رحلة العبدري

أبو عبدالله العبدري

رحلة العبدري

المؤلف:

أبو عبدالله العبدري


المحقق: د. علي إبراهيم كردي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار سعد الدين للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
الصفحات: ٧٢٨

وفيه قبر السّفاف على الطّريق ، وهو رجل من العرب ذكروا أنّه كان فيما مضى يسكن هنالك ، ويقطع على الحجّاج ، ولا يكاد يسلم منه أحد ، حتّى مرض مرضه الّذي مات منه (١). فسمع بأنّ بعض الحجّاج على الطّريق ، فاستدعى بنيه ، وهم يظنّون أنّه يأمرهم بإكرامهم وأنّه قد تاب ، فوجدوه وقد اعتقل لسانه ، فقالوا له : نجير الحجّاج؟ فأشار إليهم : أن لا. فما زالوا يراودونه ويذكّرونه بما حلّ به حتّى أضجروه (٢) ، فرفع يده وأشار إلى فيه أي سفّوهم سفّا ، فسميّ السّفّاف. ثم مات فرجم قبره من ذلك العهد إلى الآن ، وقد صار جبلا من الحجارة ، والله المسؤول في العصمة.

[مغارة شعيب]

ومن هذه المنهلة إلى مغارة شعيب يومان وبعض يوم ، وهي مغارة كبيرة مرتفعة السّمك جدّا ، معجبة الصّفة ، متّسعة (٣) من بابها إلى داخلها ، مضيئة لأجل اتّساعها ، معجبة الصّفة ، وهي في حجر أصّمّ بأصل حدب (٤) غليظ ؛ وفي بابها يسير ارتفاع فإذا دخلتها انحدرت في درج من حجارة جعل لأجل الزّلق. والمغارة نفسها من صنع الله الّذي أتقن كلّ شيء ، ولا قدرة على مثلها لآدميّ ، والماء في قعرها كثير ظاهر من الباب راكد كأنّه بركة مطر (٥) [٨٦ / آ] وهو ماء معين بلا ريب. ولولا ذلك لنزف في سقية واحدة ، وهو عذب

__________________

(١) في ت : فيه.

(٢) في ط : أضجر.

(٣) في ت : متسقة.

(٤) الحدب من الأرض : الغليظ المرتفع.

(٥) في ط : مصر وهو تحريف.

٣٤١

لولا ما يخالطه مما ينصبّ إليه من مسيطة (١) السّقاة ، وبين باب المغارة وقعرها بالتّقدير (٢) ستون أو سبعون ذراعا وهي آخر وادي القرّ. (٣)

[عيون القصب]

ومنها إلى عيون القصب يومان ، وهو ماء جار عذب ولكنّه ليس بالكثير ، ومنبعه من لهب (٤) بين جبلين على يسار المتوجّه إلى الشّرق وفيه الطّرفاء (٥) والبرديّ (٦) كثير ، وتخالطه رائحة البرديّ [كثيرا](٧) ، وهو من أقرب مياه البرّيّة متناولا وأقلّها كلفة.

[كفافة]

ومنها إلى كفافة يومان وبعض يوم ، وكفافة جبل على يسار الطّريق قد ندرت (٨) منه شماريخ (٩) مصطفّة كأنّها أضراس. ويقولون : إنّها نصف الطّريق من مصر إلى مكّة ، وفي سفح الجبل أحساء يحفر عنها في واد يقال له : سلمى ، وماؤها غزير عذب ما يكاد يرى في البرّية مثله (١٠) عذوبة وصفاء.

__________________

(١) المسيطة : الماء الآجن يسيل إلى البئر العذبة فيفسده.

(٢) في ت : بالتدبّر.

(٣) في ت وط : القرى.

(٤) في ت وط : شعب ، واللهب : الشّعب الصغير في الجبل.

(٥) الطرفاء : شجر لا خشب له تتحمّض به الإبل إذا لم تجد حمضا غيره.

(٦) البرديّ : نبت معروف واحدته برديّه. وهو نبات مائي كالقصب.

(٧) زيادة في ت وط.

(٨) في ط : برزت ، وكلاهما بالمعنى نفسه.

(٩) الشماريخ : رؤوس الجبال. واستخدمت هنا للنتوءات البارزة كأنها رؤوس الجبال.

(١٠) ـ في ت : مثلها.

٣٤٢

[الوجه]

ومن كفافة إلى الوجه ثلاثة أيّام ، وهو ماء عذب طيّب في أصل جبل (١) مثل الأوّل ولكنّه ليس في الغزارة والإمكان مثله. ووقعت به في بعض الأعوام في الحجّاج مقتلة عظيمة. قتلهم العرب وانتهبوهم ، وقد تقدّم ذكر ذلك في رسالة ناصر الدّين بن المنيّر ، وكان الحجّاج مغاربة والرّكب المصريّ قد تخلّف في ذلك العام ، فتجاسر المغاربة على النّفوذ فاتّفق لهم ما اتّفق. والوجه هو منتصف الطّريق على التّحقيق.

وهنالك ماء اخر رائغ (٢) عن الطّريق في جهة اليسار كثيرا يعرف بالشّعبين ، وهو دون الوجه أحساء في نشز من الأرض يتكلّف العناء في حفرها ، وربّما نضبت فلم يوجد فيها ماء. وقد وردناها في الطّلوع فكان بها (٣) زحام عظيم ، ولم تعم النّاس ، وبيع بها ملء (٤) القربة بجملة دراهم.

[أكرا]

ومن الوجه إلى أكرا ثلاثة أيّام (٥) وهو واد كبير ، وماؤه أحساء يحفر عنه نحو القامة ، وهو غزير عذب ، وعن يمينه في [٨٦ / ب] ناحية البحر على مسافة جيّدة أحساء أخرى غزيرة مثل الأولى (٦) في واد يقال له اليعبوب ، وقد

__________________

(١) في ط : الجبل.

