رحلة العبدري

أبو عبدالله العبدري

رحلة العبدري

المؤلف:

أبو عبدالله العبدري


المحقق: د. علي إبراهيم كردي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار سعد الدين للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
الصفحات: ٧٢٨

صفّ ، كما هم فوق. على كل واحد منهم غطاء أبيض ، فرفع غطاء قبر يعقوب فإذا هو كهل من الرّجال كثير بياض اللّحية ، ملقى على قفاه ، مستقبل القبلة ، فقال : هذا يعقوب ، ثم ردّ عليه الغطاء ، ومضى حتّى أتى قبر إبراهيم في الوسط وعليه غطاء أبيض فرفعه ، فإذا شيخ أبيض الرّأس والّلحية ، أبيض الحاجبين ، كأنّ وجهه القمر ، وهو على قفاه مستقبل القبلة. فقال : هذا إبراهيم صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وردّ عليه الغطاء ومضى ومضيت معه ، ثمّ (١) جاء قبر إسحاق فقلت في نفسي : ليت فلانا كان معي حتّى يراهم ، فالتفت إليّ ، وهو أمامي فقال : إنّ فلانا لا يقدر أن [١٢٠ / ب] ينظر إلى هؤلاء لأنّه مشاحن ، (٢) والمشاحن لا يرى هؤلاء ، ثم انتبهت (٣) ولم أبلغ قبر إسحاق قال : فحكيت هذه الحكاية لعليّ بن محمّد بن هارون إمام كان في مسجد إبراهيم أقام به (٤) نحو عشرين سنة فقال : أنا رأيت باب المغارة في مؤخر المسجد ، وأراني بلاطة وقال : هذه على الباب ، وهو درج ينزل منه ، ثم يعطف إلى القبلة قريبا من قبر يعقوب.

[سكنى إبراهيم عليه‌السلام الشّام]

وفيه بخطّه عن كعب الحبر حديث في سكنى إبراهيم الشّام ، قال فيه : ثم أوحى الله إليه أن انزل ممرى (٥) فرحل ونزل ممرى ، ونزل عليه جبريل وميكائيل بممرى وهما يريدان إلى قوم لوط. فخرج إبراهيم ليذبح لهم العجل ، فانفلت (٦) منه ، فلم يزل حتّى دخل مغارة حبرون ، ونودي إبراهيم : سلّم على عظام أبيك آدم ، فوقع ذلك في نفسه ، ثمّ ذبح العجل ، وقدّمه (٧) إليهم (٨). وكان

__________________

(١) في ت : حتى.

(٢) المشاحن : المعادي.

(٣) في ت : انتهت.

(٤) في ت : فيه.

(٥) في الأصل : مصرة ، وهو تحريف وسيبين العبدري الوجه الصحيح لكتابها في الصفحة ٤٦٤.

(٦) في ت : فأفلت.

(٧) في ت : ومرّ به.

(٨) في ت وط : إليها.

٤٦١

من شأنه ما قصّ الله تعالى ، فمضى معهم (١) إلى قرب من ديار قوم لوط فقالوا (٢) له : اقعد هنا ، فقعد واستلقى على قفاه ، فلمّا رأى المدن انقلبت بأهلها ، وسمع صياح الدّيكة في السّماء قال : هذا هو الحقّ اليقين ، فأيقن بهلاك القوم ، فسمّي ذلك الموضوع مسجد اليقين. (٣) ثم رجع فطلب من عفرون المغارة ، قال (٤) : وكان ملك ذلك الموضع. فقال له بعني موضعا أقبر فيه من مات من أهلي ، فقال له : أيّها الشّيخ الصّالح ادفن حيث أردت ، فأبى عليه إلّا بثمن. فقال : أبيعك بأربع مئة درهم ، في كلّ درهم خمسة دراهم ، كل مئة منها ضرب ملك. وأراد أن يشدّد عليه لكي لا يجد فيرجع إلى قوله. فخرج من عنده ، فإذا جبريل عليه‌السلام فقال : إن الله عزوجل قد سمع مقالة هذا الجبّار لك. وهذه الدّراهم فادفعها إليه ، فدخل عليه إبراهيم ودفع إليه الدّراهم ، فقال : (٥) من أين لك هذا؟ قال : من عند إلهي ورازقي ، فأخذ منه الدّراهم ، فصارت المغارة مقبرة له ولمن مات من أهله. قال : وأوّل من مات [من أهله](٦) ودفن في حبرون سارة زوجة إبراهيم ، ثمّ توفي إبراهيم فدفن بحذائها ثمّ توفيت ربقة زوجة اسحاق فدفنت فيها ، [١٢١ / آ] ثم توفي إسحاق فدفن بحذائها ، ثمّ توفي يعقوب فدفن عند باب المغارة ثم توفيت ليغا فدفنت بحذاء يعقوب. ثم ذكر أنّ أولاد يعقوب تشاجروا حتّى سدّوا (٧) باب المغارة ، وحوّطوا

__________________

(١) في ت : معهما وفي ط : بهم.

(٢) في ت وط : فقالا.

(٣) انظر الأنس الجليل ١ / ٧٢.

(٤) ليست في ت.

(٥) في ط : وقال.

(٦) زيادة من ت.

(٧) في ط : سدّ.

٤٦٢

عليها حائطا ، وأعلموا (١) فيها علامات القبور ، وكتبوا على كلّ قبر اسم صاحبه ، وخرجوا عنه ، وأطبقوا بابه ، فكان من جاء زائرا يطوف به ، لا يصل إليه أحد ، حتّى جاء الرّوم ففتحوا له بابا ودخلوا إليه (٢) ، وبنوا فيه كنيسة (٣).

