رحلة العبدري

أبو عبدالله العبدري

رحلة العبدري

المؤلف:

أبو عبدالله العبدري


المحقق: د. علي إبراهيم كردي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار سعد الدين للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
الصفحات: ٧٢٨

وفي أوّل سفرنا دخلنا مسجدا لصلاة الظّهر ، فوجدنا به ألواح صبيان المكتب ، فنظرنا فيها تبرّكا بها ، فوجدنا في أوّل لوح منها (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ)(١) وفي الثّاني (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً)(٢) وفي الثّالث (فَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ)(٣) وفي الرّابع (وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا)(٤) وفي الخامس (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ)(٥) وفي السّادس (قُلْ : لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا ما كَتَبَ اللهُ لَنا هُوَ مَوْلانا)(٦) ؛ فسررنا باتّفاقها على الإشارات إلى البشارات ، وحمدنا الله على ذلك.

وبعد ليلتين ـ أو ثلاث ـ رأيت في المنام الفقيه القاضي الإمام أبا الوليد الباجيّ (٧) ـ رحمه‌الله ـ فخطر لي أن أقرأ عليه شيئا من كلامه ،

__________________

(١) سورة الطلاق : ٣.

(٢) سورة الطلاق : ٤. وفي ت وط : (يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً) ، وهذا الذي في بقية النسخ من الآية ٢ من سورة الطلاق.

(٣) سورة البقرة : ٦٤.

(٤) سورة الأعراف : ٤٣.

(٥) سورة الإنسان : ٧.

(٦) سورة التوبة : ٥١.

(٧) هو سليمان بن خلف بن سعد بن أيوب التجيبي القرطبي : فقيه مالكي ، قاض ، من حفّاظ الحديث ، توفي بألمريّة سنة ٤٧٤ ه‍ له تصانيف منها : المنتقى في شرح موطّأ مالك ، وشرح المدوّنة.

ترجمته في الصلة ١ / ٢٠٠ ، قضاة الأندلس : ٩٥ ، نفح الطيب ٢ / ٧٤ ، وبغية الملتمس ٣٠٢ ، وترتيب المدارك : ٤ / ٨٠٢.

٤١

فما حضرني (١) إلّا قوله : (٢) [المتقارب]

إذا كنت أعلم علما يقينا

بأنّ جميع حياتي كساعه (٣)

فلم لا أكون ضنينا بها

وأجعلها في صلاح وطاعه؟

فقرأتها عليه.

[ذكر أنسا]

وأمّا بلد أنسا ـ جبره الله ـ فهو بلد منفسح منشرح ، في بسيط مليح طيّب التّربة ، يغلّ كثيرا ، وبه ماء جار كثير ، ونخل وبساتين ، وهو آخر بلاد السّوس من أعلاه ، متّصل بالجبل مشرف على أرض (٤) السّوس. وكان فيما مضى مدينة كبيرة ، فتوالت عليها الخطوب المجتاحة ، ونزول الأقدار المتاحة ، حتّى صارت رؤيتها قذى في المقلتين ، وعادت بعادة (٥) [٥ / آ] الزّمان أثرا بعد عين ، فليس بها إلّا رسوم حائلة (٦) ، وطلول ماثلة ، خلت من كلّ قارئ ومقروء عليه (٧) ، وقاصد ومقصود إليه ، بيد أنّ بها صبابة (٨) من أهل الدّين ،

__________________

(١) في ت : بدا لي.

(٢) البيتان في : الذّخيرة : ٢ / ٩٨ ، وفي الصلة ١ / ٢٠١ ، والخريدة ـ قسم المغرب ـ ٣ / ٤٧٣ وبغية الملتمس ٣٠٣ ، وألف باء ـ للبلوي ـ ١ / ١٥٧ ، والتشوّف ٣٤٦ ، ووفيات الأعيان : ٢ / ٤٠٨ ، وقلائد العقيان ٢١٦ ، والمغرب ١ / ٤٠٤ ، وترتيب المدارك ٤ / ٨٠٧ ، وقضاة الأندلس : ٩٥ ، والديباج المذهب : ١٢٠ ، والروّض المعطار : ٧٥ ، ونفح الطيب ٢ / ٧٤.

(٣) في القلائد والنفح : علم اليقين.

(٤) ليست في ط.

(٥) في ط : بعاديات.

(٦) أحالت الدّار وأحولت وحالت : أتى عليها أحوال

(٧) في ط : قار ومقرو

(٨) الصبّابة : الجماعة.

٤٢

وفرقة بأخلاق أهل الخير تدين ، على ما يتناولهم من أيدي المعتدين ، ويتداولهم من الولاة (١) المفسدين ، كشف الله عنهم تلك البلوى ، وحسم (٢) الدّاء الّذي أذبل نضارتهم وأذوى.

ثمّ سافرنا منها على بلاد القبلة ، وهي بلاد مات فيها العلم وذكره ، حتّى صارت العادة في أكثرها أنّهم لا يتّخذون لأولادهم مؤدّبا ، ولا تسمع في مساجدهم تلاوة ، وإذا طرأ عليهم من يحفظ من (٣) القرآن آجروه على الإمامة (٤) ، ويواظبون على الصّلاة في الجماعة ، إذ لا يحفظ منهم أحد (٥) ما يصلّي به إلّا النّادر ، ولكنّهم في الغاية من حسن الظّنّ بأهل الدّين وقوّة الرّجاء فيهم ، وهم أهل ذمام (٦) واحترام وحماية للجار وإيواء للغريب على ضدّ ما عليه أكثر أهل الغرب.

وفي أكثر بلادهم حصون مجموعة ، وأنهار جارية ، وقلّما تخلو من الحروب والفتن ، وربّما تحارب أهل الموضع الواحد ، فيتقاتلون عامّة النّهار ، فإذا آواهم اللّيل أووا إلى بيوتهم ، لا يهيج (٧) أحد منهم صاحبه ، وربّما تقاتلوا على السّقوف ، وإذا فرغوا نزلوا عنها إلى بيوتهم ، وقد رأيت عندهم في هذا أعجوبة ، وهي أنّ أهل حصن منهم تحاربوا ، فأجمعوا رأيهم على ألّا يتقاتلوا

__________________

(١) في ت : ولايات.

(٢) حسم : أزال.