(٢) رائغ عن الطريق : أي خارج عنه.

(٣) في ت : فيها.

(٤) في ت : مثل.

(٥) في ت : مراحل.

(٦) في ط : الأول.

٣٤٣

ذكر لي بعض الطّلبة من أهل دميرة (١) من ريف مصر حججنا معه ، وقد حج مرارا أن اليعبوب هو وادي أكرا من أسفله.

[الحوراء]

ومن أكرا إلى الحوراء ثلاثة أيّام ، والحوراء أحساء على شاطئ البحر غزيرة ، وماؤها ملح خبيث ، منكر الرّائحة لا يكاد يجرع ، وهو أخو المحمودة مطعما وفعلا. وهنالك جزيرة في البحر منقطعة يسكنها بعض العرب ، والحوت (٢) غالب عيشهم ، وإذا نزل الرّكب (٣) جلبوه إليهم ، وبالحوراء يتلقّى أهل ينبع الرّكب بالتّمر.

[المغيرة]

ومنها إلى المغيرة يومان ، والمغيرة تصغير مغارة ، وهي واد بين جبلين محفورة في بطن الوادي ، ومدخلها ضيّق يهبط منه في درج وماؤها قليل. ولم يزل الحجّاج يتضايقون عندها (٤) ، ويتقاتلون (٥) ويموتون (٦) عطشا ، حتّى ألهمهم الله منذ أعوام للحفر عندها فحفروا ، فإذا الوادي أحساء ولكنّها غائرة يحفر عنها نحو القامتين فاتّسع النّاس في الماء بعض الاتّساع منذ ذلك العهد ، والمغيرة هي العرجاء الّتي ذكرها ناصر الدّين في رسالته.

__________________

(١) دميرة : مرية كبيرة بمصر قرب دمياط ، وهما دميرتان ، إحداهما تقابل الأخرى على شاطئ النيل في طريق من يريد دمياط. انظر جغرافية مصر للبكري ٦١ ، ياقوت ٢ / ٤٧٢.

(٢) الحوت : لفظة تطلق على السمك الكبير والصغير.

(٣) في ت وط : الرّكب بها.

(٤) في ط : عليها.

(٥) ليست في ط.

(٦) ليست في ط.

٣٤٤

[ينبع]

ومنها إلى ينبع يومان جادّان ، وينبع من بلاد الحجاز المعروفة وهي بليدة في أصل جبل ، ضعيفة البناء قليلة السّاكن ، والخراب بها كثير ، وغربيّها بسيط متّسع ، وهو محطّ الرّكب ، ولكنّه سبخة لا تنبت ، وفيه نخيل وماء معين طيّب. وصاحب ينبع مستبّد بها كاستبداد صاحب مليانة ؛ إذ لا أحد يرغب فيهما ولو كان كلّ (١) بلد مثلهما لوقع الأمان و «لم ينتطح فيها عنزان» (٢). ومن ذا الّذي يرغب في عين العناء ، وينافس في نفس الفناء ، فهم طلقاء الجوع ، وعتقاء الشّظف ، أمّنهم الخوف ، ونجّاهم التّلف. ولكنّ ينبع على ما هي عليه ترتاح لها النّفوس [٨٧ / آ] وينضى لرؤيتها لبوس البوس ، لأنّها مراقبة (٣) لدار حلّها الحبيب ، وربع يدعى فيها الشّوق فيجيب ، ويخطر به الخاطر فيعرف ولا يستريب ، لو نطقت بقعه (٤) لأفصحت بكلّ عجيب. منزل غدا للعقول عقالا ، ينفر إليه جند الوجد (خِفافاً وَثِقالاً)(٥) تودّ الخدود به لو كانت يغالا ، ذا المعالي (٦) فليعل من يتعالى.

وللّركب في ينبع سوق كبير ، والتّمر فيه كثير ، ومنه يتجهّز من نقصه شيء من زاده إلى مكّة ، وبه يحطّ أهل مصر أثقالهم وما لا يحتاجون إليه من

__________________

(١) ليست في ط.

(٢) في المثل : لا ينتطح فيه عنزان. انظره في الوسيط ١٩٨ ، والفاخر ٣١٢ ، والميداني ٢ / ٢٢٥ ، والمستقصى ٢ / ٢٧٧. واللسان نطح. وهو حديث شريف.

(٣) في ت وط : مصاقبة : والصّقب : القرب.

(٤) ليست في ط.

(٥) اقتباس من قوله تعالى في سورة التوبة ٤١ : (انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ).

(٦) في ت التعالي.

٣٤٥

زادهم حتّى يرجعوا. وأهله في خدمة صاحب مصر ، وهو يميرهم (١) بالزّرع ، ويمدّهم بالتّحف ليجدهم الحجّاج ركنا ، ويأمن المنقطع لديهم ، ولا يعترض في ماله.

وبخارج ينبع من ناحية الجبل مسجد محكم مليح ، يقولون : إنّه مسجد عليّ بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه ، ولعلّه كان بنى هنالك مسجدا حين تنحّى إلى ينبع في أيام عثمان رضي‌الله‌عنهما.

[الدّهناء]

ومن ينبع إلى الدّهناء مسيرة نصف يوم ، وهي من عمل ينبع ، وبها ماء معين ، ونخل (٢) كثير ، وأرضها سبخة (٣) ، وماؤها طيّب.