وفيه بخطّه مسندا إلى ابن عبّاس رضي‌الله‌عنه (٤) : لمّا أراد الله أن يقبض روح خليله إبراهيم عليه‌السلام ، أوحى إلى الدّنيا إنّي (٥) دافن فيك خليلي ، فتشامخت الجبال كلّها فرحا ، واضطربت أركانها ، واستشرفت لذلك ، وتواضعت منها بقعة يقال لها : حبرون فشكر الله تعالى [لها](٦) ذلك ، ودفنه فيها ، فقال لها : (٧) يا حبرون أنت شوعي أنت شعشوعي ، أنت قدسي ، أنت قدس قدسي ، أدفن خيرتي من خلقي ، فيك مغارة (٨) كنزي ، وإليك أحشر أصفيائي وأحبابي من ولد خليلي من كل فجّ ، فطوبى لمن وضع جبهته فيك (٩) ساجدا لي (١٠) ، أبوّئه (١١) الأجر ، وأجزل له الذّخر ، وأبارك فيه وفيك أيّام الدّهر ، عليك تنزل بركاتي ، وإليك تهبط ملائكتي ، يستغفرون لمن زار خليلي

__________________

(١) في ت : علّموا.

(٢) في ت : عنهما.

(٣) انظر الخبر مفصلا في الأنس الجليل ١ / ٤٢ ـ ٤٣.

(٤) في ت : عليه.

(٥) في ت : أنا.

(٦) زيادة من ت وط.

(٧) ليست في ت.

(٨) زاد في ت : أدفن مغارة.

(٩ ـ ٩) ـ ليست في ط.

(١٠) ـ زيادة من ط.

٤٦٣

وصفييّ ، فطوباك ، ثم طوباك ، لا رفعت رحمتي عنك ، ولا زال نوري وظلّي ينزل (١) عليك ، ورحمتي (٢) تنحدر عليك (٣) ، ولا خذلت من زار قبر خليلي ، ولا زالت بركاتي عليك أيّام الدّنيا مضاعفة.

وفيه بخطّه عن وهب بن منبّه اليمانيّ أنّه قال : إذا كان آخر الزّمان ، حيل بين النّاس وبين الحجّ ، فمن لم يحجّ ، ولحق ذلك فعليه بقبر إبراهيم عليه‌السلام فإنّ زيارته تعدل حجّة (٤). وعن كعب الحبر [أنّه](٥) قال : قبر إبراهيم وإسحاق ، ويعقوب وسارة وربقة ، وليغا (٦) ، على يوم من بيت المقدس ، في البقعة المعروفة بحبرون ، فمن زار منكم بيت المقدس فليجعل مع زيارته زيارة قبر إبراهيم صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٧).

قلت يظهر من الأحاديث المتقدّمة أنّ ممرى اسم البلد ، وحبرون اسم البقعة الّتي فيها الغار ، وعفرون اسم الملك ، وتقييدها [١٢١ / ب] على ما وجدته (٨). بخطّ ابن مفرّج ، ممرى بميمين أولاهما مكسورة ؛ وبعدهما راء مهملة بعدها ألف ، وحبرون بحاء مهملة مفتوحة بعدها باء بواحدة ساكنة ، وراء بعدها واو وآخره نون. وفي حديث آخر : حبرى مثل سكرى.

__________________

(١) في ط : سأجزل لأبويه الأجر.

(٢ ـ ٢) ـ سقطت من ت.

(٣) الأنس الجليل ١ / ٥٦.

(٤) زيادة من ت.

(٥) ليست في ت.

(٦) في ت : عليه الصلاة والسلام.

(٧) في ت وط : وجدت.

٤٦٤

وعفرون بعين مهملة مفتوحة بعدها فاء ساكنة وراء بعدها واو ونون ، وربقة براء مهملة (١) مفتوحة بعدها باء مكسورة ، وقاف وآخرها تاء (٢) التّأنيث ، وليغا بلام مكسورة ، بعدها ياء باثنتين من تحتها ساكنة ، وغين معجمة وآخرها ألف. وفي حديث آخر ربقه : بالرّاء وهاء التّأنيث. وأمّا قوله من حديث ابن عبّاس : شوعي وشعشوعي فلا أعرفه. ولولا أنّي وجدته بخط من ذكرت ما جسرت على نقله ، وإنّي من عهدته لبريء والله الموفّق (٣).

فصل

[تربة لوط]

ثم زرنا تربة لوط (٤) ، وهي شرقيّ حرم الخليل عليهما‌السلام على تلّ مرتفع يشرف منه على غور الشّام ، وهو شرقيّها وهنالك بحيرة لوط (٥) وهو ماء مستبحر أجاج كماء البحر ، وهي منقطعة لا تتّصل بالبحر ، ولا هي منه قريبة ، ويقال أنها موضع ديار قوم لوط والله أعلم ، وعلى قبر لوط عليه‌السلام بنيّة ، وهو في بيت منها مبيّض مليح ، والقبر أيضا مبيّض (٦) ، ظاهر ،

__________________

(١) ليست في ت.

(٢) في الأصل هاء. وأثبتّ ما جاء في ت وط ، لأن العبدري سيورد الرواية للفظة بعد سطرين.

(٣) في ط : وبالله التوفيق.

(٤) يقع قبر لوط في قرية تسمى كفر بربك تبعد عن مسجد الخليل نحوا من فرسخ. انظر الأنس الجليل ١ / ٧٢.

(٥) بحيرة لوط هي البحر الميت.

(٦) زاد في ت : مبيّض مليح.

