رحلة العبدري

أبو عبدالله العبدري

رحلة العبدري

المؤلف:

أبو عبدالله العبدري


المحقق: د. علي إبراهيم كردي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار سعد الدين للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
الصفحات: ٧٢٨

متمسّكين بأصل دعواهم في انتسابهم إلى أهل البيت ، حتّى أباد الله غضراءهم (١) ، ودهم بالفناء دهماءهم ، وقد دلّ مانالوه (٢) من جسيم الملك كلّ ذي فطرة سليمة ، على حقارة الدّنيا وخساستها و «لو وزنت عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافرا جرعة ماء» (٣). «إن الله يعطي الدّنيا من يحبّ ومن لا يحبّ [ولا يعطي الآخرة إلّا لمن يحّب]» (٤) وناهيك بمملكة وصلت ما بين الشّرق والغرب ، واستولت على الحجاز واليمن ، والشّام ، وديار ربيعة (٥) ، ومصر وأرض برقة ، وإفريقيّة ، وانتهت إلى سجلماسة (٦) وإلى فاس بأقصى المغرب ، ودامت نحو مئتي سنة. وآثارهم إلى الآن موجودة ، وأسماؤهم مذكورة ، وقد رأيتها في جامع القيروان ، والشّام (٧) وغيرهما ، حكمة من الله بالغة (٨) ، وحجّة لتوهم الخيال دامغة. وما أظنّ مؤمنا تبقى له شبهة مع هذا في حقارة الدّنيا ، ودناءة خطرها ، وسقوط قدرها عند خالقها ، ما نظر إليها منذ خلقها. دار يستطيل بها العدوّ على الوليّ ويظفّر (٩) فيها الأعوج على

__________________

(١) العرب تقول : أباد الله خضراءهم ، وقال الأصمعي : «أباد الله غضراءهم» ، أي خصبهم وخيرهم ، تهذيب اللغة ٨ / ٨ «غفر».

(٢) في ت وط : مانالوا.

(٣) في ت وط : ما سقي منها كافر ، وهو حديث أخرجه الترمذي في أبواب الزهد ، باب ما جاء في هوان الدنيا على الله عزوجل رقم ٢٣٢١ من طريق سهل بن سعد وتفرّد به بقول المحقق.

(٤) ما بين حاصرتين زيادة من ت ، والحديث أخرجه أحمد بن حنبل في مسنده ١ / ٣٨٧.

(٥) ديار ربيعة : تضمّ عدّة كور بين الموصل ورأس العين ونصيبين ودنيسر والخابور ، بين الحيرة والشام انظر مراصد الاطلاع ٥٦٨ وياقوت ٢ / ٤٩٤.

(٦) سجلماسة : مدينة في المغرب في منقطع جبل درن ، تقع جنوب فاس وبينهما عشرة أيام. انظر مراصد الإطلاع ٦٩٤.

(٧) ليست في ت.

(٨) استفاد من الآية الكريمة : (حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ) سورة القمر ٥.

(٩) ت وط : يطفو ، وظفر عليه : غلبه انظر تهذيب اللغة ١٤ / ٣٧٥ ظفر.

٣٢١

السّويّ. طالما أخّرت كاملا ، وقدّمت ناقصا ، وأكبت (١) جوادا فرجع على عقبيه ناكصا. خنق فيها النبيّ عقبة بن أبي معيط (٢) ، وكسته كساء نجرانيّا (٣) ، والعاصي (٤) العاصي يرفل في الرّيط (٥). أقعدت عليّا وأقامت معاوية ، وأنهشت حسينا (٦) الكلاب العاوية. آذت ابن عمر (٧) بلا ريبة ولا ريب ، وأعدّت لعين ثقيف (٨) مع كلّ عيب. سالمت الحكم (٩) وليس بأهل أن يسالم ، وحاربت أبا ذرّ (١٠) ولا أرب له في العالم. روّعت مع توحشّه سفيان (١١) ، ورفعت مع تفحّشه مروان (١٢). أقعدت مع أشراف الإنس (١٣) أبا قيس ، وأقعدت أخسّ

__________________

(١) في ت وط : كبحت.

(٢) عقبة بن أبي معيط بن ذكوان بن أمية بن عبد شمس : من مقدمي قريش في الجاهلية ، كان شديد الأذى بالمسلمين ، أسر يوم بدر وقتل ثم صلب. انظر السيرة لابن هشام ١ / ٣٠٠ ـ ٣٠١.

(٣) إشارة إلى تكفين الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ثلاثة أثواب نجرانية ، انظر اللسان نمر.

(٤) هو ابن سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس من أشدّاء قريش في الجاهلية قتل مشركا في بدر ، انظر الأعلام ٣ / ٢٤٩.

(٥) الريط : هي الملاءة إذا كانت قطعة واحدة ، هو كل ثوب لين رفيق.

(٦) المقصود به الحسين بن علي بن أبي طالب. رضي‌الله‌عنهما.

