رحلة العبدري

أبو عبدالله العبدري

رحلة العبدري

المؤلف:

أبو عبدالله العبدري


المحقق: د. علي إبراهيم كردي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار سعد الدين للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
الصفحات: ٧٢٨

وليقبل على الذّكر سرّا ، ولا يشرب إلّا من ضرورة ، ولا يتخلّل الطّواف بشغل أو استراحة إلّا ما قلّ. وإن أقيمت عليه الصّلاة في آخر أشواطه أتمّها ، وإلّا دخل معهم ثم بنى ، فإذا فرغ صلّى خلف المقام ركعتين ، ويستحبّ إن جاء في غير وقت الصّلاة ألّا يدخل حتّى تحلّ ، فإن هو دخل وطاف أخّر الرّكعتين ، فإن انتقض وضوؤه توضّأ ، وأعاد الطّواف ، وصلّى الرّكعتين ، ولا يجزىء الطّواف منكسا (١) ولا في السّبعة الأذرع (٢) الّتي تلي الكعبة من الحجر ، ولا من وراء زمزم ، ولا بغير وضوء على المشهور ، وهو في هذا كلّه كمن لم يطف. ومن ركب مختارا أعاد الطّواف ما كان بمكّة ، فإن خرج إلى بلده أهدى وأجزأه ؛ وكذلك إن ترك الرّمل أو الرّكعتين ، يركعهما حيث هو ويهدي. وهذا حكم طواف القدوم. وإن وصل به السّعي ، فإن لم يوصل به فالدّم يجزيء (٣) عنه رأسا ، ولا يجب على من أحرم من مكّة ، ولا على المراهق.

وأمّا السّعي (٤) : فهو الطّواف بين الصّفا والمروة ، والخبب في بطن المسيل بين العلمين مشروع للرّجال ، وأصله ما تقدّم في حديث ابن عبّاس من سعي هاجر ، (٥) وفي البخاريّ عنه أيضا : «إنّما سعى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الطّواف بالبيت ، وبين الصّفا والمروة ليري المشركين قوّته» (٦) ومحمل (٧)

__________________

(١) في ط : منسكا.

(٢) في ت : أذرع.

(٣) في ت : يجزئه.

(٤) بداية المجتهد ١ / ٢٥١ ـ ٢٥٢.

(٥) سلف الحديث في الصفحة

(٦) أخرجه في الحجّ ، باب ما جاء في السعي بين الصفا والمروة رقم ١٦٤٩ ـ ٣ / ٥٠٢ وابن حنبل ١ / ٢٥٥ بخلاف اللّفظ ، ومسلم في كتاب الحج استحباب الرمل في الطواف والعمرة رقم ٢٤١.

(٧) في ط : ومحل وهو تحريف.

٤٠١

الحديثين على أن أصله قبل الإسلام سعي [١٠٣ / آ] هاجر ، وإنّ أصله في الإسلام مراغمة المشركين في قولهم : «قد وهنتهم حمّى يثرب» ولم يتقدّم الأمر به قبل ذلك ، ولا يكون السّعي إلّا بإثر طواف واجب ، إمّا طواف القدوم ، وإمّا طواف الإفاضة لمن لم يطف للقدوم.

وإذا فرغ الطّائف من ركعتي الطّواف ، استلم الحجر إن قدر ، ثم يخرج من باب الصّفا فيبدأ به ، ويصعد عليه ثمّ (١) يذكر الله ويدعو ، وضعّف مالك رفع اليدين إلّا في افتتاح الصّلاة. وقال اللّخميّ : ذلك واسع يرفعهما مبسوطتين وبطونهما إلى السّماء ؛ وهو الرّغب ، أو إلى الأرض وهو الرّهب. ولا ينصبهما كما يفعل في الصّلاة.

وقال ابن حبيب : إذا دعا ورفعهما بالرّغب ، وإذا تضرّع رفعهما بالرّهب ، ثم ينحدر إلى المروة ، ويفعل بها كذلك ، ثم يرجع إلى الصّفا سبعة أشواط فإن بدأ بالمروة لم يعتدّ بالشّوط الأوّل ، ورجع فختم بها ، وكونه ماشيا متوضّئا أفضل ، وفي الموطّأ عن عروة بن الزّبير «أنّه كان إذا رآهم يركبون فيه ينهاهم أشدّ النّهي ، فيعتلّون له بالمرض حياء منه ، فيقول : لقد خاب هؤلاء وخسروا» (٢). ومن نسي السّعي أو شوطا منه ، أو سعى قبل أن يطوف بالبيت فليرجع إليه من بلاده (٣) ، فإن أصاب النّساء طاف وسعى ، ثم اعتمر وأهدى ، وعن مالك : يهدي ولا يرجع ، وهذا جنوح إلى القول بأنّه ليس بركن.

__________________

(١) ليست في ط.

(٢) الموطأ : ٢٥٨.

(٣) المدونة ١ / ٣١٩.

٤٠٢

وأمّا الوقوف بعرفة (١) : فالخروج إليه يوم التّروية ثامن ذي الحجّة ، سمي بذلك لأنّهم كانوا يحملون فيه الماء (٢) من مكّة لسقي الحجّاج (٣) بمنى ، ويقولون : روي الحاج. يخرجون من مكّة بقدر ما يصلون إلى منى مع صلاة الظّهر ، فيصلّون بها الظّهر ، والعصر ، والمغرب ، والعشاء ، والصّبح. ثم يغدون بعد طلوع الشّمس إلى عرفة. وقد تقدّم أنّ العادة اليوم الإدلاج (٤) إليها ، وبها يصلّون (٥) الصّبح ، ولم ير مالك على من لم يبت في هذه الّليلة دما ؛ فإذا زالت الشّمس فليجمع مع النّاس بين الظّهر والعصر ، وليغتسل في موضعه قبل الرّواح ويجزيء في [١٠٣ / ب] الوقوف حيث كان من عرفة إلّا بطن عرفة ، وقد مضى ذكره.

والوقوف مع الإمام وبالوضوء أفضل. وكره مالك ترك الموقف والوقوف على جبال عرفة وقال : «الموقف كلّه سواء» (٦) وقد مضى ذكر توقّفه فيمن وقف بمسجد عرفه.