٤٦٥

لا ستور عليه ، وبمقربة من هذه التّربة مسجد اليقين (١) ، وقد مرّ ذكره وحديثه في ذكر مغارة حبرون ، وهو أيضا على تلّ مرتفع نزه ، له زيادة رونق وفرط إشراق ، وليس هنالك إلّا دار واحدة لا صقة بالمسجد من ناحية الشّرق ، يسكنها القيّم ، وفي المسجد قريبا من الباب موضع منخفض في حجر صلد قد هيّىء له صورة محراب ليعلم أنّه مركع (٢) ، ولا يسع إلّا مصليّا واحدا ، ويقال : إنّه لما أيقن إبراهيم عليه‌السلام بهلاك قوم لوط خرّ لله تعالى ساجدا ، فتحرّك موضع سجوده حتّى ساخ في الأرض قليلا ، وهو حجر صلد كما تقدّم ، فجعل مركعا تبرّكا به. وبالقرب من المسجد مغارة فيها قبر يزار ، ويتبرّك به ، وهو قبر فاطمة بنت الحسين بن علي رضي‌الله‌عنهم [١٢٢ / آ] وقد وجدت عند القبر لوحين من رخام موضوعين ، وأظنّهما كانا مثبتين عند رأس القبر ورجليه ، وفي أحد اللّوحين منقوشا عليه بخط مشرقيّ مليح :

«بسم الله الرّحمن الرّحيم ، لله العزّة والبقاء ، وله ما ذرأ وبرأ ، وعلى خلقه كتب الفناء ، وفي رسول الله أسوة [حسنة](٣). وعزاء ، هذا قبر أم سلمة فاطمة بنت الحسين» (٤) ، وفي اللّوح الآخر :

__________________

(١) جاء في الأنس الجليل ١ / ٧٢ ما نصّه «... وعلى فرسخ من حبرون جبل صغير مشرف على بحيرة زعرو موضع قرى لوط ، ثمّ مسجد بناه أبو بكر محمد بن إسماعيل الصياحي وفيه مرقد إبراهيم عليه‌السلام قد غاص في الصخر نحوا من ذراع ، يقال : إن إبراهيم لما رأى قرى لوط وهي طائرة في الهواء وقف وقيل رقد ـ ثم قال : أشهد أنّ لا إله إلا الله وأن هذا هو الحق اليقين ، ولذلك سميّ ذلك المسجد مسجد اليقين ، وكان بناء ذلك المسجد في شعبان سنة ٣٥٢ ه‍.

(٢) في ت : كان مركعا.

(٣) زيادة من ت.

(٤) هي فاطمة بنت الحسين بن علي بن أبي طالب : تابعية من روايات الحديث ، توفيت سنة ١١٠ ه‍ ترجمتها في أعلام النساء ٤ / ٤٤ ومصادرها ثمّة.

٤٦٦

«صنعة (١) محمد بن أبي سهل النّقّاش بمصر» وتحته هذه الأبيات (٢) : [البسيط]

أسكنت من كان في الأحشاء مسكنه

بالرّغم منّي بين التّرب والحجر (٣)

يا قبر فاطمة بنت ابن فاطمة

بنت الأئمّة بنت الأنجم الزّهر

يا قبر بنت الزّكيّ الطّاهر الحسن الن

ندب الهمام حسين أطهر البشر

يا قبر ما فيك من دين ومن ورع

ومن عفاف ، ومن صون ، ومن خفر (٤)

وكان موضع البيت الثّالث من اللّوح مثلوما فذهب عجز البيت ولم يبق إلّا الألف والّلام والنّون من النّدب ، فكمّلت عليه بقيّة البيت ، والحمد لله.

ثم سافرنا من حرم الخليل عليه‌السلام بعد ما أقمنا فيه خمسة أيّام وصلّينا به (٥) الجمعة ، إلى بيت المقدس ، وبينهما مسيرة يوم. وزرنا في طريقنا

__________________

(١) في ط : صنعه.

(٢) الأبيات ١ ـ ٢ ـ ٤ في رحلة ابن بطوطة ١ / ٧٦ مع العبارة التي سبقتها. والبيتان ١ ـ ٢ في الأنس الجليل ١ / ٧٢.

(٣) في ط : التراب والحجر ، وبه لا يستقيم الوزن.

(٤) في ط : من صدق.

(٥) في ط : فيه.

٤٦٧

قبر يونس عليه‌السلام ، وهو على نحو ثلاثة أميال من بلد الخليل عليه‌السلام ، وعليه بنيّة كبيرة ومسجد. ومررنا في طريقنا ببيت لحم ولم (١) يقض لنا دخوله ، وهو قريب من بيت المقدس ، وقد تقدّم أنّه مولد عيسى عليه‌السلام ، والنّصارى يعظمونه ، ويقومون به غاية القيام ، ويضيفون من نزل به. (٢)

[ذكر بيت المقدس]

ثمّ وصلنا إلى بيت المقدس ـ زاده الله تعظيما ـ وألحفه مبرّة دائمة وتكريما ؛ مسجد الأنبياء وقبلتنا قديما ؛ ومطلع الأولياء يطلعهم عظيما فعظيما. أحد المساجد الّتي إليها تعمل المطيّ ، وتضاعف الحسنات لكلّ برّ تقيّ ؛ مصعد نبيّنا عليه‌السلام ، إلى مستوى يسمع فيه صرير الأقلام ، ومعراجه حين عسعس الظّلام ، الى مناجاة الملك العلّام ؛ والقدس المقدّس المنقّي (٣) من الآثام ، نجعة (٤) من راد ، وريّ من حام (٥) ، [١٢٢ / ب] خفق برقه فوفّق من شام ، وتدفّق ودقه (٦) فأفرق ذو الهيام ؛ لو نطق محتجّا لفضيلة الشّام ، لأفحم به العراق أيّ إفحام.