[بدر]

(٤) ومنها إلى بدر مسيرة يومين وهو واد به ماء معين ، ونخل وعمارة ليست بالكثيرة (٥) ، وماؤه طيّب ، وبه مسجد مختصر مليح ، ذكروا أنّه بني في موضع العريش الّذي كان فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم بدر. وأكثر سكان بدر ضعفاء ، وهم رفضة ، وكذلك أكثر أهل المدينة على ساكنها أفضل الصّلاة والسّلام. وفي غربي المسجد مقبرة كبيرة ، وفيها (٦) قبور شهداء بدر رضي‌الله‌عنهم ، ويقوم في بدر سوق كبير أيضا ، لأنّ أهلها ومن جاورهم إلى

__________________

(١) الميرة : جلب الطعام ، يميرهم : يجلب لهم الزّرع.

(٢ ـ ٢) ـ في ت : وعمارة ليست بالكثير.

(٣ ـ ٣) ـ سقط من ت.

(٤) ليست في ت.

٣٤٦

المدينة يتحيّنون وصول الرّكب فيستعدّون لذلك ، ويحضرّون ما يبايعونهم به من تمر وعلف وجمال وغير ذلك.

وفي غربيّ المقبرة المذكورة هضبة فيها نصب ، والحجّاج يتمسّحون به ، ويتطارحون عليه ، ويكثر زحامهم عنده (١) ، ويتكلّفون الصّعود منه إلى أعلى الهضبة ، فيقاسون فيه شدّة لضيقه ، [٨٧ / ب] وقلّما يتخلّص منه الصّاعد فيه حتّى يأخذ بيده شخص آخر (٢) على الهضبة ، ويذكرون في ذلك أشياء مالها أصل ، وكذلك يصنعون في موضع آخر قريب من بدر ، على يمين الطّريق فى هضبة بحرف الوادي ، وهنالك شبه غار ويذكرون تخرّصا (٣) أنّه الغار الّذي دخله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبو بكر رضي‌الله‌عنه حين هاجرا (٤) من مكّة ، وذلك باطل فإنّ الغار المذكور بجبل ثور (٥) قريبا من مكّة وفي ناحية الجنوب منها ، وهو أشهر وأعرف من أن يعرّف به.

ومن جملة غرائبهم تسميتهم بدرا ببدر وحنين ، فلا ينطقون بهما إلّا مقرونين على أنّهما اسم واحد ، واشتهر ذلك عندهم حتّى صار في حيّز المقطوع بصحتّه ، وفشا ذلك على ألسنة الخاصّة والعامّة حتّى لقد أوهم اشتهاره الفقيه ناصر الدّين ـ رحمه‌الله ـ على جلالة قدره ، فذكر حنينا مع بدر في رسالة له وقد مضى ذكر فصل منها ، وليست غزوة بدر من غزوة

__________________

(١) ليست في ط.

(٢) ليست في ط.

(٣) تخرّص الشيء : افتعله.

(٤) في ط : هاجر.

(٥) جبل ثور : يقع بأسفل مكة وهذا الغار مشهور عند الناس يدخلونه من بابه المتّسع وبابه الضيق الذي وسع لا نحباس بعض الناس فيه حوالي سنة ٨٠٠ ه‍. انظر العقد الثمين ١ / ١٠١.

٣٤٧

حنين ، ولا موضعهما واحدا ولا زمانهما متقاربا. كانت غزوة بدر في السّنة الثّانية من الهجرة ، وبدر هو الوادي المذكور على أربعة أيّام أو نحوها من المدينة ، وكانت غزوة حنين عام ثمانية من الهجرة بعد فتح مكّة. وحنين في جهة الطّائف (١) على تسعة (٢) عشر ميلا من مكّة ، ومن بدر طريق مشرفة إلى المدينة على وادي الصّفراء (٣) يسرة الطّريق وسيأتي ذكرها إن شاء الله تعالى.

[البزواء]

ومن بدر تشير إليك البزواء (٤) وهي دويّة (٥) ممتدّة ملساء ، مجهل من أعظم المجاهل ، نكراء ، يضلّ بها لنكارتها الدّليل ، ويذهل فيها الخليل عن الخليل ، وهي مسيرة ثلاثة أيام ، ليس بها على التّرفّق إلمام ، ولا نصبت بها على المسالك أعلام. اشتبهت فما يتميّز وراء من قدّام. يسرح الطّرف بها فلا يقف على مدى (٦) ، وتظمأ الأفواه فلا تجد بلّة تنقع صدى (٧) ، وفي منتهاها (٨) واد يقال له : رابغ (٩) وبعضهم يقوله بالخاء ، وإذا كثر المطر كانت به غدران

__________________

(١) الطائف : مدينة صغيرة كثيرة الشجر والثمر طيبة الهواء وهي على جبل غزوان إلى جنوب من مكة.

(٢) في ت وط : بضعة عشر ، وكذا في معجم البلدان.

(٣) يقول حمد الجاسر : هو واد قرب المدينة يبعد عنها ١٨٠ كم للمتوجه إلى مكة بطريق السيارات وكانت الصفراء كثيرة العيون وقد نضب ماء كثير منها. انظر المناسك ٤١٤.

(٤) البزواء : موضع في طريق مكة قريب من الجحفة. انظر ياقوت ١ / ٤١١.

(٥) الدّويّة : الفلاة الواسعة.

(٦) في ط : مداه.

(٧) في ط : صداه.

(٨) في ت وط : متنها.

(٩) رابغ : واد يقطعة الحاج بين البزواء والجحفة.

٣٤٨

عظيمة فيبقى فيها الماء زمانا ؛ وإن قلّ المطر نضبت وغار الماء ، فيحفر عنه ويتعنّى فيه. وفي تلك الجهة عربان كثيرة تقيم مع الرّكب سوقا عظيمة ، ويجلبون إليها الغنم والتّمر فيتّسع العيش ويرخص.

