رحلة العبدري

أبو عبدالله العبدري

رحلة العبدري

المؤلف:

أبو عبدالله العبدري


المحقق: د. علي إبراهيم كردي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار سعد الدين للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
الصفحات: ٧٢٨

قلت : وأشبه الأقوال ـ والله أعلم ـ قول من قال : إنّ آدم عليه‌السلام بناه ، إذا لم يقم دليل على صّحة شيء ممّا قيل في ذلك. ودلّ ظاهر الحديث الصّحيح على أنّ البيت كان قبل إبراهيم عليه‌السلام. وذلك أنّه دعا عند وضعه هاجر وابنها إسماعيل بمكّة قبل بنائه البيت بزمان (رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ)(١).

وقد ورد في الحديث أنّه كان هنالك بيت قبل إبراهيم عليه‌السلام ، وقد رأيت أن أثبت الحديث المذكور مختصرا لأنّه يليق بهذا الموضع فأقول : روي عن ابن عبّاس رضي‌الله‌عنهما أنّ إبراهيم عليه‌السلام أنزل هاجر وولدها إسماعيل عليه‌السلام وهو صغير يرضع بمكّة ، ولا ماء بها ولا أنيس ، فقالت : الله أمرك أن تتركنا بهذا الوادي الّذي لا أنيس به؟ قال : نعم ، قالت : إذا لا نضيع معه. وذهب حتّى غاب عنهما فاستقبل البيت ، فقال : ربّ (إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ) إلى (يَشْكُرُونَ) فلمّا عطشت هاجر وابنها ، ورأته يتلوى ، قامت كراهة أن تنظر إليه ، فصعدت الصّفا فنظرت ، فلم تر أحدا ، فهبطت منه ، فلما كانت [٩٧ / آ] في الوادي رفعت ذيلها وسعت سعي المجهود ، حتّى صعدت المروة ، فلم تر شيئا ، ثم رجعت إلى الصّفا. فعلت ذلك سبع مرات ، فلذلك سعى النّاس بينهما. فجاء الملك فضرب بعقبه في موضع زمزم فنبع الماء ، فجعلت تحوّضه (٢) بيدها ، ولو تركته لكان معينا (٣) ثم قال لها الملك : لا تخافا الضّيعة ، فإنّ ها هنا بيتا لله (٤)

__________________

(١) سورة إبراهيم من الآية ٣٧.

(٢) تحوّضه : أي تجعله حوضا يجتمع فيه الماء.

(٣) الخبر في المناسك ٤٨٤.

(٤) في ط : بيت الله.

٣٨١

يبنيه هذا الغلام وأبوه. ثم نزل عندها رفقة من جرهم (١). فلمّا شبّ الغلام زوّجوه فجاء إبراهيم عليه‌السلام ـ وإسماعيل غائب ـ فسأل زوجته عن حالها فشكت ، فقال لها : قولي لزوجك يغيّر عتبة بابه ، فطلّقها ، وتزوج أخرى ثمّ جاء إبراهيم عليه‌السلام فسألها ، فأثنت على الله ، وقالت خيرا ، فقال لها : قولي لزوجك يثبت عتبة بابه ، وسألها عن عيشهم ، فقالت : اللّحم والماء ، فقال : اللهم بارك في اللّحم والماء (٢). قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فلا يخلو عليهما أحد بغير مكّة إلّا لم يوافقاه» (٣). ثم جاء بعد ذلك وإسماعيل يبري نبلا تحت دوحة قريبا من زمزم ، فقال له : إنّ الله أمرني أن أبني له (٤) ها هنا بيتا ، وأشار إلى أكمة ، فعند ذلك رفعا القواعد من البيت ، يبني إبراهيم ، وينقل إسماعيل الحجارة ، فلمّا ارتفع البناء جاءه (٥) في المقام فوقف عليه وهو يبني ، ويقولان : (رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ). (٦)

ويحكى أنه لمّا أمر الخليل عليه‌السلام ببناء البيت قال : يا ربّ بيّن لي صفته ، فأرسل الله سبحانه غمامة على قدر البيت فسارت (٧) معه حتّى نزل مكّة ، فقيل له : ابن على ظلّها ، فبنى ، وكان جبريل عليه‌السلام قد استودع أبا قبيس الحجر الأسود حين الغرق ، فلّما بنى إبراهيم عليه‌السلام أخرجه إليه

__________________

(١) هو جرهم بن قحطان : جدّ يماني قديم كان له ولبنيه ملك الحجاز ، ولما بني البيت الحرام بمكة كان لهم أمره وأول من وليه منهم الحارث بن مضاض الجرهمي. انظر مروج الذهب ٢ / ٤٧ ـ ٤٩.

(٢) انظر الخبر في المناسك ٤٨٣ ـ ٤٨٤.

(٣) أخرجه البخاري في كتاب الأنبياء ، باب يزفّون النّسلان في المشي رقم ٣٣٦٤ ـ ٦ / ٣٩٦ ـ ٣٩٧ ـ ٣٩٨.

(٤) ليست في ط.

(٥) يبدو أن الفاعل سقط للناسخ بعد الفعل «جاءه». ولعله كان «جبريل».

(٦) سورة البقرة الآية ١٢٧ ، وانظر الحديث بكامله في مصنّف عبد الرزاق ٥ / ١٠٥ ـ ١١١.

(٧) في ط : فصارت.

٣٨٢

فوضعه ، قالوا : ولمّا توفي إسماعيل عليه‌السلام دفن في الحجر (١) عند أمّه ، ودبّر أمر الحرم ولده نافث بن إسماعيل ، ثم غلبت جرهم على البيت فانهدم ، فبنته العمالقة ، ثم انهدم ، فبنته جرهم ثم احترق في الجاهلية من تجمير امرأة ، فهدمته قريش ، وكان قصيرا تقتحمه العنز ، فرفعوه نحوا من عشرين ذراعا ، وقصّتهم في بنائه ، وفي الحيّة واختطاف الطّائر لها ، ووضع الرّكن مشهورة ، ذكرها [٩٧ / ب] ابن إسحاق في السّيرة مستوفاة ، وذكرها أبو عمر بن عبد البّر (٢) وغيره.