(٣) ليست في ت و: ط.

(٤) في ت : للإمامة.

(٥) في ت و: ط : أحدهم.

(٦) الذّمام : العهد والأمان والكفالة.

(٧) لا يهيج : لا يثير.

٤٣

في الحصن احتياطا عليه من الفساد ـ زعموا ـ وجعلوا المعترك خارج الحصن إلى مسافة منه ، ونصبوا لذلك حدودا وأعلاما ؛ فهم يتقاتلون من ورائها ، فإذا آوتهم حدود الحصن لم يرم أحد منهم حجرا ، و [لو](١) اجتمع بقاتل حميمه (٢) لا يعرض له ، فإذا خرجوا من حرم الحصن اشتعلت نار الحرب بينهم. هذا دأبهم لا يغدرون ولا ينقضون ، وخافوا فساد حصنهم ولم يخافوا فساد كونهم! واستباحوا ما حرّم الله من قتل النّفس ، وامتنعوا من [٥ / ب] خرم ما شرّعوه بينهم من قانون السّخف! و «كلّ مستعمل وميسّر لما خلق له» (٣). لا جرم أنّ فيهم آحادا لا بأس بهم ، وخصوصا من جال منهم ورأى النّاس. وعامّتهم جاهليّة الطّباع ، ولكنّ مكارم الأخلاق عامّة لأكثرهم. وقد سمعت سيّدي الفقيه الجليل الفاضل أبا بكر بن عبد العزيز ـ رحمه‌الله ـ يحكي عن والده الشّيخ الصّالح القدوة أبي محمّد ـ وكان دخل بلاد القبلة ـ أنّه كان يقول : «الغرب دنيا بلا رجال ، والقبلة رجال بلا دنيا» أو كلاما هذا معناه ؛ وإنّما يعني مكارم أخلاقهم مع أنّ عيشهم غير متّسع كاتّساعه في الغرب.

وما زلنا في كنف لطف الله تعالى وتحت ذيل عنايته (٤) لا يهيجنا أحد إلا ردّه الله عنّا خاسئا (٥) حتّى انفصلنا عنها في أزيد من ثلاثين مرحلة.

__________________

(١) زيادة من سائر النسخ.

(٢) الحميم القريب.

(٣) أخرجه البخاري في كتاب القدر ، باب وكان أمر الله قدرا مقدورا ، رقم ٦٦٠٥ ـ ١١ / ٤٩٤ ، ومسلم في القدر باب كيفية الخاق رقم ٢٦٤٩ ـ والترمذي في القدر باب ما جاء في الشقاء والسعادة باب ما جاء في الشقاء والسعادة رقم ٢١٣٧ وفيها بلفظ : «كلّ ميسر لما خلق له».

(٤) في ت : غايته.

(٥) الخاسئ : المطرود ، ويكون الخاسئ بمعنى الصاغر القميء المبعد.

٤٤

[اجتياز المفازة التي على طريق تلمسان]

ولمّا انتهينا إلى المفازة الّتي في طريق تلمسان وجدنا طريقها منقطعا مخوفا ، لا تسلكه الجموع الوافرة إلّا على حال حذر واستعداد. وتلك المفازة (١) ـ مع قربها ـ من أضرّ بقاع الأرض على المسافر (٢) ؛ لأنّ المجاورين لها من أوضع خلق الله ، وأشدّهم أذاية ، لا يسلم منهم صالح ولا طالح ، ولا يمكن أن يجوز عليهم إلّا مستعد يتفادون من شرّه (٣) ، وطلائعهم أبدا على مرقب لا يخلو منها البتّة ؛ أطلع الله عليهم من الآفات مايسحتهم (٤) جميعا أصلا وفرعا ، ويقطع دابرهم إفرادا وتثنية وجمعا ، حتّى يكونوا آية للمعتبرين ، وعبرة للنّاظرين ، بعزّة الله وقدرته ، وحوله وقوّته.

وكنت حينئذ لا تمكنني الإقامة حتّى أجد صحبة لغرض كان لي ، فأزمعت أن أترك بعض الأصحاب بما كان معنا من النفقة منتظرا للصّحبة ، وأنصرف أنا مخاطرا بما تدعو الحاجة إلى استصحابه. فبينما أنا أوصي من أردت إقامته متنغّصا بهذا الحال وأعرّفه بما يصنع ، إذ وقف علينا جماعة رجال متسلّحين عارفين بالطّرق (٥) ، عازمين على اعتساف (٦) المجهل (٧) ، فاستربت بهم ، ثمّ قوي في نفسي أنّ ذلك لطف من الله تعالى وغوث أتاحه

__________________

(١) المفازة : البرّية القفر المهلكة ، وسميت بذلك تفاؤلا ؛ من الفوز والنجاة.

(٢) في ط : المسافرين.

(٣) في ت : شرّهم.

(٤) يسحتهم : يستأصلهم.

(٥) «عارفين بالطّرق» سقط من ت.

(٦) الاعتساف : ركوب الأمر بلا تدبير ولا رويّة.

(٧) المجهل : الأرض لا يهتدى بها.

٤٥

لنا [٦ / آ] فسرنا معهم ، فلمّا وصلنا إلى موضع تحقّق (١) الخوف ـ وهم لا يعرفون سوى الجادّة المخوفة ـ خطر لنا أن نخاطر في ركوب متن الفلاة بلا دليل ؛ وذلك حين غروب الشّمس ، ولمّا حصحص (٢) الياس ، وتحقّق في الرّأي الالتباس ، وصل من اللّطيف معهود الألطاف ، وعاد من عطفه علينا انعطاف ، فوقف علينا خمسة أشخاص أثّر فيهم الدّؤوب ، وعلا على ألوانهم الشّحوب ، عانقوا البراري والقفار ، حتّى أخلصتهم خلوص العسجد بالنّار ، وتخوّفهم الخوف المطير للوسن : [البسيط]

كما تخوّف عود النّبعة السّفن

(٣) فسألونا (٤) عن الوجهة فأخبرناهم ، واستدعونا للمرافقة فأجبناهم. وسروا (٥) بنا في مجاهل يضلّ بها الدّليل ، ويذهل فيها الخليل عن الخليل ، وفيهم رجل «أدلّ من سليك المقانب» (٦) و «أمضى من المرهف القاضب» (٧)

__________________

(١) في ط : تحقيق.

