رحلة العبدري

أبو عبدالله العبدري

رحلة العبدري

المؤلف:

أبو عبدالله العبدري


المحقق: د. علي إبراهيم كردي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار سعد الدين للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
الصفحات: ٧٢٨

مغان حداني الشّوق والوجد نحوها

مقيما فأعطيت المقادة وانسقت (١)

وكنت على ألّا أفارق ربعها

ولكنّني من شؤم ذنبي عوّقت

٥ ـ كأن لم يكن لي في المحصّب منزل

به من ضنى جسمي وقلبي أفرقت (٢)

ولم يصف عيشي بالصّعود على الصّفا

ولا أنّني من صفو حال بها ذقت (٣)

ولا رحت كالنّشوان من طرب به

ومن غير كاسات الهوى ما تفّوقت (٤)

أباري غصون البان إمّا تمايلت

لأن صرت مجموعا وكنت تفرّقت (٥)

أطالع من ذاك الجمال مطالعا

بها طال في جنح الدّجا ما تأرّقت (٦)

١٠ ـ وكنت كغصن قد ذوى من صدى به

فلمّا حللناها رويت وأورقت

وقد ان أن نقيّد من وصف هذا البلد الشّريف زاده الله جلالة ، نبذة موجزة تليق بهذا التّقييد ممّا لعلّه يشفي غليل المتشوّف ، ويحلى بعين النّاظر المنصف ، فللكلام (٧) صور متباينة كالإنسان ، ويختلف على قدر اختلافها

__________________

(١) في ت : جدا بي. والبيت ساقط من ط.

(٢) المحصّب : موضع بين مكة ومنى ، الفروق : الشديد الفزع.

(٣) الصفا : ربوة يرتقي عليها الحاجّ حتى يحاذي الحجر الأسود ثم يكبّر ويهلّل ويدعو ويشرع في السعي بينها وبين المروة ، انظر المناسك ٣٠٥.

(٤) تفوّق شرابه : شربه شيئا بعد شيء.

(٥) الجمع والتفريق : نوع من البديع ورّى به المؤلف هنا ، والجمع : هو أن يجمع بين متعدّد ، اثنين أو أكثر في حكم واحد كقوله تعالى : (الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا). انظر معجم البلاغة العربية ١٤٧. والتفريق : أن تفرق بين أمرين من نوع واحد في اختلاف حكمها كقوله تعالى : (وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ) ، انظر معجم البلاغة العربية ٦٣٩.

(٦) في ط : ما تأملت ، وصرف مطالع ضرورة.

(٧) في ط : مالكلام.

٣٦١

الاستحسان ، وقد (١) كنت تجهزّت للمقام بها حتّى أشفي غليلا ، واتصفحّها بالتّأمّل جملة وتفصيلا ، فأزعجت الأقدار المانعة ، وزحزحت عن توطّنها الأحداث الواقعة ، فلم يمكن من وصفها إلّا ما اختلس الطّرف منتهبا ، وما اختطف اللّحظ الّذي غادر [٩١ / ب] القلب ملتهبا. وعلى ما كان من حال ، فلا يسع الإهمال والإغفال ، فليكن اقتصار (٢) إن لم يكن احتفال ، وقد قيل في المثل الّذي غبرت به الأعصار «ألجحش لمّا بذّك الأعيار» (٣). وها أنا أصف على قدر الإمكان ، فأقول والله المستعان : إن مكّة ـ شرفّها الله ـ من عظيم آيات الله (٤) في الأرض (٥) الدّالة على عظيم قدرته ، فإنّها بلد يسبي عقول الخلق ، ويستولي على قلوبهم ويتملّك رقّها من غير سبب ظاهر ، فالنّفوس إليه نزّاعة من كلّ أرض ، ولا يدخله أحد إلّا أخذ بمجامع قلبه مع عدم الدّواعي إلى ذلك ، ولا يفارقه إلّا وله إليه حنين ، ولو أقام به على الضّنك سنين ، لا يملّ سكناه ، ولا تضيق النّفس بلزوم مغناه. على أنه بواد كما قال الله عزوجل : (غَيْرِ ذِي زَرْعٍ)(٦) وأرضه (٧) جدبة كلّها حجر ، لا ماء ولا شجر ، وفي أصحابها بعض جفاء وقلّة ارتباط للشّرع. وهم في الغالب يؤذون الحجّاج

__________________

(١) ليست في ت.

(٢) في ط : اقتصاد.

(٣) في ت : لما فاتك ، وهو في أمثال أبي عبيد ٢٣ ، والمستقصى ١ / ٣٠٩ وجمهرة الأمثال ١ / ٣٠٥ والميداني ١ / ١٦٥. واللسان : جحش. ويضرب هذا المثل في قناعة الرجل ببعض حاجته دون بعض ، ونصب الجحش بفعل مضمر أي : اطلب الجحش.

(٤) ليست في ت.

(٥) ليست في ت.

(٦) سورة إبراهيم من الآية ٣٧.

(٧) في ط : أرضها.

٣٦٢

ويحيفون (١) على المجاورين بها ، وقلّما ترى منهم من يتبرّم بسكناها على ما خيلت (٢) ، ولا من يسرّ بالانفصال عنها. وما فارقها أحد إلّا وفي نيّته الرّجوع إليها ، وهذا أمر أطبق عليه السّالف ممّن رآها والخالف ، واتّفق عليه المؤالف ممّن شاهدها والمخالف. لا يخلو فكر من تصوّرها ، ولا خاطر من توهّمها ، فهي نصب الأعين وحشو القلوب ، حكمة من الله وتصديقا لدعوة خليل الله (٣). يحضرها الشّوق إليها وهي غائبة ، ويدنيها وهي نائية. ويهون ما يتكلّف إليها من المشاقّ ، وما يعانى إليها من العناء ، فكم من ضعيف يرى في الطّريق إليها الموت عيانا ، ويبصر فيها الحين مشاهدة ، ويلقى فيها الرّدى مكافحة ، يطوي اللّيالي والأيّام وتطويه ، وتتقاذف به الفلوات والبيد ، يسقط في كلّ مرحلة جزء من قواه ، وينهدّ في كلّ منهلة جانب من جثّته. يقدم على الرّدى وهو يشاهده ويترامى إلى الفناء [٩٢ / آ] وهو يعانيه ببدن عرقه (٤) الجهد وأنضاه النّصب ، وأذواه (٥) سموم (٦) الهواجر وصرّ (٧) البكر ، يباشره الأذى (٨) من غير حائل ، وينافحه من غير جنّة (٩) ، رجله مطّيته ، وأخمصه حذاؤه ، وبشرته دثاره. لا زاد إلّا ما ترشح به الأكفّ ، ولا ماء إلّا ما

__________________

(١) الحيف : الجور والظلم.