والبلد مدينة كبيرة ، منيعة ، محكمة ، كلّها من صخر منحوت ، على نشز غليظ مقطوع بجهات الأودية ، وسورها مهدوم ، هدمه الملك الظّاهر خوفا من استيلاء الرّوم عليها ، وامتناعهم بها ، والخراب فيها فاش ، وليس بها نهر ولا

__________________

(١) في ط : فلم.

(٢) انظر ما كتب عن بيت لحم في الأنس الجليل ٢ / ٦٥.

(٣) في ت وط : المنفي.

(٤) النجعة : طلب الكلأ في موضعه.

(٥) حومان الطائر : دورانه حول الماء من العطش

(٦) الودق : المطر.

٤٦٨

بستان. وحواليها تلال مشرفة عليها ، وبها كنيسة معظّمة عند النّصارى يحجّونها في كلّ عام ، وهي الّتي يزعمون أنّ فيها قبر عيسى عليه‌السلام ، وعلى كلّ من يحجّها منهم ضريبة معلومة للمسلمين ، وضروب من الإهانة يتحمّلها راغما. وبها رباطان متقابلان (١) في غاية الإتقان ، بنى أحدهما الملك المنصور ، وبنى الآخر الأمير علاء الدّين الأعمى ، وفي كليهما رزق جار للمنقطعين وأبناء السّبيل. وفي شرقيّ البلد واد يعرف بوادي جهنّم ، في بطنه كنيسة يعظّمها النصارى ، ويقال : إنّ بها قبر مريم عليها‌السلام ، وفي عدوته على تلّ مرتفع مزارات (٢) منها قبر رابعة البدويّة (٣) بالباء منسوبة الى البادية ، ومنها بنيّة أخرى يقال : إنّها مصعد سيّدنا (٤) عيسى عليه‌السلام.

[المسجد الأقصى]

وأما المسجد المقدّس فهو من المساجد الرّائقة ، العجيبة ، المنشرحة الفسيحة. وهو متسع جدّا طولا وعرضا. وذكر أبو عبيد البكريّ أنّ طوله : «سبع مئة واثنان وخمسون ذراعا بالمالكيّ ، وهو ثلاثة أشبار ، وطوله من الجنوب الى الشّمال ، وعرضه أربع مئة وخمس وثلاثون» (٥) وهو من الشّرق

__________________

(١) في ت وط : متقاربان.

(٢) في ط : منارات

(٣) لم أقف لها على ترجمة وذكرها ابن بطوطة في رحلته ١ / ٧٧ ، وذكر صاحب كتاب الإشارات إلى معرفة الزيارات ٢٨ : أنها زوجة أحمد بن أبي الحواريّ ومقامها بالخليل. أقول : وأكبر الظن أنها رابعة العدوية ، جاء في وفيات الأعيان ٢ / ٢٨٧ : «وقبرها يزار وهو بظاهر القدس من شرقية على رأس جبل يسمى الطور».

(٤) ليست في ت وط.

(٥) من الجزء الضائع من المسالك والممالك.

٤٦٩

إلى الغرب. وله أبواب كثيرة من الشّرق والغرب والشّمال ، ولا أعلم له بابا قبليّا سوى الباب الّذي يدخل منه الإمام. وذكر بعض النّاس أنّ عددها خمسون بابا. (١)

والمسجد كلّه فضاء غير مسقّف إلّا النّاحية الغربيّة فهنالك مسجد مسقّف في نهاية الإحكام ، وإتقان العمل ، وفيه تزويق كثير وتذهيب رائع مليح ، وهذا المسّقف في الرّكن الغربى من ناحية الجنوب. وفي ناحية الشّرق مواضع مسقّفة مع طول الحائط ، وعلى الأبواب [١٢٣ / آ].

وهنالك موضع مهد عيسى عليه‌السلام ، يقصد للرّكوع فيه والتّبرّك به وهو هزمة (٢) في الأرض مبيّضة. وهذا الحائط الشّرقيّ هو سور المدينة من ناحية الشّرق ، وهو على طرف الوادي المذكور أوّلا ، وعلى جهة منه منقطعة (٣) ، بعيدة المهوى جدّا.

[قبة الصخرة]

وفي وسط فضاء المسجد قبّة الصّخرة ، (٤) وهي من أعجب المباني الموضوعة في الأرض وأتقنها ، وأغربها ، قد نالت من كلّ حسن بديع أو فر حصّة ، وتلت من الإتقان ظاهره ونصّه ، وتجلّت في جمالها الرّائع كعروس حسناء جليت على منصّة. قامت مشرفة متبرّجة على يفاع (٥) ، تصرّح وتلوّح

__________________

(١) انظر ما ذكره صاحب الأنس الجليل عن المسجد الأقصى وقياساته ١ / ٨٣ و ٢ / ٢٤.

(٢) الهزمة : الحفرة.

(٣) في ت وط : منطقة.

(٤) انظر وصف قبّة الصخرة والمسجد الأقصى في الأنس الجليل ٢ / ١٦.

(٥) اليفاع : المرتفع من كل شيء ، يكون في المشرف من الرمل والأرض والجبل وغيرها.

٤٧٠

بالإعراب والإبداع ، وتفصح بما يشرح عن فضيلة الصنّاع ، حسنها الأوّل فاستحسنها الآخر وانعقد الإجماع ؛ تنازع الكمال منها الظّاهر والباطن ، لما سلما معا من كل عائب وشائن ، واجتمعت في كليهما أشتات المحاسن. فإن أدلى الظّاهر بحجته إلى حكم الطّرف حكم له ، وإن أعرب الباطن عن فضائله قال له الطّرف : ما أكمله!. تناصف الحسن ، وتماثلت الأدلّة ، فليس إلّا أن يقال في جواب المسألة أيّهما جاء أوّلا عمل عمله.