(٢) الحصحصة : الحركة في شيء حتى يستقرّ فيه ويستمكن منه ويثبت.

(٣) هو عجز بيت ، وصدره :

«تخوّف السّير منها تامكا قردا»

وهو في ديوان ابن مقبل ٤٠٥ ، وفي السمط : ٢ / ٧٣٨ نسبه لقعنب بن أمّ صاحب ، وغير منسوب في الأمالي : ٢ / ١١٢ ، والمخصّص ١٣ / ٢٧٧ ، وأمالي الزجاجي ٣٧ ، وفي الصّحاح ، واللسان (خوف ـ سفن) لابن مقبل ، وفي الأساس (خوف) لزهير ، وفي التاج (خوف) لذي الرّمّة.

والسّفن : المبرد ، والتامك : السنام المرتفع ، والقرد : الكثير الوبر.

(٤) في ط : فسألوا.

(٥) في ط : وصاروا.

(٦) لم أجده بهذا اللفظ في كتب الأمثال ، والسّليك : هو ابن السلكة ، الشاعر الصعلوك ، وهو الذي يضرب به المثل فيقال : أعدى من السليك ، وأمضى من سليك المقانب. وانظر : الميداني ٢ / ٤٧ و ٢ / ٣٢٣ والدرّة ١ / ٣٠٥ وجمهرة الأمثال ٢ / ٦٨ والمستقصى ١ / ٢٣٨ ، وثمار القلوب ١٠٥ ، وفي ديوان مجنون ليلى : ٧٦ :

لخطّاب ليلى يا لبرثن منكم

أدلّ وأمضى من سليك المقانب

(٧) لم أجده بهذا اللفظ في كتب الأمثال ، ويقال : أمضى من السيف ، انظر الميداني ٢ / ٣٢٦.

٤٦

يطبق مفاصل القفار ، وينصلت (١) من المجاهل انصلات المجلّي (٢) من النّقع المثار ، كالسّهم مسدّدا إلى غرض (٣) الفلاة ، والجارح منقضّا على الموماة ، لا يستدلّ بنجم ينظر فيه ، ولا يعرف نعشا ولا بنيه (٤) ، ولا يتّقي أن يسهو مع من سها ، فيذكّره سهيل (٥) أوالسّها (٦). يتبلّد (٧) النّجم فيقف وقفة الحيران ، وربّما عنّ له المسير فناء كالنّشوان ، وهو يشقّ أديم اليهماء (٨) ، كما شقّ البدر حندس (٩) الظّلماء ، تحسده النّجوم فتلاحظه بطرف كليل ، وتقاربه الرّيح فتتنفّس بنفس عليل ؛ حتّى قطع بنا تلك المفاوز ، واكتسينا ـ بحمد الله ـ برود الأمن بعد تلك المعاوز (١٠) ، والحمد لله الذّي كلّت الألسن عن مدى حمده ، حمدا يستنفد مداده (١١) البحر في مدّه.

[ذكر تلمسان]

ثمّ وصلنا إلى مدينة تلمسان ، فوجدناها بلدا حلّت به زمانة (١٢) الزّمان ، وأخلّت به حوادث الحدثان (١٣) ، فلم تبق به علالة (١٤) ، ولا تبصر في أرجائه

__________________

(١) ينصلت : يسرع في الجري.

(٢) المجلّي : الفرس السابق.

(٣) الغرض : الهدف الذي ينصب فيرمى به.

(٤) بنات نعش : سبعة كواكب ، أربعة منها نعش ؛ لأنّها مربعة وثلاثة بنات نعش.

(٥) سهيل : كوكب يمان.

(٦) السّها : كويكب صغير خفيّ الضوء في بنات نعش الكبرى.

(٧) في بقية النسخ : يتبدّل.

(٨) في ت وط : البهماء ، واليهماء : الفلاة ...

(٩) الحندس : الظلمة ، وفي الصّحاح : اللّيل الشديد الظلمة.

(١٠) ـ المعوز : الضيق والشدة والعسر.

(١١) ـ في ط : مداه.

(١٢) ـ الزمانّة : الآفة ، والعاهة.

(١٣) ـ حدثان الدهر : حوادثه ونوبه.

(١٤) ـ العلالة من الشيء : بقيّته.

٤٧

للظّمان بلالة (١). وقد شاهدت جمعا من الحجّاج ينيفون على الألف وردوها ، ووقفوا إلى ملكها (٢) فأعطاهم دينارا واحدا! وأغرب من هذا ما شاهدته [٦ / ب] من منصور صاحب مليّكش (٣) ، وهو أنّ جماعة من الحجّاج نحو العشرين ، وقفوا إليه في محلّته عند بيته ، فكلّموه في عشائهم فرحّب بهم واحتفل في السّلام عليهم ، ثمّ أخذ ينادي : يا أهل الدّوّار (٤) ، هؤلاء ضيفان الله ، من يحمل منهم إلى بيته واحدا؟! وجعل يكرّر ذلك كما يصنع المدرون [أهل المدر](٥) ، فلمّا لم يجبه أحد ولّى عنهم ، ووراءه جمع كثيف من الفرسان ، وهو سلطان تلك النّواحي.

وتلمسان مدينة كبيرة ، سهليّة جبليّة ، جميلة المنظر ، مقسومة باثنتين بينهما سور ، ولها جامع عجيب (٦) مليح متّسع ، وبها أسواق قائمة ، وأهلها ذوو ليانة ولا بأس بأخلاقهم. وبظاهرها في سند الجبل موضع يعرف بالعبّاد (٧) ، وهو مدفن الصّالحين وأهل الخير ، وبه مزارات كثيرة ، ومن أعظمها وأشهرها

__________________

(١) البلالة : الماء.

(٢) كان أبو سعيد عثمان بن يغمراس بن زيان ملك تلمسان بين سنتي (٦٨١ ـ ٧٠٣ ه‍). انظر تاريخ الجزائر العام : ٢ / ٧٣.

(٣) مليكش : قبيل من صنهاجة كانت له إيالة ببسيط متيجة قضى عليها بنو مرين لما استولوا على المغرب الأوسط (الذيل والتكملة ٨ / ٢٧١ حاشية رقم ٣٥٠).