(٢) في ت : جبلت.

(٣) يشير إلى دعاء ابراهيم عليه‌السلام إذ قال : (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ) سورة ابراهيم ٣٧.

(٤) عرقه : أنحله. وأكل ما عليه من اللّحم.

(٥) في ت : أرداه.

(٦) السّموم : الريح الحارة.

(٧) الصّرّ : شدة البرد.

(٨) في ت : الردى.

(٩) الجنّة : الوقاية والسترة.

٣٦٣

يتبّرض (١) في المناهل. فلا يصل إليها إلّا وهو نضو (٢) دنف. قد سامه ليبتاعه التّلف. فما هو إلّا أن يردّه امتداد الأجل إلى أرضه ، ويرميه إلى مسقط رأسه ، حتّى تراه مستعّدا لمثلها ، مشيح (٣) العزم في الإقدام ثانية عليها. لم يثن عزمه ما كابده من البرحاء (٤) ، ولا كسر من حدّه ما شاهده من فرط العناء ، فيبتدئها (٥) جديدة ، ويفرّ عنها جذعة (٦) ، ويستقبلها مستأنفة ، كأنّه لم يذق لها مرارة ، ولا رأى من دلائل نصبها أمارة ، وهل هذا إلّا صنع إلهي ، وأمر ربّانيّ ، ودلالة (٧) لا تشوبها شبهة ، ولا تمرّ بها مرية ، تقوّي بصيرة المستبصر ، وتسدّد فكرة المتفكّر ؛ هذا وكم من آية لها تبهر العقول ، ودلالة تشاهد على وفق المنقول.

[حدود مكّة]

وهي ـ شرّفها الله ـ بلدة كبيرة متّصلة البنيان في بطن واد بين جبال محيطة بها ، لا يراها القاصد إليها حتّى يشرف عليها. والجبال المحيطة بها ليست شامخة ، وبنيانها آخذ في الاستطالة مع الوادي ، ولا سور لها ، إلّا أنّها حيزت من أعلى الوادي وأسفله بحائطين من صخور لا ملاط لها ، قطعا (٨) الوادي عرضا حتّى وصلا بين الجبلين ، وهما على فسحة من البلد. وأعلى

__________________

(١) هو يتبرّض الماء : كلما اجتمع منه شىء غرفه.

(٢) النضو الدّنف : المريض الهزيل.

(٣) أشاح الرّجل : جدّ في الأمر.

(٤) البرحاء : الشدّة والمشقّة.

(٥) في ت : فيبتدعها.

(٦) في ط : جزعة ، وهو تحريف ؛ والجذعة : الشابّة الفتيّة.

(٧) في ت وط : ودلائل.

(٨) في ت : قطعها.

٣٦٤

الوادي ناحية المشرق ، وأسفله ناحية المغرب ، ولكنّ دخول الحجّاج من أعلاه حسبما تقدّم ـ ولها ثلاثة أبواب : باب المعلاة (١) من أعلاها ، وباب الشّبيكة (٢) من أسفلها ، والثّالث باب اليمن (٣) من جهة الجنوب.

وفي شرقها المناسك كلّها : عرفة ، ومزدلفة (٤) ، ومنى على ما يتبين إن شاء الله. وفي الجنوب منها جبل أبي قبيس (٥) وفي الشّمال الجبل الأحمر (٦) ، وقعيقعان (٧). وأبو قبيس والأحمر هما الأخشبان ، والأخشب ما غلظ من [٩٢ / ب] الأرض ، وكذلك كلّ غليظ يقال له : أخشب وخشب. ومنه أخشبا مكّة ، وأخشبا منى ، أي جبلاهما. ومن جهة أبي قبيس أجياد الكبير ، وأجياد الصّغير : شعبان هنالك. وبها الخندمة (٨) وهي جبل مذكور في الحديث ، وفي

__________________

(١) باب المعلاة : وهو عند الثنية المعروفة بكداء ومنه يخرج إلى المقبرة الموصوفة بالبركة. انظر مستفاد الرحلة ٢٣٢.

(٢) باب الشّبيكة : أحد أبواب مكة مبني على ثنية كداء ، وهو باب العمرة وكان يعرف قديما بباب الزاهد وعليه طريق مدينة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجدّة والشّام ومنه يتوجه إلى التنعيم. انظر مستفاد الرحلة ٢٣٣.

(٣) في الأصل : اليمين. وباب اليمن : وهو باب المسفل ، وعليه طريق أهل اليمن ومن خرج منه إلى اليمن يمر على كديّ. انظر مستفاد الرحلة ٢٣٣.

(٤) المزدلفة : موضع لمبيت الحجاج ، ومجمع للصلاة إذا صدروا من عرفات بين بطن محسّر والمأزمين والمسافة بينها وبين منى ثلاثة أميال. انظر المناسك ٥٠٦.

(٥) جبل أبي قبيس : هو الذي انشق فيه القمر لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويقع فوق الصفا ويطل على المسجد الحرام. انظر المناسك ٤٧٤ ـ ٤٨١. وفيه كان الركن الأسود مستودعا عام الطوفان. انظر العقد الثمين ١ / ٩٩.

(٦) الجبل الأحمر : يقع في جهة الشمال من مكة شرفها الله على قعيقعان. انظر مشارق الأنوار ١ / ٥٨ ، أخبار مكة ٢ / ٢٦٧.