وصفتها أنّها قبّة مثمّنة على نشز (١) في وسط المسجد ، ويطلع إليها في درج من رخام قد أحاط بها. ولها أربعة أبواب ، والدّائر مفروش بالرّخام المحكم الصّنعة وداخلها كذلك. وفي ظاهرها وباطنها من أنواع التّزويق ما يقصر عنه الوصف.

وأمّا الذّهب فما رأيته مبتذلا في شيء كابتذاله في هذه القبّة ، حتّى لقد غشّي (٢) به أكثرها ظاهرا وباطنا ، فهي تتلألأ ساطعة الأنوار ؛ كلمعان برق أو اشتعال نار ، وقد ذهّب الأعلى من ظاهرها إلى حدّ التّسقيف. وألبس سقفها ليّن (٣) الرّصاص المحكم الإلصاق حتّى صار جسدا واحدا. أمّا باطنها فيكلّ عن وصفه اللّسان ، ويحار في حسنه إنسان الإنسان ، تبهر النّاظر (٤) أشعّته الباهرة ، وتستوقف الخاطر محاسنه الظّاهرة. اسكرت [١٢٣ / ب] العقول فصارت لها عقالا ، وأكلّت (٥) الألسن فما وجدت مقالا ، فاقت حسنا وكمالا ،

__________________

(١) النّشر : ما ارتفع وظهر من الأرض.

(٢) غشّي : غطّي.

(٣) في الأصل لبن.

(٤) في ت وط : الناطق.

(٥) في ط : كلّت.

٤٧١

فقطعت لسان من يغمز (١) ، وراقت حلى وأوصافا فأسرت فؤاد المتحرّز ؛ إن وعدت الإعجاب خبرا فهي مشاهدة تنجز ، أو افتخر مكان لتحّدث من حسنها بالمعجز : (٢) [الكامل]

شرك العقول ونزهة ما مثلها

للنّاظرين ، وعقلة المستوفز (٣)

وفي وسط القبّة الصّخرة (٤) الّتي جاء ذكرها في الآثار ، وأنّه عليه الصّلاة والسّلام عرج عنها إلى السّماء. وهي صخرة صمّاء. علوّها أقلّ من القامة ، وتحتها شبه مغارة على مقدار بيت صغير يعلو قدر القامة ، وينزل إليه في درج ، وقد هيّىء له محراب وسوّي وأتقن.

وعلى الصّخرة شبّاكان محكمان يغلقان عليها ؛ أحدهما ، وهو الخارج من خشب ، والآخر من حديد أو صفر (٥) محكم العمل ، بديع الصّنعة.

وفي القبّة صورة درقة كبيرة من حديد ، معلّقة هنالك ؛ وأظنّها كانت مرآة ، ولكنّها قد صدئت وزال صقالها ، والعوام يقولون : إنّها درقة حمزة ، (٦) واشتهر عندهم هذا الزّور ، حتّى صار في حدّ (٧) المقطوع به.

__________________

(١) يغمز : يطعن.

(٢) البيت لابن الرومي ، وهو في ديوانه ١١٦٤.

(٣) الرواية في الديوان

شرك النفوس وفتنة ما مثلها

للمطمئن ، وعقلة المستوفر

والمراد : أن حديثا يقيّد العجل فيطمئن ولا يبرح.

(٤) انظر وصف الصخرة الشريفة في الأنس الجليل ٢ / ١٦.

(٥) في ت وط : أصفر ، والصّفر : النحاس الأصفر.

(٦) في ط : تقول : إنها درقة حمزة. والدرقة ترس من جلد ليس فيه خشب.

(٧) في ت : حيز

٤٧٢

[لقاؤه لابن جماعة]

ولم أر في هذا البلد ، مع شرفه واشتهاره من هو أهل لأخذ العلم عنه ، ولا معنيّا به ، إلّا شيخا هو قاضي البلد ، يلقّب بدر الدّين وهو محمّد بن إبراهيم بن سعد بن جماعة (١) ، له مجلس علم يدّرس فيه أوّل النّهار في المسجد ، عند المحراب ، ومجلس سماع يروي فيه بعد صلاة (٢) الجمعة في قبّة الصّخرة ، وقد حضرت كلا المجليسن فلم أحل (٣) منهما بطائل ، وكلّمته في أشياء تخبّط فيها وتعسّف ، فلم أجد من نفسي إذعانا للأخذ عنه على قلّة همّته في الرّواية ، إذ وجدته يروي عن نظائره من أهل مصر ، ومن لا يزيد عليه في السّنّ إلا يسيرا ، إلى أخلاق وصف لي بها تريب الأريب ، وتنفر النّسيب والغريب.

وله تواليف منها «اختصار كتاب أبي عمرو بن الصّلاح في علوم الحديث» (٤) ، ومنها كتاب حذا فيه حذو السّهيليّ في كتابه «الإعلام بما أبهم [١٢٤ / آ] في القرآن من الأسماء الأعلام (٥)» أغار فيه على الكتاب المذكور إغارة وسمّاه «غرر البيان في مبهمات القرآن» (٦) ومنها كتاب «المسالك في علم المناسك» لم يأت فيه ببديع ، ولا شقّ الظّلماء من بيانه صديع (٧).

__________________

(١) ولد بحماة سنة ٦٣٩ ه‍ ، وتوفي بالقاهرة سنة ٧٣٣ ه‍ ، ودفن بالقرب من الشافعي. له ترجمة في نكت الهميان ٢٣٥ ، فوات الوفيات ٣ / ٢٩٧ ، الأنس الجليل ٢ / ١٣٦.

(٢) في ط : صلاة العصر يوم الجمعة.

