رحلة العبدري

أبو عبدالله العبدري

رحلة العبدري

المؤلف:

أبو عبدالله العبدري


المحقق: د. علي إبراهيم كردي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار سعد الدين للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
الصفحات: ٧٢٨

ومن آخوتي ، وقرابتي ، وصحابتي

ومجاوري ، ومحاوري في مسجد

ومن امرىء كلف بحبّك مولع

برجا [نوا] لك خصّهم بتفقّد (١)

١٤٠ ـ ومن الأنام صغيرهم ، وكبيرهم

موجودهم طرّا ومن لم يوجد

ما هاج ذكرك مغرما في مغرب

ففرى إلى شرق أديم الفدفد (٢)

ذا مقلة تهمي إليك ولوعة

مهما ترشّ بعبرة تتوقّد (٣)

فصل

في بناء مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وقبلته

قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة يوم الاثنين لثلاث عشرة ليلة خلت من ربيع الأوّل ونزل في بني عمرو بن عوف (٤) على كلثوم بن الهدم (٥) وأقام عندهم اثنتين وعشرين ليلة ، وقيل : أربع عشرة ليلة ، وقيل : أربعا ، وقيل : ثلاثا ، ثمّ توجّه إلى المدينة يوم الجمعة ، فنزل على أبي أيّوب الأنصاريّ (٦) وأقام عنده [١١٥ / آ] سبعة أشهر حتّى ابتنى مساكنه ومسجده.

__________________

(١) في الأصل وط : برجالك. في ت : يرجو نوالك.

(٢) في ت : شوق.

(٣) همى الدمع : سال. ترشرش الدمع : سال وقطر.

(٤) في ط : عضو وهو تحريف ، وعمر بن عوف : جد جاهلي. انظر جمهرة الأنساب لابن حزم ٣٣٢.

(٥) هو كلثوم بن الهدم بن امرئ القيس بن الحارث بن زيد ، نزل عليه النبي بقباء أول ما قدم المدينة توفي قبل بدر بيسير. له ترجمة في طبقات ابن سعد ٣ / ٦٢٣ ، الإصابة ٣ / ٢٨٨ ، وانظر السيرة لابن هشام ١ / ٤٩٣ ، والروض لأنف ٢ / ٢٣٧.

(٦) أبو أيوب الأنصاري : هو خالد بن زيد بن كليب بن ثعلبة صحابي شهد العقبة وبدرا وأحدا والخندق ، وكان شجاعا صابرا تقيّا محبّا للغزو عاش إلى أيّام بني أميّة ، وخرج في جيش يزيد ابن معاوية لفتح القسطنطينية. توفي سنة ٥٢ ه‍. له ترجمة في طبقات ابن سعد ٣ / ٤٨٣ ، الإصابة ١ / ٤٠٤.

٤٤١

[بناء الرّسول للمسجد]

وكان موضع المسجد مربدا (١) لسهل وسهيل (٢) : غلامين في حجر أسعد بن زرارة (٣) وقيل في حجر أبي أيّوب (٤) فابتاعه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم منهما ، وقيل أرضاهما منه أبو أيوب (٥) ، وقيل : إنّهما وهباه لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فبناه (٦) رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٧) مسجدا ، وعمل فيه مع أصحابه ، فأحاط به حائطا من غير أساطين ولا سقف ، وجعله مئة ذراع طولا ومئة عرضا ، وقيل : أقلّ من ذلك على ما تقدّم ذكره ، ورفع حائطه قدر القامة. فلمّا اشتدّ الحرّ كلّموه في تسقيفه ، فسقفه بالجريد والعشب والثّمام (٨) والإذخر (٩) ، وأقام فيه أساطين من جذوع النّخل ؛ فلمّا جاء الشّتاء ونزل المطر وكف (١٠) عليهم ، فكلّموه في عمله بالطّين. فقال «كلّا ، (١١) ثمام وخشاب وعريش كعريش موسى» (١٢). والأمر أقرب

__________________

(١) المربد : كل شيء حبست به الإبل والغنم.

(٢) سهل وسهيل : أبناء رافع بن أبي عمر بن عائد بن ثعلبة بن غانم بن مالك بن النجار. وقيل ، كانا يتيمين عند معاذ بن عفراء. انظر السيرة ١ / ٤٩٦.

(٣) أسعد بن زرارة بن عدس النجاري من الخزرج : أحد الشجعان الأشرف في الجاهلية والإسلام من سكان المدينة ، أحد النقباء الاثني عشر. مات قبل وقعة بدر فدفن في البقيع في السنة الأولى للهجرة. له ترجمة في الإصابة ١ / ٥ ـ طبقات ابن سعد ٣ / ٦٠٨ ، الاكتفاء ١ / ٤٦٥.

(٤ ـ ٤) ـ سقطت من ط.

(٥ ـ ٥) ـ سقطت من ط.

(٦) الثّمام : نبت معروف في البادية. ولا تجهده النعم إلّا في الجدوبة.

(٧) الإذخر : حشيشة طيبة الرائحة تسقف بها البيوت فوق الخشب.

(٨) وكف البيت : هطل ومطر.

(٩) ليست في ت.

(١٠) ـ لم أقف عليه بهذا النص.

٤٤٢

من ذلك ، ويروى : «ظلّة كظلّة موسى». قيل : وما ظلّة موسى؟ قال : «كان إذا قام أصاب رأسه السّقف».

وجعل للمسجد ثلاثة أبواب ، ثم سدّ الباب الجنوبي لمسجد الرّسول حين حوّلت القبلة كما تقدّم ، فبقي المسجد كذلك حياة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحياة أبي بكر. (١)

قلت : وممّا يسأل عنه (٢) فيما تقدّم من بيع (٣) الغلامين أو هبتهما ، وهما في الحجر ، ومحمل (٤) ذلك على أنّهما كانا بالغين مالكين لأمرهما (٥) كما روي عن ابن عبّاس رضي‌الله‌عنه أنّ الغلام الّذي قتله الخضر عليه‌السلام كان مجتمع السّنّ (٦) ، وأنشدوا في ذلك قول ليلى الأخيليّة (٧) تمدح الحجّاج : (٨) [الطويل]

شفاها من الدّاء العقام الّذي بها

غلام إذا هزّ القناة سقاها (٩)

وقوله في حجر أسعد بن زرارة ، يعني في كنفه وحماه ، ولم يكن إذ ذاك حجر شرعي حتّى يحمل هذا عليه.