(٧) جبل قعيقعان : جبل بينه وبين مكة اثنا عشر ميلا على طريق الحوف إلي اليمين ، ويشرف على الكعبة من شرقيها.

(٨) الخندمة : جبل بمكة.

٣٦٥

الشّعر المشهور للهارب (١) يوم الفتح قال : (٢) [الرّجز]

إنّك لو شهدت يوم الخندمه (٣)

إذ فرّ صفوان ، وفرّ عكرمه

ومن جهة قعيقعان (٤) يتصل الجبل إلى الحجون ، وهو (٥) ما أشرف منه على المقبرة ، ويقال : هو المقبرة على ما تقدّم ، قال الحارث بن عمرو بن مضّاض (٦) الجرهميّ : (٧) [الطويل]

كأن لم يكن بين الحجون إلى الصّفا

أنيس ولم يسمر بمكّة سامر

وقال المعرّيّ : (٨) [الطويل]

فلا يبك مكيّ لفقد حجونه

لكلّ بلاد مصرع وحجون

__________________

(١) هو حماس بن قيس بن خالد أحد بني بكر.

(٢) البيتان في المناسك ٤٧٤ ، وتاريخ الرسل والملوك ٣ / ٥٨ ـ وابن أبي الحديد ٥ / ٣٠٤ ـ ومعجم البلدان ٢ / ٣٩٣ والروض المعطار ٢٢٣ ـ وغرر الخصائص الواضحة ١ / ٤١٩ ـ والعقد الثمين ٦ / ١١٩ ـ ونهاية الأرب ١ / ٤١٩.

(٣) في الروض : أبصرت.

(٤) في ت : قيقعان.

(٥) في ت وط : وهي.

(٦) من ملوك العرب في الجاهلية ، يقول المسعودي إنه أول من تولى أمر البيت بمكة من بني جرهم. انظر مروج الذهب ٢ / ٤٩.

(٧) تختلف المصادر في اسم شاعر القصيدة بين الحارث بن مضاض : التيجان ٢١١ ـ ٢١٣. والروض المعطار ١٨٨ ـ ١٨٩. ونشوة الطرب ١ / ٩٥. ابن بطوطة ١ / ١٦٣. وعمرو بن الحارث بن مضاض الروض الأنف ٢ / ١١ ، ومعجم الشعراء ١٠. ومعجم البلدان ٤ / ٧١. والسيرة النبوية لابن هشام ١ / ١٠٦. ومضاض بن عمرو بن الحارث الجرهمي ، أخبار مكة ١ / ٩٦ : الأغاني ١٥ / ١١ ـ ومعجم البلدان ٢ / ٢٢٥. وعامر بن الحارث في مسالك الأبصار ٨٦. وهو من قصيدة قالها يتشوق لمكة عندما أجلتهم عنها خزاعة ، والبيت من الأمثال السوائر.

(٨) لم أقف على البيت في ديوانه.

٣٦٦

وهنالك ثنيّة المقبرة كما تقدّم ، وليس بين هذا الموضع وبين مكّة إلّا أقلّ من نصف ميل ، ولا أدري من أين أتى السّهيليّ فقال : «بين الحجون ومكّة فرسخ وثلث» ، ولعلّ ذلك من جملة تحكّماته فله منها عدّة والله الموفّق.

[المسجد الحرام]

وأمّا المسجد الحرام (١) ـ زاده الله تشريفا ـ فهو وسط البلد ، كبير متّسع ، يكون طوله «أزيد من أربع مئة ذراع» (٢) كما ذكر الأزرقيّ ـ رحمه‌الله ـ وطوله من الشّرق إلى الغرب (٣) وهو قريب من التّربيع ، يخيّل للنّاظر إليه أنّه مربّع ، مفروش برمل أبيض جميل المنظر جدّا ، محكم العمل ، عجيب الصّنعة ، كثير الإشراف ، مرتفع الحيطان نحو عشرين ذراعا ، ودوره كلّه مسقّف على أعمدة عالية ، ثلاثة صفوف بأتقن ما يكون من العمل ؛ وفي كل جهة أبواب جملتها تسعة وثلاثون (٤) ، وباب بني شيبة في ركن الحائط الشّرقيّ من جهة الشّمال أمام باب الكعبة متياسرا ؛ وفي جهة الشّمال باب دار النّدوة (٥) ، ودار النّدوة قد جعلت مسجدا شارعا في الحرم (٦) مضافا إليه ، وهي مقابلة للحجر والميزاب ، وفي جهة الغرب باب العمرة ، وهو من أجمل أبوابه ، [٩٣ / آ] وهنالك مدرسة مليحة لها علو وسفل ، وفيها بعض الضّيق ، دخلتها أطلب فيها مسكنا

__________________

(١) انظر وصف المسجد الحرام في المناسك ٤٧٥.

(٢) أخبار مكة : ٢ / ٨٢ وفيه : طوله أربع مئة ذراع وأربعة أذرع.

(٣) في ط : من المشرق إلى المغرب.

(٤) في المناسك ٤٧٥ : للمسجد ثلاثة وعشرون بابا.

(٥) دار : ليست في ت وط. ودار الندوة هي الدار التي اجتمعت فيها قريش تتشاور في أمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم. انظر المناسك ٤٧٥.

(٦) أدخلت دار الندوة في المسجد الحرام في أول القرن الرابع الهجري. انظر أخبار مكة ٢ / ٧٨ ـ ٨٠.

٣٦٧

قبل أن يتعيّن لي موضع ، ثم اكتريت الدّار ولم يقض لي سكناها ، وسألت القيّم أو غيره عن (١) صاحب المدرسة ، فقال لي : هو حفيد الشّيخ الفقيه محبّ الدّين الطّبريّ ، فتى حدث (٢) السّنّ. وفي جهة الجنوب باب الصّفا وهي من ناحية الرّكنين الأسود واليماني. وكلاهما إلى ناحية اليمين وفي الموطّأ عن عبيد [الله](٣) ابن جريج أنّه قال لعبد الله بن عمر : «رأيتك لا تمسّ من الأركان إلّا اليمانيّين» (٤) ... الحديث وهذه الأربعة (٥) الأبواب أشهر أبواب الحرم ، وفيه خمس صوامع (٦) واحدة على ركن أبي قبيس بين الحائط الجنوبي والشّرقيّ عند باب الصّفا ؛ وثانية على ركن باب بني شيبة بين الشّرقيّ والشّمالي ؛ وثالثة على باب دار النّدوة في الحائط الشّمالي ؛ ورابعة على ركن باب السّرّة وهو باب بني جمح بين الشّمالي والغربيّ ، وخامسة على ركن أجياد بين الغربيّ والجنوبيّ.