(٣) في ط : أخرج.

(٤) هو كتاب معرفة أنواع الحديث المعروف بمقدمة ابن الصلاح وهو الإمام عثمان بن عبد الرحمن الشهرزوري المتوفى بدمشق سنة ٦٤٣ ه‍ انظر شذرات الذهب ٥ / ١٢١.

(٥) طبع غير مرّة.

(٦) ذكره البغدادي في الايضاح ١٤٥.

(٧) في ط : صنيع ، وصدع الشيء : شقّه.

٤٧٣

[ذكر عسقلان]

وكانت إقامتنا بالقدس (١) خمسة أيّام ، ثم زرنا ثغر عسقلان (٢) ـ جبره الله ـ وهو خراب يباب (٣) لا أنيس به ، إلّا أطلالا ماثلة ، (٤) ورسوما داثرة (٥) ، وآثارا طامسة ، تؤثر في القلب تباريح الأسى ، وتعيد المشرق من أنسه حندسا (٦) ، تحثّ المبصر على إعمال العبرة ، وإسبال الجفون بوابل العبرة ، تذكر بمن مضى وانقضى ، وتضرم في الجوانح جمر الغضى (٧) ، وتهون على العاقل شأن هذه الدّار ، وتنادي : الحذر الحذر ، والبدار والبدار (٨) ؛ لما دلّت عليه من ضخامة شأن (٩) الرّاحلين منها ، وفخامة الظّاعنين المنزعجين (١٠) عنها ؛ لم تحمهم تلك القصور العالية ، ولا وقتهم تلك المباني السّامية ، بل صاروا ترابا وهي خرابا ، وعادوا أمواتا وهي مواتا (١١) ، تندبهم تلك الطّلول الدّراسة ، وتندر (١٢) ما حلّ بهم تلك الطّلول الطّامسة ، فتلك الآثار أسطار في ديوان البلى مقروّة ، وتلك الصّور سور في نوائب (١٣) الدّنى متلوّة. عجبا لها لما استعجمت أبانت ،

__________________

(١) في ط : المقدس.

(٢) عسقلان مدينة بالشام من أعمال فلسطين على ساحل البحر بين غزة وبيت جبرين ، ويقال لها عروس الشام. انظر ياقوت ٤ / ١٢٢ وانظر ما كتب عنها في الأنس الجليل ٢ / ٣٣.

(٣) اليياب : الخراب : وأرض يباب : ليس بها ساكن.

(٤ ـ ٤) ـ سقط في ت وط.

(٥) في ت جدسا. والحندس : الظلمة.

(٦) الغضى : شجر عظيم خشبه صلب ، وجمره يبقى زمنا طويلا لا ينطفئ بسرعة.

(٧) البدار الثانيه ساقطة من ط.

(٨) ليست في ط.

(٩) ليست في ط.

(١٠) ـ قوله : «وهي مواتا» ، ساقط من ط.

(١١) ـ في ت : وتنذر. وتنذر : تخرج.

(١٢) ـ في بقية النسخ : ذوائب.

٤٧٤

ولمّا أشكلت بانت ؛ وعظت وما لفظت ، ونصحت وما أفصحت ، حرّكت السّاكن بسكونها ، وأظهرت الكامن بكمونها. إن آثر الزّمان المحو في مرسومها ، فالمحو أوضح كلّ المعنى من مفهومها : [الطويل]

تأمّل كتاب الكائنات تأمّلا

به أبدا تلهى عن اللهو واللّغو

وزد كلّ ممحوّ السّطور تدبّرا

فقانون علم النّحو في ذلك المحو (١)

وقلّما رأيت من البلدان ما جمع (٢) من المحاسن ما جمعت عسقلان ـ جبرها الله ـ صنعا وإتقانا ووضعا ومكانا ، وبرّا وبحرا ، وعامرا وقفرا ، لها على البرّ والبحر طرف ممتدّ ، وحكم ماض لا يرتدّ ، ترنو إليها من شرف (٣) ، وتتلو [١٢٤ / ب] عليهما (٤) سور الشّرف (٥) ، وتزهو بتقلّبها في التّرف ، في روضة جمّة الأزهار والطّرف.

وأمّا مبانيها فلو فاخرتها إرم لقيل لها : نفخت في غير ضرم (٦) ؛ أو حاسنتها بابل (٧) لصاب عليها من مطر (٨) التّعنيف وابل ، وأسرع إليها ملام كالمعابل : (٩)

[السريع]

 ....................................

لفتك لأمين على نابل (١٠)

__________________

(١) في ت : وزر كل ممحو.

(٢) «ما» ساقطة في ت وفي ط : أن جمعت.

(٣) في ط : طرف.

(٤ ـ ٤) ـ سقط من ت.

(٥) هو في معنى المثل : نفخت في غير فحم ، والضرم : الحطب.

(٦) بابل : ناحية بالعراق منها الكوفة والحلّة ينسب إليها السحر والخمر.

(٧) في ت : طرف.

(٨) المعابل : جمع معبلة : وهي نصل عريض طويل.

