وناولني سائرها (١) في أصوله ، مع دواوين سواها. وقرأت عليه أكثر «التّيسير» للإمام المقرىء أبي عمرو الدّاني رضي‌الله‌عنه ، وسمعت عليه باقيه ، وقرأت عليه «برنامجه» الّذي قيّد فيه أسماء شيوخه ، وناولني برنامج شيخه الإمام (٢) الشهيد (٣) أبي الرّبيع بن سالم (٤) رحمه‌الله وسمعت عليه دولا من كتابه «الاكتفاء فى مغازي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومغازى الثّلاثة الخلفاء» (٥) وهو كتاب كبير في أربعة أسفار ، وقرأت عليه من تأليفه أيضا «مفاوضة القلب العليل على طريقة أبي العلاء المعرّي في ملقى

__________________

(١) في ط : سائرما.

(٢) ليست في ط.

(٣) في ط : الشهير.

(٤) هو سليمان بن موسى بن سالم بن حسان الكلاعي الحميري : محدّث الأندلس وبليغها في عصره ، له شعر وتصانيف منها «الاكتفاء بسيرة المصطفى والثلاثة الخلفاء» و «أخبار البخاري وترجمته» و «برنامج» ضمّنه أسماء شيوخه. توفي شهيدا والراية في يده في وقعة «أنيشة» على ثلاثة فراسخ من بلنسية سنة ٦٣٤ ه‍. له ترجمة في تاريخ قضاة الأندلس ١١٩ ـ تحفة القادم ٢٠١ ـ برنامج الرعيني ٦٦ ـ المغرب ٢ / ٣١٦ ـ الديباج ١٢٢ ـ الذيل والتكملة ٤ / ٨٣.

(٥) كتاب في السيرة وأخبار الخلفاء الراشدين ، وهو مطبوع ، قال حاجي خليفة : لم يذكر فيه عليّا رضي‌الله‌عنه لعدم الفتوحات في عصره. انظر كشف الظنون ١٤١.

٤٩١

السّبيل» (١) وأجازني حفظه الله إجازة عامة ، وحضرت عنده مذكرات ، ومفاوضات في العلم ، وانتفعت بلقائه كثيرا. وممّا قرأت عليه في برنامج شيوخه للإمام الشهيد أبي الرّبيع بن سالم رحمه‌الله تعالى (٢) : [الطويل]

إذا برمت نفسي بحال أحلتها

على أمل ناء فقرّت به النّفس (٣)

وأنزل أرجاء الرّجاء ركائبي

إذا رام إلماما بساحتي اليأس

وإن أوحشتني من أمانيّ نبوة

فلي في الرّضا بالله والقدر الأنس (٤)

وممّا قرأت له في حرف الكاف من مفاوضة القلب العليل : [السّريع]

يا راكبا في نيل لذّاته

مسالكا يعيا بها السّالك (٥)

غرّتك دنيا منقض شأنها

وأنت لا بدّ لها تارك

خلّابة ، سلّابة للنّهى

أصدق ما غرّت به آفك (٦)

ما أمكنت من وصلها طالبا

إلّا انثنت وهي له فارك (٧)

[١٢٩ / ب] حذار أن تلفى غدا باكيا

من طول ما أنت بها ضاحك (٨)

__________________

(١) هو كتاب : «مفاوضة القلب العليل في منابذه الأمل الطويل بطريق المعري في ملقى السبيل» لأبي الربيع بن سالم الكلاعي ومنه نسخة خطية بالمكتبة الوطنيّة بتونس رقمها ١٥٠٥٣.

(٢) الأبيات في برنامج الوادي آشي ٢٩٧ ـ ٢٩٨ وتاريخ قضاة الأندلس ١١٩ ونفح الطيب ٤ / ٣٣٢ ـ ٣٣٣.

(٣) في ط : برحت نفسي.

(٤) في ت : فلي بالرّضا.

(٥) في ط : مسالك. وصرفها ضرورة.

(٦) في ط : عزّت. والآفك : الذي ضعف عقله.

(٧) فارك : مبغض.