واعلم أنّ قولنا في نسبة هذه الجوانب إلى الجهات ليس على الحقيقة ، ولكن على التّقريب ومراعاة الأكثر ، إذ الكعبة غير موضوعة على مسامتة حقيقة (٧) الجهات ؛ بل فيها انحراف كما سيأتي عند ذكرها إن شاء الله.

__________________

(١) في ط : من.

(٢) في ت : حديث.

(٣) زيادة من ت وط.

(٤) أخرجه مالك في الموطأ ٢٢٧ ـ والبخاري في الوضوء باب غسل الرجلين في النعلين ١ / ٢٦٧ حديث رقم ١٦٦ ـ وأبوا داود في المناسك باب وقت الإحرام رقم ١٧٧٢ ، ٢ / ٣٧٤ ، وابن حنبل ٢ / ١١٠.

(٥) ليست في ت.

(٦) في ت : مواضع وهو تحريف.

(٧) ليست في ط.

٣٦٨

[بئر زمزم]

وفي شرقيّ الكعبة بإزاء الباب قبّة زمزم على البئر ، كبيرة متّسعة مربّعة. وفي دورتها (١) حياض متقنة العمل ، دائرة مع القبّة ، تملأ بالماء للوضوء ، وعلى البئر تنّور من رخام. وعمق البئر من أعلاه إلى سطح الماء كما ذكروا نحو من ثلاثين ذراعا (٢) ومن سطح الماء إلى قعر البئر نحو من أربعين ذراعا. ويقال : إنّ عمقه من أعلاه إلى أسفله اثنان وسبعون ذراعا ؛ وسعته قريب من أربعة أذرع ، وماؤه دفيء ، وليس بتلك العذوبة : [الطويل]

ولكن له في النّفس موقع فرحة

تفاجئ بعد اليأس قلب كئيب

تري صور الأحباب مراة صفوه

فيطفي من الأحشاء لفح لهيب[٩٣ / ب]

وقد (٣) تمسّحنا به وتوضّأنا ، (٤) وتروّينا منه وتملأنّا ، واقتضينا منه عللا بعد نهل ، فشفى الغلل وأبرأ العلل. وبودّي لو عوّضته (٥) عن كل ماء ، وغنيت به عن كل مشروب ، ووردته دون كلّ منهل ، ولكنّ القضاء منفذ حكمه على ما سرّ العباد وغمّه ، حتّى ينصرف في غير مانواه ، ويروغ كرها عن محجّة هواه ، بالله أعتصم وإيّاه أستقيل ، وهو حسبي ونعم الوكيل.

[جهل الحجاج]

ولم أدخل قبّة زمزم لكثرة الازدحام ، ولا ضاغطت (٦) في دخولها ، لما كنت عزمت عليه من الإقامة ، فأمّلت التّشفّي منها ومن غيرها في وقت الفراغ

__________________

(١) في ت وط : دورها.

(٢) في مستفاد الرحلة ٣٠٣ : أربع وثلاثون ذراعا.

(٣ ـ ٣) ـ في ط : توضأنا به وتمسّحنا.

(٤) في ط : عوّضت.

(٥) ضاغطت : زاحمت

٣٦٩

وخفّة الزّحام ، وقدرت (١) ما جرى القدر بغيره ، وليس إلّا ما شاء الله. وقد وقفت عليها مرارا ، فلم أجد مدخلا من كثرة الخلق ، وإفراط الزّحام ، والّذي يكون بها وبغيرها من المضايقة ، والمدافعة ، وتكلّف ما لم يرد به شرع ، وتقوّل (٢) ما ليس له أصل ، أمر يضيق عنه الوصف. وقديما شكي بذلك ، قال قتادة : «في قوله تعالى : (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى)(٣). إنّما أمروا أن يصلّوا عنده ، ولم يؤمروا بمسحه ، ولقد تكلّفت هذه الأمّة شيئا ما تكلّفته (٤) الأمم قبلها ، ولقد ذكر لنا بعض من رأى أثره وأصابعه فما زالت هذه الأمّة تمسحه حتّى اخلولق وامّحى» (٥).

قلت : ولم ير عبرة من لم ير قتالهم على الرّكن الأسود ، وعلى دخول الكعبة ، ترى الرّجال يتساقطون على النّساء ، والنّساء يتساقطن على الرّجال ، ويلتفّ البعض بالبعض ، ويتأهّبون للقتال ، ويستعدون للدّفاع والملاكمة ، وقلّما يتمكّن أحدهم من الرّكن فيفارقه حتّى يثخن (٦) ضربا ، ويكونون في الطّواف فإذا جاؤوا إلى الرّكن تركوه إلى البدعة (٧) وما لا يعني ، فبعضهم في التزام (٨) الحجر وقطع الوقت به لثما ولحسا ، وبعضهم في صبّ العفونات (٩) عليه

__________________

(١) في ط : وقرّرت.

(٢) في ط : ونقول.

(٣) سورة البقرة من الآية ١٢٥.

(٤) في ط : تكلفتها.

(٥) أخبار مكة ٢ / ٢٩ ـ ٣٠.

(٦) الإثخان في الشيء : المبالغة فيه والإكثار منه.

(٧) البدعة : ما استحدث في الدين وغيره.

(٨) في الأصل : التزاحم وهو تحريف.

(٩) في ت وط : العقوبات ، وهو تحريف.

٣٧٠

ومحاولة تنحيته ، وباقيهم يتقاتلون على الدّنوّ منه. ويشاهد هنالك من المناكر ما لا تحصره عبارة.