والوقوف راكبا أفضل للقادر ، وهو السّنّة ، قال اللّخميّ : إلّا أن يضرّ بالدّواب (٧) للنّهي أن تتّخذ ظهورها كراسي. ويقف الرّاجل فإذا ملّ فلا بأس أن يستريح بالقعود ، واختلف قول مالك في المارّ بعرفة في وقت الوقوف ولم

__________________

(١) انظر تفصيل ذلك في بداية المجتهد ١ / ٢٥٣ ـ ٢٥٥.

(٢) في ت وط : الماء فيه.

(٣) في ت وط : الحاج.

(٤) الإدلاج : السير في الليل.

(٥) في ت : يطوف : وهو تصحيف.

(٦) الموطأ : ٢٦٨.

(٧) وقاله مالك في الموطأ ٢٦٩.

٤٠٣

ينوه ، هل يجزئه؟ ووقوف النّهار يوم عرفة دون اللّيل يجزىء عند جميع العلماء ، إلّا مالكا رحمه‌الله فإنّه قال : «الفرض وقوف اللّيل» (١). وله في كتاب ابن حبيب فيمن أغمي عليه بعد الزّوال ، واتّصل إغماؤه حتّى دفع به ، قال : يجزئه الوقوف به ، ولا يرجع ثانية إن أفاق من ليلته وهذا منه مثل قول الجماعة ، قاله الّلخميّ وصحّحه ؛ وذكر حديث عروة بن مضرّس (٢) وفيه : «من صلّى صلاتنا هذه ، ووقف معنا حتّى ندفع ، وقد وقف قبل ذلك بعرفة ليلا أو نهارا ، فقد تمّ حجّه ، وقضى تفثه» (٣). وقال : وهو حديث صحيح ، قلت: أخرجه أبو داود ، والنّسائيّ ، والتّرمذيّ ، والدّار قطني ، وألزم البخاريّ ومسلما إخراجه. واختلف إذا أخطأ النّاس العدد فوقفوا يوم النّحر ، والمشهور الإجزاء وعليه فقهاء الأمصار. ورجح اللّخميّ عدم الإجزاء ، ولو وقفوا اليوم الثّامن لم يجزهم على المشهور. وحكى أبو عمر بن عبد البرّ لابن القاسم ولسحنون قولا بالإجزاء. قال أبو عمر : «وهذا الخلاف في حقّ الجماعة من (٤) أهل الموسم. فأمّا الواحد فلا مدخل له في ذلك وإن أخطأ الوقفة لم يجزه لأنّ اجتهاد الواحد بخلاف اجتهاد الجماعة (٥) ، واستدلّ بقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أضحاكم يوم تضحوّن ،

__________________

(١) الموطأ : ٢٧٠.

(٢) هو عروة بن مضرّس بن أوس بن حارثة الطائي : صحابي كان من سادة قومه ، شارك في حروب الردّة مع خالد بن الوليد. ترجمته في الإصابة ٢ / ٤٧١ ، تجريد أسماء الصحابة ١ / ٣٨٠.

(٣) أخرجه الترمذي في أبواب الحج باب ما جاء فيمن أدرك الإمام بجمع فقد أدرك الحجّ ، وأبو داود في المناسك باب من لم يدرك عرفة رقم ١٩٥٠ بخلاف في اللفظ ، وابن ماجة في المناسك ، باب من أتى عرفة قبل الفجر ليلة جمع رقم ٣٠١٦ بخلاف في اللفظ ، وابن حنبل ٤ / ١٥ ، ٢٦١ ، ٢٦٢ بخلاف في اللفظ ، والنسائي ٥ / ٢٦٣.

(٤ ـ ٤) ـ سقطت من ت بنقلة عين.

٤٠٤

وفطركم يوم تفطرون» (١). ولعلّه أراد بقوله اجتهاد الواحد والجماعة ، أنّ الجماعة قد بذلت وسعها. وعموم التّفريط لهم مستحيل وأما الواحد فإذا تبيّن خطؤه وحده فالغالب [١٠٤ / آ] أنّ ذلك لتفريط منه ، فلم يوف الاجتهاد حقّه ؛ وإلّا فلا فرق بين اجتهاد واجتهاد ، وبالله التّوفيق.

والدّفع من عرفة بعد غروب الشّمس ، وكونه مع الإمام أفضل ، وتؤخّر المغرب إلى المزدلفة فيجمع (٢) بينها وبين العشاء مع الإمام (٣) ، ومن صلّاها في رحله فلا بأس ، ومن كان وقوفه بعد دفع الإمام من عرفة صلّى كلّ صلاة لوقتها. وقيل : إلّا أن يرجو الوصول إلى المزدلفة في وقت العشاء ؛ وجمعهما قبل حطّ الرّحال أفضل ، وهي السّنّة ، فإذا صلّوا الصّبح رحلوا إلى منى ، ويقفون بالمشعر الحرام للدّعاء والذّكر إلى الإسفار الأوّل ، فيدفعون ويسرعون ببطن محسّر ؛ فإذا وصلوا إلى منى رموا جمرة العقبة على [حال](٤) مجيئهم من ركوب أومشي ، ولا يرمون بعد ذلك إلّا مشاة ، ويرمونها من أسفلها ، ومكّة على يسارهم ، ووقت رميها طلوع الفجر من يوم الأضحى إلى الزّوال ، والمستحبّ بعد طلوع الشّمس بسبع حصيات مثل حصى الخزف ، ويكبّر كلّما رمى حصاة ، ولا يقف بها بعد الرّمي ولينصرف (٥) ، ولقط الحصى أفضل

__________________

(١) أخرجه الترمذي في الصوم. باب يوم تصومون رقم ٦٩٧ ، وأبوا داود في الصوم ، باب إذا أخطأ القوم الهلال رقم ٢٣٢٤ ـ وابن ماجة في الصوم ، باب ما جاء في شهري العيد رقم ١٦٦٠ بلفظ مغاير قليلا.

(٢) في ت : ليجمع.

(٣) مع الإمام : سقطت من ط.

(٤) زيادة من ت وط.

(٥) في ط : وينصرف.