واختلف في وقت بناء قريش لها فقيل : إنّهم بنوها وقت بلوغ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الحلم ، وقيل : بنوها وهو ابن خمس وعشرين سنة ، وقيل : ابن خمس وثلاثين سنة ، وهو قول ابن إسحاق ، وقال بعضهم : إنّ قريشا بنتها مرّتين ثم احترقت في زمان يزيد بن معاوية ثم استشار ابن الزّبير (٣) النّاس في نقضها وبنائها ، (٤) فنقضها وبناها (٥) ، وزاد في ارتفاعها عشرة أذرع ، وأدخل فيها من الحجر ما ثبت أنّه منها وجعل لها بابين : شرقّيا وغربّيا ، وألصقهما بالأرض حسبما ثبت به الخبر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فلمّا قتل ابن الزّبير كتب

__________________

(١) حجر الكعبة : هو ما تركت قريش في بنائها من أساس إبراهيم وفيه قبر هاجر أم إسماعيل عليه‌السلام. انظر ياقوت ٢ / ٢٢١.

(٢) السير والمغازي لابن إسحاق ١٠٤ ، والمناسك ٤٨٥ ـ ٥٨٩.

(٣) هو عبد الله بن الزبير العوام : فارس قريش في زمنه وأول مولود في المدينة بعد الهجرة. شهد فتح إفريقية زمن عثمان ، بويع له بالخلافة سنة ٦٤ ه‍ عقيب موت يزيد بن معاوية فحكم مصر والحجاز واليمن وخراسان والعراق وأكثر الشام. وجعل قاعدة حكمه بالمدينة. قتل بمكّة سنة ٧٣ ه‍ له ترجمة في فوات الوفيات ٢ / ١٧١ ـ حلية الأولياء ١ / ٣٢٩ ـ صفة الصفوة ١ / ٧٦٤.

(٤ ـ ٤) ـ سقطت من ط.

٣٨٣

الحجّاج (١) إلى عبد الملك يعلمه ببناء ابن الزّبير للكعبة ، وإدخاله فيها ما أدخل من الحجر فكتب إليه عبد الملك يأمره بردّها على ما كانت عليه في زمان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وألّا يغيّر ما زاد في ارتفاعها فنقضها الحجّاج وبناها على ما هي عليه اليوم (٢).

ولمّا كان الرّشيد استشار مالكا ـ رحمه‌الله ـ في ردّها على ما صنع ابن الزّبير كما أراده رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال له (٣) مالك ـ رحمه‌الله ـ : ناشدتك الله يا أمير المؤمنين لا تجعل هذا البيت ملعبة (٤) للملوك ، لا يشاء أحد (٥) منهم إلّا نقض البيت وبناءه ، فتذهب هيبته من صدور النّاس ، فقبل الرّشيد كلامه ، وتركه على ما هو عليه.

فصل

[المسجد الحرام]

وأمّا المسجد الحرام (٦) ـ صانه الله تعالى ـ فإنّه لم يبن قديما ، ولا كان حول البيت حائط. وفي البخاريّ عن عمرو بن دينار وعبد الله بن أبي يزيد قالا : «لم يكن على عهد النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم حول البيت حائط. كانوا يصلّون حول

__________________

(١) الحجاج بن يوسف بن الحكم الثقفي : قائد أموي ، داهية ، خطيب ، ولد ونشأ بالطائف ، ولي مكّة والمدينة والطائف لعبد الملك بن مروان ، ثم العراق. بنى مدينة واسط بين الكوفه والبصرة توفي سنة ٩٥ ه‍. انظر مروج الذهب ٣ / ١١٩ وما بعد ـ وفيات الأعيان ٢ / ٢٩.

(٢) المناسك ٤٩١.

(٣) ليست في ط.

(٤) في ت : ملعبا.

(٥) في ت وط : أحدهم.

(٦) انظر ما قيل في المسجد الحرام في معجم البلدان ٥ / ١٢٤.

٣٨٤

البيت ، حتّى كان عمر فبنى حوله حائطا» (١). قال عبد الله : جداره (٢) قصير فبناه ابن الزّبير.

قلت : والمسجد الحرام (٣) هو ما دار بالكعبة ، وهو المصلّى ، ويطلق على الكعبة ، وهو الظّاهر من حديث أبي ذرّ أنّه «سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أيّ مسّجد على ظهر (٤) الأرض وضع أوّلا؟ قال : المسجد الحرام ، قال : ثم أيّ؟ قال : المسجد الأقصى ، قال : كم [٩٨ / آ] بينهما؟ قال : أربعون سنة» (٥) فظاهر قوله : وضع ، أنّه أراد المبنى ، وهو البيت كما قال تعالى : (أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ). (٦) وهو البيت بلا مرية في قوله تعالى : (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ). (٧) لأنّ القبلة هي البيت. وكان المسجد الحرام على ما ذكر غير محجّر ، والدّور به محيطة ، فاشترى منها عمر ديارا فهدمها ، ووسّع بها المسجد ، وامتنع بعض النّاس من البيع ، فوضع لهم الأثمان في خزانة الكعبة حتّى أخذوها بعد ، وقال لهم : «هو فناء الكعبة ، إنّما نزلتم عليها ولم تنزل عليكم» وأحاط بالمسجد حائطا قصيرا. (٨)

__________________

(١) أخرجه البخاري في مناقب الأنصار ، باب بنيان الكعبة رقم ٣٨٣٠ ـ ٧ / ١٤٦.

(٢) في الأصل : جذره ، وهو تحريف.

(٣) ليست في ط.

(٤) في ت : وجه الأرض.

(٥) أخرجه البخاري في الأنبياء باب ١٠ رقم ٣٣٦٦ ـ ٦ / ٤٠٧ ومسلم في المساجد حديث رقم ١ ـ وابن ماجة في المساجد باب أي مسجد وضع أول رقم ٧٥٣ ـ وابن حنبل ٥ / ١٥٠ ـ ١٥٦ ـ ١٥٧ ـ ١٦٠ ـ ١٦٦.