(٧) هو عبد الله بن عمر بن الخطاب. وفي الاستيعاب ٢ / ٣٣٣ أنّ الحجّاج أرسل رجلا معه حربة مسمومة فأمرّها على قدم ابن عمر فمرض أياما ثمّ مات ؛ وذلك لأنه قال للحجاج ـ عندما هدده بالقتل ـ : إنّك سفيه مسلّط ...

(٨) لعين ثقيف هو الحجاج بن يوسف الثقفي.

(٩) هو الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد الشمس القرشي الأموي : صحابي أسلم يوم الفتح ، وكان فيما قيل يفشي أسرار الرسول فنفاه إلى الطائف وأعيد إلى المدينة في خلافة عثمان وهو والد مروان رأس الدولة المروانية. ترجمته في الإصابة ١ / ٣٤٤ ، نكت الهميان ١٤٦.

(١٠) ـ هو أبو ذرّ الغفاري : جندب بن جنادة صحابي يضرب به المثل في الصدق ، كان يحرض الفقراء على مشاركة الأغنياء في أموالهم توفي سنة ٣٢ ه‍. له ترجمة في الإصابة ٤ / ٦٣. وحلية الأولياء ١ / ١٥٦ ـ ١٧٠.

(١١) ـ هو سفيان الثوري : تقدمت ترجمته.

(١٢) ـ هو مروان بن الحكم الخليفة الأموي أب عبد الملك شهد صفين مع معاوية توفي سنة ٦٥ ه‍. له ترجمة في الإصابة ٣ / ٤٥٥ ـ وأسد الغابة ٤ / ٣٤٨.

(١٣) ـ في ط : الأندلس. ولعله قصد أبا قيس بن رفاعة اليهودي.

٣٢٢

البهائم مع القرنيّ أويس (١) ، وقديما أحوجت الكليم والخضر حتّى استطعما (٢) ، وأغنت قارون وأراحت عليه نعما : [البسيط]

وطالما فتكت بالدّارعين ولم

تحفل بجيشهم أن كان جرّارا

[٨٠ / ب] وكم حليف اغترار خالها ثقة

لم يمس إلّا وغيم الغدر قد دارا

ومن غرائب العبر ، وطرائف الصّور. وطرف الأعاجيب ، وتحف اللّبيب ما اتّفق في قتل الحسين رضي‌الله‌عنه. قتله دعيّ آل حرب (٣) ، وأخذ بثأره كذّاب ثقيف (٤) ، ونوّه باسمه أعداء ملّة جدّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بنو عبيد ، فقاموا بدعوته ، وبالغوا في إكرام تربته ليقتصّ من قضية (٥) بمثلها ، ويقابل فاسد بمثله ، فيقرأ الفهم الفهم (٦) سورة الصّورة ، ويتهجّى اللبيب الأريب حروف تلك الحروب ، فيعلم أنّ الكلّ آلات مستعملة حسبما اقتضاه العلم القديم ، ونبّأ (٧) عن دقائقه العلم القديم ، ويرى ظاهر الأسباب تعطّل أحكامها في هذه القضيّة الجّليّة (٨) ؛ فيا عجبا حصل إجماعهم على إملاء أساطير الأباطيل في ملاء

__________________

(١) هو أويس القرني : ناسك أصله من اليمن شهد صفين مع علي ويرجح الكثيرون أنه قتل فيها. له ترجمة في حلية الأولياء ٢ / ٧٩ وفيه أنه مات في غزوة أذربيجان أيام عمر ـ وطبقات ابن سعد ٦ / ١٦١.

(٢) إشارة إلى قصة موسى عليه‌السلام والرجل الصالح في سورة الكهف.

(٣) اشترك في قتله جماعة ، انظر تفصيل ذلك في تاريخ الطبري ٥ / ٤٠٠ وما بعدها.

(٤) كذّاب ثقيف هو المختار الثقفي الذي ثار على بني أمية توفي سنة ٦٧ ه‍. له ترجمة في الإصابة ٣ / ٤٩١.

(٥) في ت وط : قضيته.

(٦) ليست في ت وط.

(٧) في ط : أنباء.

(٨) في ت وط : الجليلة.