(٤) الدوّار لفظة تطلق في المغرب عند الرّحل ، حيث يضربون خيامهم على صورة مستديرة ، ثمّ عمّمت اللفظة فصارت تطلق على القرية. (حاشية الفاسي على المطبوع : ١١).

(٥) زيادة من ت و: ط وأهل المدر سكّان البيوت المبنية خلاف أهل الوبر وهم سكان الخيام.

(٦) ليست في ط.

(٧) العبّاد : قرية على نحو ميل جنوب تلمسان ، فيها قبور الأولياء التّلمسانيين ، وكانت قرية كبيرة ذات مساجد ومدارس وخانات ، ثمّ تراجعت عمارتها حتّى اضمحلّت. انظر وصف إفريقيا ٢ / ١٨٠.

٤٨

قبر الشّيخ الصّالح القدوة فرد زمانه أبي مدين (١) ـ رضي‌الله‌عنه ، ورزقنا بركته ـ وعليه رباط مليح مخدوم مقصود ، والدّائر بالبلد كلّه مغروس بالكرم وأنواع الثّمار ، وسوره من (٢) أوثق الأسوار وأصحهّا ، وبه حمّامات نظيفة ، ومن أحسنها ، وأوسعها ، وأنظفها ، حمّام العالية (٣) ، وهو مشهور ، قلّ أن يرى له نظير. وهذه المدينة بالجملة ذات منظر ومخبر ، وأنظارها متّسعة ، ومبانيها مرتفعة ، ولكنّها مساكن بلا ساكن ، ومنازل بغير نازل ، ومعاهد أقفرت من متعاهد ؛ تبكي عليها فتنسكب الغمام الهمّع (٤) ، وترثي لها فتندب الحمام الوقّع. إن نزل بها مستضيف قرته بوسا ، أوحلّ فيها ضيف كسته من رداء الرّدى لبوسا.

وأمّا العلم فقد درس رسمه في أكثر البلاد ، وغاضت أنهاره فازدحم على الثّماد (٥). فما ظنّك بها وهي رسم عفا طلله ، ومنهل جفّ وشله (٦) ، وقد حضرت بها مدرّسا مذكورا عندهم يقرأ عليه باب التّوكيد من «الجمل» (٧)

__________________

(١) هو شعيب بن الحسن الأندلسي : من مشاهير الصوفية ، وأصله من الأندلس ، أقام بفاس ، وسكن بجاية ، وتوفي بتلمسان سنة ٥٩٤ ه‍. له «مفاتيح الغيب لإزالة الرّيب وستر العيب». ترجمته في عنوان الدراية : ٥٥ ونيل الابتهاج : ١٢٧ ، وتعريف الخلف ٢ / ١٨٠.

(٢) ليست في ط.

(٣) بقي هذا الحمّام قائما إلى أن حوّله الفرنسيون أيام احتلالهم للجزائر إلى مخزن عسكري ، ويقع بين ثكنة (المشور) وثكنة (كور مالة) الواقعة أمامها انظر الإعلام بمن حلّ مراكش ... ٤ / ٢٨٩.

(٤) همع الماء : سال.

(٥) الثماد : الحفر يكون فيها الماء القليل ، وغاض الماء : نقص أو ذهب في الأرض.

(٦) الوشل : الماء القليل يتحلّب من جبل أو صخرة ، يقطر منه قليلا قليلا ، ولا يتّصل قطره.

(٧) سقط من ط. وكتاب «الجمل» للزجاجي.

٤٩

فسمعته يقول : «كلا للمذكّرين ، وكلتا للمذكّرتين»! وأعربوا قول ابن دريد (١) : [الرّجز]

هم الذّين جرّعوا من ما حلوا [٧ / آ]

بأنّ : هم : مبتدأ ، والّذين : مبتدأ ثان ، وجرّعوا : خبره ، والجملة في موضع خبر الأوّل! وهذا قليل من كثير ، وصبابة (٢) من غدير!.

وأمّا الفقه عندهم فطويل الاغتراب ، يؤوب «إذا ما القارظ العنزيّ آب» (٣) ، وقد تحاكم إلى قاضيها ـ إذ كنت بها ـ متبايعان في ذهب رديء ، فحكم بما قيل في ذلك من يمين المبتاع على علمه ، فحلف وبرّئ ، ثمّ أتى البائع بعد أيام بمن شهد له أنّ صاحبه إنّما دفع له سكّة فاس ـ وكان الّذي تداعيا فيه من سكّة فاس ـ فأحضر المبتاع ووبّخه بأنّه حلف إثما وأنّه قد ظهر كذبه ، وحكم عليه بإبدال (٤) الذّهب. وإلى هذا انتهى بالعلم وأهله الحال ، وحسبنا الله وعليه الاتّكال!.

__________________

(١) ابن دريد محمد بن الحسن بن دريد الأزدي ، من أئمة اللغة والأدب ، توفي ببغداد سنة ٣٢١ ه‍ ، من مؤلّفاته : الاشتقاق ، والمقصور والممدود ، والجمهرة. انظر : المرزباني ٤٢٥ ، بغية الوعاة ١ / ١٣.

وقوله صدر بيت من مقصورته ، عجزه : «أفاوق الضيم ممرّات الحسا» والمماحلة : العداوة ، انظر شرح المقصورة للتّبريزي : ٥٩.

(٢) الصّبابة : ما بقي في الإناء من ماء ونحوه.

(٣) المثل في الميداني : ١ / ٧٥ ، وفصل المقال : ٤٧٣ ، والمستقصى ١ / ١٢٧ ، وأمثال أبي عبيد ٣٤٤ ، وجمهرة الأمثال ١ / ١٢٣ ، واللسان (قرظ) ، ويضرب في امتداد الغيبة. قال بشر بن أبي خازم لابنته عند موته:

فرجّي الخير وانتظري إيابي

إذا ما القارظ العنزيّ ابا

(٤) في ط : بدال.