(٩) في ت : لاقتك وهو تصحيف. وهو عجز بيت لامرئ القيس في ديوانه ١٢٠ وصدره :

«نطعنهم سلكى ومخلوجة»

ولفتك : أي ردّك وعطفك ، واللأمان : سهمان ، والنابل : صاحب النبل

٤٧٥

[مزارة رأس الحسين]

وبها مزارة رأس الحسين رضي‌الله‌عنه ، وهو مسجد كبير مليح مرتفع ، والمسقّف منه ناحية القبلة ، وفيه جبّ كبير لماء المطر ؛ وأمر ببنائه بعض بني عبيد (١) وكتب ذلك على الباب ، وقد تقّدم ذكره في رسم مصر والحمد لله. وفي قبلة هذه المزارة مسجد كبير مليح يعرف بمسجد عمر ، وقد تهدّم ولم يبق إلّا حيطانه ، وفيه من أساطين الرّخام قائمة وموضوعة ما هو النّهاية في الحسن ، وبه أسطوانة حمراء مليحة جدّا ، ويحكى عنها (٢) أنّ النّصارى حملتها إلى بلادهم فأصبحت بموضعها في المسجد. وفي قبلة المسجد بئر عظيمة ، متقنة العمل ، عجيبة الصّفة ، تعرف ببئر إبراهيم ينزل إليها في درج متّسع ، ويدخل منه في بيوت شارعة فيه ، وفي البئر أربعة عيون : واحدة من كلّ جهة ، وتخرج من (٣) أسراب مطويّة بالحجارة ، يقابل بعضها بعضا ، وماؤها طيّب عذب ولكنّها ليست بغزيرة ، ويحكى في فضائلها أشياء لا تقع الثّقة بصحّتها ، والله أعلم.

وبظاهر عسقلان واد يعرف بوادي النّمل ، ويقال : إنّه المذكور في الكتاب العزيز (٤). وقد ذكر المفسّرون أنّه واد (٥) بالشّام ، وفيه جبّانة عسقلان ، وبها من قبور الأولياء والشّهداء ما لا يحصره عدّ ، وأكثرها مسمى معروف ،

__________________

(١) ذكر ذلك مجير الدين الحنبلي في الأنس الجليل ٢ / ٧٤.

(٢) ليست في ت وط.

(٣) ليست في ت وط.

(٤) جاء في سورة النمل : ١٨(حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ).

(٥) في ط : وادي الشام.

٤٧٦

وقد وقفنا عليها ، وأرانا إيّاها شخص مقيم بعسقلان وهو قيّم التّربة المذكورة وله شيء من جراية (١) أجراها له ملك مصر ، قيّدته هنالك مع مايرضخ (٢) له به من يسمح من الزّوار. وكان دخولنا عسقلان وقت الظّهر فصلّيناها بمسجد الحسين ، ثم خرجنا قبل العصر إذ المقام به غرر ، والله ولي التّوفيق ، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله.

[ذكر غزّه]

ثمّ وصلنا إلى غزّه (٣) حماها [١٢٥ / آ] الله وهي آخر بلاد الشّام ممّا يلي مصر ، وبينها وبين الصّالحيّة أوّل بلاد مصر ستّة أيّام. وغزّة مدينة متّسعة عامرة ، لا سور لها ، وبينها وبين البحر مسافة أميال ، وهي أكثر عمارة من كلّ ما تقّدم ذكره من بلاد الشّام. وهي جسر إلى مصر ، وإلى الشّام ، وبها أسواق قائمة ، ومساجد معمورة ، ولها جامع مليح حسن ، ولكنّها قد عريت عن عالم ومتعلّم ، وأقفرت من فقيه ومتكلّم. فهي عامرة غامرة (٤) وقائمة دائرة ؛ وهذا أمر شمل في هذا الأوان المدن والقرى ، وعمّ بحكم القدر أصناف الورى ، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله.

[الطّريق من غزّة إلى القاهرة]

ثم سافرنا من غزّة مستقبلين لبرّية الشّام ، مطّرحين لدواعي النّكول والإحجام ، مصافحين لأوجالها ، (٥) مكافحين لأهوالها ، وهي كلّها رملة

__________________

(١) الجراية : المرتب من الخبز ونحوه يجرى على الشخص في كل يوم.

(٢) الرضيخة : العطيّة القليلة.

(٣) انظر الأنس الجليل ٢ / ٧٤.

(٤) ليست في ت وط.

(٥) الأوجال : جمع الوجل : وهو الفزع والخوف.

٤٧٧

وعثاء (١) ، وبريّة دويّة قفراء (٢) ، كأنّ سالكها يخوض وحلا ، أو يدافع من رملها المنهال سيلا. ومسافتها ستّة أيام ، كأنّها لفرط العناء أعوام. ولو جمعت إلى وعثها (٣) المعنّي طولا لأعادت كلّ سالك لها بقيد الحمام (٤) معقولا. ولكنّ العزائم تقوى عليها بقرب المسافة ، (٥) مع حصول الأمن بها وانتفاء المخافة ، وذلك أنّ كلّ مرحلة منها منهلة عامرة ، والقوافل بها ليلا ونهارا ، مريحة وسائرة ؛ لا تستدبر ميلا إلّا لقيت له مستقبلا (٦) ، ولا تزمع تحويلا إلّا وجدت إلى وجهتك متحوّلا ؛ فخفّ لذلك عناؤها (٧) وإن لم يخفّ ، وذبل به عود لأوائها وهو من النّضارة يرفّ. وقلّما فارقها سالك ، حتّى عاد (٨) نضوا طليحا (٩) ، ولا ألقى عصا التّسيار بها مسافر ، حتّى صار لقى (١٠) طريحا.

ثم وصلنا إلى الصّالحيّة ، أوّل بلاد مصر ، ولكنّها معدودة في البرّية لضيق أرزاقها وشكاسة أخلاقها ، وإفراط عنائها ، وإضرار هوائها ؛ قرية تقري ضيفها قرّا وطوى ، وتوحشه بأنسها (١١) حتّى يأنس بالذّئب إن عوى (١٢).

__________________

(١) الوعثاء : ما غابت فيه الحوافر والأخفاف من الرمل الدقيق وغيره.

(٢) في ط : عثراء والدّوّيّة : الفلاة الواسعة الأطراف.

(٣) في ت وط : وقتها.