__________________

(١) انظر خبر بناء المسجد في سيرة ابن هشام : ١ / ٤٩٦ وما بعدها.

(٢ ـ ٢) ـ سقطت من ت.

(٣) في ط : يحل.

(٤) في ت وط : أمرها.

(٥) مجتمع السّنّ : أي بلغ أشدّه ، وانظر الجامع لأحكام القرآن للقرطبي ١١ / ٢١.

(٦) ليلى الأخيلية : شاعرة كان لها مع توبة بن الحميّر أخبار وكانت وفاتها سنه ٧٥ ه‍. ترجمتها وأخبارها في الأغاني ١١ / ٢٠٤.

(٧) البيت في ديوان ليلى الأخيلية ١٢١ من قصيدة في مدح الحجاج.

(٨) في الديوان : الداء العضال.

٤٤٣

[زيادة عمر]

ثمّ زاد في المسجد عمر بن الخطّاب رضي‌الله‌عنه ، وقال : لولا أنّي سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «ينبغي أن نزيد في المسجد» (١) : ما زدت فيه ، فأزال [أساطين](٢) الخشب وجعل مكانها أساطين من لبن ، وجعل الأساس من حجارة إلى القامة ، وجعل على ظهر المسجد سترة من ثلاثة أذرع ، وجعل له ستّة [١١٥ / ب] أبواب : شرقييّن ، وغربييّن ، وشمالييّن ، وقال في باب النّساء : ينبغي أن يترك هذا للنّساء ، فما رئي فيه حتّى لقي الله ، وقال : لو زدنا في هذا المسجد حتّى يبلغ الجبانة لكان مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٣). وأسند الشّريف أبو الحسن إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّه قال : «لو بني هذا المسجد إلى صنعاء لكان مسجدي» (٤) وأراد عمر العبّاس رضي‌الله‌عنهما أن يدخل فيه موضعا له ، فمنعه العبّاس ، وكان فيه ميزاب يصبّ في المسجد ، فنزعه عمر وقال : إنّه يؤذي النّاس ، فحكّما (٥) بينهما أبيّ بن كعب (٦) ، وأتيا إلى داره فحبسهما عند الباب ساعة ، ثمّ أذن لهما ، وقال: كانت جاريتي تغسل رأسي ، فأراد عمر أن يتكلّم

__________________

(١) هو في وفاء الوفا ٢ / ٤٨١.

(٢) من المناسك.

(٣) هو في المناسك ٣٦١ ، ووفاء الوفا ٢ / ٤٨١.

(٤) أورده السيوطي في الجامع الصغير ٢ / ١٢٩ وقال عنه : ضعيف ، وهو في فردوس الأخبار للديلمي ٣ / ٤٢٤ وكنز العمال ١٢ / ٢٣٧ ـ ٢٥٧ ، وكشف الخفاء : ٢ / ٤١٤.

(٥) في الأصل : فحكّم.

(٦) أبيّ بن كعب بن قيس بن عبيد من الخزرج صحابي كان قبل الإسلام حبرا من أحبار اليهود ، وكان يعرف القراءة والكتابة ، وكان من كتّاب الوحي بعد إسلامه ، شهد المشاهد كلها مع الرسول. اشترك في جمع القرآن على عهد عثمان بن عفان ، وله في كتب الحديث ١٦٤ حديثا. توفي سنة ٢٢ أو ٣٠ ه‍ بالمدينة المنورة ، له ترجمة في صفة الصفوة ١ / ٤٧٤ وحلية الأولياء ١ / ٢٥٠. الإصابة ١ / ٣١ ، ابن سعد ٣ / ٤٩٨.

٤٤٤

فقال له : يابن الخطّاب! دع أبا الفضل يتكلم لمكانه من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال العبّاس : خطّة خطّها لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبنيتها معه وما وضعت (١) الميزاب (٢) إلّا ورجلاي على عاتقي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فجاء عمر فطرحه وأراد إدخالها في المسجد. فقال أبيّ : إنّ عندي من هذا علما ، سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «أراد داود أن يبني بيت المقدس وكان فيه بيت ليتيمين فراودهما (٣) على البيع فأبيا ، ثمّ أرادهما (٤) فباعاه ، ثم قاما بالغبن (٥) ، فردّ البيع ، ثمّ اشتراه (٦) منهما ، ثم ردّاه كذلك حتّى استعظم داود الثّمن فأوحى الله إليه إن كنت تعطيهما من شيء هو لك فأنت أعلم ، وإن كنت تعطيهما من رزقنا فأعطهما حتّى يرضيا ، وإنّ أغنى البيوت عن مظلمة بيت هو لي ، وقد حرّمت عليك بناءه. قال : يا ربّ فأعطه سليمان ، فأعطاه سليمان (٧)». فقال عمر : من لي بأنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قاله؟ فقال أبيّ : تكذّبني؟ لتخرجنّ من بيتي ، ثم خرج أبيّ إلى قوم من الأنصار ، فأثبتوا ذلك له. فقال عمر : أما إنّه لو لم أجد غيرك لأخذت قولك ولكنّي أردت أن استثبت ، ثم قال للعبّاس : والله لا تردّ الميزاب إلّا وقد ماك على عاتقي ، ففعل ذلك العبّاس ثم قال : أما (٨) إذا ثبتت لي فهي صدقة لله عزوجل فهدمها عمر وأدخلها في المسجد (٩).

__________________

(١ ـ ١) ـ في ت : وما وضعته.

(٢) في ت وط : فأرادها.

(٣) في ت : راودهما.

(٤) الغبن : الظلم.

(٥) في ط : فاشتراه.

(٦) الحديث في المناسك ٣٦٢ ، بخلاف في اللفظ ، وفيه : إن صاحب الحق كانت عجوزا ، وفي وفاء الوفا ٢ / ٤٨٨ ـ ٤٨٩.

(٧) ليست في ط.

(٨) الخبر بكامله في المناسك ٣٦٢ ـ ٣٦٣ ورحلة ابن بطوطة ١ / ١٣٥ ـ ١٣٦ بخلاف في اللفظ. ووفاء الوفا ٤ / ٤٨٨ ـ ٤٨٩.