(٨) في ت وط : تلقي ، وفي ط : ما أنت لها.

٤٩٢

شانك وجه في الدّجا نيّر

أسود فى عين الحجا حالك (١)

ملّكته رقّك لم تدر أن

قد خسر المملوك والمالك

هلّا لوجه الحقّ كان الهوى

فكلّ شيء غيره هالك (٢)

وقرأت عليه أيضا في ذكر مثال نعل المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (٣) [الطويل]

خواطر ذي البلوى عوامر بالجوى

ففي كلّ حال يعتريه خبال (٤)

متى يدع داع باسم محبوبه هفا

فيهتاج بلبال ويكسف بال

وإن ير من اثاره أثرا همت

له من غروب المقلتين سجال

كحالي وقد أبصرت نعلا مثالها

لنعل النّبيّ الهاشميّ مثال (٥)

عراني مايعرو المحبّ إذا بدا

لعينيه من معنى الأحبّة ال

فقبّلت في ذاك المثال معاودا

أرى أنّ ذلّي في هواه جلال (٦)

ومثّلته نعل الرّسول حقيقة

وإنّي لأدري أنّ ذاك محال (٧)

ومن سنّة العشّاق أن يبعث الهوى

مثال ، ويقتاد الغرام خيال (٨)

ولا فرق إلّا أنّ حبّ محمّد

هدى ، والهوى فيمن عداه ضلال (٩)

__________________

(١) الحجا : العقل والفطنة.

(٢) البيت ساقط من ت ، وفي ط : وكل شيء.

(٣) الأبيات في ملء العيبة ٢ / ٢٠٠ ـ ٢٠١ وفي أزهار الرياض ٣ / ٢٢٦ ـ ٢٢٧ ، وفي المواهب اللّدنيّة ١ / ٣٣٨ ، والمجموعة النبهانية ٤ / ٩٨ ـ ١٠٠.

(٤) في أزهار الرياض والمواهب والمجموعة النبهانية : ففي كل يوم.

(٥) في المجموعة النبهانية : لنعل الرسول.

(٦) في أزهار الرياض : ألا إن ذلّي.

(٧) في المواهب اللدنية والمجموعة النبهانية : ومثلتها.

(٨) في ملء العيبة : سنة الأحباب.

(٩) في أزهار الرياض ، والمواهب اللدنية والمجموعة النبهانية : فلا فرق.

٤٩٣

وقرأت عليه في هذا المعنى أيضا لأبي الرّبيع المذكور قصيدة كبيرة أولها : [البسيط]

يا من لصبّ يري أشجانه النّظر

مهما تبدّى له من حبّه أثر

يفي له الصّبر عند النّائبات فإن

يلح له أثر لم يبق مصطبر

وذاك غير ذميم من مواقعه

إذا تعقّبه التّنقيح والنّظر

وهي أزيد من مئة بيت من غرّ القصائد ، وأجز لها لفظا ومعنى. ومن شعر شيخنا أبي العبّاس المذكور حفظه الله تعالى (١) قوله : [الطويل]

أيا سامع الشّكوى ويا دافع البلوى

ويا كاشف الأسواء والبأس والضّرّ (٢)

أسير خطايا يرتجي فكّ أسره

وإن لم يكن أهلا لفكّ من الأسر

ومالي لا أرجو وإن كنت مسرفا

وأدري من الصّفح الجميل الّذي أدري

قلت : أتى شيخنا ـ حفظه الله ـ بعروض البيت الأوّل [تامّة](٣) ، وإنّما سمعت مقبوضة. إلّا أنّ التّرصيع (٤) الّذي في البيت ربّما سوّغ ذلك كما في التّصريع. وقد وقع مثله في شعر المتنبيّ ، وتعقّب عليه. [١٣٠ / آ]

ومولد شيخنا ـ رحمه‌الله ـ عقب المحرّم من سنة تسع وستّ مئة.

__________________

(١) جملة «حفظه الله تعالى» ساقطة من ت.

(٢) في ت وط : اللأواء.

(٣) من ت وط.

(٤) الترصيع هو توازن الألفاظ مع توازن الأعجاز أو تقاربها في البيت الواحد.