٤٠٥

من كسره ، ولا يرمي بما قد رمي به ، فإن فعل صحّ ، ولا يجزىء وضع الحصى بغير رمي ولا رمية في غير موضع الرّمي ، ولا مجموعا ، فإذا رمى الجمرة حلّ له كلّ ما منعه منه (١) الإحرام إلّا النّساء والصّيد ، ويكره له الطّيب حتّى يفيض فيتحلّل من الجميع.

وبعد رمي جمرة العقبة ينحر هديا إن كان معه ، ثم يحلق أو يقصّر ، والحلاق أفضل إلّا للنّساء ، فسنّته التّقصير ، وحلاقهنّ مثلة (٢) ، ومن قصّر أخذ من جميع شعره ، ولا يجزئه الأخذ من بعضه (٣) ، وهو كمن لم يقصّر ، يلزمه (٤) الدّم بمضي يوم النّحر ، أو أيّام منى ، أو بانصرام ذي الحجّة على الاختلاف في أشهر الحجّ ، وفي اليوم الثّاني من يوم النّحر ترمى (٥) الجمرات الثّلاث ، ويبدأ بالّتي تلي منى ، ثم بالوسطى ، ثم بجمرة العقبة ، كلّ واحدة بسبع حصيات كما تقدّم في جمرة العقبة ، إلّا أنّ الأخريين ترميان من فوقهما ، ومكّة على اليمين ، والوقوف للدّعاء [١٠٤ / ب] بإثر رمي كلّ واحدة منهما سنة ، فترمى الجمرات في كلّ يوم بإحدى وعشرين حصاة ، فتكمل في (٦) ثلاثة أيّام ثلاثا وستين حصاة ، إلى السّبع الّتي رمى بها يوم النّحر فتمّت سبعين ، ولمن شاء (٧) أن يتعجّل في الثّاني فيسقط عنه رمي الثّالث ، ويكون مبلغ حصاه تسعا وأربعين ، وقيل : يرمي المتعجّل للثّاني والثّالث فتكمل سبعين ؛ والعادة الآن التّعجّل في اليوم الثّاني لجميع النّاس.

__________________

(١) ليست في ط.

(٢) المثلة : العقوبة.

(٣) في ط من بعض شعره.

(٤) في ط : يلزم.

(٥) في ت : رمي.

(٦) ليست في ط.

(٧) في ت : يشاء.

٤٠٦

ووقت رمي الجمار (١) بعد يوم النّحر إذا زالت (٢) الشّمس إلى الاصفرار ، وقيل إلى الغروب ، وما بعد الوقت إلى آخر أيّام منى وقت قضاء يلزم فيه (٣) الدّم على المشهور ، فإذا مضت أيام منى فلا قضاء ، ويلزم الدّم وفاقا. قال مالك : «من ترك حصاة واحدة فعليه دم ، ومن ترك جمرة أو الجمرات كلّها فبدنة ، فإن لم يجد فبقرة ، فإن لم يجد فشاة» (٤).

واختلف في أصل رمي الجمار ، فقيل : إنّ إبراهيم عليه‌السلام عارضه إبليس هنالك (٥) حين أراد ذبح ولده ، فرماه في المواضع الثّلاثة. وقيل : إنّما عارضه وجبريل يريه المناسك فأمر برميه. وقيل : إنّما رمى هنالك الكبش الّذي فدى به إسماعيل ، لأنّه اتّبعه ليأخذه ، فأخرجه هنالك ورماه بالحصى عند كل جمرة ، فصار سنّة ، وروى الدّار قطنيّ عن أبي سعيد الخدريّ رضي‌الله‌عنه : قلنا : «يا رسول الله : هذه الجمار يرمى بها في كلّ عام تحسب أنّها تنقص ، قال : إنّما هو ما تقبّل منها يرفع ، ولولا ذلك لرأيتها أمثال الجبال» (٦).

والمبيت بمنى في ليالي منى سنّة يجب الدّم بتركها اختيارا (٧) ، وكان عمر رضي‌الله‌عنه يبعث رجالا يدخلون النّاس من وراء العقبة (٨) ، ومن تعجّل من منى فلينصرف بإثر الرّمي ، فإن بقي حتّى غابت الشّمس لم يجز له

__________________

(١) بداية المجتهد ١ / ٢٥٦ ـ ٢٥٨.

(٢) في ت : إزالة.

(٣) في ط : فيها.

(٤) الموطأ ٢٨٢ ، والمدوّنة ١ / ٣٢٤.

(٥) ليست في ط.

(٦) المصنف لابن أبي شيبة ٤ / ٣٢ بخلاف يسير في اللفظ.

(٧) المدوّنة ١ / ٣٢٠.

(٨) الموطأ ٢٨٠.

٤٠٧

التّعجّل (١) حتّى يرمي من الغد فإذا رمى في الثّالث انصرف إلى مكّة قبل الصّلاة ، فيصلّي في الطّريق ، واستحبّ مالك لمن يقتدي به أن ينزل بالمحصّب وهو الأبطح. والعادة اليوم النّزول أسفل مكّة كما تقدّم.

ومن المنكر المتواطأ عليه في هذا الأوان أنّك لا تسمع [١٠٥ / آ] بمنى تكبيرا ، وهو سنّة أمر بها المسلمون جميعا في أيام منى إثر الصّلوات اقتداء بأهل منى ؛ إذ من سنّتهم التّكبير في كلّ وقت ، والجهر به وذلك شعارهم في منى.

وأمّا طواف الإفاضة ، فالأفضل أن يؤتى به يوم النّحر ، فيذهب الحاجّ بعد الحلاق إلى مكّة ، فيطوف ثم يرجع من يومه إلى منى ، فيبيت بها اللّيالي المذكورة ، وإن أخّره عن يوم النّحر ، فيختلف في وجوب الدّم على ما تقدّم. وفي المدوّنة : «لادم عليه ، وإن خرجت أيّام منى ، ما لم يطل» (٢) قال الّلخمي : وهو استحسان (٣) للاختلاف فيه ، ولا يجزىء تقديمه قبل الرّمي يوم النّحر ، كالصّلاة قبل الوقت ، ولذلك لا يجزىء عنه طواف القدوم ، وقال مالك فيمن نسيه «إن طاف للوداع أجزأه» (٤) ، وأباه ابن عبد الحكم. قال اللّخميّ : وهو الأصل ألّا يجزىء نفل عن فرض.