وأمّا قتالهم على باب الكعبة ، وتطارحهم [٩٤ / آ] وتعلّق بعضهم ببعض فعجب ؛ وذلك أنّ الباب مرتفع أزيد من القامة ، وفيه قوم وقوف تنثال (١) عليهم الدّنانير والدّراهم بلا حساب حلوانا على دخول البيت ؛ فإذا أدلوا شخصا من الأرض تعلّق به آخرون فتراهم سلسلة أوّلها في الكعبة وآخرها في الأرض ورأيت رجلا ينزو (٢) ليجد ما يتعلّق به ، فصادف ساق امرأة ، فقبض عليه من أعلاه ، وتعلّق به مباشرة من غير حائل.

وتراهم في قبّة زمزم يتقاتلون على الماء ، ويأخذ أحدهم الدّلو فيصبّه على نفسه بثيابه ، حتّى لوّثوا الموضع. ويتقوّلون (٣) في ذلك أشياء مالها وجود ، مثل زيادة الماء في ليلة الجمعة ، وهو أمر مشهور عندهم. وقد ذكر ابن جبير في رحلته أنّه قاسه في ليلة الجمعة ـ وهو يتقاتلون عليه وقت زيادته بزعمهم ـ فوجده على حاله (٤).

(٥) وبودّي لو أتاح الله لهم محتسبا (٦) يذيقهم النّكال ، (٧) فإنّ حرم الله أولى المواضع بالهيبة ، ولزوم السّكينة ، وقد أسقطوا بجهلهم وجفائهم حرمته ، حتّى إنّ منهم من لم يبال بالبصاق وقتل القمل فيه ، وإلقاء الوسخ في داخله (٨).

__________________

(١) تنثال : تنصبّ.

(٢) النّزو : الوثبان.

(٣) في ط : ينقلون.

(٤) رحلة ابن جبير ١١٩.

(٥ ـ ٥) ـ الفقرة ساقطة من ط.

(٦) المحتسب من كان يتولى منصب الحسبة.

(٧) النّكال : العقاب.

٣٧١

وقد دخلت مسجد دار النّدوة ، فوجدته ملآن من الأوساخ والقمامات ووجدت فيه أناسا نزلوه (١) بأسبابهم وهم يعملون أعمالهم من سائر الصّناعات.

وفي داخل المسجد الحرام عند باب بني شيبة سوق كبيرة بأنواع المبيعات ، من أكثر الأسواق زحاما ولغطا.

وقد رأيت في نزول الرّكب بالمحصّب قوما أدخلوا دوابّهم في مقبرة جديدة مبيّضة وحصنوها داخل الرّوضة على المقابر ؛ ووتدوا لها هنالك أوتادا وبيّتوها (٢) بها ، فمررت عليهم حين أصبح وأنا داخل إلى مكّة ، فرأيت الرّوضة ممتلئة بالرّوث وعاينت منظرا شنيعا (٣) ، فكلّمتهم فقابلوني بالجفاء فانصرفت.

ورأيت بمسجد الخيف ـ طهّره الله ـ بمنى من قلّة تحفّظهم ، وكثرة تهاونهم ، ما يتغيّر له قلب كلّ مؤمن ورأيت في داخله العذرة ، وأنواعا من [٩٤ / ب] الكناسات والأقذار ، ورؤوسا مطروحة ، وجزارة أنتن بها المسجد. وهم يوقدون فيه النّار حتّى اسودّت حيطانه ، (٤) ، وصار كالمطبخة ، فسبحان من قضى بما شاء ، وهو الفعّال لما يريد. (٥)

وبإزاء قبّة زمزم قبّة الشّراب ، يسقى منها النّاس في رمضان ؛ ويجري إليها الماء في قناة تحت الأرض من قبّة زمزم. وبإزائها بيت صغير هو مخزن الكعبة ، وليس في المسجد بنيّة سوى هذه الثّلاث.

__________________

(١) في ط : ناسا نزلوا.

(٢) في ط : وبيّتوا.

(٣) في ت : خبيثا.

(٤) في ت : حيطانها.

(٥) اقتباس من الآيتين الكريمتين : (فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) البروج ١٦.(إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) هود ١٠٧.

٣٧٢

[مقام إبراهيم]

والمقام بإزاء باب الكعبة متياسرا عن قبّة زمزم ؛ وأقرب منها إلى الكعبة يسيرا. وبينه وبين الكعبة سبعة وعشرون ذراعا على ما ذكر الأزرقيّ ، قال : «وبينه وبين الرّكن الشّاميّ ثمانية وعشرون ذراعا وتسعة عشر إصبعا ، وبينه وبين الرّكن الأسود تسعة وعشرون ذراعا وتسعة أصابع» (١).

قلت : وقد وقفت مع أخي عند المقام فذكرت له قول الأزرقيّ فنظرنا ما بينه وبين الحجر الأسود فقدّرناه بنحو ممّا ذكر.

والمقام حجر فيه أثر قدمي إبراهيم عليه‌السلام ، وقف عليه وهو يبني الكعبة ، فساخت (٢) فيه قدماه. وقيل : كان كلّما ارتفع البناء ، ارتفع به المقام في الهواء حتّى تمّ البيت ، وقيل : إنّما وقف عليه حين أذّن في النّاس بالحجّ فتطاول حتّى علا الجبال ، وأشرف على على ما تحته ، فنادى : أيّها الناس أجيبوا ربّكم. وقيل غير هذا ممّا هو مسطور. والأوّل هو الصّحيح حسبما يأتي ذكره من حديث البخاريّ. وسأل أبو سعيد الخدريّ عبد الله بن سلّام (٣) رضي‌الله‌عنهما عن الأثر الّذي في المقام فقال : كانت الحجارة على ما هي عليه الآن ، إلّا أنّ الله تعالى أراد أن يجعل المقام آية من آياته. وتقدّم قول قتادة (٤) : «ذكر لنا بعض من رأى أثره وأصابعه». قال الأزرقيّ : «وهو مربّع (٥)

__________________

(١) أخبار مكّة : ٢ / ٨٥.