٤٤٥

قلت : هذا الحديث تعضده الأصول من قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم [١١٦ / ب] «كلّ ذي مال أحقّ بماله» (١). وقوله : «إنّ دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام» (٢).

وقوله حين أراد أن يبني مسجده «ثامنوني بحائطكم» (٣). ولم يرد أخذه إلّا برضا أصحابه ، وإن كان أخذه من المصلحة العامّة. وهذا يردّ فعل من أجبر النّاس على البيع من الأمراء. وليس فعل عمر بن الخطّاب رضي‌الله‌عنه في شراء الدّور المجاورة للكعبة (٤) من هذا في شيء فإنّه قد بيّن خصيصي الكعبة (٥) بقوله «إنّما نزلتم عليها ، ولم تنزل عليكم» (٦) فدلّ بهذا على أنّها لو نزلت عليهم لكان لهم منع أموالهم ، والله أعلم.

* * *

__________________

(١) الحديث في مسند ابن حنبل ٥ / ١٢ وسنن البيهقي ٦ / ١٧٨ وفي كنز العمال ٦ / ١٨٩.

(٢) مما قاله الرسول عليه الصلاة والسلام في خطبة حجة الوداع ، انظرها في صحيح مسلم رقم ١٤٧ في كتاب الحج باب حجة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وابن ماجه ٧٦ ورقم ٣٠٥٥ باب خطبة يوم النحر ، والطبراني الكبير ٨ / ١٦٧ ، والضعفاء للعقيلي ٢ / ٩٥.

(٣) في ط : بحائطهم وهو تحريف ، والحديث أخرجه البخاري في الصلاة باب هل تنبش قبور مشركي الجاهلية رقم ٤٢٨ ـ ١ / ٥٢٤ ، وفي البيوع صاحب السلعة أحق بالسوم رقم ٤١٠٦ ـ ٤ / ٣٢٦ وفي مناقب الأنصار باب مقدم النبي وأصحابه المدينة رقم ٢٩٣٢ ـ ٧ / ٢٦٥ ، وفي الوصايا باب وقف الأرض للمسجد رقم ٢٧٧٤ ـ ٥ / ٤٠٤ وباب إذا قال الواقف لا نطلب ثمنه رقم ٢٧٧٩ ـ ٥ / ٤٠٩ ، وأبو داود في الصلاة باب بناء المسجد رقم ٤٥٣ و ٤٥٤ وابن ماجة في المساجد ـ باب أين يجوز بناء المساجد رقم ٧٤٢ ـ والنسائي ٢ / ٤٠ وابن حنبل ٣ / ١١٨ ـ ١٢٣ ـ ٢١٢.

(٤ ـ ٤) ـ سقطت من ت.

(٥) سلف القول وتخريجه في الصفحة ٣٨٥.

٤٤٦

[زيادة عثمان]

ثمّ زاد في المسجد عثمان رضي‌الله‌عنه وبناه بقوّة وباشر ذلك بنفسه ، فكان يظلّ فيه نهاره كلّه ، وربّما أقام (١) فيه ، وبيّضه بالفضّة ، وأتقن عمله بالحجارة المنقوشة ، ووسّعه من كل جهة إلّا المشرق (٢) ، وجعل أعمدته من حجارة مثبتة بأعمدة الحديد والرّصاص ، وجعل أبوابه ستّة على ما كانت عليه قبله ، وسقفه بالسّاج ، وجعل له محرابا ، وهو أوّل من بنى المحراب (٣) ، وقيل : أول من بناه مروان بن الحكم ، وقيل : عمر بن عبد العزيز في خلافة الوليد على ما يأتي ذكره إن شاء الله تعالى (٤).

[زيادة الوليد]

ثمّ زاد فيه الوليد بن عبد الملك ، وولى عمله عمر بن عبد العزيز رضي‌الله‌عنه فوسّعه وحسّنه (٥) وبالغ في إتقانه وعمله بالرّخام ، والسّاج المذهّب. وكان الوليد قد بعث إلى ملك الرّوم : إنّي أردت أن أبني مسجد نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وسلم الأكبر فأعنّا فيه بعمّال. فبعث إليه عدّة من الرّوم والقبط ، وثمانين ألف مثقال ذهب ، وبالسّلاسل الّتي فيها القناديل ، وأمر الوليد بإدخال حجر النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في المسجد (٦) ، فاشترى عمر ما منها في الشّرق والغرب والشّمال ، فلمّا صار إلى

__________________

(١) في ت وط : قام.

(٢) المناسك : ٣٦٣.

(٣) ثمة ملاحظة على هامش ت تقول : عليّ أول من بنى المحراب.

(٤) انظر رحلة ابن بطوطة ١ / ١٣٦.

(٥) كان ذلك سنة ٩١ ه‍.

(٦) المناسك ٣٦٥.

٤٤٧

القبلة امتنع عبيد الله بن عبد الله بن عمر من بيع دار حفصة (١) فقال عمر : لا بدّ لي من إدخالها في المسجد ، وطال الكلام بينهما حتّى ابتاعها منهم على أن يكون لهم ما بقي منها ، وأن يخرجوا من باقيها طريقا إلى المسجد ، وهي الخوخة الّتي [١١٦ / ب] في المسجد (٢) ، وأظنّها الّتي قد مرّ ذكرها ، ولكنّهم ذكروا أنّ خوخة آل عمر كانت تخرج من تحت المقصورة وهذه (٣) بعيدة منها إلّا أن يكون طريقها قد غيّر عن موضعه ، وجعل عمر للمسجد أربع منارات ، في كلّ ركن واحدة وكانت الرّابعة مطّلة على دار مروان. فلمّا حجّ سليمان ابن عبد الملك (٤) أذّن المؤذّن فأطلّ عليه فأمر بها فهدمت وجعل عمر للمسجد محرابا وشرافات ، وقيل : إنّه أوّل من أحدث المحراب (٥). ونظر القاسم وسالم (٦) إلى شرافات المسجد فقالا : إنّها من زينته ، وقد جاء أثر بالنّهي عن الصّلاة في مسجد له قذافات ، وفسّرت بالشّرافات ، وليس الآن فيه شرافات ولا تزويق وبالله التّوفيق.