(٦) سورة آل عمران ٩٦.

(٧) سورة البقرة ١٤٤.

(٨) ورد قول عمر في أخبار مكّة ٢ / ٩٦ ومستفاد الرحلة والاغتراب ٢٤٠.

٣٨٥

ثم كثر النّاس فصنع عثمان كما صنع عمر ، فأكثروا الشّكوى وصاحوا به. فقال لهم : قد فعل عمر مثلما فعلت. فلم يصح أحد ، وما جرّأكم (١) [عليّ إلّا حلمي عنكم ، ثم أمر بهم إلى الحبس ، حتّى كلّمه فيهم عبد الله بن خالد بن أسيد فتركهم]. (٢)

[المزدلفة]

ومزدلفة أوسع وأوطأ من منى ، والمشعر الحرام منها فيما يلي (٣) منى ، والنّزول بالمزدلفة بعد الرّجوع من عرفة حسبما يأتي في فصل ذكر المناسك إن شاء الله. وحدّ مزدلفة ممّا يلي منى : محسّر (٤) ؛ وهو واد هنالك. وحدّها ممّا يلي مأزما عرفة ، وهما جبلان مكتنفان للطّريق ، أفسح من مأزمي منى. قال ابن جريج (٥) قلت لعطاء (٦) : اين المزدلفة؟ فقال : من مأزمي عرفة إلى محسّر. وليس المأزمان منها ، ولكن مفضاهما ، فقف بأيّهما شئت. ومن محسّر إلى

__________________

(١) في ت : وما جرأهم.

(٢) بياض في جميع النسخ والتكملة من أخبار مكّة للأزرقي ٢ / ٩٦. وفي معجم البلدان ٥ / ١٢٤ بخلاف يسير.

(٣) في ت : مما يلي.

(٤) محسّر : موضع بين مكة وعرفة وقيل بين منى وعرفة ، وقيل بين منى والمزدلفة وليس من منى ولا المزدلفة بل هو واد برأسه.

(٥) هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج : فقيه الحرم المكي. كان إمام أهل الحجاز في عصره رومي الأصل ولد بمكة سنة ٨٠ ه‍ وتوفي فيها سنة ١٥٠ ه‍. ترجمته في طبقات ابن سعد ٥ / ١٩٤ ، صفة الصفوة ٢ / ٢١٦.

(٦) هو عطاء بن أسلم بن صفوان : تابعيّ من أجلّاء الفقهاء ولد في جند باليمن ونشأ بمكة ، فكان مفتي أهلها ومحدثهم وتوفي فيها سنة ١١٤ ه‍ ومولده سنة ٧ ه‍. ترجمته في طبقات ابن سعد ٢ / ٣٨٦ ، نكت الهميان ١٩٩.

٣٨٦

مسجد مزدلفة نحو الميل. ومن مسجد مزدلفة إلى مسجد عرفة أربعة أميال ، وهو مسجد كبير على يمين الطّريق وأنت ذاهب إلى الموقف ؛ مستطيل من الشّرق إلى الغرب. وفي غربيّه (١) القبلة ، ويعرف بمسجد إبراهيم عليه‌السلام ، وهو في أوّل عرفة ، وقلّ من يعرفه من الحجّاج. لأنّ الموقف وراءه بميل. وهو على وادي عرفة والوادي هو بطن عرفة. ويقال : إنّ حائطه القبليّ على حدّه ولو سقط ما وقع إلّا فيه. وتوقّف مالك ـ رحمه‌الله ـ فيمن وقف به حتّى دفع ، كأنّه تشكّك هل هو كلّه [٩٨ / ب] في بطن عرفة؟ قال أصبغ : لا يجزئه. ورآه من بطن عرفة.

[عرفة]

قلت : ولعلّ هذا فيمن لم ينو الوقوف بعد خروجه من المسجد ، ويجري فيه الخلاف المذهبيّ في الحاج يمرّ بعرفة ليلة عرفة (٢) ولم ينو الوقوف ، وأمّا لو نوى الوقوف بعد خروجه من المسجد ، لوجب أن يصّح له ، إذ لا يتقدّر الوقوف بعرفة بمقدار ، ويجزىء فيه المرور بنيّة. وليس المسجد على حدّ الحرم. بل ذكر الأزرقيّ «أنّ من حدّ الحرم إلى مسجد عرفة ألف ذراع وست مئة ذراع وخمسة أذرع» (٣). وقد ظنّ قوم الوقوف ببطن عرفة وبطن محسّر لكونهما ليسا من عرفة ومزدلفة. (٤) وقال ذلك الّلخميّ وعياض وليس كما توهّموا ، ولو كان ذلك لم يحتج إلى استثنائها وقال اللّخميّ : يستحبّ النّزول بنمرة (٥) من عرفة ، وذكر نزول النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بها ، ولم يعلم أنّ المسجد وراءها إلى

__________________

(١) في الأصل وط : عرفة. وأثبتّ ما جاء في ت.

(٢) ليست في ط.

(٣) أخبار مكة ٢ / ١٨٨.

(٤) ليست في ط

(٥) نمرة : ناحية بعرفة نزل بها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٣٨٧