(٢) ساخت : غاصت في الأرض.

(٣) عبد الله بن سلام بن الحارث أبو يوسف : صحابي أسلم قبل وفاة النبي بسنتين وبعضهم يقول أسلم سنة ثمان للهجرة. روى عنه جماعة. ومات بالمدينة سنة ٤٣ ه‍. ترجمته في الإصابة ٢ / ٣١٢.

(٤) سلف قول قتادة في الصفحة ٣٧٠.

(٥) في ت : مرتفع.

٣٧٣

طوله ذراع ، وعرضه أحد وعشرون إصبعا ، والقدمان داخلتان فيه سبعة أصابع ، وبين القدمين إصبعان ، ووسطه قد استدقّ من التّمسّح به ، وهو في حوض من ساج مربّع حوله رصاص ، والحوض ملبّس بالرّصاص وعليه [٩٥ / آ] صندوق ساج مسقّف يقفل عليه».(١)

قال : «وهو حجر رخو مضبّب (٢) بالذّهب من أعلاه وأسفله ، ضبّبه المهديّ بألف دينار ، وزاد عليه المتوكّل ذهبا آخر (٣)». قال غيره : ولونه بين الدّكنة (٤) والحمرة ، منقّط بنقط سود مخضرّ الوسط (٥).

قلت : وعليه الآن شبّاك (٦) من حديد على نعت قبيبة متجاف عنه قدر ما يصل من يدخل يده بأصابعه إلى الصنّدوق ، والشّبّاك (٧) مقفل عليه ، ومن ورائه موضع قد حيز وجعل مصلّى لركعتي الطّواف وغيرهما.

وفي الصّحيح : «أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمّا دخل المسجد أتى البيت فطاف فيه سبعا ، ثمّ أتى المقام فقرأ (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى) وركع خلفه ركعتين». (٨)

__________________

(١) أخبار مكة : ٢ / ٣٨.

(٢) مضبّب : ملبّس.

(٣) أخبار مكّة ٢ / ٣٦.

(٤) الدّكنة : لون يميل إلى الغبرة بين الحمرة والسواد.

(٥) جاء مثل هذا القول في مستفاد الرحلة والاغتراب ٢٩٢.

(٦ ـ ٦) ـ سقطت من ط.

(٧) أخرجه الترمذي في الحج باب ما جاء أنه يبدأ بالصفا قبل المروة رقم ٥٦٢ ـ وأبو داود في المناسك باب صفة حجة النبي رقم ١٩٠٥ بخلاف في اللفظ. وابن حنبل ٢ / ١٥ و ٨٥ ـ والنسائي ٥ / ١٥١ و ٢٢٥ و ٢٣٥.

٣٧٤

[الكعبة]

وأما الكعبة ـ شرّفها الله ـ فهي في وسط المسجد. وفي موضعها يسير نتوء يبين للمتأمّل ، وبناؤها عجيب متقن من حجر منحوت محكم الإلصاق ولونه إلى الحمرة مع دكنة يسيرة ، وارتفاعها في السّماء ـ كما ذكروا ـ ثلاثون ذراعا [.....](١).

بعلمين مثبتين في البناء ، وهما أسطوانتان خضراوان ، والمطاف لاصق بالمسجد ، والمسجد على يسار الذّاهب من الصّفا ، [والمروة](٢) ناتىء مثل الصّفا أو دونه قليلا ، ولها درج لا أقف الآن على حقيقته وذكر الأزرقي «أنّه خمس عشرة درجة» (٣) وأنا أرى [غير ذلك](٤).

ولست من هذا على ثقة ، وعليها قوس مبنيّ ، ووراءه موضع أبيض مضيء مستو. قال أهل اللّغة : والمروة حجارة بيض رقاق (٥) ويقال : بل هي حجارة القداح. والصّفا : الحجر الصّلد الأملس (٦). وبين الصّفا والمروة على ما ذكر الأزرقيّ رحمه‌الله : «سبع مئة ذراع وستة وستون ذرعا ونصف». (٧) وبين العلمين ، وهو المسعى ، مئة واثنا عشر ذراعا ، وبالله التّوفيق.

__________________

(١) بياض في جميع النسخ بمقدار سطرين ، وقال الأزرقي : في أخبار مكة ١ / ٢٨٩ ـ ٢٩٠ : «طولها في السماء سبعة وعشرون ذراعا ، وذرع طول وجه الكعبة من الركن الأسود إلى الركن الشامي خمسة وعشرون ذراعا ، وذرع دبرها من الركن اليماني إلى الركن الغربي خمسة وعشرون ذراعا ، وذرع شقّها اليماني من الركن الأسود إلى الركن اليماني عشرون ذراعا».

(٢) بياض في جميع النسخ استدركته من نسخة الأحمدية.

(٣) أخبار مكة ٢ / ١١٩.

(٤) بياض في جميع النسخ والاستدراك من نسخة الأحمدية.

(٥) اللسان «مرا» : وجاء فيه المرو : حجارة بيضاء برّاقة تكون فيها النار وتقدح منها النار واحدتها مروة.

(٦) اللسان : «صفا». وجاء فيه نقلا عن ابن السكيت : الصفا : العريض من الحجارة الأملس.

(٧) أخبار مكة ٢ / ١١٩.

٣٧٥

فصل

[اسماء مكّة]

[٩٥ / ب] قال الله جلّ ذكره : (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً)(١). وقال : (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ ، وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ)(٢). فاختلف في هذين الاسمين ، فقيل : هما واحد ، والباء تبدل من الميم. كما يقال : لازم ولازب. وقيل : مكّة بالميم اسم البلد ، وبالباء موضع البيت ، وقيل : بكّة بالباء بطن مكّة ، وقيل موضع المسجد والبيت ، وهذا كلّه متقارب ، واختلف في اشتقاق الاسمين فقيل : بكّة بالباء مشتقّة من الازدحام وأنشد أبو عبيدة : (٣) [الرّجز]

إذا الشّريب أخذته أكّه

فخلّه حتّى يبكّ بكّه (٤)

وقيل : من بكّ العنق وهو التواؤها ، لأنّه ما فجر فيها أحد في الدّهر الأوّل إلّا أصبحت عنقه ملتوية.