__________________

(١) حفصة بنت عمر بن الخطاب : صحابية جليلة صالحة من أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم روى لها البخاري ومسلم في الصحيحين ستين حديثا توفيت بمكة سنة ٤٥ ه‍. له ترجمة في الإصابة ٤ / ٢٦٤ ، وأعلام النساء ١ / ٢٨٤.

(٢) المناسك ٣٦٧ ، وابن بطوطة ١ / ١٣٧.

(٣) في ط : وهي بعيدة.

(٤) سليمان بن عبد الملك بن مروان : خليفة أموي ولي بين سنتي ٩٦ ـ ٩٩ ه‍ ، له ترجمة في تاريخ الخلفاء للسيوطي ٢٢٥ وما بعد.

(٥) المناسك ٣٦٨. وابن بطوطة ١ / ١٣٧ وانظر زيادة الوليد على المسجد في وفاء الوفا ٢ / ٥١٣.

(٦) القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق توفي سنة ١٠٧ ه‍ وسالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب توفي سنة ١٠٦ ه‍ فقيهان من فقهاء المدينة السبعة ، من سادات التابعين. انظر ترجمة القاسم في : نكت الهميان ٢٣٠ ، صفة الصفوة ٢ / ٤٩ وترجمة سالم في صفوة الصفوة ٢ / ٥٠ وغاية النهاية : ١ / ٣٠١ ، حلية الأولياء ٢ / ١٩٣.

٤٤٨

[زيادة المهدي]

ثمّ زاد فيه المهدي محمّد بن أبي جعفر المنصور ، وكان والده أبو جعفر (١) همّ بالزيادة فيه ولم يقض ذلك له. وكتب إليه الحسن بن زيد (٢) يرغّبه في الزّيادة فيه من جهة الشّرق ، ويقول : إنّه إن زيد منها توسّط قبر النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم المسجد (٣) ، فاتّهمه أبو جعفر أنّه إنّما أراد هدم دار عثمان ، فكتب إليه : قد عرفت الّذي أردت ، فاكفف عن دار الشّيخ عثمان بن عفّان رضي‌الله‌عنه ، وأمر أبو جعفر بستور للصّحن تنشر عليه في أيام الجمع زمان القيظ على حبال ممدودة على خشب ، قد أقيمت في الصّحن تكّن المصلين من الحرّ (٤) ، وبقيت تلك السّتور زمانا (٥) ، وتوفي أبو جعفر ولم يزد فيه شيئا ، وزاد فيه ولده المهديّ من ناحية الشّام خاصّة مئة ذراع ، (٦) وكان طول المسجد في بناء الوليد مئتي ذراع فبلغه المهدي ثلاث مئة ذراع وسوّى المقصورة بالأرض ، وكانت مرتفعة عنها ذراعين ، وكتب اسم المهدي على مواضع (٧) من المسجد ، (٨)

__________________

(١) أبو جعفر المنصور : ثاني خلفاء بني العباس ، هو باني بغداد ، ولي بين سنتي ١٣٦ ـ ١٥٨ ه‍ له ترجمة في تاريخ الخلفاء : ٢٥٩ وما بعدها.

(٢) الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب : أمير المدينة كان من الأشراف ، ولّاه المنصور على المدينة خمس سنين ثم عزله وحبسه في بغداد. فلما ولي المهدي أخرجه ، توفي سنة ١٦٨ ه‍ بالحاجر في طريقه إلى الحج مع المهدي ، ترجمته في ميزان الاعتدال ١ / ٢٩٤ تاريخ بغداد ٧ / ٣٠٩.

(٣) في ت وط : في المسجد.

(٤) انظر ابن بطوطة ١ / ١٣٧.

(٥) جاء في كتاب المناسك ٣٧٢ «... لم تزل هذه الستور كذلك حتى خرج محمد بن عبد الله بن حسن في جمادى الآخرة سنة ١٤٥ ه‍ فأمر بها فقطعت دراريع لمن كان يقاتل معه فتركت حتى كانت ولاية هارون فأحدث هذه الأستار».

(٦ ـ ٦) ـ الفقرة ساقطة من ط. وانظر تفاصيل الزيادات في المسجد النبوي في المناسك ٣٧٣.

(٧) في ت : في.

٤٤٩

وعلى الأبواب مع كلام كثير ومع آيات من الكتاب العزيز (١) وسور تامّة من القصار ، وقد بالغ في استيفاء ذلك الشّريف أبو الحسن في كتاب المدينة ، وذكر أنّ المسجد بقي على بناء المهدي إلى زمانه ، وقد بني بعده وغيّر أكثر الأشياء الّتي ذكر ، وقد تقدّم أنّه كان له عشرون بابا ثمّ سدّت [١١٧ / آ] إلّا الأربعة ، وقد كان وقع فيه الحريق في هذه المدّة الأخيرة ، فاحتيج إلى تجديده وإصلاح ما احترق فيه ، وأمر الملك المنصور في هذه الأعوام ببناء دار الوضوء عند باب السّلام من ناحية الغرب ، وتولى بناءها الشّيخ الصّالح (٢) الأمير المسدّد علاء الدّين الأعمى (٣) ـ وصل الله توفيقه ـ فأقام هنالك دارا متّسعة متقنة ، وأجرى إليها الماء ، وأدارها بالبيوت ، وأحدث في ذلك من الرّفق بالنّاس ، وإدخال الرّاحة عليهم ما يقصر عنه الوصف (٤) ، وقد كان الملك المنصور أمره بإقامة مثلها في مكة ، فعاق عن ذلك ما حدث بها (٥) من الفتنة الّتي تقدّم ذكرها.

[المنبر]

وأمّا المنبر ، ففي الحديث أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يخطب إلى جذع نخلة في المسجد ، فلمّا صنع له المنبر وتحوّل إليه ، حنّ إليه الجذع حنين النّاقة إلى

__________________

(١) في ط : القرآن ، وانظر تفصيل ذلك في المناسك ٣٩٠ ـ ٣٩٥.

(٢) في ت : العالم.