قلت : ومحمل قول مالك على أنّه لا يلزم تجديد النّيّة مع كل ركن ، كما قال فيمن دفع من عرفة قبل الغروب ، ولم يخرج منها إلّا بعد الغروب : يجزئه ، وهو لم يرد بالدّفع الوقوف ، لما كان حكم نيّة الحجّ مستصحبا ، وكذلك هنا لمّا

__________________

(١) في ت وط : التعجيل.

(٢) المدونة ١ / ٣١٩.

(٣) في ت وط : الاستحسان.

(٤) الموطأ ٢٩.

٤٠٨

وجب عليه الطّواف أجزأه كل طواف يكون في وقته ، ولا يلزمه تجديد النّيّة لأنّ الحجّ كلّه كعمل واحد ، ونيّة التّنفّل ببعض أركانه على وجه السّهو لا تصرفه إلى النّفل ، كما قال عبد الملك فيمن سلّم من اثنتين ساهيا ثم تنفّل بركعتين أجزأتاه عمّا بقي عليه من صلاته.

والعمل في طواف الإفاضة مثلما تقدّم في طواف القدوم سواء ، إلّا في الرّمل (١) وقد ذكرناه. فإذا عزم على السّفر طاف للوداع وانصرف. فإن أقام بعده ، أعاده إلّا أن يكون أمرا قريبا كشراء الزّاد ونحو ذلك ، وإن لم يودّع رجع إليه ما كان بالقرب ، فإن بعد فلا شيء عليه ، وردّه عمر رضي‌الله‌عنه من مرّ الظّهران.

ويستحسن (٢) للمودّع أن يخرج القهقرى ، أو على جنب (٣) وأن يكثر التّلفّت كما يفعل من فارق معظّما عنده ، محبوبا [١٠٥ / ب] لديه.

ويستحبّ الإكثار من الطّواف. قال مالك : «وهو للغرباء (٤) أفضل من الرّكوع ، والرّكوع لأهل مكّة (٥) أفضل» (٦) قال الشّيخ أبو محمّد : وفي غير كتاب لأصحابنا ، ويستحبّ لمن قفل من حجّ أو عمرة أن يكبّر على كل شرف ثلاث تكبيرات ويقول : «لا إله إلّا الله ، وحده لا شريك له ، له الملك ، وله الحمد

__________________

(١) في ت وط : الرّمي وهو تحريف.

(٢) في ت : ويستحبّ.

(٣) في ت : جنبه.

(٤ ـ ٤) ـ سقطت من ط.

(٥) الموطأ ٢٥٣ ، والمدوّنة ١ / ٣١٨.

٤٠٩

وهو على كلّ شي قدير ، آيبون (١) ، تائبون ، عابدون ، ساجدون ، لربّنا حامدون ، صدق الله وعده ، ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده» (٢).

قلت : قد ثبت به الحديث عن رسول الله ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وذكره مالك في الموطّأ عن نافع عن ابن عمر «أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا قفل من غزو أو حجّ أو عمرة ، فذكره سواء» (٣). وسئل مالك رضي‌الله‌عنه : الحجّ والجوار أحبّ إليك أم الحجّ والقفل؟ قال : ما كان النّاس إلّا على الحجّ والقفل ، ورأيته أعجب (٤) إليه ، ولم يره في ذلك مثل الغزو. وقيل له : فالغزو أحبّ إليك أم الحجّ؟ قال : الحجّ إلّا أن تكون سنة خوف (٥). وروى الدّارقطنيّ عن عائشة قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا قضى أحدكم حجّه فليعجّل الرّحلة إلى أهله فإنّه أعظم لأجره» (٦) وذكر مالك في الموطّأ أنّ عثمان بن عفّان رضي‌الله‌عنه كان إذا اعتمر ربّما لم يحطط عن راحلته حتّى يرجع». (٧)

__________________

(١) آيبون : أي راجعون.

(٢) الموطأ ٢٩١.

(٣) أخرجه البخاري في العمرة ، باب ما يقول إذا رجع من الحج أو العمرة رقم ١٧٩٧ ـ ٣ / ٦١٨ وفي المغازي باب غزوة الخندق رقم ٤١١٦ ـ ٧ / ٤٠٦ ـ ومسلم في الحج باب ما يقول إذا قفل من سفر الحجّ رقم ٤٢٨ ـ والترمذي في أبواب الحج باب ما جاء في ما يقول عند القفول من الحج رقم ٩٥٠ ـ وابن حنبل ٢ / ٥ ـ ١٠ ـ ١٥ ـ ٦٣ ـ ١٠٥ والموطأ ٢٩١.

(٤) في ت : أحب.

(٥) ليست في ت.

(٦) أخرجه الدار قطني في سننه ٢ / ٣٠٠ وابن عدي في الكامل في ضعفاء الرجال ٦ / ٢٢٨٥. وهو في الجامع الصغير ١ / ٣٣ ، وفيض القدير ١ / ٤١٨.

(٧) الموطأ : ٢٣٨.

٤١٠

[فضل الحج]

وأما فضل الحجّ فما ورد فيه أكثر من أن يسعه هذا الموضع ، ويكفيك منه ما روى مالك في الموطّأ عن النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «العمرة إلى العمرة كفّارة لما بينهما ، والحجّ المبرور ليس له جزاء إلّا الجنّة» (١). وقال أيضا : «ما رئي الشّيطان يوما هو فيه أصغر ، ولا أدحر ، ولا أحقر ، منه في يوم عرفة ، وذلك لما يرى من تنزّل الرّحمة ، وتجاوز الله عن الذّنوب العظام ، إلّا ما رئي يوم بدر» (٢) ... الحديث ، وروى مسلم والدّار قطنيّ وغيرهما : (٣) «من حجّ فلم يفسق ، ولم يرفث ، خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمّه». وروى الدّار قطنيّ (٤) أيضا : «من مات بأحد الحرمين ، بعث من الآمنين يوم القيامة» (٥) وروى أيضا : [١٠٦ / آ] «من مات في هذا الوجه من حاجّ أو معتمر ، لم يعرض ، ولم يحاسب ، وقيل له : ادخل الجنّة» (٦) وروى مسلم وغيره : «ما من يوم أكثر من أن يعتق الله تعالى فيه عبدا من النّار من يوم عرفة ، وإنّه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة فيقول : ما أراد هؤلاء» (٧).