٥٠

ومع ذلك ، فلو انتهت خطّة القضاء إلى عليّان أوماني (١) ، لم تكن في الشّناعة كانتهائها إلى العمراني (٢) بحضرة مرّاكش (٣) ، كلأها الله! ولا كلأ القاضي المذكور حيّا وميّتا! فإنّه منجنيق ظلم ترمى به قواعد الدّين ، ونفط (٤) فساد يضرم قلوب المهتدين ، وقد وفّق الله لخضد (٥) شوكته ، وإخماد جمرته أمير المؤمنين (٦) ـ أيّده الله ـ فأغمد من جوره سيفا قاطعا ، وعوّض المسلمين من ظلامه ضياء ساطعا. ومن بعض غرائبه الّتي شاهدتها أنّ قوما ادّعي عليهم القتل ، وأثبت المدّعي دعواه بوثيقة عليها إعلامه بصحتّها ، فاحتجّوا بأنّ لهم مدفعا ، فطلب المدّعي تثقيفهم (٧) كما يجب شرعا ؛ فقال له

__________________

(١) عليّان وماني : مجنونان ، من عقلائهم ، ترجم لهما ابن حبيب النيسابوري في كتابه «عقلاء المجانين» وممّا رواه عن عليّان : أنّ القاضي حفص بن غياث مرّ في طاق السرّاجين ، فإذا عليّان جالس ، فلمّا جازه سمعه يقول : «من أراد سرور الدنيا وحزن الآخرة فليتمنّ ما هذا فيه» قال القاضي : فو الله لقد تمنّيت لو كنت متّ قبل أن ألي القضاء ، وله أخبار لطيفة. أما مان ـ كذا في عقلاء المجانين ـ فله شعر جميل منه هذان البيتان :

فتنفّست ثمّ قلت لطيفي

ويك! لو زرت طيفها إلماما

حيّها بالسلام سرّا وإلّا

منعوها لشقوتي أن تناما

زادهما على قول أبي العتاهية المشهور :

حجبوها عن الرياح لأنّي

قلت يا ريح بلّغيها السلاما

(انظر : عقلاء المجانين : ٨١ ، ١٢٠).

(٢) العمراني : هو أبو فارس الفقيه قاضي مراكش في دولة يعقوب بن عبد الحّق المريني ، ذكره ابن أبي زرع في : الذخيرة السنية ٨٦. وفي القرطاس ٢٨٩ ، ٣٧٥ ، والإعلام للمراكشي : ٨ / ٤٠٣.

(٣) مراكش : مدينة عظيمة بالمغرب شمال أغمات وعلى اثني عشر ميلا منها. كانت مركزا للدولة أيام الموحّدين بالمغرب. أوّل من اختطّها يوسف بن تاشفين من الملثمين في حدود ٤٧٠ ه‍ انظر الروض المعطار : ٥٤٠.

(٤) في بقية النسخ : نفض ، والنفّط : سائل أسود مخضّر زيتي القوام يستنبط من بعض أجواف الأرض. قابل للاشتعال.

(٥) الخضد : الكسر.

(٦) في ط : المسلمين.

(٧) التثقيف : الأخذ.

٥١

القاضي : هؤلاء كبراء النّاس وأعيانهم وممّن لا يتغيّب. وهذه سنّة إسرائيليّة أحياها هذا اللّعين ، لا حيّاه الله! ولا صفح عنه! فما أعظم جرأته على الله عزوجل!

أخبرنا الشّريف الفاضل المحدّث أبو الحسن عليّ بن أحمد بن عبد المحسن الحسيني الغرّافي بثغر الإسكندريّة ، عن الشّيخ الصّالح المحدّث أبو الحسن عليّ بن أبي بكر القلانسيّ ويعرف بابن روزبة ، عن الإمام أبي الوقت عبد الأوّل بن عيسى بن شعيب السّجزي ، عن أبي الحسن عبد الرّحمن ابن محمّد الدّاودي البوشنجي ، عن أبي [٧ / ب] محمّد عبد الله بن أحمد بن حمويه السّرخسيّ ، عن أبي عبد الله محمّد بن يوسف الفربريّ ، عن البخاريّ قال : حدثّنا عليّ ، حدثنا سفيان ، قال : وجدت في كتاب كان كتبه أيّوب بن موسى : عن الزّهريّ عن عروة عن عائشة أمّ المؤمنين أنّ امرأة من بني مخزوم سرقت ، فقالوا : من يكلّم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيها؟ فلم يجترىء أحد أن يكلّمه. فكلّمه أسامة بن زيد (١) ، فقال : «إنّ بني إسرائيل كانوا إذا سرق فيهم الشّريف تركوه ، وإذا سرق فيهم الضّعيف قطعوه ، لو كانت فاطمة لقطعت يدها» (٢).

__________________

(١) أسامة بن زيد بن حارثة الكلبي الهاشمي ، صحابيّ نشأ على الإسلام ، وأمّره الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل بلوغ العشرين. توفّي حوالي عام ٥٤ ه‍ ودفن بالمدينة. ترجمته في : الإصابة : ١ / ٤٦ ، شذرات الذهب ١ / ٥٩ ، غربال الزمن ٥٠.

(٢) أخرجه البخاري ، رقم ٦٧٨٨ في الحدود ، باب كراهية الشفاعة في الحدّ ١٢ / ٨٧ ورقم ٣٧٣٣ في فضائل الصّحابة ، أسامة بن زيد ٧ / ٧٨ ـ ومسلم : رقم ٨ في الحدود ، باب : قطع السارق الشريف وغيره ـ والترمذي رقم ١٤٣٠ في الحدود ، باب ، كراهية الشفاعة في الحدود ـ وأبو داود رقم ٤٣٧٣ في الحدود ، باب : الحدّ يشفع فيه ـ وابن ماجة ، في الحدود ، باب الشفاعة في الحدود رقم ٢٥٤٧ ـ وابن حنبل ٣ / ٣٨٦ و ٣٩٥ ـ ٥ / ٤٠٩ ـ ٦ / ٣٢٩ ـ والنسائي : ٨ / ٧٤ ـ والدّارمي ، ٢ / ١٧٣. وفي لفظة بعض اختلاف.