(٣) علاء الدين الأعمى الرّكنيّ الزاهد : ناظر أوقاف القدس والخايل ، أنشأ العمائر والربط ، وأثر الآثار الحسنة في القدس والخليل والمدينة النبوية ، توفي سنة ٦٩٣ ه‍. وصلي عليه بدمشق. له ترجمة في نكت الهميان ١٢٣ والوافي بالوفيات ٩ / ٤٨٥ وتالي وفيات الأعيان ١٥ ـ ١٦.

(٤) في ت : الوصف عنه.

(٥) في ط : لها.

٤٥٠

حوارها (١). وروي أنّه نزل إليه فالتزمه فسكن فقال : «لو لم التزمه لحنّ إلى يوم القيامة» (٢). وقد أبدع في وصفه غاية الإبداع أبو محمّد عبد الله بن يحيى الشّقراطسيّ رحمه‌الله حيث قال : [البسيط]

حيّى فمات سكونا ثمّ مات لدن

حيّى حنينا فأضحى غاية المثل (٣)

يعني أنه حين حيي بقرب النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم منه كان ذا سكون ، والسّكون للميت ، وحين مات بتحولّه عنه كان ذا حنين ، والحنين للحيّ ؛ وهذا بديع مليح جدّا ، ولو روي «فمات سكوتا» بالتّاء المثنّاة ، كان أبدع للمطابقة بين السّكوت والحنين ، ولكن الرّواية فيه بالنّون ، واختلفت الرّوايات في الّذي صنع المنبر ؛ ففي بعضها تميم الدّاريّ (٤) وفي بعضها غلام للعبّاس ، وفي بعضها غلام لامرأة (٥) من الأنصار. وصنع من طرفاء الغابة ، وروي من الأثل ، وهما واحد. وكان ثلاث ، درجات ، فكان عليه‌السلام يقعد على الثّالثة ويضع رجليه على الثّانية (٦) ، فلمّا ولي [أبو بكر قعد على الثّانية ووضع رجليه على الأولى ، ولمّا ولي](٧) عمر

__________________

(١) الحوار : ولد الناقة ساعة تضعه ، أو إلى أن يفصل عن أمّه.

(٢) أخرجه البخاري في كتاب الجمعة. باب الخطبة على المنبر رقم ٩١٨ ـ ٢ / ٣٩٧ بخلاف في اللفظ والترمذي في كتاب الصلاة. باب ما جاء في الخطبة على المنبر رقم ٥٠٥ ـ وابن ماجه كتاب إقامة الصلاة باب ما جاء في بدء شأن المنبر رقم ١٤١٥ ، والنسائي ٣ / ١٠٢ وابن حنبل ١ / ٢٤٩ ـ ٢٦٧ و ٣٦٣ و ٣ / ٢٩٥ ، ٣٠٠ ، ٣٠٦ ، ٣٢٤ ، و ٥ / ٣٣٧ ـ ٣٣٩.

(٣) لدن : ليست في ط ودونها لا يستقيم الوزن.

(٤) هو تميم بن أوس بن خارجة الداري : صحابي أسلم سنة ٩ ه‍ كان يسكن المدينة ثم انتقل إلى الشام بعد مقتل عثمان. ونزل بيت المقدس فكان عابد أهل فلسطين. روى له البخاري ومسلم ١٨ حديثا. ترجمته في صفة الصفوة ١ / ٧٣٧ ـ الإصابة ١ / ١٨٦ ، طبقات ابن سعد ٧ / ٤٠٨.

(٥) في ط : غلام إمرأة.

(٦) في الأصل الأولى.

(٧) ما بين حاصرتين سقط من الأصل والتّتمة من ت وط.

٤٥١

قعد على الأولى ووضع رجليه على الأرض ، وفعل ذلك عثمان صدرا من خلافته ، ثمّ ترقّى إلى الثّالثة. ولمّا رجع الأمر إلى معاوية أراد نقل المنبر إلى الشّام ، فضجّ المسلمون ، وعصفت [١١٧ / ب] ريح هائلة ، وخسفت الشّمس حتّى بدت النّجوم ، وأظلمت الأرض حتّى كان الرّجل يصادم الرّجل ، ويناطح الجدار ، لا يرى مسلكا. فلما رأى ذلك تركه. وزاد ستّ درجات من أسفله (١) فصار تسعا (٢). ولما وقع الحريق بالمسجد احترق المنبر حتّى لم يبق منه ، إلّا قطعة عود فصنع منبر آخر ساج (٣) ـ وهو الّذي في المسجد الآن ـ وجعلت تلك القطعة في داخله بإزاء نقب يدخل منه النّاس أيديهم فيمسحونها تبرّكا بها. وكان بين موضع (٤) المنبر وبين حائط القبلة قدر ذراع ، فلمّا زيد في القبلة بقي المنبر بموضعه إلى الآن ، وما أعلم أنّي صلّيت أمامه في الصّفّ الأوّل ، لأنّي استعظمت أن أتقدّم مصلّى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأوليه ظهري.

وفي حائط المحراب أمام المصلّى على نحو القامتين ، أو أقلّ يسيرا ، شكل ناتىء (٥) أكحل برّاق (٦) أملس كأنه رأس خشبة أبنوس مخروط ، وقد ذكر صاحب كتاب المدينة أنّه عود كان في جدار القبلة ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتمسّك به إذا أقيمت الصّلاة ، ثم يلتفت يمينا وشمالا ويقول «سوّوا صفوفكم [أو ليخالفنّ الله بين قلوبكم] (٧)» فإذا استوت كبّر (٨). فلما توفي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم

__________________

(١ ـ ١) ـ سقطت من ط.

(١ ـ ١) ـ سقطت من ط.

(٢) في ط : ساذج ، والسّاج : شجر عظيم صلب الخشب أسوده.

(٣) ليست في ط.

(٤ ـ ٤) ـ في ط : براق أكحل ، والأكحل : الأسود.

(٥) زيادة من ت وط.

(٦) أخرجه أبو داود في الصلاة ، باب تسوية الصفوف رقم ٦٦٢ بخلاف في اللفظ وابن حنبل ٤ / ٢٧٩ بخلاف في اللفظ ، وابن ماجه في إقامة الصلاة ـ باب تسوية الصفوف رقم ٩٩٤ وحلية الأولياء ٩ / ٣٢ وكنز العمال ٧ / ٦٢٩.