الموقف ؛ ونمرة جبل على اليمين إذا خرجت من مأزمي عرفة ، وعليه أنصاب. وتحت الجبل غار ذكروا أنّ النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم نزله «وبين الغار والمسجد ألف ذراع وأحد عشر ذراعا» (١) قاله الأزرقيّ. وعرّفني بالمسجد شيخ حجازيّ عارف بالبلاد ، سألته عنه وعن حدود عرفة ونحن في الموقف ، فأشار إلى البسيط الّذى أحاطت به جبال الموقف ، والّتي منه يمينا ويسارا إلى الّتي فيها هذا المسجد ، والمأزمان من ناحية مكّة. فقال لي : هذا كلّه عرفة ، وهذه الجبال وراءنا هي جبال عرفة. وسألته عن بطن عرفة فقال لي : هو الوادي يصبّ في عرفة وهي هاهنا ، وأشار إلى اليسار ، وسألته عن العلمين المنصوبين على الطّريق في وسط بسيط عرفة ، فقال لي : إنّما بناهما الأمراء احتياطا على النّاس ألّا يتقدّموا فيخرجوا من عرفة قبل غروب الشّمس ، فأوهموهم أنّ العلمين حدّ عرفة وهما في وسطها حتّى يكون من تعجّل لا يخرج من عرفة إلّا بعد الغروب ، وسألته عن مسجد عرفة ، فقال لي : هو مسجد الخليل عليه‌السلام وأشار لي إلى موضعه ودلّني عليه ، فلمّا دفع (٢) النّاس بعد الغروب أسرعت إليه فلم آته إلّا وقد أشرق ضوء القمر فدخلته [٩٩ / آ] وركعت فيه والنّاس على الطّريق بإزائه ولم يعرج أحد إلّا اثنان أو ثلاثة.

والموقف في منتهى بسيط عرفة عند جبالها الشّرقيّة ، وهي وراءه ، وموقف النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ضرس (٣) هنالك بأسفل الجبل منقطع عنه ، وقد بني عليه مسجد مليح مختصر مبيّض ، فهو يلوح على بعد وفيه يقف الإمام ؛ إمام الشّافعية ، ويقف المالكيّ أسفل منه على اليسار.

__________________

(١) أخبار مكة : ٢ / ١٨٩.

(٣) الانصراف من عرفات إلى المزدلفة يسميه الفقهاء الدفع.

(٤) الضّرس : الأرض الخشنة.

٣٨٨

واختلف في أصل تسمية عرفة (١) ، فقيل : لأنّ جبريل كان يري آدم المناسك فلمّا وصل به إلى عرفة ، قال له : أعرفت؟ قال : نعم. وقيل : وصف له جبلها فلما رآه عرفه. وقيل : لأنّ (٢) آدم عليه‌السلام لما أهبط من الجنّة وقع بالهند ، ووقعت حوّاء بجدّة. فاجتمعا بالمزدلفة ، وتعارفا بعرفة ، وتسمّى عرفة وعرفات ، وكلاهما اسم علم ، والتّأنيث (٣) جمع سمّي به فبقي على حاله.

ويكون بعرفة سوق كبيرة يجلب إليها كلّ شيء ويكثر بها الطّعام ، يأتي به قوم من ناحية اليمن يقال لهم : «السّرو» جفاة ، بداة ، مفرطو البداوة ، عرب الألسنة (٤) ، أدم الألوان ، نحاف الأبدان ، أكثرهم يجلب على ظهره ، والعري فيهم فاش إلّا السّترة ، ولهم ألفاظ حوشيّة (٥) ، والدّينار في لغتهم أربعة دراهم ، وقد ذكر ابن جبير (٦) أشياء من جهلهم وعبثهم (٧) في صلاتهم وكانوا إذ ذاك يصلّون ، وأمّا الآن فإنّما يقصدون السّوق بعرفة ومنى (٨) ثم ينصرفون من هنالك إلى بلادهم.

وعدد الأميال من مكّة إلى عرفة اثنا (٩) عشر ميلا لا تزيد ولا تنقص ، قاله الأزرقيّ. (١٠) وكانت الوقفة في هذا العام يوم الأربعاء ، وقد سلّمها الله من الخلاف ، وهو يقع في ذلك كثيرا ، وكان الاختلاف قد وقع فيها في العام الذّي

__________________

(١) انظر الأقوال في تسمية عرفة في مشارق الأنوار ٢ : ١٠٧ ـ معجم البلدان ٤ / ١٠٤ ـ ١٠٥.

(٢) في ت وط : إن.

(٣) في ط : والثاني.

(٤) في ت : الألسن.

(٥) حوشي الكلام : غريبه.

(٦) رحلة ابن جبير ١١٠ ـ ١١٣.

(٧) الكلمة مطموسة في الأصل.

(٨) ليست في ط.

(٩) في الأصل وط : اثني وهو وهم والصواب ما أثبتناه.

(١٠) ـ أخبار مكة ٢ / ١٩٠.

٣٨٩

قبله وهو عام ثمانية (١) وثمانين ، حتّى افترق الموسم (٢) فرقتين ، فوقف بعضهم ـ وهم أكثر المغاربة ـ يوم الجمعة ، ووقف سائر النّاس يوم السّبت وهو كان الوقفة ، ولكنّ أكثر النّاس قد أغراهم الجهل بوقفة الجمعة ، وأغواهم [٩٩ / ب] الشّيطان بها ، حتّى صاروا إذا وجدوا أقلّ ذريعة ، وأضعف سبب إلى تغيير الوقفة ، فعلوا ذلك ليكون وقوفهم يوم الجمعة ، وإن كان (٣) في غير (٤) موضعه ، فيبطلون حجّهم رياء وسمعة (٥) ، وكنت أتلمّح لهم عذرا ، وأقول : لعلّ فيهم من رأى الهلال تحسينا للظّنّ بهم ، مع علمي بأنّ النّاس إنّما ضحّوا في ذلك العام في الغرب والشّرق (٦) ، وفي كلّ أرض يوم الأحد ولم يقع في ذلك خلاف إلّا بعرفة خاصّة ، وما قطع اعتذاري لهم إلّا أن عرّفني الحجّاج غيرهم بأنّهم لم يدّعوا (٧) رؤية الهلال ، وأنّ من يقتدى به فيهم قد سئلوا عن ذلك فلم يدّعوا (٨) رؤيته ، وإنّما زعموا أنّهم علموا ذلك من غير طريق الرّؤية ، تسوّرا على الجهل وتكلّفا للفضول. وهذه العلّة في هذه القضيّة قديمة ، شكاها (٩) ابن جبير في رحلته (١٠) وحكاها على نحو ما اتّفق في هذه سواء. وكذلك حكى من جهلهم وضلالهم ما هو مستّمر إلى الآن في جبل ثور (١١) في الغار الّذي دخله

__________________

(١) ليست في ط.