(٤) الحمام : قضاء الموت وقدره.

(٥) في ت : إليها لقرب المسافة.

(٦) في ت وط : مستقيلا.

(٧) في ط : بذلك عناها.

(٨) في ت : حتى يصير ، في ط : إلّا عاد.

(٩) الطليح : من أضمرة الكلال والإعياء.

(١٠) ـ اللقى : هو ما طرح.

(١١) ـ في ت وط : من أنسها.

(١٢) ـ استفاد من قول الأحيمر السعدي اللّص في أشعار اللصوص ١٠٤ :

عوى الذئب فاستأنست بالذئب إذ عوى

وصوّت إنسان فكدت أطير

٤٧٨

ومنها إلى قاعدة مصر قرى ظاهرة متّصلة ، وعمارة متظاهرة [١٢٥ / ب] متأصّلة ، مسيرة خمسة أيّام ، لا يتعذّر بها مرام. وأعظمها عمارة ، وأسناها بزّة (١) وشارة ، مدينة بلبيس ، (٢) وهي مدينة كبيرة ، ذات أسواق قائمة ، ولها نخل وبساتين كثيرة ، وسواد أشجارها يظهر على بعد ، وموضعها يقتضي الخصب ورغد العيش ، ولكنّها في عيّن المجتاز الخاطر ، أحسن منها في عين المتأمّل النّاظر ؛ إذ ليس لها رونق الحضارة ولا رقّتها ، وهكذا أكثر بلاد مصر إلّا القواعد المعروفة.

[ذكر القاهرة في العودة]

ثمّ وصلنا إلى قاعدة الدّيار المصريّة ، وكنت إذ وردتها مريضا ، فلم يمكنّي فيها لقاء أحد ، وأنزلنا شيخنا شرف الدّين الدّمياطيّ بمدرسة الظّاهريّة في علّو منها مليح ، وكان يبعث إلي بشخص (٣) من فضلاء الأطبّاء يتفقّدني ويعالجني وهو الحكيم الفاضل أبو الطّاهر إسماعيل المقدسيّ ، فتى حدث السّن ، رصين العقل ، نافذ الفهم ، وما رأيت أحفظ منه للطّبّ ، ولا أحسن منه تصرّفا فيه ، ولا أذكر منه لنصوص كتب أبقراط ، وما زال يتفقدّني مدّة من سبعة أيّام حتّى تماثلت ، واشتهيت الطّعام ، والضّعف لي ملازم ، فقدّرت أنّ هواء (٤) البلد غير ملائم لي (٥) فسافرت وما وصلت إلى الإسكندريّة حتّى ثابت (٦) إليّ قوّتي ، وعادت إليّ صحّتي.

__________________

(١) في الأصل : قوّة.

(٢) بلبيس : مدينة بينها وبين فسطاط مصر عشرة فراسخ على طريق الشام. فتحت سنة ١٨ أو ١٩ ه‍ على يد عمرو بن العاص. انظر ياقوت ١ / ٤٧٩.

(٣) في ت وط : شخصا.

(٤) في ت وط : هذا البلد.

(٥) هنا ينتهي النقص في طبعة الجزائر.

(٦) ثابت : رجعت.

٤٧٩

[من القاهرة إلى الإسكندريّة]

وكان سفرنا منها على غير الطّريق الأولى (١) ، إذ كان الماء قد نضب على الرّيف (٢) فسافرنا على طريقه ، والعمارة عليه متّصلة مدنا وقرى إلى الإسكندريّة ، ومن أعظم بلادها ، وأشهرها مدينة (٣) قليوب (٤) ، ومدينة مليح (٥) ، ومدينة فرما (٦) ، ومدينة بيار (٧) ، ومدينة المقانة (٨) ، ومدينة دمنهور (٩). ومدنها وقراها أكثر من أن تعدّ ، وهي ذات بساتين ونخل ، وشجر يفتن حسنها النّاظر.

ومن أعظم مدنها وقواعدها المشهورة ، الموصوفة بالحسن والجمال مدينة دمياط ، وهي على البحر الرّومي ، ولم أدخلها لأنّها رائغة إلى اليمين كثيرا عن طريق مصر إلى الإسكندريّة ، وكنت منحفزا للسّفر فلم يتأتّ لي دخولها. ومررنا على [١٢٦ / آ] قرية سندبيس (١٠) ، وزرنا بها قبر عيسى بن الوليد أخي خالد رضي‌الله‌عنهما ، وهو في بيت مغلق على يسار المحراب. ومن مصر إلى هذه القرية مرحلة.

__________________

(١) في الأصل : الأوّل ، وكلاهما صحيح.

(٢) في ت : عن الريف.

(٣) ليست في ت.

(٤) في ط : قليون وهو تحريف.

(٥) مليح : مدينة كبيرة في أول منبعث الخليج الذي ينزل إلى دمياط. انظر جغرافية مصر للبكري ٨٦.

(٦) الفرما : مدينة مصرية قديمة تقع في الشمال الشرقي من الدلتا شرقي بحيرة المنزلة «تنيس» وهي من أقدم الثغور العربية في مصر ، وكانت أوّل موضع قوتل فيه عمرو بن العاص. انظر جغرافية مصر للبكري ٦٠.

(٧) بيار : كذا في جميع النّسخ ولعلها أبيار التي تقع بين مصر والإسكندرية (ياقوت ١ / ٨٥).

(٨) في ت وط : لقانة ، ولم أقف على مكانها.

(٩) دمنهور : بلدة بينها وبين الإسكندرية يوم واحد في طريق مصر متوسطة في الكبر والصغر. انظر ياقوت : ٢ / ٤٧٢.

(١٠) ـ سندبيس : لم أقف على مكانها.

٤٨٠