٤٩٤

[لقاؤه لأبي القاسم اللّبيدي]

ولقيت بها الشّيخ ، الجليل ، الفاضل ، العالم ، المسنّ (١) ، المسند ، بقيّة السّلف ، وقدوة الخلف ، ذا الدّين المتين ، والمنهج الواضح المستبين. صالح العلماء وعالم الصّلحاء أبا القاسم بن حمّاد (٢) بن أبي بكر الحضرميّ اللّبيديّ نفع الله به ، وهو أوحد وقته علما ودينا واجتهادا ، ومواظبة ، وحسن ظنّ ، وغزارة دموع ؛ معدوم (٣) النّظير في عصره ، لا يفتر (٤) من العبادة ولا يتوانى عن شهود الصّلاة في الجماعة ، وحضور المجلس لإسماع العلم مع فادح (٥) ضعفه ، وفرط شاخته ، وضرارة بصره ؛ لا يتخلّف عن المسجد ليلا ولا نهارا ، ولا يقطع إسماع العلم وتعليمه ، وإقراء (٦) القرآن ، وقد أبلت التّسعون بدنه ، ونهكت قواه ، وحفظ عليه ذهنه حفظا تاما. وأمّا أخلاقه ، وتواضعه ، وقوّة رجائه ، فغاية في بابه ، وكنت اجتمعت به أوّل ما لقيته في مسجد إقرائه. قبل صلاة الصّبح (٧) مع بعض الفقراء ممّن يعرفه ، فسلّمنا عليه ودار بيننا كلام يسير (٨) ، فأقبل على الفقير وقال له : هذا رجل عاقل ، وما زال يواليني من برّه واعتنائه بما يليق بالفضلاء أمثاله ، وما أتيته (٩) قطّ إلّا هشّ إليّ (١٠) عندما

__________________

(١) ليست في ط.

(٢) في ت أحمد وفي ط : حمّادي. وتوفي سنه ٧٠٢ ه‍ ، برنامج الوادي أشي ٤٩ ـ ٥٠.

(٣) في ط : متعدم.

(٤) في باقي النسخ : لا يفتر عن.

(٥) فدحه الأمر : أثقله.

(٦) في ت : قراءة.

(٧ ـ ٧) ـ سقط من ت.

(٨) في ت : أتيت ـ وفي ط : لقيته.

(٩) زاد في ط : إليّ في سلامه

٤٩٥

يسمع سلامي (١). وكان يقدّمني للصّلاة أحيانا ، وما انفصلت عنه قطّ إلّا داعيا لي بكلّ خير. ولمّا ودّعته بكى وقال لي : إن أمكنك أن تكتب إليّ بوصولك إلى أهلك سالما فافعل لأسرّ بذلك ؛ فشكرته ، وسلّمت عليه وانصرفت ، وما زلت طول سفري وإلى الآن أتعرّف بركة دعائه والحمد لله على تسخير أوليائه حمدا لا يقف عن (٢) مدى إغيائه.

وممّا قرأت عليه حفظه الله كثيرا من «كتاب البخاريّ» وناولني سائره في أصلي ، وحدّثني به عن الشّيخ [١٣٠ / ب] الإمام المحدّث الرّاوية أبي زكريا يحيى بن محمّد المهدويّ ، ويعرف بالبرقيّ ، سماعا عليه لجميعه (٣) عن أبي محمّد بن حوط الله بأسانيده. وقرأت عليه بعض كتاب «المعلم» (٤) للإمام أبي عبد الله المازريّ في أصله ، وناولني جميعه عن أبي زكرياء البرقيّ المذكور قراءة عليه ، وسماعا عن الشّيخ الفقيه أبي يحيى بن أبي بكر بن عبد الرّحمن الغسّانيّ المازريّ ، ويعرف بابن الحدّاد ، قراءة ثم سماعا عن مؤلّفه المذكور سماعا ، وقلّما يوجد الآن أعلى منه فيه سندا. وعن البرقيّ المذكور رواه أبو عبد الله القضاعيّ (٥) بحضرة تونس ـ حرسها الله ـ.