[الجحفة]

وفي رابغ يغتسل [٨٨ / آ] الحجّاج للإحرام ومنه يحرمون وهو دون الجحفة بمسافة. والجحفة على يسار طريق الرّكب على أميال وهي الميقات ، وما أظن الآن بها عمارة ، وإنّما لم يكن الإحرام منها إلّا لأنّها رائغة عن الطّريق. وفي البخاريّ عن ابن (١) عمر رضي‌الله‌عنهما «لما فتح هذان المصران يعني الكوفة (٢) والبصرة أتوا عمر فقالوا له : يا أمير المؤمنين ، إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حدّ لأهل نجد قرن (٣) ، وهو جور (٤) عن طريقنا وإنّا إذا أردنا قرن شقّ علينا. قال : فانظروا حذوها من طريقكم فحدّ لهم ذات عرق (٥) ، وإنّما لم يتركوا الإحرام إلى موضع يحاذي الجحفة إذ لا ماء هنالك. ومن سنّة الإحرام أن يكون بعقب الغسل ، على أنّه ليس بين الموضعين من تفاوت المسافة ما يتّقى فيه تقديم الإحرام قبل الميقات. وللقرب تأثير ، وإن كان ابن الموّاز روى عكس هذا من جواز تقديمه من موضع بعيد ، وكراهته من

__________________

(١) ابن ليست في ط.

(٢) الكوفة : مدينة بأرض بابل من سواد العراق وسميت الكوفة لا ستدارتها انظر ياقوت ٤ / ٤٩٠.

(٣) قرن : ميقات أهل نجد ومنه أويس القرني وهو موضع على مرحلتين من مكة. انظر مسالك الأبصار ١٢٢.

(٤) ليست في ط.

(٥) ذات عرق : ميقات أهل العراق وبينها وبين وجرة سبعة وعشرون ميلا ، بينه وبين مكة خمس مراحل انظر مسالك الأبصار ١٢٢ والحديث في البخاري كتاب الحج ـ باب ذات عرق لأهل العراق رقم ١٥٣١ ـ ٣ / ٣٨٩.

٣٤٩

موضع قريب ، ويدلّ على صحّة ما قدّمت أنّه قد حدّ الميقات بالجحفة ، ومرّة بمهيعة ، وقال صاحب الدّلائل : (١) إنّها قريبة من الحجفة وإن كان أكثر النّاس على خلاف ما حكى ، وإنّ الجحفة هي مهيعة ، وكذلك في إحرام النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم تارة تذكر البيداء (٢) والأكثر ذو الحليفة (٣) ، وما أوجب ذلك إلّا تقارب الموضعين.

وقد خرجنا عمّا كنّا بسبيله ، فلنرجع إلى المقصود فنقول : ذكر أهل الأخبار أن الجحفة كان اسمها قديما مهيعة حتّى نزلها بنو عبيل (٤) إخوة عاد في الدّهر الأوّل حين أخرجتهم العمالقة من يثرب ، فأتى عليهم سيل اجتحفهم فسمّيت الجحفة. وحكى القاضي عياض في مشارقة قولا : «إنّما سميت الجحفة من سبب سيل الجحاف الّذي اجتحف الحجّاج عام ثمانين» (٥) ولا أدري كيف ينطلق اللّسان بحكاية مثل هذا ؛ وبعد أن يحكي كيف لا ينبّه عليه ؛ وذلك أنّها كانت تسمّى الجحفة قبل الإسلام وإلى الآن ، وجاء ذكرها في الأحاديث الصّحيحة والأخبار الثّابتة ، وكان سيل الجحاف في إمارة عبد الملك ابن مروان (٦) فكيف سمّيت به قبل وجوده؟ وأغرب من ذلك أنّ سيل الجحاف

__________________

(١) هو كتاب الدلائل على معاني الحديث بالشاهد والمثل لقاسم بن ثابت السرقسطي المتوفى سنة ٣٠٢ ه‍. انظر نفح الطيب ٢ / ٤٩ ، ومنه نسخة خطيّة في مكتبة الأسد الوطنيّة بدمشق.

(٢) البيداء : أرض ملساء بين مكة والمدينة تعد من الشرق أمام ذي الحليفة في أولها بئر. انظر المناسك ٤٢٨.

(٣) ذو الحليفة : هو الموضع الذي أحرم منه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويبعد هذا الموضع عن المدينة خمسة أميال. انظر المناسك ٤٢٥.

(٤) في الأصل وت : بنو عبيد وهذا تصحيف. وبنو عبيل : قبيلة قد انقرضوا. انظر اللسان : عبل.

(٥) مشارق الأنوار ١ / ١٦٨.

(٦) عبد الملك بن مروان : من أعظم خلفاء بني أمية توفي بدمشق سنة ٨٦ ه

٣٥٠

كان بمكّة واجتحف الحجّاج من المحصّب (١) وذهب بهم وبأمتعتهم ، وهدم بمكّة دورا كثيرة [٨٨ / ب] ودخل المسجد الحرام وأحاط بالكعبة. وكان ذلك سحر يوم التّروية من عام ثمانين. فما شأنه والجحفة حتّى سمّيت به؟ هذا ممّا يكون الإضراب عنه صفحا أولى وبالله التّوفيق.