(٢) في ط : الناس.

(٣) في ط : كانوا.

(٤) ليست في ت.

(٥) يقال : فعل ذلك رياء وسمعة : أي ليراه الناس ويسمعوا به.

(٦) في ت : الشرق والغرب.

(٧ ـ ٧) ـ سقطت من ط.

(٨) في ت : حكاها.

(٩) رحلة ابن جبير ١٤٦.

(١٠) ـ يقع بأسفل مكة ، وهذا الغار مشهور عند الناس ، ووسّع بابه الضّيق لانحباس بعض الناس فيه حوالي سنة ٨٠٠ ه‍. انظر العقد الثمين ١ / ١٠١.

٣٩٠

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو وأبو بكر حين هاجرا من مكّة ، وذلك أنّه غار له بابان في حجر صلد ، وأحدهما ضيّق أقلّ من شبرين فيتكلّفون النّفوذ فيه ، وشاع (١) من جهلهم أنّ من لم ينفذ فيه فهو ولد زنى ، وتقرّر ذلك في معتقدهم الفاسد ، فلا تزال الفضيحة تعلق (٢) بهم من ذلك ، والعقلاء منهم يتجنّبونه ، لأنّ من غصّ فيه ولم ينفذ منه ، يحكمون عليه بما تقدّم. (٣)

ولم أصل إلى جبل ثور لأنّه على مسافة يوم أو نحوها في جنوب مكّة ، ولا يقدر على رؤيته إلّا من جاور بمكّة (٤) ، وكنت عازما على المجاورة بها حسبما تقدّم ، فتجهزّت للمقام ، واكتريت الدّار ، وصرفت بعض من كان معي ليرجعوا إلى الغرب ، وحصلت أسبابي كلّها بمكّة ، وبقيت مع الرّكب منتظرا لخروج السّكّان في المنزل الّذي اكتريته ، وهم بعض الفضلاء من أهل تونس ، سكنوه مجاورين بمكّة ، وعزموا على الرّجوع إلى بلدهم (٥) فتجافيت عن التّضييق عليهم في السّكنى معهم ، وانتظرت [١٠٠ / آ] خروجهم حتّى (٦) قضى الله بفتنة وقعت بين الرّكب وبين صاحب مكّة بأسباب سيرّتها المقادير ؛ فتقاتلوا في اليوم الأوّل وأنا في منزل الرّكب قد ضاق صدري لذلك ، ثم قضى الله أن تحاجزوا ، ولم يقع بينهم قتيل ، فسررت بذلك فلمّا كان من الغد بعثت ببعض أسباب بقيت معي إلى مكّة ؛ فما عدّي (٧) بها الباب حتّى وقعت رجّة (٨)

__________________

(١) في ت وط : وذاع.

(٢) في ط : تتعلّق.

(٣) ذكر هذا ابن جبير في رحلته ٩٤.

(٤) في الأصل مكة.

(٥) في ت : بلادهم. وتجافيت : تباعدت.

(٦) في ت : ثم.

(٧) عدا المكان وتعدّاه : تجاوزه.

(٨) رجّة القوم : اضطرابهم ، واختلاط أصواتهم.

٣٩١

في الرّكب نفر لها الكبير والصّغير إلى قتال أهل مكّة ، بأمر (١) صاحب الرّكب ، فأتاها أمير الرّكب الشّاميّ من الثّنيّة إلى باب المعلاة ، وأتاها أهل مصر من باب الشّبيكة ؛ فما زال القتال بينهم متطاير الشّرار حتّى قتل من أهل مكّة جملة ؛ (٢) وقتل أشخاص من الرّكب (٣) ودخل أهل الشّام مكّة ، حتّى انتهوا إلى المسجد الحرام ونهبوا (٤) بين الصّفا والمروة ، ثم دافعهم أهل مكة حتّى أخرجوهم منها ؛ وقتل بها أشخاص من الحجّاج ، ثم دام القتال بينهم خارج البلد إلى قريب من الظّهر ، فولّى أمير الرّكب عنهم ، وجاء فأمر بالرّحيل ، فأجفل (٥) النّاس (٦) ، وحطّم بعضهم بعضا ، ورحلوا على أوفى ما يكون من الانزعاج ، فلم يمكن إلّا الإجفال معهم خوفا على النّفوس ، وعلى بعض نفقة كانت معنا ، وانصرفت آيسا ممّا كان لي بمكّة ، ثم منّ الله بجبر (٧) أكثره فضلا منه ومنّة ، وذلك أنّ هذا الحال صادف بمكّة ممّن نزل بها من الحجّاج كثيرا نحو أربعة آلاف راحلة ، فلمّا أجفل الرّكب بقوا بمكّة لا يدرون ما يصنع بهم ؛ وعزم صاحب مكّة على أخذهم ؛ وسبّب لهم من عظيم ألطافه أن كان بمكّة شخص من أتراك مصر كان يخدم أميرا من أمرائها ؛ فلما مات الملك المنصور (٨) أخذه ولده المستخلف لاتّهامه إيّاه ، ثم قتله ، فخاف الّذي كان

__________________

(١) في ط : فأمر وهو تحريف.

(٢ ـ ٢) ـ في ت : قتل من الركب أشخاص.

(٣) النّهب : ضرب من الركض.

(٤) أجفل القوم : هربوا مسرعين.

(٥) ليست في ط.

(٦) في ت وط : بخير.

(٧) هو الملك المنصور قلاوون سلفت ترجمته في الصفحة ٣٥١.