__________________

(١) في ت : كلامي.

(٢) في ت : على.

(٣) في ت وط : بجميعه.

(٤) ليست في ط.

(٥) هو محمد بن عبد الله بن أبي بكر القضاعي المعروف بابن الأبار ، مؤرخ كبير ، أديب ناقد ، كان من أعلم الناس بتاريخ المسلمين السياسي والعلمي والأدبي ، في سنة ٦٣٤ ه‍ سفر عن صاحب بلنسية إلى أبي زكرياء الحفصي صاحب إفريقية وهي السفارة التي أنشد فيها قصيدته المشهورة :

أدرك بخيلك ، خيل الله أندلسا

إن السبيل إلى منجاتها درسا

قتل سنة ٦٥٨ ه‍ في تونس وأحرقت مؤلفاته. من كتبه التكملة لكتاب الصلة ، والحلّة السيراء وإعتاب الكتاب ، وتحفه القادم. له ترجمة في عنوان الدراية ٢٥٧ ـ نفح الطيب ٢ / ٥٨٩ و ٣ / ٣٠٣ فوات الوفيات ٣ / ٤٠٤ ـ الوافي بالوافي ٣ / ٣٥٣ أزهار الرياض ـ ٣ / ٢٠٤.

٤٩٦

وقرأت عليه أيضا بعض كتاب «عوارف المعارف» (١) للإمام أبي حفص السّهرورديّ ـ رحمه‌الله ـ وناولني جميعه بحقّ قراءته إيّاه على الشّيخ الفقيه المحدّث أبي القاسم عبد الرّحمن بن أبي جعفر الأنصاريّ عن مؤلّفه ، وقد تقدّم أنّي أدركت بمكّة ـ شرّفها الله ـ من يروي هذا الكتاب عن مؤلّفه ، ولم يقض لي الأخذ عنه ؛ وسمعت على شيخنا المذكور دولا من «التّيسير» للإمام أبي عمرو المقرىء ، ومن كتب شتّى في التّصوّف وغيره ، وأجازني إجازة عامّة ، والحمد لله. ومولده ـ حفظه الله ـ عام ستّ مئة.

[لقاؤه لأبي محمّد الخلاصي]

ولقيت بها الشّيخ الفقيه ، الصّالح ، الزّاهد ، النّاسك ، المنقطع ، الفاضل ، الكامل ، ذا الماثر العليّة ، والفضائل السّنيّة ، أبا محمّد عبد الله بن يوسف بن موسى الخلاصي الأندلسيّ (٢) نفعه الله ، ونفع به ، وهو من [أهل](٣) الصّلاح والدّين ، والفضل والتّمسّك بأخلاق السّلف الصّالح ، والإعراض بالجملة عن أعراض الدّنيا ، والإقبال بالكليّة على طريق الآخرة بالمحلّ الأعلى. رأيته وقد جاء إلى شيخنا أبي القاسم اللّبيديّ ، فقعد بين يديه وهو يتملّق ، ويقبّل أطرافه ، فقال له الشّيخ أبو القاسم : أنت أخي ؛ فقال له : يا سيّدي ما أنا إلّا عبدك ، ثمّ سلّم عليه وانصرف. وقد جالسته كثيرا ، وتردّدت إليه مدّة إقامتي بتونس

__________________

(١) هو كتاب في التصوف للشيخ شهاب الدين أبي حفص عمر بن محمد بن عبد الله السهروردي المتوفى سنة ٦٣٢ ه‍ ، وهو مشتمل على ثلاثة وستين بابا في سير المتصوفة وأحوالهم وأعمالهم. انظر كشف الظنون ١١٧٧.

(٢) لقيه ابن رشيد في رحلته بتونس وأخذ عنه. انظر ملء العيبة ٢ / ٣٢١ ـ ٣٧٦.

(٣) زيادة من ت وط.