٣٢٣

الملّة (١) ، واختلفوا في العمل بها فانخرق إجماعهم سريعا ، لأنّه كان مهلهل النّسج. وعصمة الإجماع شرعيّة لا عقليّة. عمل آل حرب بما ظنّوه من رشادهم ولم يعلموا أنّهم استعملوا في فسادهم ، ثم استعمل مثلهم في ضدّ صنعهم ليتضّح الأمر. ولو صحّ الحكم للأسباب ، لولجوا كلّهم من باب. كان قصدهم واحدا ، فجرت ريح القدر ففرّقت السّفن ، فرمت بعضا (٢) إلى بلاد العدوّ ، وبعضا إلى ساحل من سواحل الإسلام احتاج أهله (٣) الميرة (٤) فأمدّوا بها على رغم الملّاح (٥) : [الخفيف]

ربّ أمر أتاك لا تحمد الفع

 ـ عال فيه وتحمد الأفعالا

«قال الحائط للوتد : لم تشقنّي؟ قال : سل من يدقّني» (٦) ظفر دعيّ آل حرب بالحسين في يوم (٧) عاشوراء ، وفيه أنجى الله موسى من فرعون ، والقضيّتان سواء ليبيّن أنّ كرامة الدّنيا لا يطّرد لها قياس ؛ فلذلك عمّت العدوّ والوليّ ، ليس لها قدر فلم يعط لها حكم. لمّا لم يكن للماء عند وجوده خطر ، سقط عنه حكم الرّبا ، ولمّا جرت الفلوس مجرى العين (٨) ، منع فيها التّفاضل.

__________________

(١) الملّة : الشريعة والدين.

(٢) في ت وط : بعضها.

(٣) في ت وط : أهلها.

(٤) الميرة : الطعام من حبّ وقوت.

(٥) البيت للمتنبي في ديوانه ٣ / ١٣٨.

(٦) المثل في نفح الطيب ٥ / ٢٩٥.

(٧) ليست في ت وط.

(٨) العين : الذهب.

٣٢٤

لم تزل ضمائر آل حرب ترشح سمّا ، ما ذكر هاشميّ إلّا نضنضوا (١) ليلسعوه. [٨١ / ب] كانت عداواتهم علّة السّرطان كلّما مسّت بحديد الحدود تقرّحت. ظهرت يوم بدر ، واستحكمت يوم أحد ، وانتشرت يوم الأحزاب ، وقهرت يوم الفتح. فما تحرّك منها إلّا عرق. لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيما (٢) ، ومالي ولبني فلان. كما قمعها خوف هرقل فلم يظهر منها إلّا تألمّ ، ونحن منه في مدّة وأنين. لقد «أمر أمر ابن أبي كبشة» (٣) ثمّ أماتها حرّ الخوف ، ومرهم (٤) الطّمع. فلمّا برد الخوف وسقط المرهم ، وتحرّك برد التّرف ، هاجت فعادت جذعة (٥) قطعت بالإياس الأمل ؛ فطغت في صفّين (٦) والجمل (٧) ، وأعادت الكرب والبلاء فأجهزت على يزيد بكربلاء (٨) عجبا لها (٩) ، ما محّت حتّى محت رسومهم ، ولا اندرست حتّى درست (١٠) جسومهم ، لم يحي ملكهم

__________________

(١) النضنضة : تحريك الحيّة لسانها.

(٢) قول أبي سفيان للعبّاس عم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو في السيرة النبوية لابن هشام ٢ / ٤٠٢.

(٣) المثل في اللسان كبش «وقد جاء في حديث أبي سفيان وهرقل» ، وابن أبي كبشة هو الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهي كنية أبيه من الرضاعة. انظر الروض الأنف ٢ / ٢٢٨.

(٤) في ت وط : ومدّهم.

(٥) أي جديدة كما بدأت.

(٦) صفّين : موضع بقرب الرقة على شاطئ الفرات كانت فيه وقعة صفين بين علي رضي‌الله‌عنه ومعاوية سنة ٣٧ ه‍. انظر وقعة صفين للمنقري.

(٧) وقعة الجمل : وهي التي جرت بين علي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه وعائشة أم المؤمنين ومن قام معها. وكانت سنة ٣٦ ه‍ وانتهت بانتصار علي وجيشه.

(٨) كربلاء : موضع في طرف البرية عند الكوفة وفيه قتل الحسين بن علي رضي‌الله‌عنه. انظر ياقوت ٤ / ٤٤٥.

(٩) في ت وط : منها.

(١٠) ـ في ت : أدرست.

٣٢٥

بعدها إلّا أيّاما قلائل. وأيّ حياة لمنفوذ المقاتل. تهالكوا على خرزة ظنّوها درّة ، فبذلوا لها نفائس نفوسهم ، فما فطنوا لسّوء صنيع الغمر (١) إلّا بعد ضياع العمر : [الكامل]

بذلوا غنى الدّارين في محض العدم

ندموا ولكن حين لا يغني النّدم

فلقد تباغضت الجوارح منهم

فترى الأكفّ يقوم فيها الملتدم (٢)

والظّفر يقرع سنّه لكنّه

إن أمكنت ضرسا أنامله كدم (٣)

ومن المزارات بربضها الغربيّ روضة السّيدة الشّريفة الطّاهرة ، ذات الفضائل الظّاهرة ، والكرامات المتظاهرة : نفيسة بنت عليّ بن أبي طالب (٤) رضي‌الله‌عنهما ؛ وتربتها هنالك مشهورة ، وهي على (٥) أوفى ما يكون بناء مونقا ، وضياء مشرقا ، وعناية كاملة ، وحفاية حافلة ، ومن رآها لم يشكّ في فضل ملوكهم ، وأنّهم جعلوا تعظيم أهل البيت مبدأ سلوكهم ، اتّخذوه في عقود عمود الدّين واسطة سلوكهم. عليها رباط مقصود ، ومعلم مشهود ؛ ومحلّ

__________________

(١) الغمر : الحقد.