٥٢

[لقاؤه لابن خميس]

وما رأيت بمدينة تلمسان من ينتمي إلى العلم ، ولا من يتعلّق منه بسبب ، سوى صاحبنا أبي عبد الله محمّد بن عمر بن محمّد بن خميس (١) ، وهو فتيّ السنّ مولده عام خمسين ، وله عناية بالعلم مع قلّة الرّاغب فيه والمعين عليه ، وحظ وافر من الأدب ، وطبع فاضل في قرض الشّعر. وكنت ألفيت الشّيخ الفقيه أبا إسحاق إبراهيم بن يخلف التّنسيّ (٢) ، وأخاه أبا الحسن مسافرين إلى المشرق وهما من سكّان تلمسان ، وليسا منها ، فقيهان مشاركان في العلم مع مروءة تامّة ودين متين ، وأبو إسحاق أسنّهما وأسناهما ، وهو ذو صلاح وخير. وكان شيخنا زين الدين أبو الحسن بن المنيّر ـ حفظه الله ـ يثني عليه كثيرا ، وسألني عن الغرب ، فذكرت له قلّة رغبة أهله في العلم ، فقال لي : «أما بلاد يكون فيها مثل أبي إسحاق التّنسيّ فما خلت من العلم». وقد أدركتهما بمصر ، وكان أبو الحسن لم يحجّ فحجّ معنا ، فلقيت منه خيّرا فاضلا. وقد لازم شيخنا أبا الفتح بمصر مدّة وأخذ

__________________

(١) توفي ابن خميس قتيلا في غرناطة سنة ٧٠٨ ه‍ ، وله ديوان شعر سمي «المنتخب النفيس في شعر ابن خميس». ترجمته في الإحاطة : ٢ / ٥٢٨ ـ ٥٦٢ ، وأزهار الرياض ٢ / ٣٠١ ـ ٣٤٠ ، والدرر الكامنة ٤ / ١١٣ ، وتعريف الخلف : ٢ / ٣٧٥ ـ ٣٨٠.

(٢) إبراهيم بن يخلف التنسي : فقيه ، عالم ، إليه انتهت الرئاسة بالمغرب ، أخذ عن الناصر المشدالي والإمام القرافي وغيرهما من علماء المشرق والمغرب ، له شرح على التلقين للقاضي عبد الوهاب ، ذكر صاحب معجم أعلام الجزائر أنّ وفاته كانت سنة (٦٧٠ ه‍) ولا يصحّ هذا لأنّ صاحب الرّحلة قابلة في الطريق إلى الحجّ سنة (٦٨٨ ه‍) فوفاته بعد هذا التاريخ.

وأخوه أبو الحسين من العلماء الفضلاء لم أقف على وفاته. ترجمته في نيل الابتهاج : ٣٥ ، والبستان : ٦٦ ـ ٦٨ وتعريف الخلف : ٢ / ١٨ ، ومعجم أعلام الجزائر ٨٥.

٥٣

عنه كثيرا ، ولمّا حجّ رجع مع أخيه إلى تلمسان ، وكنت حين وردتها قد أقمت بها مدّة منتظرا للرّكب ، فكنت آنس بابن خميس وأكثر مجالسته ومفاوضته ، وأعجبني ذهنه وحاله ؛ فإنّي وجدته [٨ / آ] على حال انزواء وتقلّل من الدّنيا ، وفي أوّل ما اجتمعت به رأى في يدي كتابا فسألني عنه ، فقلت : هو (١) كتاب «الشّمائل» (٢) فاستظرف فعلي في إمساكه ، وقال لي : أخبرني الفقيه أبو عبد الله بن حمدون ، قال لي : أخبرني الفقيه أبو زيد بن القاضي بتونس أنّ أبا أبا محمّد بن حوط الله (٣) ورد على أبيه فأنزله بداره ، وكان يبيت في سريره ومعه خريطة لا يفارقها ، وكانت تفوح منها رائحة المسك ، قال : وكنت أهاب أن أسأله عمّا فيها ، فرقد ذات يوم فسقطت عن السّرير ووقع منها كتاب «شمائل النّبيّ»صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقد أنشدني ابن خميس كثيرا من شعره ، فمن ذلك قوله من قصيدة (٤) : [الكامل]

ومن العجيبة أن أقيم ببلدة

يوما وأسلم من أذى جهّالها (٥)

__________________

(١) ليست في ط.

(٢) هو كتاب الشمائل النبوية والخصائل المصطفوية للترمذي المتوفى سنة ٢٧٩ ه‍ ، وعليه شروح كثيرة.

(٣) هو عبد الله بن سليمان بن داود بن حوط الله الأنصاري : محدّث ، حافظ ، مقرئ ، خطيب ، شاعر ، نحوي. أدّب أولاد المنصور الموحّدي بمراكش ، وولي قضاء إشبيلية وقرطبة وغرناطة له كتاب في تسمية شيوخ البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي والنسائي لم يتمة. توفي سنة : ٦١٢ ه‍. ترجمته في برنامج شيوخ الرّعيني ٥٥ ـ ٥٦ ، وشذرات الذهب ٥ / ٥٠ ، وشجرة النور ١ / ١٧٣.

(٤) الأبيات في الإحاطة ٢ / ٥٥٦ ، وأزهار الرياض ٢ / ٣٢١.

(٥) في الإحاطة والأزهار : ومن العجائب.

٥٤

شغلوا بدنياهم ، أما شغلتهم

عنّي ، فكم ضيّعت من أشغالها

حجبوا بجهلهم ، فإن لاحت لهم

شمس الهدى عبثوا بضوء ذبالها (١)

وإن انتسبت فإننّي من دوحة

تتقيّل الأنساب برد ظلالها

من حمير من ذي رعين من ذوي

حجر من العظماء من أقيالها (٢)

وإذا رجعت لطينتي معنى فما

سلسالهم بأرقّ من صلصالها (٣)

ومن ذلك قوله : (٤) [الطويل]

أنبت ، ولكن بعد طول عتاب

وطول لجاج ضاع فيه شبابي (٥)

وما زلت ـ والعليا تعنّي غريمها ـ

أعلّل نفسي دائما بمتاب (٦)

وهيهات من بعد الشّباب وشرخه

يلذّ طعامي أو يسوغ شرابي

خدعت بهذا العيش قبل بلائه

كما يخدع الصّادي بلمع سراب

٥ ـ تقول : هو الشّهد المشور جهالة

ولكنّه السّمّ المشوب بصاب (٧)

وما صحب الدّنيا كبكر وتغلب

ولا ككليب ريء فحل ضراب (٨)

إذا كعّت الأبطال عنها تقدّموا

أعاريب غرّا في متون عراب (٩)

__________________

(١) البيت ساقط من ت ، وفي الإحاطة : عشوا بضوء.