٤٩٧

مقتبسا من علمه ، ومتبرّكا بصالح [١٣١ / آ] دعائه ، ولبست منه الخرقة المباركة ، خرقة المتصوّفة (١) رزقنا الله بركتهم (٢) ، وكان هو قد لبسها من الشّيخ ، الصّالح ، العالم (٣) ، العامل (٤) ، إمام الحرم ، أبي المكارم محمّد بن يوسف بن مسدي (٥) المهلّبي رحمه‌الله. ولابن مسدي في ذلك جزء مجموع ، ذكر فيه من كساه الخرقة من الشّيوخ ؛ واتّصال السّند فيها إلى السّلف الصّالح رضي‌الله‌عنهم ، وقد قرأته عليه وقرأه هو على مؤلّفه المذكور.

وقرأت عليه من تأليف ابن مسدي أيضا «الأربعين حديثا في فضل الحجّ» (٦) ، وأخبرني بها عنه. وقرأت عليه كتاب «الإعلام بقواعد الإسلام» للقاضي أبي الفضل عياض بن موسى رحمه‌الله. وحدّثني به عن الشّيخ الفقيه الصّالح أبي العبّاس أحمد بن عثمان بن عجلان القيسيّ سماعا عليه عن أبي زكرياء يحيى بن أبي بكر بن عصفور ، عن أبي محمّد بن عبيد (٧) الله الحجريّ عن مؤلّفه. وقرأت عليه «مختصر السّيرة» لأبي الحسين أحمد بن فارس بن زكريّاء اللّغويّ (٨) صاحب كتاب «المجمل» (٩) وحدّثني به بسنده إليه ،

__________________

(١ ـ ١) ـ سقط من ط.

(٢) ليست في ط.

(٣) في ت : العاقل.

(٤) هو محمد بن يوسف بن موسى الأزدي المهلبي. حافظ ، مؤرخ ، أصله ، من غرناطة ، قرأ على بعض علماء تونس وتلمسان وحلب ودمشق ، وسكن مصر ، ثم جاور بمكة وقتل فيها سنة ٦٣٣ ه‍ ، من مصفاته ، المسند الغريب ، ومعجم بأسماء شيوخه والأربعون المختارة في فضل الحج والزيارة. انظر نفح الطيب ٢ / ١١٢ و ٥٩٤ وتذكرة الحفاظ ١٤٤٨ ـ وشذرات الذهب ٥ / ٣١٣ والعبر ٣ / ٣٠٨.

(٥) قال عنه حاجي خليفة : هو الأربعون المختارة في فضل الحج والزيارة. انظر كشف الظنون ٥٨.

(٦) في ط : عبد الله.

(٧) أحمد بن فارس بن زكرياء القزويني : أحد أئمة اللغة والأدب ، توفي في الرّي سنة ٣٩٥ ه‍ ، له المجمل ، ومقاييس اللغة. انظر بغية الوعاة ١ / ٣٥٢ ـ ٣٥٣.

(٨) هو مجمل اللغة لا بن فارس التزم فيه الصحيح والواضح من كلام العرب دون الوحشي المستنكر طبع غير ما طبعة.

٤٩٨

وهو تأليف نبيل في أوراق يسيرة وقرأت عليه «الكتاب المغني عن الحفظ» (١). و «الكتاب في حصر الضّعيف من الحديث بالأبواب» تأليف أبي حفص عمر ابن بدر الحنفيّ. وحدّثني به عن أبي محمّد عبد الملك بن عبد الملك الشّقوريّ ببلنسية (٢) قال : قرأته على مؤلّفه ببيت المقدس ، وهو في أوراق نبيل (٣) التّأليف جدّا. وقرأت عليه (٤) جملة أجزاء يرويها ، ومسلسلات في الحديث ، وحكايات وأناشيد. وأفادني فوائد كثيرة نفعه الله وإيّاي بذلك.