قلت : ويحتمل أن يكون من بكّ الشّيء إذا فرّقه ، لتفرّق النّاس منها في كلّ جهة عند فراغ الحجّ ، قال امرؤ القيس : (٥) [الطويل]

ولله عينا من رأى من تفرّق

أشتّ وأنأى من فراق المحصّب (٦)

__________________

(١) سورة آل عمران من الآية ٩٦.

(٢) سورة الفتح من الآية ٢٤.

(٣) أبو عبيدة معمر بن المثنى من أئمة العلم بالأدب واللغة له : نقائض جرير والفرزدق ، ومجاز القرآن ، والخيل. توفي بالبصرة سنة ٢٠٩ ه‍. ترجمته في بغية الوعاة ٢ / ٢٩٤. والبيتان في النوادر في اللغة لأبي زيد الأنصاري ١٢٨ ، والسيرة لابن هشام ١ / ١٠٥. وقد عزاهما لعامان بن كعب بن عمرو بن سعد بن زيد مناة بن تميم ، انظر المناسك ٤٧٣ ، وفي معجم البلدان ٥ / ١٨١. واللسان أكك.

(٤) الشريب : الذي يشرب معه ، والذي يسقي إبله مع إبل صاحبه. يقول : إذا ضاق الشريب وساء خلقه وغضب عند الحوض فدعه يبك إبله بكّة ؛ أي يقبلها الحوض يصرفها إليه. والأكّة : الحمية. النوادر ١٢٨.

(٥) ديوان امرئ القيس ٤٢.

(٦) في الديوان : فلله عينا.

٣٧٦

وأما مكّة بالميم فقيل : هي من قولهم (١) : امتكّ الفصيل ما في ضرع أمّه إذا مصّه مصّا شديدا ، سمّيت بذلك لاجتذاب النّاس من الآفاق أو لاستقصائها محو الذّنوب ، أو لقلّة مائها (٢) ، حكاه ابن دريد أو لأنّها تنقص من ظلم فيها ، وقيل : هي من المكاء وهو الصّفير ، قال الله عزوجل : (وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً)(٣) ، حكاه الزّجاجيّ ، ولا يصحّ لأنّ المكاء معتلّ ، من مكا يمكو إذا صفّر ، ومكّة من المضاعف.

وقيل : سمّيت بذلك لارتفاع الجبال عليها ، من المكوك وهو مكيال مرتفع الجوانب ، قال الزّجاجي : وقد تكلّمت به العرب وجاء في أشعار الفصحاء قلت : وهذا بعيد متكلّف لا خفاء بضعفه ، وقيل : مكّة من الامتكاك وهو الازدحام مثلما تقدّم فيها بالباء.

ولها أسماء مكّة ، وبكّة ، وصلاح معدول ، والعرش ، والقادس ، والمقدّسة ، والنّسّاسة [٩٦ / آ] والنّاسّة بنون وسين مهملة ، والباسّة بالباء ، والبيت (٤) العتيق ، وقيل : هي الكعبة ، وأمّ رحم بضم الرّاء ، وأمّ القرى ، والحاطمة ، والرّأس ، مثل رأس الإنسان ، والبلدة ، وقيل هي منى ، والقرية القديمة ، والبلدة الحرام ، حكاها عياض في مشارقه (٥). فصلاح معدولة (٦) عن صالحة ،

__________________

(١) اللسان : مكك ، مشارق الأنوار ١ / ٣٩٢

(٢) مشارق الأنوار ١ / ٣٩٢.

(٣) سورة الأنفال من الآية ٣٥.

(٤) ليست في ط.

(٥) مشارق الأنوار ١ / ٣٩٢

(٦) في ط : معدول.

٣٧٧

والعرش : السّرير ، لأنّها أرفع البلاد ، والقادس والمقدّسة من الطّهارة ، والنّساسة من نسّ الشّيء أي (١) أذهبه ، حكاه السّهيليّ لأنّها تذهب الظّلمه وتبيدهم ، وبالباء من البسّ وهو الفتّ (٢) بمعنى الأوّل ، والعتيق : القديم ، وقيل : لعتقها من تملّك الجبابرة عليها أو من (٣) تجرهم (٤) فيها. والرّحم : الرّحمة ، وأمّ الشّيء ، أصله أي موضع الرّحمة. وأمّ القرى أصلها ، لأنّ الأرض دحيت من تحتها ، قاله الهرويّ (٥). والحاطمة : (٦) مهلكة الظالمين. والرّأس معروف لأنّها في البلاد كالرّأس في الجسد. والبلدة الحرام : لاحترام الله عزوجل (٧) إيّاها وتعظيمه لها.

فصل

[بناء الكعبة]

ويقال للكعبة البنيّة : اسم لها مشتقّ من البناء ، والبيت العتيق وقد مضى ذكره. واختلف في بدئها على أقوال كثيرة لا تقع الطّمأنينة بأكثرها ، فحكى

__________________

(١) في ت : إذا ، وقول السهيلي في الروض الأنف ٢ / ١٣٩.

(٢) في ت : البتّ ، والفتّ : الدقّ والكسّر.

(٣) ليست في ط.

(٤) ت : تجبرهم ، والجرهم : الجريء في الحرب وغيره.

(٥) هو عبد الله بن أحمد بن محمد بن عبد الله بن غفير : عالم بالحديث من الحفاظ ، من فقهاء المالكية مات بمكة سنة ٤٣٤ ه‍ أو ٤٣٥ ه‍ له مصنفات منها تفسير القرآن ، والمستدرك على الصحيحين ، ومعجمان ، ترجمته في ترتيب المدارك ٤ / ٦٩٦ ـ غربال الزمان ٣٥٥. شذرات الذهب ٣ / ٢٥٤ ، وفيات ابن قنفذ ٢٤٠ ـ شجرة النور الزكية : ١٠٤.

(٦) في الأصل : الحطّامة.

(٧) في ت : تعالى.