(٢) اللّدم : اللطم.

(٣) الكدم : العضّ.

(٤) كذا في جميع النسخ وهو سهو وقع فيه المصنّف. وهي نفيسة بنت الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب : عالمة بالتفسير والحديث ، ولدت بمكة سنة ١٤٥ ، ونشأت بالمدينة وانتقلت إلى القاهرة فتوفيت بها سنة ٢٠٨ ه‍. ترجمتها في وفيات الأعيان ٥ / ٤٢٣ ـ غربال الزمان ١٩٨ ـ أعلام النساء ٥ / ١٨٧.

(٥) ليست في ت.

٣٢٦

محفود (١) محشود (٢) ، تصوب (٣) بها ديم العناية الرّبانية وتجود ، و: [الوافر]

 .....................................

لأمر ما يسوّد من يسود (٤)

ومن المزارات بقرافة مصر : تربة الإمام الشّافعيّ ـ رحمه‌الله ـ وهي أشهر من أن تخفى [٨١ / ب] وأظهر من أن تغفل أو تنسى ، عليها رباط كبير ومحلّ أثير ، وفيها جراية تزيدها اشتهارا ، وعناية تلحفها مبرّة وإيثارا ، وعليها قبّة عجيبة مشهورة ، معدودة في المباني المتقنة مذكورة ، مفرطة (٥) الارتفاع والاتّساع (٦) ، غريبة في الإحكام والإبداع. ذرعتها من داخلها فوجدت سعتها أزيد من ثلاثين ذراعا ، وفيها من العدد والأسباب والآلات ما يعجز عنه الوصف ، وفي القرافة وغيرها من أرض مصر من قبور العلماء والصّلحاء ما لا يحصره عدّ ؛ منها قبر الرّجل العالم الصّالح ، عبد الرّحمن بن القاسم (٧) صاحب الإمام مالك (٨) رحمه‌الله ، وأشهب بن عبد العزيز (٩) ، وأصبغ بن

__________________

(١) في ط : محفوظ.

(٢) في ط : مشحود.

(٣) في ت : تصوبها وفي ط : تصوب فيها.

(٤) هو عجز بيت لأنس بن نهيك وصدره :

«عزمت على إقامة ذي صباح»

وهو في الصحاح للجوهري صبح واللسان صبح والتاج صبح وانظره في مجمع الأمثال للميداني ٢ / ١٩٦.

(٥ ـ ٥) ـ في ط : الاتساع والارتفاع.

(٦) عبد الرحمن بن القاسم بن خالد بن جنادة العتقي المصري : فقيه مالكي تفقه بالإمام مالك. جمع بين الزهد والعلم ، ولد بمصر سنة ١٣٢ ه‍ وتوفي فيها سنة ١٩١ ه‍. له المدونة في فقه المالكية ترجمته في حسن المحاضرة ١ / ١٢١ ـ الديباج المذهب ١٤٦ ـ شجرة النور الزكية ١ / ٥٨.

(٧) زاد في ت «ابن أنس».

(٨) أشهب بن عبد العزيز القيسي : فقيه الديار المصرية في عصره ، كان صاحب الإمام مالك توفي بمصر سنة ٢٠٤ ه‍ له ترجمة في حسن المحاضرة ١ / ٣٠٥ ـ الديباج المذهب ٩٨.

٣٢٧

الفرج (١) ، وابن عبد الحكم (٢) ، وأبي إسحاق بن شعبان ، والقاضي أبي محمّد عبد الوهاب ، وغيرهم. وليس لها هنالك اشتهار ، ولا يوقف عليها إلّا بتعريف من له بها عناية. وقد (٣) أخبرني بعض أصحابنا أنّه ما أوجب تنويههم بتربة الشّافعي ، إلّا دفن أمّ الملك الكامل (٤) معه في الرّوضة ، وما أقرب أن يكون ذلك (٥) كذلك. فإنّ الّذي ضمّته مصر من أفاضل الصّدر الأوّل لا يحصى كثرة ، وفيهم من الصّحابة رضي‌الله‌عنهم أعداد. ومع ذلك فما عرفت قبور أكثرهم ، فضلا عمّا سوى ذلك.