٤٥٢

فقد ، فلم يجده أبو بكر ووجده عمر في خلافته عند رجل بقباء (١) وقد دفنه حتّى أكلته الأرضة (٢) ، فأخذ له عمر عودا فشقّه وأدخله فيه ، ثمّ شعّبه وردّه بموضعه (٣). فلمّا زاد عمر بن عبد العزيز في القبلة جعله في المحراب ؛ والنّاس يتحيّلون للمسه تبرّكا به ، والحجّاج يحرصون عليه ، ويرمون ثيابهم إليه ، وتراهم يحمل بعضهم بعضا ليتّصلوا به ، ولا يعرفون ما هو كما جرت عادتهم في غيره.

[القبلة]

وأمّا قبلة مسجد النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقد تقدّم أنّها قبلة قطع لأنّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أقامها ، وقيل : إنّ جبريل أقامها له ، ويروى أنّه كان يشير للنّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى سمتها وهو يقيمها ، ويروى أيضا أن جبريل عليه‌السلام أشار إلى الجبال والشّجر فتنحّت حتّى بدت الكعبة ، فكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يبني وهو ينظر إليها عيانا. وبكلّ اعتبار فهي قبلة قطع ، والحجّة في قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، [١١٨ / آ] وفي فعله معا (٤) ، وهو المعصوم في كلّ ما يأتي ويذر صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وكانت قبلة مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أوّل ما ورد المدينة إلى بيت المقدس ، ثمّ حوّلت إلى الكعبة بعد ستة أو سبعة عشر شهرا. وهي مسامتة للجنوب حقيقة ، خلاف ما ذكر القاضي أبو الوليد الباجيّ من أنّها مائلة عن الجنوب إلى الشّرق كثيرا ، بل أقول : إنّها إلى الغرب أميل ، وقد تهمّمت بذلك واعتبرته (٥) بالمدينة على ساكنها

__________________

(١) قباء : موضع بينه وبين المدينة سبعة أميال ، وهي منزل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل أن يسير إلى المدينة ونزل على كلثوم بن الهدم. انظر معجم ما استعجم : ١٠٤٥ ، المغانم المطابة ٣٢٣.

(٢) الأرضة : دودة بيضاء تأكل الخشب.

(٣) المناسك : ٤٠٣.

(٤) ليست في ت وط.

(٥) في ط : فاعتبرته.

٤٥٣

الصّلاة والسّلام ، فوقفت في صحن المسجد حيث أرى المنازل ، واستقبلت المحراب فوجدت سمتي إلى الثّريّا (١) ، وهي ذاهبة عن التّوسّط شيئا قليلا ، وأين ذلك من قول الباجيّ؟ وأظنّه لم يعتبر ذلك بالحسّ حين رآه ، وإنّما اعتمد على ما يروى عن ابن عبّاس وغيره أن قبلة المدينة إلى الميزاب ، وذلك يعطي أنّها (٢) إلى المطلع الشّتوي كما تقدّم ، وذلك ما (٣) لا يصحّ بوجه ، ولعلّه لم يثبت عن ابن عبّاس ، وإن ثبت فلعلّه أراد بالميزاب ناحيته ، والجهة الّتي هو فيها لا عين الميزاب والله أعلم. وإذا ثبت بالحسّ أنّها مسامتة للجنوب فهي إذا إلى الرّكن الشّآمي ، وهو على يسار الميزاب مناظرا للرّكن اليمانيّ المحاذي لحقيقة الجنوب كما مرّ ذكره وبيانه ، وبالله التّوفيق.

[الرّحيل من المدينة]

ثمّ رحل الرّكب من المدينة يوم الأربعاء الموفّي ثلاثين لذي حجّة ، راجعا من طريقنا (٤) حتّى قرب من وادي الصّفراء ، فتيامن وخرج من مضيق يعرف بنقب عليّ ، مصوّبا على الدّهناء ، ثم على ينبع مارّا على الطّريق الأوّل إلى عقبة أيلة ، فتيامن منها بعض إلى الشّام ، وصوّب الأكثر إلى مصر. وكان الرّكب الشّآمي رحل من المدينة على طريق المعلّى إلى تبوك (٥) وصحبه أكثر المغاربة حرصا منهم على تقريب المسافة إلى الشّام لأنّها أقرب من طريق

__________________

(١) الثريا : من الكواكب ، سميت لغزارة نوئها ، وهي مجموعة من النجوم.

(٢) في ت وط : أنه.

(٣) في ت : مما لا يصح.

(٤) في ت : طريقه.

(٥) تبوك : موضع بين وادي القرى والشام ، بينه وبين المدينة اثنتا عشرة مرحلة. انظر ياقوت : ٢ / ١٤.

٤٥٤

البرّيّة بكثير ، ولكنّها طريق شاقّة قليلة الماء جدّا ، وردها على سبعة أيّام ، فحملهم الكسل والحين المقدّر إلى سلوكها مع ضعفهم وتهتّك قواهم ، فوقع عليهم الثّلج وهم بالقرب من عمّان فأفنى (١) منهم خلقا كثيرا. وذكر بعض من حضر ذلك [١١٨ / ب] أنّه قد أحصي منهم ألف وسبع مئة ، وما أعلم أنّه مات ممّن رجع على الطّريق الأوّل إلّا أقل من عشرة ماتوا بالمرض.

[التّعريف بعلاء الدّين الأعمى]

وسافرنا من عقبة أيلة إلى الشّام صحبة الأمير الصّالح علاء الدّين الأعمى (٢) ـ وصل الله علاه ـ فرأيت منه رجلا قلّ أن يسمح الدّهر بمثله ، سخاوة نفس ، وسراوة همّة ، ومتانة دين ، وصحّة يقين ، إلى علم جمّ قد حفظه سماعا ، وذكاء متّقد يلمع إليه بالأمور الخفيّة إلماعا ، وصلاح معجز لا يبارى ، وسبق في ميدان الفضائل (٣) لا يجارى ، وصبر في ذات الله على تحمّل الأذى ، وإغضاء للجفون طلبا لمرضاته على القذى ، ينام النّاس وهو ساهر ، ويستكنّون (٤) وهو ظاهر ، ويريحون وهو سارح ، ويستريحون وهو غاد ورائح ، رعيا منه للفقراء والمساكين ، وذبّا للأذى عمّن دبّ إليه الرّدى ولا معين ، يدأب على ذلك ولا يملّ ، ويصمّم عليه بعزم يعقد (٥) ولا يحلّ ؛ على أنّ السّن قد أخذت منه مأخذها ، (٦) وجند المشيب قد استولى على الشّبيبة فأخذها (٧) ؛ تنسكب

__________________

(١) في ط : خلقا منهم.