وبعد مرحلة من رابغ جاءنا من مصر من أخبر بموت سلطانها الملك المنصور (٢) ولهم عن مصر سبعة عشر يوما. وكنّا تركنا السّلطان على الحركة إلى جهاد عكّة ، وقد برز جميع عسكره خارج المدينة فلمّا خرج مرض فمات من حينه فسبحان من (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ)(٣)

[خليص]

ومن الجحفة إلى خليص (٤) مسيرة ثلاثة أيّام ، وهي قليعة منيعة على شرف مرتفع ، ولها نخل كثير ، وماء جار طيّب ، وصاحبها من الشّرفاء مستبدّ بها ، وهو رجل صالح محبّ في الحجّاج ، مكرم لهم. وإذا نزل الرّكب به تلقّاهم وأحسن مثواهم ، والعربان تقيم هنالك سوقا عظيمة ويجلبون إليها الغنم والتّمر والإدام فيكثر العيش بها ويرخص.

__________________

(١) المحصّب : موضع بين مكة ومنى وهو بطحاء مكة وهو خيف بني كنانة.

(٢) الملك المنصور : هو قلاوون الألفي العلائي : كان من المماليك. أعتقه الملك الصالح نجم الدين أيوب سنة ٦٤٧ ه‍ فأخلص الخدمة للملك الظاهر بيبرس وتولى السلطنة سنة ٦٧٨ ه‍ وحقق عدّة انتصارات على التتار وتوفي بالقاهرة سنة ٦٨٩ ه‍. ترجمته في بدائع الزهور ١ / ٣٤٧ ـ ٣٦٤. النجوم الزاهرة ٧ / ٢٩٢ ـ فوات الوفيات ٣ / ٢٠٣.

(٣) سورة القصص ، من الآية : ٨٨.

(٤) خليص : حصن بين مكة والمدينة.

٣٥١

[عقبة السّويق]

ودون خليص على (١) مقدار نصف يوم عقبة السّويق ، وهي عقبة كثيرة الرّمل ، وليست بطويلة ولكنّها شاقة لوعرتها (٢) ، والنّاس يقصدونها بشرب السّويق ، ويستصحبونه برسم ذلك من مصر ، ويخلطونه مع السّكّر ، وأصحاب مصر يسقونه للنّاس هنالك كثيرا ، ويذكر أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مرّ بها ولم يكن معهم طعام فأخذ من رملها وأعطاهم إيّاه فشربوه سويقا ، ولم أقف على هذا فيما وقفت عليه من معجزاته صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما هو ببعيد في حقّه والله أعلم.

[بطن مرّ]

ومن خليص إلى بطن مرّ (٣) ثلاثة أيام وهو واد به نخل كثير ، وماء جار وعمارة وهو من عمل مكّة ـ شرّفها الله ـ وهو مرّ الظّهران المذكور في الحديث.

[المدرّج]

والمدرّج على نصف يوم من خليص ، وهو مضيق بين جبلين ، وفي موضع منه بلاط على صورة الدّرج وأثر عمارة قديمة ، وهنالك بئر تعرف ببئر عليّ ، ويقولون : إنّ عليّ بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه أحدثها هنالك.

ومن بطن مرّ إلى مكّة ـ شرّفها الله ـ نصف يوم ، وقول من قال : إنّ بينهما ستة عشر ميلا [٨٩ / آ] أشبه ما قيل في ذلك ، والله أعلم.

__________________

(١) ليست في ط.

(٢) في ت وط : لوعثها.

(٣) بطن مرّ : من نواحي مكة عنده يجتمع وادي النخلتين فيصيران واديا واحدا وكان بطن مرّ المرحلة الأخيرة في طريق الحاج القادم من مصر إلى مكة. انظر ياقوت ١ / ٤٤٩.

٣٥٢

[مساجد عائشة]

وعلى مقربة من مكّة بنحو أربعة أميال ثلاثة مساجد مصطفّة على الطّريق ، بينها مسافة قليلة ، وموضعها التّنعيم (١) ، وهو أدنى الحلّ إلى الحرم ومنه يعتمر أهل مكّة. وكانت عائشة رضي‌الله‌عنها اعتمرت من هنالك حين بعثها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع أخيها عبد الرحمن من مكّة في حجّة الوداع ، فبنيت تلك المساجد هنالك ، وعرفت بمساجد عائشة وموضع إحرامها.

[بطن ذي طوى]

ووراءها إلى مكّة بطن ذي طوى (٢) وهو واد يهبط على قبور المهاجرين الّتي بالحصحاص (٣) ، وهو (٤) دون ثنية كداء (٥) والطّريق من هنالك متياسرة عن الثنّية المذكورة ، آخذة على ثنية الحصحاص (٦) ، وذو طوى بينهما وبين المقبرة الّتي بأعلى مكّة وتسّمى كدى على ما ذكروا. وأما أبو الوليد الأزرقيّ فلم يسمّها إلّا بما تقدّم (٧) وفي الموطّأ والبخاريّ «أنّ عبد الله بن عمر رضي‌الله‌عنه كان يبيت بذى طوى بين الثّنيتّين ويغتسل فيه ، ثم يغدو منه إذا

__________________

(١) التنعيم : موضع بمكة في الحلّ وهو حد الحرم من جهة المدينة على ثلاثة أميال أو أربعة من مكة ، وهو أقرب أطراف الحل إلى البيت الحرام. انظر ياقوت ٢ / ٤٩.

(٢) انظر أخبار مكّة ٢ / ٢٩٧.

(٣) قال الأزرقي : الحصحاص : الجبل المشرف على ظهر ذي طوى إلى بطن مكة ممّا يلي بيوت أحمد المخزومي عند البرود. انظر أخبار مكة ٢ / ٢٩٩.

(٤) سقط من ت وط.

(٥) كداء : بأعلى مكة وهي التي دخل منها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهي العقبة الصغرى التي بأعلى مكة وهي التي تهبط منها إلى الأبطح والمقبرة على يسارك. انظر ياقوت : ٤ / ٤٣٩.

(٦) سقط من ت وط.