__________________

(١) أخرجه مالك في الموطأ : ٢٣٧ والبخاري في العمرة ، باب وجوب العمرة وفضلها رقم ١٧٧٣ ـ ٣ / ٥٩٧ ومسلم في الحجّ ، باب في فضل الحج والعمرة ويوم عرفة رقم ٤٣٧ والترمذي في أبواب الحج ، باب ما جاء في ما ذكر في فضل العمرة رقم ٩٣٣. وابن ماجه في المناسك ، باب فضل الحج والعمرة رقم ٢٨٨٨ والنسائي ٥ / ١١٢.

(٢) أخرجه مالك في الموطأ في جامع الحج ٢٩١ ، قال الزرقاني في شرح الموطأ وصله الحاكم في المستدرك عن أبي الدرداء.

(٣ ـ ٣) ـ سقطت من ت وط.

(٤) أخرجه مسلم في كتاب الحج باب فضل الحج والعمرة رقم ١٣٥٠ ـ والدار قطني ٢ / ٢٨٤ وهو في مجمع الزوائد ٢ / ٣١٩ ـ والمعجم الصغير للطبراني ٢ / ٢٢ ـ وكنز العمال ١٢ / ٢٧٢ ـ والمصنف لعبد الرزاق ٥ / ٤.

(٥) أخرجه الدّار قطنّي في سننه ٢ / ٢٩٨ وهو في كنز العمال ٥ / ١٥. والشفا لعياض ٢ / ٦٨٥ والضعفاء للعقيلي ٣ / ٤١٠.

(٦) أخرجه مسلم في الحج ، باب فضل الحج والعمرة رقم ١٣٤٨ والنسائي ٥ / ٢٥١ والمستدرك للحاكم ١ / ٤٦٤ والبيهقي في سننه ٥ / ١١٨ والدار قطني ٢ / ٣٠١.

٤١١

وقرأت على الشّيخ ، الصّالح ، الزّاهد ، أبي محمّد عبد الله بن يوسف بثغر تونس ـ كلأه الله تعالى ـ وأخبرني الشّيخ (١) الفقيه المحصّل ، أبو زيد عبد الرّحمن بن محمّد بالقيروان ، والشّيخ الصّالح الفقيه أبو محمّد عبد السّلام ابن مزروع البصريّ بمدينة الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أخبرهم ثلاثتهم الشّيخ الصّالح ، الفقيه ، المحدّث ، العالم ، أبو المكارم محمّد بن يوسف بن موسى قال : أنا علي ابن الحسين البغداديّ بقراءتي ، قال : أنبأنا أبو العلاء بن سهل الحافظ ، قال : أنا الحسن بن أحمد الحدّاد ، أنا الحافظ أبو نعيم ، نا فاروق بن عبد الكبير ، نا إبراهيم بن عبد الله البصريّ ، نا حجّاج بن منهال ، أنا عطّاف بن خالد ، نا إسماعيل بن رافع المدنيّ ، عن أنس بن مالك قال : كنت جالسا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مسجد الخيف من منى فأتاه رجل من الأنصار ، ورجل من ثقيف ، فدعوا له دعاء خفيّا (٢) ، ثم قالا : جئناك نسألك ، قال : إن شئتما أخبرتكما بما جئتما تسألاني عنه (٣) وإن شئتما أن أسكت وتسألاني فعلت ، فقالا : أخبرنا نزدد إيمانا ـ أو يقينا ـ الشّكّ من إسماعيل ـ قال الأنصاريّ للثّقفيّ : سل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قال : بل أنت فسل (٤) ، فإنّي أعرف لك حقّك ، فقال الأنصاريّ : أخبرني يا رسول الله ، قال : جئت تسألني عن مخرجك من بيتك تؤمّ البيت الحرام ، وما لك فيه ، وعن طوافك بالبيت ، وما لك فيه ، وعن الرّكعتين بعد الطّواف ، وما لك فيهما ، وعن طوافك بين الصّفا والمروة ، (٥) وما لك فيه ، وعن وقوفك عشيّة عرفة ، وما لك فيه ، وعن رميك الجمار (٦)

__________________

(١) ليست في ت.

(٢) في ط : خفيفا.

(٣) ليست في ط.

(٤) في ت : اسأل.

(٥ ـ ٥) ـ سقطت من ط.

٤١٢

وما لك فيه ، وعن نحرك وما لك فيه ، وعن حلقك (١) رأسك ، وما لك فيه ، وعن طوافك بالبيت بعد ذلك ـ يعني الإفاضة ـ [١٠٦ / ب] وما لك فيه ، قال : إنّي والّذي بعثك بالحقّ لعن هذا جئت أسألك ، قال : فإنّك إذا خرجت من بيتك تؤمّ البيت الحرام لم تضع ناقتك خفّا ولا ترفعه إلّا كتب الله لك حسنة ومحا عنك خطيئة ، وأمّا طوافك بالبيت ، فإنّك لا تضع رجلا ولا ترفعها إلّا كتب الله لك بها حسنة ، ومحا عنك بها خطيئة (٢) ، ورفع لك بها درجة ، وأمّا ركعتاك بعد الطّواف فعتقك (٣) رقبة من بني إسماعيل. وأما طوافك بين الصّفا والمروة ، فعتق سبعين رقبة. وأمّا وقوفك عشيّة عرفة ، فإن الله عزوجل يهبط إلى السّماء الدّنيا فيباهي بكم الملائكة ، يقول : هؤلاء عبادي جاؤوني شعثا غبرا (٤) سفعا (٥) جاؤوني من كلّ فجّ عميق يرجون رحمتي ومغفرتي ، فلو كانت ذنوبكم كعدد (٦) الرّمل أو كعدد القطر ، أو كزبد البحر ، لغفرتها لكم. أفيضوا عبادي مغفورا لكم ، ولمن شفعتم له. وأما رميك الجمار ، فبكلّ حصاة رميتها كبيرة من الكبائر الموجبات الموبقات ، وأما نحرك فمدخور لك عند ربّك ، وأما حلاقك رأسك (٧) ، فبكلّ شعرة حلقتها حسنة ، وتمحى عنك بها خطيئة. قال : يا رسول الله فإن كانت الذّنوب أقلّ من ذلك ، قال : إذا يدّخر لك في

__________________

(١) في ط : حلق.