والشّافعيّ ـ رحمه‌الله ـ رجل مجدود في حياته ، وبعد موته ، وطار (٦) له من الصّيت مالم يطر (٧) بعضه لمن هو أعلم منه ، وخدمه الجدّ حتّى في الأصحاب ، فما صحبه إلّا من له فيه فرط تشيّع ، وغلوّ معتقد ، ومن رأى كلامهم فيه ، وذكرهم له عجب من ذلك ، وما أحقّهم باسم الشّيعة من المتعصّبين لمن حقّ لهم التّعصّب ، ووجبت لهم الحميّة ، أهل بيت النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولقد صدق الشّافعيّ ـ رحمه‌الله ـ في قوله : (٨) [الكامل]

__________________

(١) أصبغ بن الفرج بن سعيد بن نافع المالكي : مفتي مصر فقيه مالكي ، توفي سنة ٢٢٥ ه‍ له : كتاب الأصول ، غريب الموطأ. آداب الصيام. ترجمته في ترتيب المدارك ٢ / ٥٦١ ـ الديباج ٩٧.

(٢) هو عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم : مؤرخ ، محدّث ، فقيه من أهل مصر توفي سنة ٢٥٧ ه‍ له : فتوح مصر والمغرب والأندلس. ترجمته في حسن المحاضرة ١ / ٤٤٦ ، الأعلام ٣ / ٣١٣.

(٣) ليست في ط.

(٤) الملك الكامل : هو محمد بن محمد بن أيوب من سلاطين الدولة الأيوبية ، تولى مصر سنة ٦١٥ ه‍. وامتلك البلاد الشامية توفي بدمشق سنة ٦٣٥ ه‍. من آثاره المدرسية الكامليه بمصر. له ترجمه في بدائع الزهور ١ / ٢٥٨ ـ ٢٦٨ ـ وحسن المحاضرة ٢ / ٢٣ ـ ٣٤.

(٥) ليست في ت وط.

(٦) في ط : صار.

(٧) في ط : يظهر.

(٨) ديوان الإمام الشافعي : ١٣٢ ـ ١٣٣.

٣٢٨

الجدّ يدني كلّ شيء شاسع

والجدّ يفتح كلّ باب مغلق (١)

فإذا سمعت بأنّ مجدودا حوى

عودا فأورق في يديه فحقّق (٢)

وصدق القائل أيضا : (٣) [٨٢ / آ] [الكامل]

والجدّ أنهض بالفتى من عقله

فانهض بجدّ في الحوادث أوذر

قلت : قد امتّد نفس الكلام في ذكر هذه المدينة المهينة ، وحقّ له أن يقصر ، وقد كفى ذمّها أنّها مذمومة على مرّ (٤) الأعصر ، وبنو الزّمان فطن أكياس ، يبصرون أقلّ الأود (٥) في الغصن الميّاس.

والآن حان أن نعطف عنان الكلام ، إلى إجراء الرّحلة على نسق الانتظام ، فنقول وبالله نستعين وهو خير معين :

[البرية بين الحجاز ومصر]

ثمّ سافرنا من المدينة المذكورة ، وتركناها غير محمودة ولا مشكورة ، وبرز (٦) الرّكب للرّحيل ، ورفضناها كما رفض الطّلل المحيل ، فنزلنا بموضع

__________________

(١) في الديوان : كل أمر ، والجدّ : الحظّ والحظوة.

(٢) البيت ساقط من ت ، وفي الديوان : عودا فأثمر.

(٣) البيت لعبد الله بن يزيد الهلالي كما في حماسة البحتري ٢٤٦ وروايته ثمة :

الجدّ أملك بالفتى من نفسه

فانهض بجدّ في الحوائج أوذر

وهو في محاضرات الأدباء ١ / ٢١٤ :

الجدّ أنهض بالفتى من سعيه

فانهض بجدّ في الحوادث أودع

(٤) في ط : مدّ.

(٥) الأود : الاعوجاج.

(٦) برز الرجل : خرج إلى الفضاء.

٣٢٩

على نحو عشرة أميال منها ويعرف بالبركة. صحراء لا أنيس بها ، وعادة الرّكب النزول بها ليتلاحق (١) النّاس وربّما أقاموا بها يومين أو ثلاثة ، وفيها آبار طيّبة ، وتقوم بها سوق عظيمة يستتمّ بها (٢) الحجّاج جهازهم. فلمّا تلاحق الرّكب واستتبّ السّفر ، رحلنا في الضّحى الأعلى من يوم الثّلاثاء الثّامن عشر من شهر شوّال مستقبلين للبريّة الكبيرة : بريّة ما بين الحجاز ومصر ، وهي مسيرة أربعين يوما ، وما بها مستعتب إلّا في ينبع وفي بدر ، فإنّ بهما عمارة هي أشبه شيء بالخلاء والورود في جميعها ربعا (٣) وغبّا (٤) ، والرّبع هو الغالب ، وليس في البراري أطول منها ولا أقفر (٥). أرضها في نهاية الحروشة (٦) لا يمكن أحدا فيها المشي بغير مداس البتّة. وفيها قوم من العرب ، صعاليك ينتقلون فيها من موضع إلى موضع مالهم قوت إلّا ما يمتارونه (٧) من بعيد ، فهم الدّهر كلّه في جهد وفرط شظف (٨). وقلّما يظهرون للرّكب لخبث أفعالهم ، وعدم ما يعاملون به ، وإنّما يتطرّفون (٩) الرّكب (١٠) ويطالعونه من كلّ مرقب ، فإذا رأوا متخلّفا عنه لغفلة ، أو نوم ، أو انقطاع عجز ، انقضّوا عليه فمزّقوا أشلاءه ، ولو لم يجدوا عليه إلّا خرقة واحدة لم يتركوها له. ولو لا صاحب

__________________

(١) في ط : ليلاحق.