(٧) انظر هذه التسمية في أخبار مكة الصفحات : ٢ / ٤٣١ ـ ١٤٥ ـ ٢٠٣ ـ ٢٢٦ ـ ٢٩٧ ـ ٢٩٨ ـ ٢٩٩ ـ ٣٠٠.

٣٥٣

أصبح إلى مكّة» (١). زاد البخاريّ : «ويذكر أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يفعل ذلك». والثنيّتان : ثنيّة الحصحاص ، وثنيّة المقبرة كما تقدم.

قال الأزرقيّ : «والمسجد الّذي هنالك بنته زبيدة (٢) حيث نزل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٣).» وفي البخاريّ عن ابن عمر قال : «ومصلّى (٤) رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أكمة غليظة ليس في المسجد الّذي بني ثمّ ، ولكن أسفل من ذلك (٥)» قلت : وقد اختلف في موضع ذي طوى وفي ضبطه ، فأمّا موضعه فالصّواب فيه ما تقدّم ، وقال القاضي أبو الوليد الباجيّ : هو ربض من أرباض مكّة يعني ناحية قريبة منها ، ولم يرد أنّه من نفس البلد. وقال عياض : «هو واد بمكّة» (٦) وهذا نحو الأوّل وذكره ابن جبير في رحلته : «بين مساجد عائشة وبين الثنيّة» (٧) وذلك واد به كما تقدّم. وحكى عياض عن الدّاوديّ «أنّه الأبطح» (٨) ، وهو غلط منه ، وإنّما الأبطح المحصّب وهو وادي مكّة من ناحية المعلاة (٩) ، وهي أعلى مكّة وسيأتي [٨٩ / ب] ذكره.

__________________

(١) أخرجه البخاري في كتاب الحج ، باب النزول بذي طوى قبل دخول مكة رقم ١٧٦٧ ـ ٣ / ٩٥٢ وهو في الموطأ ٢٢١.

(٢) زبيدة : كان اسمها أمة العزيز بنت المنصور الهاشمية العباسية : زوجة هارون الرشيد. وإليها تنسب عين زبيدة في مكة وخلفت آثارا نافعة غير العين. توفيت ببغداد سنة ٢١٦ ه‍. ترجمتها في وفيات الأعيان ٢ / ٣١٤ ، أعلام النساء ٢ / ١٧.

(٣) أخبار مكة : ٢ / ٢٠٣.

(٤) في ت وط : صلى.

(٥) أخرجه البخاري في كتاب الصلاة باب المساجد التي على طرق المدينة رقم ٤٩١ ، ١ / ٥٦٨.

(٦) مشارق الأنوار ١ / ٢٧٦.

(٧) رحلة ابن جبير ٨٩ بخلاف يسير.

(٨) مشارق الأنوار ١ / ٢٧٦.

(٩) المعلاة : موضع بين مكة وبدر بينه وبين بدر الأثيل. انظر ياقوت ٥ / ١٥٨.

٣٥٤

وأمّا ضبطه : فالأكثر فيه فتح الطّاء والقصر ، وترك الصّرف وبعضهم يصرفه ، ومدّه ثابت ، وقال الأصمعيّ : الممدود بطريق الطّائف ، وهذا مقصور ، وفي بعض الرّوايات : ذو الطّواء ممدودا ومقصورا معرّفا ، وحكي فيه الضمّ والكسر مع القصر ، والمشهور من هذا كلّه ما بدأت به ، وبالله التّوفيق.

وإذا سار الرّكب من ثنيّة الحصحاص على ذي طوى ، رأوا (١) مكّة يمينا وساروا يسرتها ، وقد سترها عنهم الجبل المطلّ عليها ، حتّى يدوروا من ورائها ، ويدخلوا من ناحية المشرق على ثنيّة كدى الّتي بأعلى مكّة وهي ثنيّة المقبرة كما تقدّم ، ويهبط منها على مقابر (٢) مكّة وهي الحجون (٣) ، وقيل : الحجون (٤) الجبل المشرف عليها ، ويهبط منها على المحصّب وهو الأبطح ، وكنت لمّا هبطت من هذه الثّنيّة لقيت رجلا من أهل مكّة فقلت له : أين المحصّب؟ فقال لي : هذا هو ، وأشار إلى بطن الوادي ، قلت : وهو خيف بني كنانة (٥) ، وفي البخاريّ : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال وهو بمنى : «إنّا نازلون غدا إن شاء الله خيف بني كنانة حيث تقاسموا على الكفر» (٦) وفسّر في الحديث نفسه (٧) بأنه المحصّب.

__________________

(١) في ت وط : ردّوا.

(٢) الأصل : ثنية.

(٣) انظر معجم البلدان ٢ / ٢٢٥.

(٤) في الأصل : المحجوز وهو تصحيف.

(٥) وكذلك في مشارق الأنوار ١ / ٢٥٠ ، وياقوت ٢ / ٤١٢ ، والخيف : الوادي وأصله ما انحدر عن الجبل وارتفع عن المسيل وهو بطحاء مكة.

(٦) أخرجه البخاري في الحج باب نزول النبي مكة رقم ١٥٨٩ ـ ٣ / ٤٥٢ وفي التوحيد باب المشيئة والإرادة رقم ٧٤٧٩ ـ ١٣ / ٤٤٨ بخلاف في اللفظ من طريق أبي هريرة وفي الجهاد ـ باب إذا أسلم قوم في دار حرب رقم ٣٠٥٨ ـ ٦ / ١٧٥ من طريق أسامة بن زيد. وابن حنبل ٢ / ٢٣٧ ـ ٢٦٣ ـ ٣٢٢ ـ ٣٥٣ ـ ٥٤٠ وابو داود في المناسك باب التحصيب رقم ٢٠١٠.