(٢) ليست في ط.

(٣) في ت وط : فعتق.

(٤) ليست في ط.

(٥) سفعته الشمس والسّموم : لفحته لفحا يسيرا فغيرت لون بشرته وسوّدته.

(٦) في ط : كعدّة.

(٧) ليست في ت.

٤١٣

حسناتك ، وأمّا طوافك بالبيت بعد ذلك فإنّك تطوف ولا ذنب لك ، يأتي ملك حتّى يضع يده بين كتفيك ثم يقول : اعمل لما يستقبل فقد غفر لك ما مضى» (١). قال الشّيخ أبو المكارم : وهذا الحديث له أصل محفوظ من حديث ابن عمر وابن عبّاس ، وعبادة بن الصّامت (٢) والحمد لله.

ومن أعجب ما يروى في فضل الحج ، ما حكاه القاضي عياض وغيره : أنّ قوما من كتامة (٣) قتلوا رجلا ، وأضرموا عليه النّيران طول اللّيل ، فلم تؤثّر فيه ، وبقي أبيض البدن ، فأتى قوم إلى سعدون الخولانيّ (٤) بالمنستير (٥) فعرّفوه بذلك ، فقال : ولعلّه حجّ ثلاث حجج ، فقالوا : نعم ، فقال : حدّثت أنّ «من حجّ حجّة أدّى فرضه ، ومن حجّ حجّتين داين ربّه ، ومن حجّ ثلاث حجج حرّم الله شعره وبشره على النّار» (٦).

__________________

(١) الحديث في مصنف عبد الرزاق ٥ / ١٥ عن ابن عمر بخلاف يسير في اللفظ ، ومجمع الزوائد ٣ / ٢٧٤ والمطالب العالية لابن حجر ١ / ٣١٢ ـ ٣١٤.

(٢) في ط : أبو عبادة : وهو عبادة بن الصامت بن قيس الأنصاري الخزرجي : صحابي شهد سائر المشاهد ، مات بالرملة أو ببيت المقدس سنة ٣٤ ه‍. له ١٨١ حديثا. انظر الإصابة ٢ / ٢٦٠.

(٣) كتامة قبيلة من البربر.

(٤) سعدون الخولاني : اسمه أفكل بن أحمد بن مالك منسوب إلى خولان قبيلة من اليمن مشهورة وهو من أهل القيروان وعظماء علمائها كان يخدم أبا الري واصل بن عبد الله اللخمي المتعبد بقصر حمّة بالمهدية وكان من أهل النسك والفضل والإجابة. رياض النفوس ٣٣٩ ـ نسيم الرياض ٣ / ٥٣٧ ـ ٥٣٨.

(٥) المنسيّر : موضع بين المهدية وسوسة بإفريقية وهو محرس من محارس سوسة. الروض المعطار ٥٥١ وقال الوزان مدينة عتيقة بناها الرومان على ساحل البحر تبعد حوالي ١٢ ميلا عن سوسة.

انظر وصف إفريقيا ٢ / ٨٤.

(٦) القصّة في الشفا ٢ / ٦٨٦ ، وقال الخفاجي : هذا الحديث لا يعرف من رواه. نسيم الرياض ٣ / ٥٣٨.

٤١٤

فصل في حدود الحرم

اختلف في أصلها ، فقيل : أوّل من نصب أنصاب الحرم إبراهيم عليه‌السلام ، وإنّ جبريل عليه‌السلام دلّه على حدوده. وقيل : [١٠٧ / آ] إنّ آدم عليه‌السلام لمّا أهبط (١) إلى الأرض ، خاف من إبليس فاستعاذ منه بالله ، فبعث الله إليه ملائكة يحرسونه ، وحفّوا (٢) حوالي مكّة من كلّ جانب ، فحرّم الله الحرم من حيث كانت الملائكة وقفت (٣). وعن وهب بن منبّه : أنه لما أهبط بكى واشتدّ جزعه. فعزّاه الله بياقوتة من يواقيت الجنّة حمراء ، وضعها له في موضع الكعبة ، ولها نور يلتهب ، وكان ينتهي إلى مواضع (٤) الحرم. فلمّا صار آدم إلى مكّة حرسه الله بالملائكة من سكّان الأرض. وسكّانها يومئذ من الجنّ والشّياطين ، فكانوا يقفون على موضع (٥) أنصاب الحرم. فلما توفي آدم رفعت الياقوتة. وهذا وما كان مثله ممّا لا يقطع بصحّته ، والصّحيح الّذي لا ريب فيه ، هو ما ثبت به الخبر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن مكّة حرام ، حرّمها الله يوم خلق السّموات والأرض ، لم تحلّ لأحد قبلي ، ولا تحلّ لأحد بعدي ، وإنّما أحلّت

__________________

(١) في ط : هبط.

(٢) أي أحاطو وأحدقوا.

(٣) في ط : وقفا.

(٤) في ط : موضع الحرم.

(٥) في ت : مواضع.

٤١٥

لي ساعة من نهار ، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس ، لا يختلى خلاها ، ولا يعضد شجرها ، ولا ينفّر صيدها ، ولا تحلّ لقطتها إلّا لمنشد ، قالوا : يا رسول الله! إلّا الإذخر (١) ، فإنّه لصاغتنا وقبورنا ، قال : إلّا الإذخر» (٢).

وبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عام الفتح تميم بن أسد الخزاعيّ (٣) فجدّد معالم الحرم ، ثم أمر عمر بن الخطّاب رضي‌الله‌عنه بتجديدها ، وجدّدها بعده عثمان ، ثمّ جدّدها عبد الملك بن مروان. وفي نوادر الشّيخ أبي محمّد قال : (٤) ولغير واحد من أصحابنا ، أنّ حدّ (٥) الحرم ممّا يلي المدينة نحو من أربعة أميال إلى منتهى التّنعيم ، وممّا يلي العراق ثمانية أميال إلى مكان يقال له المقطع. وممّا يلي عرفة تسعة أميال ، وممّا يلي اليمن سبعة أميال ، وممّا يلي جدّة عشرة أميال إلى منتهى الحديبية. (٦) وقال مالك : الحديبية من الحرم. وفي كتاب الأزرقيّ نحو ممّا تقدّم إلّا قوله في جهة عرفة ، فإنّ الأزرقيّ قال فيها :

__________________

(١) الإذخر : نبات طيب الرائحة ، كان العرب يجعلونه فوق قبور موتاهم.

(٢) أخرجه البخاري في الجنائز باب الإذخر والحشيش في القبر رقم ١٣٤٩ ـ ٣ / ٢١٣ بخلاف في اللفظ وفي العلم باب كتابة العلم رقم ١١٢ ـ ١ / ٢٠٥ ـ وفي الصيد باب لا ينفر صيد الحرم رقم ١٨٣٣ ـ ٤ / ٤٦ وفي اللقطة باب كيف تعرف لقط مكّة رقم ٢٤٣٣ ـ ٥ / ٨٧ ـ والمغازي رقم ٤٣١٣ ـ ٨ / ٢٦ وفي صحيح مسلم كتاب الحج باب تحريم مكّة وصيدها رقم ٤٤٥ ورقم ٤٤٧ ورقم ٤٤٨ ـ وأبو داود المناسك تحريم حرم مكة رقم ٢٠١٧ وابن ماجة في المناسك ، باب فضل مكة رقم ٣١٠٩ وابن حنبل ١ / ٢٥٣ ـ ٢٥٩ ـ ٣١٥ ـ ٣٤٨ و ٢ / ٢٣٨ ـ والنسائي ٥ / ٢٠٣.

(٣) تميم بن أسد الخزاعي : صحابي أسلم قبل فتح مكة وبعثه النبي يجدّد أنصاب الحرم. ترجمته في الإصابة ١ / ١٨٥.

(٤) ليست في ت.

(٥) في ط : حلّ.

(٦) الحديبية : مدينة سعودية. سميت ببئر هناك عند مسجد الشجرة التي بويع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم تحتها وهي بين مكة والمدينة.

٤١٦

«من طريق الطّائف عن طريق عرفة أحد عشر ميلا». (١) وهو الصّواب ، وقد تقدّم بيان ذلك ، والله الموفق.

وقد قضى الله بأنّي لم ألق بمكّة ـ شرّفها الله ـ من يؤخذ [١٠٧ / ب] عنه علم لشغلي في تلك الأيام بأمور الحجّ ، مع رجائي في الإقامة ، فلم أعط البحث حقّه. وصادفت الشّيخ محبّ الدّين الطّبريّ وهو باليمن لم يحجّ في هذه السّنة ، وذكر لي بها شخص يعرف بالفاروثيّ (٢) ، وفاروث قرية من قرى بغداد على ما حكي لي عنه ، وهو ممّن طالت صحبته للشّيخ الفاضل شهاب الدّين أبي حفص السّهرورديّ (٣) ـ رحمه‌الله ـ فحرصت على لقائه ولم يقض لي بذلك ، وسافر بعد انقضاء الموسم. وبالجملة فقد ضعف العلم بتلك (٤) البلاد لضعف العيش بها ، والنّاس مع الدّنيا وصاحبها ، والحكم لله مدبّر الأمور.

وبعد ما تقدّم ذكره سافرنا من خليص قافلين على طريقنا المتقدّم إلى بدر ، وكان قد خطر لصاحب الرّكب المصريّ أن ينفذ إلى مصر دون زيارة فشقّ (٥) على كثير من النّاس (٦) ، وعظم الأمر عليّ لأنّ كرائي كان من أهل مصر ؛ ثم يسّر الله من ألطافه أن كان من النّاس من قبّح عند صاحب الرّكب

__________________

(١) أخبار مكة ٢ / ١٣١.

(٢) هو أبو تغلب بن أحمد بن أبي تغلب الفاروثي الواسطي ، عالم ، محدّث. سمع من ابن الزبيدي وغيره توفي سنة ٦٩٦ ه‍ وله إحدى وتسعون سنة. ترجمته في شذرات الذهب ٥ / ٤٣٧.

(٣) هو عمر بن محمد بن عبد الله بن محمد التيمي البكري : عالم ، فقيه ، صوفي ولد بسهرورد سنة ٥٣٩ ه‍ ، وقدم بغداد وانتهت إليه تربية المريدين ، وأخذ عنه كثيرون له مصنفات منها : عوارف المعارف ، وله مشيخة في جزء لطيف توفي ببغداد سنة ٦٣٢ ه‍. وفيات الأعيان ٢ / ٤٤٦.

(٤) في ت : في تلك.

(٥) في ت : «فشق ذلك».

(٦) في ت : أكثر الناس.

٤١٧

ما رأى من ذلك ، فانصرف عن الخاطر الأوّل ، ورحل من بدر متوجّها إلى المدينة على وادي الصّفراء ، وهو واد معمور فيه ماء ، ونخل ، وبنيان ، وعمارة جيّدة ، ويتّصل كذلك قريبا من مسافة يوم ؛ ولا عمارة وراءه إلى المدينة نحو أربعة أيام ، والماء بها قليل ، ودون المدينة على نحو من مسافة نصف يوم وادي العقيق (١) ؛ وليس به ماء ولا عمارة ، وحصاه ينحو نحو الحمرة ، وهو وادي ذي الحليفة ، والعقيق خرز أحمر معروف ، واحده عقيقة. وقال ابن دريد : «كلّ شقّ في الأرض فهو عقيق ، وعقّ الشّيء شقّه» (٢) والعقيق أيضا وادي المدينة الّذي فيه أموالها ، ونخيلها ، وذو الحليفة على طريق المدينة بنحو سبعة أميال ، وهي بطحاء سهلة ليّنة ، وفيها أوحي إلى رسول الله (٣) صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّه ببطحاء مباركة. وهي مهلّ أهل المدينة كما تقدّم. وهنالك بئر يعرف ببئر عليّ ، وعليه نزول الرّكب ، وبه آثار (٤) بنيان ، ورسوم داثرة.