(٢) في ت وط : منها.

(٣) الرّبع : ورد الماء يوما وتركه يومين ثم الورود في اليوم الرابع. انظر تهذيب اللغة ربع ٢ / ٣٧٠.

(٤) الغبّ : ورد يوم وظمء آخر.

(٥) في ط : أفقر.

(٦) الحروشة : الخشونة.

(٧) الامتياز : هو طلب الميرة ، وهي الطعام.

(٨) الشّظف : شدّة العيش وضيقه.

(٩) في ت وط : يتطرقون.

(١٠) ـ في ت : للركب.

٣٣٠

مصر وما ألهمه الله من الاعتناء [٨٢ / ب] بالرّكب ، وإخراج الحصّة معه بأمير على أكمل ما يكون من الاستعداد والتّأهّب ، ماسلك أحد تلك البريّة لطولها وخلائها إلّا من القطّاع. ولكنّ لطف الجليل جلّ جلاله يصحب عباده بحسب الحاجة ، وعونه يأتيهم على قدر نزول الشّدّة ، وغوثه يسرع إليهم على مراتبهم في الاضطرار.

لمّا كان الرّوح يتقوّت الهواء ، ولا يصبر عنه ساعة ، كان الهواء أكثر الموجودات إمكانا ، ولمّا كانت الحاجة إلى الماء شديدة ، والصّبر عنه قليلا ، كان قريبا منه في الإمكان. فتأمّل لو كانا لا يؤخذان إلا بثمن كالطّعام ، ما الحيلة؟ ولمّا كانت الحاجة إلى النّار (١) دون ذلك ، والقليل منها يكفي ، والكثير منها يضرّ ، كانت أقلّ إمكانا ، حتّى إنّها قلّما (٢) تكون إلّا بمعالجة.

ومن تصفّح دواوين الموجودات ، وجد هذا الفنّ من علومها كثيرا ، الفواكه قليلة بالنّسبة إلى القوت للاستضرار بعدم القوت. وأقلّ الجواهر وجودا ما لا تمسّ الحاجة إليه ، ثم عظم في النّفوس تعظيما مجرّدا من سبب ، ليبيّن أثر القدرة ، وليعمّ نفع ما فيه النّفع ، ولا يقع الاستئثار به. فيا عجبا من حبّ ما لا ينفع حتى يعوّض به أعظم الأشياء نفعا.

لما كان المشي على الأقدام ، كانت بشرتها أغلظ ، والكفّ تحتاج إلى مباشرة الخشن فغلظت بشرتها بحسب الحاجة ثم تدّرّج (٣) الغلظ في جميع البشرة على نحو ذلك ، حتّى صارت بشرة الشّفة أرقّها إذ لا يباشر بها إلّا اللّيّن.

__________________

(١) في ت : النور ، وفي ط : النادر.

(٢) في ت وط : أقلّ ما تكون.

(٣) في الأصل : درج

٣٣١

ولمّا احتيج في الكفّ إلى اللّمس جعلت أذكى الأعضاء حسّا مع كثافة البشرة ليتنبّه الكثيف الطّبع إلى جمع الضدّين. ولمّا احتيج إلى كشف الوجه للمواجهة ، أعين على ألم الحرّ والبرد أكثر من سائر البدن ، ومن عجب أنّه يتألّم بأقل الخجل حتّى يتصبّب عرقا ، ثم يحتمل شدّة البرد (١).

لمّا كان المظلوم إلى النّصر أحوج ، كانت الإجابة إلى دعائه أسرع [٨٣ / آ] «اتّقوا دعوة المظلوم ، فليس بينها وبين الله حجاب» (٢).

لمّا كان الصّغير من الحيوان غير مستقلّ بنفسه ، استخدمت له الأمّ بقهر الشّفقة. ولمّا كان الكبير [مستقلا بنفسه استغنى عن أمّه](٣). فسبحان من عجزت العقول عن إدراك بعض لطائفه ؛ وقصّرت الألسن عن شكر أقلّ عوارفه [...](٤). ومن نظام حكمة الحكيم أنّهم لا يرحلون ولا ينزلون إلّا بأمر ، وعلامة الأمر دقّ الطبّل. ولا يتقدّم منهم أحد الدّليل ، والدّليل أمامهم ليلا ونهارا ، والخيل قدّام الرّكب ووراءه [...](٥) بالمشاعل تنفض المسالك وتتفقّد من تأخّر [من ضعف أو نوم] أو تكاسل ، ومعهم جمال السّبيل يحملون عليها المنقطعين بعد امتحان لهم واستبراء لشأنهم ، [لأن منهم من](٦) يتعاجز رغبة في الرّكوب ، وهو قويّ على المشي ،

__________________

(١) في ط : الحر.