٣٩٢

يخدمه ، ففرّ ولحق بمكّة في تلك الأيّام فجعله الله سببا لراحة أولئك المساكين المنقطعين عن الرّكب ، وذلك أنّه (١) لمّا رأى صاحب مكّة عازما على أخذهم قال له : فيم تأخذهم؟ فقال له : في حقوق وجبت لي على ملك مصر ، ولي حظّ في بيت المال منعنيه أعواما ، ولفّق مطالب من خرافات فما زال به (٢) [١٠٠ / ب] التّركيّ حتّى فداهم منه بمال عظيم ، وسرّحهم لم يؤخذ لهم شيء ، وصحبهم التركيّ حتّى أوصلهم أمير الرّكب في خليص ، وكان الواحد من التّونسيين الّذين سكنوا الدّار الّتي الكتريتها قد تخلّف بمكّة ؛ فلمّا أذن لهم في الخروج باع أكثر القمح الّذي تركته بمكّة ، وجاءني بثمنه ، وبالدابّة الّتي ركبتها ، وترك بها من الأسباب ما عجز عن النّظر له ، نفعه الله بجميل قصده ونفعنا به وبأمثاله من الصّالحين بمنّه وكرمه.

__________________

(١) في ت : لأنه.

(٢) ليست في ط.

٣٩٣

ـ فصل فقهيّ مختصر في المناسك ـ

وهي جمع منسك بفتح الميم والسّين وبفتح الميم وكسر السّين ، وهو المتعبّد. والنّسك : العبادة. واختصّ في العرف بمعالم الحجّ ومتعبّداته. والحجّ : القصد (١) ، وخصّه الشّرع بقصد البيت الحرام لأعمال مخصوصة ، في وقت مخصوص ، وهو فرض على الأعيان ، وأحد قواعد الإسلام بإجماع ، مرّة في العمر ، واختلف في العمرة ، فقيل : واجبة ، وقيل : سنّة ، وعملها بعض عمل الحجّ ، وهو الإحرام ، وشرطه فيها أن يكون من الحلّ ؛ والطّواف ؛ والسّعي ؛ والحلاق أو التّقصير ؛ والعمل فيها كالعمل في الحجّ سواء ، ولا تختصّ (٢) بوقت ، إلّا أن مالكا ـ رحمه‌الله ـ كره للحاجّ أن يعتمر في أيّام منى ، وكره الاعتمار مرّتين في السّنة.

[شروط الحج]

وأما الحجّ فشروط وجوبه : العقل ، والبلوغ ، والحرّية ، والاستطاعة واختلف قوله : هل هو على الفور أو على التّراخي مالم يخش الفوت؟ وعليه يأتي الخلاف في اعتبار رضا الأبوين. (٣) وقول ابن بشير : إنّ اعتبار رضا الأبوين لا يدلّ على التّراخي ، وإنّما هو من باب تزاحم الفروض خطأ ؛ إذ «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» (٤) كما لا حقّ لهما في سائر الفروض.

__________________

(١) انظر اللسان حجج.

(٢) في ت وط : ولا يختص.

(٣) انظر بداية المجتهد : ١ / ٢٣٥.

(٤) أخرجه أحمد بن حنبل في مسنده ١ / ٤٠٩ و ٥ / ٦٦. والحاكم في المستدرك ٣ / ٢٣ بخلاف في اللّفط ، وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٥ / ٤٦٠ ، والجامع الصغير للسيوطي ٢ / ٢٠٣ ، وكنز العمال ٥ / ٧٢٩ و ٧٩٧ و ٦ / ٦٦ ، وفيض القدير ٦ / ٤٣٢.

٣٩٤

ومن يأمر من الأبوين بترك فريضة من فرائض الله فحقّه العقوق ، لا الطّاعة. ولكنّه جاء قول مالك ـ رحمه‌الله ـ فيمن منعه أبواه ، ينتظر العام بعد العام ، على أنّه لم يتعيّن عليه التوجّه كما قال اللّخميّ. وعليه يدلّ فعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، [١٠١ / آ] فإنّه لم يحجّ في العام الّذي فرض فيه الحجّ ، ولو كان على الفور ما أخّره عنه؟ والاستطاعة : القدرة على الوصول من غير مشقّة خارجة عن المعتاد. وسئل مالك أهي الزّاد والرّاحلة ، فقال : (١) لا والله ، إنّما ذلك على قدر طاقة النّاس ، قد يجد الرّجل الزّاد والرّاحلة ، ولا يقوى (٢) على المسير (٣) ، وآخر يقوى أن يمشي (٤) على رجليه ، وربّ صغير أجلد من كبير ، ولا شيء أبين ممّا قال الله عزوجل : (مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً)(٥) واحتجّ الّلخميّ لذلك (٦) بقوله تعالى : (يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ)(٧) وقوله : (ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ)(٨) ، واختلف المذهب في السّائل إذا كان يعطى هل يجب عليه؟ ومحمله على من جرت عادته بذلك.

وقال ابن القاسم فيمن له ضيعة (٩) : يبيعها ويترك أولاده في الصّدقة ، وقيل : إلّا أن يخاف عليهم الضّيعة (١٠) ، وهو تفسير ، ويجب على من وراء

__________________

(١) قول الإمام مالك في بداية المجتهد ١ / ٣٣.

(٢) في ت : ولا يقدر.

(٣) في ط : على السير.

(٤) في ط : أن يسير.

(٥) سورة آل عمران ٩٧.

(٦) ليست في ت.

(٧) سورة الحج ٢٧.

(٨) سورة النحل ١٢٣.

(٩) الضّيعة : الأرض المغلّة.

(١٠) ـ الضّيعة : الإهمال.

٣٩٥

البحر ركوبه إليه إذا كان الغالب السّلامة ، ولا تعطّل فيه الصّلاة. وقال مالك : أيركب حيث لا يصلّي ، الويل لمن ترك الصّلاة. ولا يجب ركوبه على المرأة لأنّها تنكشف ، وفي كتاب محمّد : ولا المشي إذا بعدت المسافة وإن قويت عليه ، لأنّ مشيها عورة ، واستحسنه اللّخميّ في ذات المنظر بخلاف من لا يؤبه لها ، ولا تخرج إليه إلّا مع زوج ، أوذي محرم ، أو رفقه مأمونة ، ويسقط وجوب الحجّ بالخوف على النّفس وعلى المال ، واختلف في أخذ ما لا يجحف.