(٢) توفي سنه ٦٩٣ ه‍ انظر نكت الهميان ١٢٣.

(٣) في ط : الفضل.

(٤) يستكنّون : يستترون.

(٥) في ط : يقعد.

(٦ ـ ٦) ـ سقط من ط.

٤٥٥

أنامله للعفاة (١) بالنّيل انسكابا ، وتزري بوبل الغيث سحّا (٢) وانصبابا ، وأمّا الفراسة فلو رآه إياس ، لعراه إياس ؛ فضيلة ديانة ، لا نتيجة زكانة ، وصنع قدير ، لا تصنيع تقدير ، وتوفيق قدر ، لا تدقيق نظر ، ونور بصيرة ، يستمدّ من صلاح سريرة ؛ وقد حضرته واقفا في مضيق والنّاس يخطرون عليه ، فخطرت امرأة على بعير مع قوم مشاة ، فلمّا أحسّ بمشيها قال لهم : أهي امرأة؟ فقالوا : نعم. وأخبرني من أثق به أنّه رآه يقف على البنّائين في حرم الخليل عليه‌السلام وفي القدس ، فيقول لهم : هذا متقن وهذا غير متقن ، ولا يزال يعرّفهم بما في بنائهم من عيب ، ويقفهم (٣) على دقائق ما فيه من فساد ، ممّا لا يمكن البتّة أن يتعرّف إلّا بالمشاهدة. وله مجلس علم يحضره ، ولا يتخلّف عنه ؛ وناهيك بشيخ (٤) كبير ، رئيس ملك من الملوك ، يجلس للفقراء يدرّسونه من الصّباح إلى المساء ، ويقعد بين يدي المقرىء مجوّدا عليه للكتاب العزيز [١١٩ / آ] غير مستند قعود الصبيّ بين يدي معلّمه ، لا يأنف ولا يتكبر ، ولا يعتو ولا يتجبر فسبحان من له الإبداع والإنشاء (يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ)(٥).

__________________

(١) العفاة : جمع عاف. وهو كل من جاءك يطلب فضلا أو رزقا.

(٢) في ط : سمحا وهو تحريف.

(٥) في ت : يوقفهم.

(٦) في ط : من شيخ.

(٧) الآية ساقطة من ط ، وهي اقتباس من الآيتين (وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) البقرة ١٠٥. والآية(يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) آل عمران ٧٤.

٤٥٦

[ذكر الخليل]

ثمّ وصلنا بعد ثمانية أيام إلى المحلّ الأنيس ؛ والمعهد الّذي يتخيرّ فيه مقيل وتعريس ؛ والمنزل الذّي حكم له القدر بالسّعادة حين التّأسيس ، مثوى كلّ خاشع ومنيب (١) ، ومستقرّ كلّ خائف حذر من التّأنيب ، ومناخ كلّ مشتاق يحنّ حنين النّيب (٢) ، حرم الخليل (٣) عليه‌السلام ، وهي قرية مليحة المنظر ، أنيقة المسموع والمبصر ، مشرقة كالصّبح إذا أسفر ، موضوعة ببطن واد قليل الماء والشّجر ، والمحيط بها حرار (٤) وعرة ، والمسجد بنيّة أنيقة ، من المباني القديمة الوثيقة ، عالية البناء ، محكمة العمل ، من صخور منحوتة في نهاية العظم. منها صخرة في الرّكن الّذي على يسار القبلة وهي من الأرض على قدر القامة ، فيها سبعة وثلاثون شبرا ، يتعجّب النّاس منها ومن وضعها هنالك ، ويقال : إنّ البنيّة كلّها من صنعة (٥) الجنّ أمرهم سليمان عليه‌السلام بتجديدها (٦) على الغار لما دثر ما كان عليه بتقادم الأعصار ، وفيها تحريف عن الجنوب إلى الشّرق ؛ فلما ردّت مسجدا جعل لها (٧) المحراب في الوسط كسائر المساجد تحسينا لصورتها ، ثمّ ردّ الرّكن الأيمن محرابا آخر تنبيها على تشريقها ، وفي داخل المسجد قبر الخليل وإسحاق ويعقوب عليهم‌السلام ، وتقابلها من ناحية يسار القبلة ثلاثة أخرى هي قبور أزواجهم ، وكان في

__________________

(١) المنيب : التائب.

(٢) النيب : الناقة المسنّة.

(٣) انظر الأنس الجليل ٢ / ٧٦ ـ ٨٥.

(٤) الحرّة : الأرض الصلبة الغليظة التي ألبستها حجارة سود نخرة.

(٥) في ت : صنع.

(٦) في ت وط : يتجر يدها.

(٧) ليست في ت.

٤٥٧

غربي المسجد قبر يوسف عليه‌السلام ، دفن هنالك حين نقل من مصر بوصيّة ، والآن قد زيد في المسجد حتّى رجع قبره في داخله ، وعلى يمين المنبر لاصقا بجدار القبلة نفق يهبط منه على درج من رخام ، متقنة العمل إلى مسلك ضيّق هو ممرّ إنسان واحد ، ويفضي إلى فسحة ليست بكبيرة مفروشة بالرّخام ، وفيها صور ثلاثة قبور مقابلة للدّاخل في طول الحائط مصطفّة من الشّرق إلى الغرب ، ويقال هي علامات للقبور [١١٩ / ب] محاذية لها ، وكذلك الّتي في المسجد ؛ وذلك أنّه كان هنالك غار كبير وفيه القبور ، ثمّ سدّ كلّه إلّا بالمدخل المذكور. وجعل للقبور علامات محاذية في بطن الغار وهي الّتي في المدخل ، وفي ظاهره ، وهي الّتي في المسجد. وكان باب الغار في مؤخّر المسجد عند قبر يعقوب كما سيأتي ذكره ، ثمّ ردّ عند المحراب كما ذكرنا ، وقد نزلت إليه وتأمّلته مرارا ، ودعوت الله فيه سرّا وجهارا والحمد لله على حسن عونه.