(٢) أخرجه البخاري في الزكاة باب أخذ الصدقة من الأغنياء رقم ١٤٩٦ ـ ٣ / ٣٥٧ عن ابن عباس ، وفي المظالم باب الاتقاء والحذر من دعوة المظلوم رقم ٢٤٤٨ ـ ٥ / ١٠١ وفي الموضعين بلفظ : اتقّ ـ ومسلم في الإيمان باب الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام رقم ٢٩.

(٣) بياض في الاصل وط والتكملة من ت.

(٤) بياض في جميع النسخ بمقدار خمس كلمات.

(٥) بياض في جميع النسخ بمقدار كلمتين : لعلهما (فرسان يمشون).

(٦) بياض في جميع النسخ بمقدار ثلاث كلمات ، والاستدراك من نسخة الأحمدية.

٣٣٢

فإذا أخذته السّياط طار. وما رأيت [أحدا يريد ...](١) التّباعد منهم والتّستّر عنهم ، فلا بدّ لهم أن يقفوا عليه فيضربوه بالمقارع ، وليس في الأرض [من يفعل فعلهم ، لا يكلّون ولا يملّون ولا يضجرون .....](٢) بل يدأبون الّليل والنّهار حتّى يرجعوا إلى مصر بعد ثلاثة أشهر. والّذي جبلهم الله عليه من الحذر والاحتياط أمر يضيق عنه الوصف. لا يخرج أحد منهم من منزله (٣) إلى المسجد أو السّوق ، أو متنزّها (٤) في داخل البلد ، إلّا وهو محتزم كامل الآلة على صورته في وصف الحرب لا يفارقه ذلك على حال ، كما قال مسلم بن الوليد : (٥) [البسيط]

تراه في الأمن في درع مضاعفة

لا يأمن الدّهر أن يدعى على عجل

والّذي يتحمّلونه من النّصب (٦) ، والعنا في خدمة الرّكب ، والاحتياط عليه ومداراة الضّعفاء منه ، ومواساتهم ، والتّرجّل لحملهم ، لا يقدر عليه إلّا من أهلّه الله للخير ، وأعانه عليه ، فجزاهم الله عن المسلمين [٨٣ / ب] خيرا ، وحالهم في [سير](٧) هذه البرّيّة أنّهم يرحلون في نصف اللّيل ، أو قبله بيسير ، وربّما رحلوا في الثلث الأخير [من اللّيل](٨) والمشاعل تردّ اللّيل نهارا ، فيسرون حتى يصبح ، ويصلّون ثم يستديمون السّير حتّى ترتفع الشّمس فينزلون إلى

__________________

(١) بياض بمقدار ثلاث كلمات والاستدراك من نسخة الأحمدية.

(٢) بياض بمقدار سطر واحد والاستدراك من نسخة الأحمدية.

(٣) ليست في ت.

(٤) ليست في ط.

(٥) ديوان صريع الغواني ١٢.

(٦) النّصب : التّعب.

(٧) زيادة من ت وط.

(٨) زيادة من ط.

٣٣٣

الظّهر ، ويصلّون ثم يرحلون ، وربّما رحلوا قبل الصّلاة ، ثمّ ينزلون آخر النّهار عند الغروب إلى نصف اللّيل هكذا إلى مكّة ، وإلى مصر.

وهذا السّير على هذه الصّورة من أروح ما يكون للمسافر المجدّ ، لانقسام السّير والرّاحة بين اللّيل والنّهار ، مع الإرواد (١) في المشي والجدّ فيه ، فصاروا يقطعون بالدوّام مع المهل ما لا يقطعه الجادّ في يوم تامّ ؛ وحصلت الرّاحة مع قضاء ما لا بدّ منه بالنّهار من أكل وسقي في المناهل ، ونزول للرّاحة (٢) ، وغير ذلك. ولو كان سيرهم بالنّهار خاصّة ، لقطعهم عنف السّير ، وتعطّل عليهم أكثره لتلك الضّروريات فيكثر عناؤهم ولم يقطعوا مسافة.