[أركان الحج]

وأركان الحجّ الّتي لا بدّ من الإتيان بها (١) أربعة وهي : الإحرام ، والسّعي (٢) ، والوقوف بعرفة (٣) ، وطواف الإفاضة (٤). وألحق بها عبد الملك جمرة العقبة (٥). وحكى عنه ابن رشد زيادة الوقوف بالمشعر الحرام (٦) ، وهو غريب من قوله. وقد حكى عنه اللّخميّ خلافه ، وحكى ركنيّته من غير المذهب عن

__________________

(١) في ت : لابد منها.

(٢) السّعي : يكون بالسير سبعة أشواط بين الصفا والمروة مع الابتداء بالصفا ، وقد اختلفت المذاهب في حكم وجوبه. انظر بداية المجتهد ١ / ٢٥١ ـ ٢٥٢.

(٣) الوقوف بعرفة يكون بعد الغروب وهو من أركان الحجّ ، ( لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : الحجّ عرفات). انظر بداية المجتهد ١ / ٢٥٣ ـ ٢٥٤.

(٤) طواف الإفاضة : يقع بعد رمي جمرة العقبة يوم النحر ، وقد أجمع العلماء على وجوبه ، وقالوا بفوات الحج بفواته ، وهو المعني بقوله تعالى : (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ ، وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) سورة الحج ٢٩. انظر بداية المجتهد ١ / ٢٥١.

(٥) جمرة العقبة : في آخر منى مما يلي مكة ، وليست العقبة التي تنسب إليها الجمرة من منى. انظر معجم ما استعجم ١ / ٣٩٢.

(٦) الوقوف بالمشعر الحرام : المراد بالمشعر الحرام الذي بمزدلفة ، وهو الذي يستحب للحاج الوقوف عنده للدعاء والذكر غداة النحر.

٣٩٦

الشّعبيّ والنّخعيّ وصوّبه. ويفوت الإحرام بفوات الوقوف ، وذلك بطلوع (١) الفجر يوم النّحر ، ولا يفوت السّعي ولا الطّواف ، ويرجع إليهما من بلده ، والإحرام نيّة التزام حكم الحج [١٠١ / ب] أو العمرة مع الشّروع في العمل بالتّلبية ، أو المشي ، لا بتقليد الهدي ونحوه. وقيل : التّلبية كتكبيرة الإحرام. وقيل : ينعقد بمجرّد النّيّة ، وضعّف. وليس عليه أن يسمّى حجّا ولا عمرة بلفظه ، وكرهه في المدوّنة (٢) ، وقد بوّب البخاريّ على جوازه وذكر حديث جابر (٣) : «قدمنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونحن نقول لبيك بحجّ ، فأمرنا أن نجعلها عمرة» (٤).

ومن سنّة الإحرام كونه بعقب الغسل ، والصّلاة. وأغسال الحجّ ، ثلاثة : للإحرام ، ولدخول مكّة ، وللرّواح إلى الموقف بعرفة. واستحبّه (٥) بعضهم للمناسك كلّها ، ولا يكون التدلّك إلّا في الأوّل.

قالوا : وللإحرام ميقاتان ؛ زمانيّ ، ومكانيّ. فالزّمانيّ شوّال وذو القعدة وعشر ذي الحجّة ، وقيل (٦) : كلّه. وقيل : إلى آخر أيام منى ، وفائدة ذلك في وجوب الدّم عن تأخير الإفاضة والحلاق ، ومن قدّم الإحرام على الزّمانيّ كره

__________________

(١) في ت وط : بعد طلوع.

(٢) المدوّنه لعبد الرحمن بن القاسم رواها عن الإمام مالك ، وهي من أجلّ كتب فقه المالكيه ، وهو مطبوع.

(٣) هو جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام الخزرجي الأنصاري ، صحابي من المكثرين في الرواية عن النبي له في البخاري ومسلم ١٥٤٠ حديثا توفي سنة ٧٨ ه‍. له ترجمة الإصابة ١ / ٢١٤ ، والاستيعاب ١ / ٢٢٢ ـ ٢٢٣.

(٤) أخرجه البخاري في الحج باب من لبى بالحج وسمّاه رقم ١٥٧٠ ـ ٣ / ٤٣٢ ـ ومسلم في الحج ٢ / ٨٨٥ ـ ٨٨٦ وابن ماجة رقم ٢٩٨٠ كتاب الحج باب فسخ الحج. وابن حنبل ٣ / ١٤٨ ـ ٢٦٦ ـ ٣٦٥ من طرق مختلفة.

(٥) في ت : واستحسنه.

(٦) قاله مالك وقوله في بداية المجتهد ١ / ٢٣٨.

٣٩٧

له ، وانعقد على المشهور ، وإنّما لم يكن شرطا في صحته كوقت الصّلاة ، لأنّ هذه الآية إذا نظمت بالّتي قبلها على ما تقتضيه الحاجة إلى بيان الأولى ، كان ذكر الأشهر بيانا لمعنى التّمتّع ، إذ لو لم تتعيّن المدّة الّتي للحجّ ، لم يفهم معنى التّمتّع ، فكان المعنى مدّة الحجّ أشهر معلومات أي المدّة الّتي إذا وقعت (١) فيها العمرة صحّ التّمتّع. فالآية إنّما جاءت لبيان اختصاص الأشهر بالحجّ ، لا لاختصاص الحجّ بالأشهر ومن خصّه بها احتاج إلى دليل ، ولا يجده. وأمّا الأية فقد ظهر معناها ، وبه يستقيم حمل لفظ الحجّ على وجههّ أي المدّة الّتي هي حمى الحجّ ، لا تطلق فيها العمرة أشهر معلومات ، ولا يدلّ كونها حمى الحجّ لا يكون في غيرها. وعلى تأويلهم يكون لفظ الحجّ مصروفا عن وجهه إلى معنى الإحرام ، إذ لا يصحّ إتمام الحجّ وإكماله إلّا في الشّهر الثّالث ، وأمّا الّذي يصحّ في الأشهر كلّها ، فابتداؤه خاصة ، فالتّقدير على قولهم : وقت ابتداء الحجّ أشهر معلومات ، وعلى قولنا : حمى الحجّ أشهر معلومات ، والكلام كلّما قلّ فيه الإضمار كان أحسن ، لا سيما وآية التّمتّع مطالبة بالبيان (٢) [١٠٢ / آ] ومقتضية لارتباطها بالثّانية كما تقدّم. فتأويلنا يترجّح بالوجهين مع أنّه يكفي في إسقاطه دعواهم مجرّد الاحتمال في معنى الآية ، ويرجع هذا إلى أنّ تسميتها ميقاتا مجاز. وحقيقة الزّمانيّ يوم عرفة فتدبّره والله الموفّق.