وعرب تلك النّاحية من أكفر العرب وأفجرهم ، وقد رأيت شخصا من الحجّاج لما نزل الرّكب تقدّم إلى [١٠٨ / آ] المدينة مغتّرا بقربها ، فما عدّى الرّكب حتّى أخذوه وجرّدوه ، بعد الضّرب المبرّح ، وأثخنوه جراحا ، فتركناه بالمدينة منقطعا ما به حراك ، لا خففّ الله ثقل أوزارهم ، ولا عفا عن قبيح آثارثهم ولا أعفاهم من قوارع الدّهر وخطوبه ، وإنحائه عليهم من كروبه ، بأنواع ضروبه.

__________________

(١) العقيق : واد على ميلين من المدينة وقيل على عشرة أميال منها ، وفيه نخل وقبائل من العرب. انظر معجم البلدان ٤ / ١٣٨ والروض المعطار ٤١٦.

(٢) جمهرة اللغة ١ / ١١٢ عقق.

(٣) في ت : «أوحى الله إلى الرسول».

(٤) في ت : أثر.

٤١٨

[ذكر المدينة المنورة]

وفي ضحى يوم الاثنين الثّامن والعشرين من ذي الحجّة ، وصلنا إلى معهد الفضائل المشهورة ، ومعقد ألوية الدّين المنشورة ، ومحتد المآثر المذكورة المأثورة ، مجمع محاسن الدّارين ، ومنبع مفاخر العصرين ، ومطلع سعادة الثّقلين. روضة أزهار الأنام (١) ، ومشرق أنوار بدر التّمام ، وحمى كرم ما حام حوله حام ، ولا سام بصفقته سام ، حمى آدم فآدم عيشه القشف (٢) بإكرام ، وأولاه مناه ، ولولاه لاستمرّ أذاه ودام ، ولا غرو أن كان أباه وقد أسماه عليه الله (٣) ، فالنّور من النّبت ، والقطر من الغمام. كم حوى من فخر محلّ حواه ، كم نال من أثر آثر رؤاه (٤) ، علا على كل شرف شرف (٥) إليه منتماه ، بل علت به الوهاد على الآكام. محلّ (٦) غدا لبدر الفضائل هالة ، منزل إن نازله وصّاف بالوصف هاله ، قصاراي (٧) القصور ولو كنت ابن أبي هالة (٨) ، وضجّت من طول وصفي الأقلام. لولا شرفه أطرق طرف (٩) الأماكن ، ولولا كرمه لم تكن

__________________

(١) في ط : الأيام.

(٢) القشف : يبس العيش.

(٣) في ت : الله عليه.

(٤) في ط : رآه.

(٥) ليست في بقية النسخ.

(٦) في ط : محلّه.

(٧) في ت : قصارى.

(٨) قال السّهيلي : «أبو هالة : هند بن زرارة ، زوج خديجة قبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وابنه اسمه هند أيضا مات بطاعون البصرة ، وكان قد مات في ذلك اليوم نحو من سبعين ألفا فشغل الناس بجنائزهم عن جنازته فلم يوجد من يحملها ، فصاحت نادبته : واهند بن هنداه ، واربيب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلم تبق جنازة إلا تركت ، واحتملت جنازته على أطراف الأصابع إعظاما لربيب رسول الله».

انظر الروض الأنف ٢ / ٢١٦.

(٩) في ت : شرف.

٤١٩

للفخر تساكن. شرفت مكّة بمولده ومحتده ، ولكنّ مدار الأمر على الختام. يا له محلا هو (١) لسلك الدّنيا واسطة ، (٢) فدع عنك الشّام وحمصه والعراق وواسطه ، (٣) به تمسي القلوب مقسطة (٤) وقد أصبحت قاسطة (٥) ، وبه تحطّ أوزار من قطن أوزار ، وتمّحي الآثام (٦). ما في الأرض أحلى منه حلى وأوصافا ، فانظر به محلّ ناظر التزم إنصافا ، أقعدني القصور عن حقّه وإن كنت وصّافا ، فأخلف إلى خلف ، وقدم (٧) تقدّمني قدّام. فضاء أفيح يقطع البازل الفنيق ، (٨) ومسرح للفضائل يزري بالروّض الأنيق ، وفخر كما التهبت نار في رأس نيق ، فعدّ عن نار غالب (٩) وفخر همّام. (١٠) عشا إليها (١١) من هو من نسب التّوفيق عريق. وعشا عنها (١٢) من هو في [١٠٨ / ب] بحر الخذلان غريق ، لمّا لاحت وأوضحت الطّريق ، شجي (١٣) العدّو بالرّيق ، وعشا بسناها فخبط في ليل الظّلام. واشوقاه إلى تلك العرصات ، أترى لي عودة إليها قبل الممات ، وهل تبرد بها الأحشاء من سموم الزّفرات ، ويقضى لي المقام بذلك المقام : [الوافر]

__________________

(١) ليست في ت وط.

(٢ ـ ٢) ـ سقط من ت.

(٣) المسقط : العادل ، قال تعالى في سورة الحجرات ٩ : (وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ).

(٤) القاسط : الجائر. قال تعالى في سورة الجن ١٤ : (وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ).

(٥) في ط : وتحمى الآثار.

(٦) في ط : وقد.

(٧) الفنيق : الفحل المكرم الذي لا يهان ولا يركب.

(٨) غالب هو أبو الفرزدق ، وكان كريما ، وثمّة كناية عن الكرم بقول العبدري : نار غالب.

(٩) همّام بن غالب بن صعصعة : الفرزدق الشاعر توفي سنة ١١٠ ه‍ ، وكان مشهورا بالفخر.

(١٠) ـ في ت : عليه.

(١١) ـ عشا إليها : قصدها ، وعشاعنها : غفل وأعرض.

(١٢) ـ شجي : غصّ.

٤٢٠