(٢) في ط : ذرى حجر وذورعين : ملك من ملوك حمير والأقيال : جمع قيل ، وهو الملك من ملوك حمير.

(٣) في الأزهار : فما سلساله.

(٤) القصيدة في : أزهار الرياض ٢ / ٣١٧ ـ ٣١٩ ، ونفح الطيب ٥ / ٣٦٦ ، وتعريف الخلف : ٣٨١.

(٥) في نفح الطيب والأزهار : وفرط لجاج.

(٦) في النفح والأزهار : والعلياء تعني غريمها.

(٧) في النفح والأزهار : وما هو إلا السمّ شيب بصاب. والصاب : عصارة شجر مرّ.

(٨) يشير إلى ما كان من أمر بكر وتغلب ابني وائل قبل حرب البسوس وبعدها.

(٩) كعّت : جبنت. والخيل العراب : الأصيلة.

٥٥

[٨ / ب] وإن ناب خطب أو تفاقم معضل

تلقّاه منهم كلّ أصيد ناب

تراءت لجسّاس مخيلة فرّصة

تأتّت له في جيئة وذهاب (١)

١٠ ـ فجاء بها شوهاء تنذر قومها

بتشييد أرجام وهدم قباب (٢)

وكان رغاء السّقب في قوم صالح

حديثا فأنساه رغاء سراب (٣)

فما تسمع الآذان في عرصاتهم

سوى نوح ثكلى أو نعيب غراب

وسل عروة الرّحّال عن صدق بأسه

وعن بيته في جعفر بن كلاب (٤)

وكانت على الأملاك منه وفادة

إذا آب منها آب غير مآب

١٥ ـ يجير على الحيّين : قيس وخندف

بفضل يسار أو بفضل خطاب

زعامة مرجوّ النّوال مؤمّل

وعزمة مسموع الدّعاء مجاب

فمرّ يزجّيها حواسر ظلّعا

بما حمّلوها من منى ورغاب (٥)

إلى فدك والموت أقرب غاية

وهذا المنى يأتي بكلّ عجاب (٦)

__________________

(١) جسّاس بن مرّة : شجاع ، شاعر من أمراء العرب في الجاهلية ، وهو قاتل كليب وائل ، انظر جمهرة الأنساب : ٣٢٥.

(٢) في ت : شهواء والأرجام : الحجارة فوق القبور.

(٣) السّقب : ولد الناقة. وسراب قيل ، هي الناقة التي رمى ضرعها كليب وبها ضرب المثل فقيل : أشأم من سراب.

(٤) عروة الرّحال : هو عروة بن عتبة بن جعفر بن كلاب ، جاهليّ من جلساء الملوك ، سمّي بالرّحّال لأنّه كان كثير الوفادة عليهم. وبسببه هاجت حرب الفجار الثانية بين حيّي قيس وخندف ؛ وذلك أنّه أجاز قافلة كان يبعث بها النعمان في كلّ عام إلى عكاظ ، فقتله البرّاض بن قيس الكناني واستاق القافلة ، فثارت الحرب بين الحيّين ، توفي حوالي سنة ٣٢ ق. ه انظر سمط اللآلي ٢ / ٦٧٢. والعقد الفريد ٥ / ٢٥٣.

(٥) زجّى الشيء وأزجاه : دفعه وساقه ، وحسرت الدّابّة : تعبت وكلّت. وظلعت الدابة في مشيها : عرجت.

(٦) في النفح : والموت أغرب. وفدك : قرية بالحجاز بينها وبين المدينة يومان انظر معجم البلدان : ٤ / ٢٣٨.

٥٦

تبرّض صفو العيش حتّى استشفّه

فراق له البرّاض قشب حباب (١)

٢٠ ـ فأصبح في تلك المواطن نهزة

لنبش ضباع أو لنهش ذئاب (٢)

وما سهمه عند النّضال بأهزع

وما سيفه عند المصاع بناب (٣)

ولكنّها الدّنيا تكرّ على الفتى

وإن كان منها في أعزّ نصاب

وعادتها ألّا توسّط عندها

فإمّا سماء أو تخوم تراب

فلا ترج من دنياك ودّا وإن يكن

فما هو إلّا مثل ظلّ سحاب

٢٥ ـ وما الحزم ، كلّ الحزم إلّا اجتنابها

وأشقى الورى من تصطفي وتحابي

أبيت لها ، مادام شخصي ، أن ترى

تمرّ ببابي أو تطور جنابي (٤)

فكم عطّلت من أربع وملاعب

وكم فرّقت من أسرة وصحاب

وكم عفّرت من حاسر ومدجّج

وكم أثكلت من معصر وكعاب (٥)

مثالب مثل الرّمل لا تقل انّها

تعدّ فتحصيها ضروب حساب (٦)

٣٠ ـ إليكم بني الدّنيا نصيحة مشفق

عليكم ، بصير بالأمور نقاب (٧)

__________________

(١) التبرّض : التبلّغ بالقليل من العيش. وقشب حباب : سمّ الحيّة. والإشارة إلى قصة عروة الرّحال الذي قتله البرّاض الكناني وجرّ إلى حرب الفجار.

(٢) في أزهار الرياض : في تلك المعاطف. وفي ت : لنهس ، بالمهملة ، وهي لغة ، وفي النفح : لنهب.

(٣) في ت : بأهزل. والسهم الأهزع : المضطرب والمهتزّ وفي النفح : عند الصراع. والمصاع : المجالدة والمضاربة.

(٤) تطور : تقترب.

(٥) المعصر : التي بلغت عصر شبابها ، وأدركت ؛ وقيل : هي التي ولدت.

(٦) في ت : فتحويها ضروب حساب.

(٧) النقاب : الخبير الذي يضع الأمور مواضعها ، أو لديه قوّة حدس.