__________________

(١) في الأصل : أوقعت.

(٢) في ت : للبيان.

٣٩٨

والمكانيّ خمسة (١) : ذو الحليفة لأهل المدينة ، والجحفة لأهل الشّام ، ومصر والمغرب ، ويلملم (٢) لأهل اليمن ، وقرن المنازل لأهل نجد ، وذات عرق لأهل العراق ، ويكره (٣) أيضا تقديم الإحرام قبلها ، وينعقد ، وقيل : هو جائز لأنّ التّوقيت تأكيد لاحترام البيت ألّا يدنو منه إلّا محرم. فكلّما كان الإحرام (٤) من موضع أبعد كان الاحترام أكمل ، ولذلك أحرم الصّحابة وغيرهم قبل المواقيت. وقيل : يكره بقرب الميقات بخلاف بعده ، وقد مضى ذكره ، ومن تعدّى الميقات مريدا للحجّ أو العمرة ولم يحرم فعليه دم.

ومن سنة الإحرام التّلبية (٥) دبر الصّلوات ، وعلى كلّ شرف ، وبطن واد ، وعند لقاء الرّفاق ، ولا يلحّ ولا يرفع به صوته في المساجد إلّا (٦) المسجد الحرام ومسجد الخيف ، والمساجد الّتي بين مكّة والمدينة ، لأنّها غير معمورة. ومبدؤها إذا استوى على راحلته ؛ وللرّاجل (٧) إذا شرع في المشي ، ولا يلبّي في الطّواف ، ومنتهاها الرّواح إلى الموقف ، وقيل رمي الجمرة ، ويقطعها المعتمر إذا دخل الحرم ، إلّا أن يكون إحرامه من آخر الحلّ فحتّى يدخل مكّة ، وقيل حتّى يشرع في الطّواف.

__________________

(١) انظر تفصيل ذلك في بداية المجتهد ١ / ٢٣٧.

(٢) يلملم : موضع على ليلتين من مكة وهو ميقات أهل اليمن ، قيل هو موضع على مرحلتين من مكة. انظر مسالك الأبصار ١٢٢. وهو طريق الساحل الشمالي الجنوبي من الحجاز ويسمى هذا الجبل في هذا اليوم «السعدية». انظر أخبار مكة ٢ / ٣١٠.

(٣) في ط : ويكون.

(٤) في ط : للإحرام.

(٥) انظر المناسك : ٤٢٩ وبداية المجتهد ١ / ٢٤٧.

(٦) زاد في ت : إلّا في.

(٧) في ط : وللراحل بالمهملة.

٣٩٩

ويجتنب المحرم : النّساء ، والطّيب (١) ، والصّيد ، وقتل القمل ، وحلق الشّعر (٢) ونتفه ، وقصّ الأظفار (٣) ، وغسل الوسخ ، ولبس المخيط ، والخفّين للرّجل ، والقفّازين لهما ، والمصبوغ بالورس (٤) أو بالزّعفران (٥) ، وتغطية الوجه والرّأس ، وأكل ما صيد لأجله ، وعقد النّكاح ، والخطبة لنفسه أو غيره.

ويستحبّ أن يدخل مكّة من الثنيّة العليا. ويخرج من السّفلى ، والمسجد من باب بني شيبة ، ولا يركع بل يبدأ بالحجر الأسود فيستلمه بفيه إن قدر ، وإلّا وضع يمينه عليه ثم يضعها [١٠٢ / ب] على فيه بلا تقبيل ، فإن كثر الزّحام كبّر بإزائه ومضى في طوافه والبيت على اليسار ـ سبعة أشواط : ثلاثة خببا (٦) ، ثم أربعة مشيا (٧) ، ولا خبب في غير طواف القدوم ، ولا على النّساء ، لا يقبّل اليمانيّ ، وإنّما يضع يده عليه ثمّ على فيه ، ثمّ يصنع بالأسود كما تقدم ، وكذلك في كلّ شوط ، ويطوف من وراء الحجر ، ولا يركب إلّا من علّة ، ولا يطوف من وراء زمزم ، ولا في السّقائف ، ولا محدثا ، وأجاز (٨) الطّواف بخفّيه ونعليه ، ولا يدخل بهما البيت ، واختلف عنه في الحجر ، ولا يكثر قراءة القرآن ، وليسرّ بها ، ولا ينشد شعرا ، ولا يتكلّم إلّا لحاجة ، ولا يكبّر (٩) ، ولا يلبّي ،

__________________

(١) إن تطيّب ناسيا فلا شيء عليه ، وإن تطيّب عامدا فعليه الفدية. انظر المناسك ٤٣٠.

(٢) إن احتاج إلى حلق رأسه فحلقه فعليه الفدية. انظر المناسك ٤٢٩ ، وكذلك إذا قصّ أظفاره فعليه فدية والعمد والخطأ فيهما سواء. انظر المناسك ٤٣٠.

(٢) إن احتاج إلى حلق رأسه فحلقه فعليه الفدية. انظر المناسك ٤٢٩ ، وكذلك إذا قصّ أظفاره فعليه فدية والعمد والخطأ فيهما سواء. انظر المناسك ٤٣٠.

(٣) الورس : نبت أصفر يكون باليمن تتّخذ منه الغمرة للوجه.

(٤) الزعفران : صبغ معروف.

(٥) الخبب : ضرب من العدو.

(٦) بداية المجتهد ١ / ٢٤٨.

(٧) في ت : واجيز.

(٨) ليست في ت.

٤٠٠