٣٧٨

القاضي عياض عن كعب الأحبار (١) ووهب بن منبّه (٢) : «أنّ البيت أنزل من السّماء ياقوتة مجوّفة حمراء ، والرّكن ياقوته بيضاء ، فبنى آدم قواعده ووضعه عليها ، فلما أرسل الله الطّوفان رفعت وبقيت القواعد» (٣). وذكر أبو الفرج بن الجوزيّ (٤) نحو هذا عن ابن عبّاس عن النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفيه : «أنّ الملائكة قالت لآدم لقد حججنا هذا البيت قبلك بألفي عام» (٥) وذكر الأزرقيّ عن ابن عبّاس رضي‌الله‌عنه في الرّكن نحو ما تقدّم قال : «ليس في الأرض من الجنّة إلّا الرّكن الأسود والمقام ، فإنّهما جوهرتان من جوهر الجنّة ، ولولا ما مسّهما من أهل الشّرك ، ما مسّهما ذو عاهة إلّا شفاه الله عزوجل» (٦) وذكر التّرمذيّ [٩٦ / ب] عن ابن عبّاس قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : نزل الحجر الأسود من الجنّة وهو أشدّ بياضا من اللّبن فسوّدته خطايا بني آدم : (٧)».

__________________

(١) هو كعب بن ماتع بن ذي هجين الحميري ، تابعيّ كان في الجاهلية من كبار علماء اليهود في اليمن أسلم في زمن أبي بكر ، أخذ الكتاب والسنة عن الصحابة وانتقل إلى الشام وسكن حمص وتوفي بها سنة ٣٢ ه‍. ترجمته في الإصابة ٣ / ٢٩٧ ـ تذكرة الحفاظ ١ / ٥٢.

(٢) وهب بن منبّه الصنعاني : مؤرخ كثير الاخبار عن الكتب القديمة ، يعد في التابعين ، ولد بصنعاء سنة ٣٤ ه‍. وولاه عمر بن عبد العزيز قضاءها. توفي سنة ١١٤ ه‍ له قصص الأنبياء وقصص الأخيار. ترجمته في حلية الأولياء ٤ / ٢٣ ـ تذكرة الحفاظ ١ / ١٠٠ ـ وفيات الأعيان ٦ / ٣٥.

(٣) مشارق الأنوار ١ / ١١٥.

(٤) عبد الرحمن بن علي بن محمد بن علي بن عبيد الله بن الجوزيّ : مؤرخ ، واعظ ، متكلم عالم بالتاريخ له نحو ثلاث مئة مصنف منها : المنتظم في تاريخ الملوك ، وصفوة الصفوة ، توفي سنة ٥٩٧ ه‍ ترجمته في وفيات الأعيان ٣ / ١٤٠ غربال الزمان ٤٨٤ ـ البداية والنهاية ١٣ / ٢٨ ـ شذرات الذهب ٤ / ٣٢٩.

(٥) هو في العلل المتناهية في الأحاديث الواهية لابن الجوزي ٢ / ٥٧١ تحت عنوان حديث في حجّ آدم عليه‌السلام.

(٦) أخبار مكة : ١ / ٣٣٢.

(٧) أخرجه الترمذي في الحج. باب ما جاء في فصل الحجر الأسود والركن والمقام رقم ٨٧٧ ـ وهو في الجامع الصغير ٢ / ١٨٧.

٣٧٩

وقيل إنّ الملائكة بنت البيت ، وإنّهم لما قالوا (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها)(١) غضب الله عليهم ، فعادوا يطوفون بالعرش ، يسترضون ربّهم فرضي عنهم وقال لهم : ابنوا في الأرض بيتا يعوذ به كلّ من سخطت عليه كما فعلتم بعرشي ، فبنوا البيت. وقيل : إنّما بناه آدم عليه‌السلام ، وإنّه لما أهبط من الجنة أوحى الله إليه : ابن لي بيتا ، واصنع حوله كما كانت الملائكة تصنع حول عرشي. فبناه. حكي هذا عن ابن عبّاس أيضا قال : وبناه من خمسة أجبل : طور سيناء (٢) ، وطور زيتاء (٣) ، ولبنان ، والجوديّ (٤) وحراء (٥). قال مجاهد (٦) : وكان موضعه بعد الغرق أكمة حمراء لا تعلوها السّيول وكان يأتيها المظلوم ، ويدعو عندها المكروب. وقيل : إنّما بناه شيث بن آدم عليهما‌السلام ، حكاه أبو عمر بن عبد البرّ (٧).

__________________

(١) سورة البقرة من الآية : ٣٠.

(٢) طور سيناء : جبل بقرب أيلة وعنده بليد فتح في زمن النبي.

(٣) طور زيتاء : هو الجبل الشرقي عند بيت المقدس ، وهو جبل عظيم مشرف على المسجد الأقصى. انظر الأنس الجليل ٢ / ٦٠.

(٤) جبل الجودي : جبل مطل على جزيرة ابن عمر في الجانب الشرقي من دجلة من أعمال الموصل عليه استوت سفينة نوح لما نضب الماء.

(٥) جبل حراء : من جبال مكة على ثلاثة أميال. كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتعبّد في غار من هذا الجبل قبل أن يأتيه الوحي. وفيه أتاه جبريل.

(٦) مجاهد بن أصبغ بن حسان : أبو الحسن البّجاني : مؤرخ ، أديب أندلسي له كتب منها طبقات الفقهاء ، وفساد الزمان ، والناسخ والمنسوخ. توفي سنة ٣٨٢ ه‍. ترجمته في تاريخ علماء الأندلس : القسم الثاني : ١٥١.

(٧) هو يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر النمري القرطبي المالكي : حافظ ، مؤرّخ ، أديب ، بحاثة ، له مصنفات منها : الدرر في اختصار المغازي والسير ، والاستيعاب ، وجامع بيان العلم وفضله. توفي سنة ٤٦٣ ه‍. ترجمته في الصلة ٦٧٧ والديباج المذهب ٣٥٧ ـ المغرب في حلى المغرب ٢ / ٤٠٧ ـ مطمح الأنفس ٢٩٤.

٣٨٠