وممّا قرأت (٥) عليه ، وحدّثني به عن ابن عجلان عن ابن عصفور عن أبي (٦) القاسم (٧) عبد الرّحيم (٨) بن عيسى ، عن أبي الفضل عياض ، عن أبي عليّ الصدّفي عن أبي بكر الطريثيثيّ عن أبي القاسم (٩) هبة الله بن الحسين ، عن علي بن محمّد ، عن الحسن بن صفوان ، عن عبد الله بن أبي الدّنيا عن أحمد بن عبد الأعلى ، عن إسماعيل بن أبّان العامريّ ، عن سفيان الثوّريّ ، عن طارق بن عبد العزيز ، عن الشّعبيّ [١٣١ / ب] قال : «لقد رأيت عجبا. كنّا بفناء

__________________

(١) الكتاب المغني عن الحفظ : جزء صغير في الحديث ، طبع ، وهو للإمام عمر بن بدر بن سعيد بن محمد الوراني الكردي الحنفي المحدّث المتوفى سنة ٦٢٢. انظر ترجمته في سير أعلام النبلاء ٢٢ / ٢٨٧ ومصادره ثمّة.

(٢) بلنسية : مدينة في شرق الأندلس بينها وبين قرطبة على طريق بجانة ١٦ يوما ، وبينها وبين البحر ثلاثة أميال. انظر الروض المعطار ٩٧.

(٣) في ت وط : قليل.

(٤) ليست في ت.

(٥) في ت : قرأته.

(٦) في ت : ابن القاسم.

(٧ ـ ٧) ـ سقط من ت.

(٨) في ط. عبد الرحمن وهو تصحيف.

٤٩٩

الكعبة وعبد الله بن عمر. وعبد الله بن الزّبير (١) ، ومصعب بن الزّبير (٢) ، وعبد الملك بن مروان. فقال القوم بعد أن فرغوا من حديثهم : ليقم كلّ رجل منكم فليأخذ بالرّكن اليمانيّ ويسأل الله حاجته ، فإنّه يعطي من سعة فضله ، قم يا عبد الله بن الزّبير فإنّك أوّل مولود ولد في الهجرة. فقام فأخذ بالرّكن اليمانيّ ثم قال : الّلهمّ إنّك عظيم ترجى لكلّ عظيم ، أسألك بحرمة وجهك ، وحرمة عرشك ، وحرمة نبيّك صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ألّا تميتني من الدّنيا حتّى تولّيني الحجاز ، ويسلّم عليّ بالخلافة ، وجاء حتّى جلس فقالوا : قم يا مصعب بن الزّبير ، فقام حتّى أخذ بالرّكن اليمانيّ ثمّ قال : اللهم إنّك ربّ كلّ شيء ، وإليك يصير كلّ شيء ، أسألك بقدرتك على كلّ شيء ألّا تميتني من الدّنيا حتّى توليّني العراق وتزوّجني سكينة بنت الحسين. وجاء حتّى جلس. وقالوا : قم يا عبد الملك (٣) بن مروان ، فقام وأخذ بالرّكن اليمانيّ ، فقال : اللهم ربّ السّموات السبع وربّ الأرضين [السّبع](٤) ذات النّبت بعد القفر ، أسألك بما سألك عبادك المطيعون لأمرك ، وأسألك بحقّك على جميع خلقك ، وبحق الطّائفين حول بيتك (٥) ألّا

__________________

(١) هو عبد الله بن الزبير بن العوّام : كان فارس قريش في زمنه ، شهد فتح إفريقية زمن عثمان وبويع له سنة ٦٤ ه‍ بعد موت يزيد بن معاوية فحكم مصر والعراق واليمن والحجاز وخراسان وأكثر بلاد الشام ، واتخذ من المدينة عاصمة له ، قتله الأمويون في مكة سنة ٧٣ ه‍. ترجمته في حلية الأولياء ١ / ٣٢٩ ـ فوات الوفيات ٢ ـ ١٧١.

(٢) هو مصعب بن الزبير بن العوام : نشأ مع أخيه عبد الله بن الزبير ، وولّاه البصرة سنة ٦٧ ه‍ ، قتله جيش عبد الملك بن مروان ٧١ ه‍. ترجمته في الطبري حوادث ٧١ وما قبلها. تاريخ بغداد ١٣ / ١٥.

(٣) في الأصل : عبد الله وهو تصحيف.

(٤) زيادة من ت وط.

(٥) في ط : البيت.

٥٠٠