(٧) ليست في ط.

٣٥٥

[ثنية كداء]

وهذه الثّنيّة هي الّتي دخل منها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حجّة الوداع ، وهي كدى بالضمّ والقصر ، وخرج من الثّنيّة البيضاء الّتي بأسفل مكّة ، وهي كداء بالفتح والمدّ ، وقد اختلف في ضبطهما (١) اختلافا كثيرا والصّواب ما ذكرنا ، والله أعلم.

وقد قيل بعكس ذلك وهو الأشهر عند الفقهاء ، وبعضهم يصرفها والصّواب ترك صرفها. ولم يسمّ الأزرقيّ بهذا اللّفظ إلّا السّفلى (٢) وذكرها بالمدّ وأنشد قول حسّان : (٣) [الوافر]

عدمنا خيلنا إن لم تروها

تثير النّقع موعدها كداء

قلت : وهي ثنيّة بيضاء بين جبلين ، وبينها وين مكّة بسيط سهل ، وهو موضع نزول الرّكب إذا صدر من منى. وفي مضيقها كوم عظيم من حجارة يقولون : إنّه قبر أبي لهب (٤) رجم حتّى صار كذلك. ويقال : إنّه قبر أبي رغال (٥) ، ولا أتحقّق شيئا من هذا ، ولا يصحّ أن يكون قبر أبي رغال فإنّ أبا [٩٠ / آ] رغال كان من ثقيف ، بعثه أهل الطّائف دليلا على الكعبة لأبرهة (٦)

__________________

(١) في ط : ضبطها.

(٢) أخبار مكة ٢ / ٢٩٧.

(٣) ديوان حسان ٤.

(٤) هو عبد العزى بن عبد المطلب بن هاشم من قريش ، عم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أشد الناس عداوة للمسلمين وفيه الآية(تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ. ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ) مات بعد وقعة بدر بأيام ولم يشهدها. انظر نسب قريش ١٨.

(٥) هو قسي بن منبه بن النبيت بن يقدم ، هلك أثناء غزو الكعبة ودفن في المغمس. انظر ثمار القلوب ١٠٦ ـ مروج الذهب ٢ / ٧٨ ـ التاج ـ رغل ، السيرة لابن هشام ١ / ٤٢.

(٦) أبرهة هو أبو يكسوم ملك الحبشة صاحب الفيل الذي ساقه إلى البيت الحرام فأهلكه الله ، انظر مروج الذهب ٢ / ٧٨.

٣٥٦

ملك الحبشة حين أراد هدمها فلمّا نزل بالمغمّس (١) مات أبو رغال فرجم قبره هنالك إلى اليوم.

[المغمّس]

والمغمّس على يمين المصلّي بعرفة ، وليس منها بعيدا ، وقد سألت بعرفة شيخا من أهل البلاد خبيرا بها عن حدود عرفة ، ومسجدها ، فدلّني على موضع المسجد وذكر جهات عرفة حتّى ذكر المغمّس فقلت له : أين هو؟ فأشار لي إلى ناحية اليمين وأنت مستقبل القبلة ، وقد وهم فيه الأستاذ أبو القاسم السّهيليّ (٢) ـ رحمه‌الله ـ فذكر أنّه «من مكّة على ثلثي فرسخ» (٣) وذلك ما لا يصحّ. وليس المغمّس من الحرم ، ولا وصل أصحاب الفيل إلى الحرم ، بل المرويّ خلاف ذلك ، وهو أنّهم لما نزلوا بالمغمّس برك الفيل ، فكانوا إذا وجّهوه إلى ناحية الشّام ولّى يهرول ، وإذا ردّوه إلى اليمن (٤) فعل ذلك ، وإذا وجّهوه إلى الحرم برك ولم يبرح. وإن صحّ الحديث الّذي ذكره السّهيليّ ، وهو أنّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كان إذا أراد قضاء الحاجة وهو بمكّة خرج إلى المغمّس على ثلثي فرسخ» (٥). فمعناه أنّه يخرج إلى ناحية المغمّس لا أنّه يصل إليه ، ولعلّ

__________________

(١) المغمّس : موضع قرب مكّة في طريق الطائف. انظر ياقوت ٥ / ١٦١.

(٢) هو عبد الرحمن بن عبد الله بن أحمد بن أصبغ الخثعمي السهيلي : حافظ من العلماء بالعربية واللغة والقراءات والسير ، ولد بمالقة سنة ٥٠٨ ه‍ وكف بصره وهو ابن سبع عشرة سنة له تصانيف منها الروض الأنف في شرح السيرة النبوية لابن هشام توفي بمراكش سنة ٥٨١ ه‍. ترجمته في نكت الهميان ١٨٧ ـ ١٨٨ ـ بغية الملتمس ٣٦٧ وفيها وفاته سنة ٥٨٣ ه‍ ، المغرب في حلى المغرب ١ / ٤٤٨ ووفيات ابن قنفذ ٢٩٢.

(٣) الروض الأنف : ١ / ٦٨ وفيه : ثلث فرسخ.

(٤) في ت وط : اليمين.

(٥) الروض الأنف : ١ / ٦٨.

٣٥٧

التّقييد بثلثي فرسخ إنّما كان لمسافة المذهب لا لمسافة المغمّس ، ولا يصحّ غير هذا والله أعلم ؛ اللهم (١) إلّا يكون بالحرم موضع آخر يقال له : المغمّس غير الّذي انتهى إليه أبرهة ومات به أبو رغال. وما أظنّ ذلك كائنا والله أعلم (٢).