[مقابر الأنبياء]

وقد رأيت أن أقيّد هنا شيئا ممّا ذكر في هذه القبور وفي الغار وما يتصّل بذلك بحول الله وقوّته ، وما التّوفيق إلّا به.

وجدت بخطّ الفقيه ، القاضي ، المحدّث ، الإمام ، أبي عبد الله محمّد بن أحمد بن مفرّج الأندلسيّ (١) ـ رحمه‌الله ـ في تأليف عليّ بن جعفر الرّازيّ الّذي (٢) سماه «المسفر للقلوب عن صحّة قبر إبراهيم الخليل وإسحاق ويعقوب». وهو جزء لطيف نقلته من خطّ ابن مفّرج ـ رحمه‌الله ـ وهو روى

__________________

(١) هو محمد بن أحمد بن مفرّج الأندلسي : قاض ، محدّث ، من أهل قرطبة رحل إلى المشرق في طلب العلم والحديث ، وتولى القضاء في أستجة وريّة ، من كتبه فقه الحسن البصري ، وفقه الزهري. ترجمته في تاريخ علماء الأندلس لابن الفرضي ٢ / ٩١ ـ جذوة المقتبس ٤٠.

(٢) ليست في ط.

٤٥٨

فيه (١) عن مؤلّفه المذكور حديثا صدّر به التّأليف مسندا إلى أبي هريرة رضي‌الله‌عنه قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لمّا أسري بي إلى بيت المقدس مرّ بي جبريل إلى قبر إبراهيم فقال : انزل صلّ هاهنا ركعتين فإنّ هاهنا قبر أبيك إبراهيم صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ثمّ مرّ بي ببيت لحم فقال : انزل صلّ هاهنا ركعتين فإنّ هاهنا ولد أخوك عيسى. ثم أتى بي إلى الصّخرة. وذكر الحديث في الإسراء»(٢).

وفي الجزء المذكور بخطه سمعت أبا بكر [محمّد بن](٣) أحمد بن عمرو (٤) بن جابر يقول ـ وقد سئل عن قبر إبراهيم الخليل صلوات الله عليه ـ وعن صحتّه فقال : ما رأيت أحدا من الشّيوخ الّذين لحقتهم من أهل العلم إلّا وهم يصحّحون أنّ هذه قبور إبراهيم وإسحاق ويعقوب وأزواجهم صلوات الله عليهم ، ويقولون : ما يطعن في ذلك إلّا رجل من أهل البدع ، وقال أبو بكر : هذا (٥) نقل الخلف عن السّلف ليس عندي فيه شكّ. وذكر أبو بكر أنّ مالك بن أنس قال : إنّ النّقل أصحّ من الحديث ، لأنّ الحديث ربّما وقع فيه الخطأ ، والنّقل لا [١٢٠ / آ] يقع فيه الخطأ. وفيه بخطّه : سمعت عبد الواحد بن رزق يقول : قدم أبو زرعة (٦) القاضي الدّمشقيّ إلى مسجد قبر إبراهيم فجئنا لننظر (٧)

__________________

(١) في الأصل : روايته وهو تصحيف.

(٢) الحديث في الأنس الجليل ١ / ٥٦ ، ابن بطوطة ١ / ٧٤ ـ ٧٥.

(٣) زيادة في ت وط.

(٤) في ت وط : عمر.

(٥) في ط : هكذا

(٦) أبو زرعة الدمشقي : هو عبد الرحمن بن عمر عبد الله بن صفوان النّصري : من أئمة زمانه في الحديث ورجاله مولده بدمشق ووفاته فيها سنة ٢٨٠ ه‍ له كتاب في التاريخ وعلل الرجال ومسائل الحديث والفقه. له ترجمة في طبقات الحنابلة لابن أبي يعلى ١٤٨ ـ ١٥٠.

(٧) في ت وط : ننظر.

٤٥٩

إليه ، فرأيته وقد وقف عند قبر سارة في وقت الصّلاة ، فدخل شيخ فدعاه ، فقال : يا شيخ أيّما هو قبر إبراهيم من هؤلاء؟ فأومأ إلى قبر إبراهيم. (١) فجاءه شاب فدعاه فقال : يا شاب! أيّما هو قبر إبراهيم من هؤلاء؟ فأومأ إلى قبر إبراهيم (٢).

ثمّ جاءه صبيّ فدعاه فقال : يا صبيّ! أيّما هو (٣) قبر إبراهيم من هؤلاء ، فأومأ الصّبيّ إلى قبر إبراهيم ومضى. فقال أبو زرعة : أشهد أنّ هذا قبر إبراهيم الخليل لا شك فيه ، هذا هو الصّحيح نقل الخلف عن السّلف كما قال مالك بن أنس ، ثم دخل إلى داخل المسجد فصلّى الظّهر ثمّ رحل من الغد (٤).

وفيه بخطّه سمعت أبا بكر [محمد بن](٥) أحمد بن عمرو بن جابر يقول : خرجت سنة من السّنين أنا وأبو بكر بن المرجيّ وجماعة من أهل العلم والورع إلى مسجد قبر إبراهيم ، وكان لهم إمام يكنّى بأبي حامد ، فقال لنا : رأيت في ليلة النّصف من شعبان وقد ركعت ، وقعدت عند المنبر ، فنعست ، فرأيت فيما يرى النّائم كأنّ آتيا أتاني فقال : تحبّ أن تنظر إلى القوم؟ وقد كنت أسأل الله أربعين سنة أن يرينيهم ، فقلت : نعم : فأخذ بيدي إلى مؤخّر المسجد قريبا من قبر يعقوب عليه‌السلام فقلع بلاطة فإذا قد أضاء منها النّهار ، فدخل ودخلت معه ، وإذا القبور صفّ واحد ؛ الرّجال صفّ ، والنّساء

__________________

(١ ـ ١) ـ سقط من ت.

(٢) ليست في ت وط.

(٣) انظر الخبر مفصلا في الأنس الجليل ١ / ٤٦ والرواية فيه عن الحسن بن عبد الواحد بن رزق الرازي.

(٤) زيادة من ت وط.

٤٦٠