٥٧

[٩ / آ]طويل مراس الدّهر ، جدل ، مماحك

عريض مجال الهمّ ، حلس ركاب (١)

تأتّت له الأهواء أدهم سابقا

وغصّت به الأيّام أشهب كاب (٢)

ولا تحسبوا أنّي على الدّهر عاتب

فأعظم مابي منه أيسر مابي

وما أسفي إلّا شباب خلعته

وشيب أبى إلا نصول خضاب (٣)

٣٥ ـ وعمر مضى لم أحل منه بطائل

سوى ما خلا من لوعة وتصاب (٤)

ليالي شيطاني على الغيّ قادر

وأعذب شيء محنتي وعذابي (٥)

عكسنا قضايانا على حكم عادنا

وما عكسها عند النّهى بصواب (٦)

على أحمد المختار أزكى تحيّتي

فتلك الّتي أعتدّ يوم حسابي (٧)

قلت : هذه القصيدة مهذّبة الألفاظ والمعاني ، وألذّ من نغمات المثالث والمثاني ، إلّا أنّ مقطعها قلق ناب ، لا يلين ولو مضغ بضرس وناب ، ليس يلتئم بما قبله ولا يمتّزج ، ولا يزال السّمع به يقلق وينزعج ، وقد زاولته أن يلتحم (٨) فأبى ، وحاولته كي يلتئم (٩) فنبا. وقوله :

__________________

(١) في أزهار الرياض : جزل مماحك ، والحلس : الحريص الملازم.

(٢) في ط والنفح والأزهار : له الأهوال.

(٣) في ط والنفح والأزهار : نصاب خضاب.

(٤) في الأزهار : ماحلا ؛ بالمهملة.

(٥) في النفح والأزهار وأعذب ما عندي أليم عذابي.

(٦) في ت : قضاياه ... عند النهي بمعاب.

(٧) في النفح والأزهار : على المصطفى ... وورد في طبعة الجزائر بيت أخير وهو :

فتلك عتادي أو ثناء أصوغه

كدرّ سحاب أو كدرّ سخاب

والسّخاب قلادة تتّخذ من القرنفل وغيره ، ليس فيها من اللؤلؤ والجوهر شيء.

(٨) في ت : ليلتهم ، وفي ط : ليلتهم.

(٩) في بقية النسخ : ليلتئم.

٥٨

 ................................

فإمّا سماء أو تخوم تراب

الوجه فيه : «وإمّا تخوم تراب» بتكرير إمّا بعد حرف العطف ، وقلّما يؤتى بها غير مكرّرة إلّا نادرا ، كقول الشّاعر (١) : [السريع]

إمّا فتى نال العلا فاشتفى

أو بطل ذاق الرّدى فاستراح

وأنشدني أيضا لنفسه قصيدة منها قوله (٢) : [الوافر]

ويا برقا أضاء على أوال

يمانيّا متى جئت الشّآما

أثغر أمامة أنت ابتساما

أم الدّرّ الأواليّ انتظاما (٣)

خفقت ببطن واديها لواء

ولحت على ثنيّتها حساما

أمشبه قلبي المضنى احتداما

علا ماذدت عن جفني المناما (٤)

٥ ـ ولم أسهرتني وصددت عنّي

خيالا كان يأتيني لماما (٥)

وأبلغ منك تأريقا لجفني

كلام أثخن الأحشا كلاما (٦)

تعرّض لي فأيقظت القوافي

و «لو ترك القطا ليلا لناما» (٧)

__________________

(١) الشاعر هو الشريف الرّضي ، والبيت قصيدة في ديوانه : ١ / ١٩٩.

(٢) القصيدة في الإحاطة : ٢ / ٥٣٠.

(٣) في الإحاطة : الدّرّ الأوامي.

(٤) في الإحاطة : عن عيني ، وسيبيّن المصنّف الوجة في كتابة كلمة (علامّ) في الصفحة ٦١ وأثبتّها كما جاءت في جميع النسخ.

(٥) في الإحاطة : وطردت عنّي.

(٦) في الإحاطة : وأبلغ منه. وكلام ، واحدها كلم : الجرح.

(٧) في الإحاطة : يوما لناما ، وهو مثل كما في الميداني ٢ / ١٧٤ ، وأمثال أبي عبيد ٢٧١ ، والفاخر ، ١٤٥ ، وجمهرة الأمثال : ٢ / ١٩٤ ، والمستقصى ٢ / ٢٩٦ ، وفصل المقال ٢٨٤.

٥٩

[٩ / ب] أضام وفي يدي قلمي لماذا

أضام لغير جرم أو علاما (١)

به وبما أذلّق من لساني

أفلّ الصّارم العضب الهذاما (٢)

١٠ ـ خليلي إن قدرت فلا تكلني

لدهر علّم الشّحّ الغماما (٣)

وردت فلم أرد إلّا سرابا

وشمت فلم أشم إلّا جهاما (٤)

قلت : أنكر غير واحد أن يقال «الشآم» بالمدّ في غير النّسب ، وليس إنكاره بشيء ، وهو ممدود في شعر حبيب (٥) ، وقد ردّوه ولم يروه حجّة ، ونسوا قول النّابغة الذّبياني (٦) : [الوافر]

على إثر الأدلّة والبغايا

وخفق النّاجيات من الشّآم (٧)

ويروى «من السّآم» بالمهملة ، جمع سآمة ، والحجّة في الرّواية الأولى.

وكذلك أنكروا تشديد الياء من «اليمانيّ» ؛ لأنّ الألف كالعوض من التّشديد ، كما رأوا المدّ ـ بزعمهم ـ في شآم عوضا من تشديد ياء النّسب.

وإذا جاز مدّه في غير النّسب جاز تشديد الياء مع المدّ. وقد أنشد المبرّد على تشديد ياء اليمانيّ مع زيادة الألف : (٨) [الطويل]

__________________

(١) في الإحاطة : وفي يدي قلبي ... أضام أبا سعيد ...

(٢) في الإحاطة : انهزاما ، وسيف هذام : قاطع.

(٣) في الإحاطة : أعثمان بن عامر لا تكلني ...

(٤) شام السحاب والبرق شيما : نظر إليه أين يقصد وأين يمطر. والجهام : السحاب الذي لا ماء فيه.

(٥) حبيب بن أوس الطائي ، أبو تمّام ، شاعر ، أديب ، مشهور ، متوفّى سنة ٢٣١ ه‍.

(٦) ديوان النابغة الذبياني : ١٦٣.

(٧) في الديوان : الأدلّة والرّوايا ، وفي ت ، وخفق الناشئات.

(٨) البيت في الكامل : ١٢٣٧ وهو منسوب لشاعر من تميم ، ومعه أبيات خمسة أخرى.

٦٠