[ذكر مكّة]

ثم نزل الرّكب بالمحصّب يوم الاثنين سابع ذي الحجة ، وبات به ليلة ثم رحل من الغد ، وهو يوم التّروية إلى منى. وفي [يوم](٣) التّروية دخلت إلى البلد الأمين (٤) ، مقرّ المجد الصّميم ، والشّرف المكين ، فخر بقاع الأرض كلّها على مرّ السّنين ، فأقسم بالله أعظم يمين ، قسما لا يكذب ولا يمين ، ما حرم سكناه إلّا ذو حظّ غبين : [الخفيف]

بلد نحوه يحنّ الرّسول

وبه علّقت قديما عقول (٥)

بلد إن رأه يوما مشوق

قال : لمني ، أو لا تلم يا عذول

لو رأى من سناه غيلان ميّ

بارقا لم تشقه تلك الطّلول (٦)

[٩٠ / ب] أسفي أن حرمت سكنى حماه

وعداني عنه الزّمان المطول (٧)

__________________

(١) ليست في ت وط.

(٢) في ط : والله الموفق.

(٣) زيادة في ت وط.

(٤) البلد الأمين هو مكّة : وزاد في ت : مكّة شرفها الله تعالى.

(٥) في ط : عقلت قديما.

(٦) غيلان : هو ذو الرمّة الشاعر المعروف. وميّ : الفتاة التي كان يتغزل بها.

(٧) في ت : وعراني ، وفي ط : وعداني عند ، والعدى : التباعد.

٣٥٨

٥ ـ يا لحظّ بخسته في ثناء

عن مغان لها حديثي يطول

لاح لي مرّة كما زار طيف

أو وداع إذا استقلّ الحمول (١)

كنت أرجو به شفاء غليلي

فإذا فيه لي جوى وغليل (٢)

أسعداني بذكره يا خليلي

ي فقد يسعد الخليل الخليل

وعداني ومنّياني وصولا

فقصارى منى الفؤاد الوصول

١٠ ـ يالربع غدا به ربع صبري

وهو مستعجم الرّسوم محيل (٣)

منذ فارقته ، فدمعي سيل

والأسى غيمه وخدّي مسيل

ورمى بعده بعيّ لساني

لست أدري من بعد ما أقول

يا له مشهدا شهد له التّنزيل بالتّفضيل ؛ وسما عن أن يقرن بعديل أو مثيل ، ما كاده أحد إلّا [رجع](٤) وشبا حدّه فليل ؛ ولا مال إليه بظلم إلّا والآفات عليه تميل (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ)(٥) ، بلد كأنّ نفوس الخلق عجنت من طينته ؛ فالخواطر مشغولة بتصوّر زينته ؛ انزعج نحوه عقل طالما سار على هيئته ، وابتذل بالسّعي بدن نشأ على سكينته ، يقطع إليه ميلا بعد ميل. كم حوى من مأثر لا تحدّ ، كم ضمّ من مفاخر لا تعدّ ، كم به من أشعث دعوته لا تردّ ، تودّه الدّنيا وهو يعلم ما يودّ ، مال عنها وهي

__________________

(١) استقلّ القوم : ارتحلوا. والحمول : الأجمال التي عليها الأثقال.

(٢) الجوى : الحرقة وشدّة الوجد من عشق أو حزن ، والغليل. حرّ الجوف.

(٣) الرّبع : المنزل ودار الإقامة ، والمحيل : الذي أتى عليه حول.

(٤) زيادة من ت.

(٥) سورة الفيل الآية ١.

٣٥٩

للعقول تستميل. حرم لا يهتك حماه ، شرف لا يحطّ علاه ، علم لا يجحد هداه ، من أمّه من قفر التّيه هداه ، ويشفى إن تمسّح (١) به العليل. إن حلّه مناد استقام منه ما انآد ، وإن رآه الصّعب سلس وانقاد ، يسلو به الفتى عمّا ألف واعتاد ، ويأمن مكر من مكره أو كاد ، ويظلّ الخائف ما عليه من سبيل. هو ربع السّلامة لا ربع بذي سلم ، كم فيه للهدي من (٢) رسم وعلم ، كم (٣) جبر به من الدّين ما انثلم ، كم أمّه بالقصد ناقص فلم يلبث أن أمدّ بالتفضيل. هنيئا لمن أصبح به قاطنا ، لقد ظفر بالمنى ظاهرا وباطنا ، يكيفه من [٩١ / آ] محكم كتابنا (وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً)(٤) لا خلف فيه ولا تبديل. ما عسى أن يذكر العارف؟ ما عسى أن يسرد الواصف؟ ما عسى أن يمدح السّالف والخالف؟ ما عسى أن ينقص من البحر (٥) الغارف؟ بان العجز سواء أقصر أم أطيل.

ليت شعري هل أعود إليه ثانية؟ ليت شعري هل تفكّ هذه النّفس العانية؟ ليت شعري متى (٦) ترفضّ (٧) هذه الفانية؟ فتصبح الآمال بمكّة دانية ، وحبّذا فيها المعرّس والمقيل (٨) : [الطويل]

ألا ليت شعري هل يساعدني الوقت

وتدني لي الأيّام ما نحوه تقت

وهل لي إلى تلك المعاهد عودة

بسكنى مغان ، قربها كلّ ما اشتقت (٩)

__________________

(١) في ت وط : مسح.

(٢) ليست في ت.

(٣) ليست في ت.

(٤) آل عمران من الآية ٩٧.

(٦) في ط : النحر ، وهو تحريف.

(٧) في ط : في متى.

(٨) ترفضّ : تسيل.

(٩) التعريس : النزول في آخر الليل ، والمقيل : الاستراحة في نصف النهار إذا اشتدّ الحرّ.

(١٠) ـ في ت وط : فسكنى مغان.

٣٦٠