وهذه البريّة ـ مع طولها ـ من أروح المواضع للحاجّ بسبب الأمن ، فإنّ أصحاب الأموال يتّسعون بها على اختيارهم ، ولا يتّقون عليها ، والضّعفاء يعيشون بينهم بأنواع من الاحتراف ، وأضرّ ما على الفقير فيها المرض لعدم المستعتب وطول الطّريق. وأمّا القوت فيتسبّب فيه إذا كان صحيحا. وقلّما يعوزه التّسبّب لكثرة (٣) الخلق ، فإنّهم بحيث لو غاب عن أحد (٤) رفيقه لم يجده عن أيّام ، وأكثرهم بعلامات يتعارفون بها وأعرف بعض المصامدة (٥) ضاع عن أصحابه في الرّكب عند انفصاله (٦) من مصر فما زال ينشدهم وينادي بهم ولم يجدهم حتّى وصل إلى عقبة أيلة (٧) مسيرة عشرة أيّام ، وكان الرّكب

__________________

(١) الإرواد في المشي : الإمهال.

(٢) في ت وط المراحل

(٣) في ت وط : بكثرة

(٤) في ت واحد.

(٥) المصامدة : نسبة إلى قبائل مصمودة.

(٦) في ت : انتقاله.

(٧) أيلة : مدينة على شاطىء البحر في منتصف ما بين مصر ومكة. انظر ياقوت ١ / ٢٩٢.

٣٣٤

في هذا العام قليلا يتعجّب (١) النّاس من قلّته بسبب خروج السّلطان إلى جهاد عكّة (٢). وذكر لي بعض من حجّ قبل هذا العام أنّه أحصى في بعض الأعوام ما في الرّكب من الجمال فوجدت ثمانين ألف راحلة دون [٨٤ / آ] الدّواب.

[مناهل البرّيّة]

[السّويس]

وأمّا مناهل هذه البرّيّة فمن البركة إلى السّويس ثلاثة أيّام ، وهي بئر غزيرة واسعة ، وهنالك ينقطع بحر الشّرق (٣) ، فيدور السّالك من ورائه ويتركه يمينا ولا يزال محاذيا له إلى مكّة ، وثمّة كانت مدينة القلزم (٤) ، وبينها وبين الفرما ـ كورة من مصر على ساحل البحر الرّومي ـ مسيرة يوم ، وما بين هذين الموضعين أقرب مسافة بين البحرين بحر الشّرق وبحر الغرب.

قالوا : (٥) وهذا الحاجز بينهما هو الّذي ذكره الله سبحانه وتعالى في قوله : (وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً)(٦).

[مغبوق]

وماء السّويس ملح لا يكاد يساغ لملوحته ، وخباثة مطعمه ولكن بالقرب منه على نحو عشرة أميال ، أو أزيد قليلا ماء يقال له مغبوق (٧) ، وهو ماء عذب

__________________

(١) في ط : يعجب.

(٢) عكّة : مدينة على ساحل بحر الشام من عمل الأردن وهي مدينة حصينة لها سور. انظر ياقوت ٤ / ١٤٣.

(٣) بحر الشرق : يعني البحر الأحمر.

(٤) القلزم : بلدة على ساحل البحر الأحمر قرب أيلة. انظر ياقوت ٤ / ٣٨٧.

(٥) انظر البكري في جغرافية مصر من كتاب المسالك والممالك ٩٣.

(٦) سورة النمل من الآية ٦١.

(٧) في الأصل مبعوق وهو سهو.

٣٣٥

طيّب في أحساء برملة بيضاء ، غزير لا كلفة فيه. وكان كثير من النّاس قد استقى من السّويس ، فلمّا وصلوا [إلى مغبوق](١) [أراقوا ما معهم](٢) ، وسقوا دوابهم ، واستقوا منه ثانية.

[بئر النخل]

ومن مغبوق إلى بئر النّخل ثلاثة أيّام ، وهي بئر واحدة بكيّة ، ماؤها شريب [لايروي](٣) عطشا ، ويتقاتلون على مائها ؛ حتّى لقد قتل بينهم مرّة بما ذكر لي نحو مئتين ، ومازال الحال [كذلك ، حتّى حفر أمير](٤) مصر ، ويقال له طرطقى ، هنالك بئرا أخرى متقنة العمل ينزل إليها في درج له باب إلى جانبها ، وهي عجيبة الإحكام ، ولكنّها بكيّة أيضا إذا كثر السّقاة نزفتا (٥) معا ؛ ومنذ أحدثها الأمير المذكور [كان](٦) الماء قليلا ، والزحام مع ذلك كثير ، وهذه البئر تعرف بالأمير المذكور وقد أدركنا حياته (٧) وقد توفي بطريق (٨) الحجاز رحمه‌الله.

__________________

(١) زيادة من ت وط.

(٢) بياض في الأصل وت وط استدركته من نسخة الأحمديّة.

(٣) بياض في سائر النسخ. استدركته من نسخة الأحمديّة.

(٤) بياض في سائر النسخ استدركته من نسخة الأحمديّة.

(٥) في الأصل : تردها معا.

(٦) بياض بمقدار كلمة. استدركته من نسخة الأحمدية.

(٧) في ط : أدركناه حيّا

(٨) جملة «وقد توفي بطريق» ساقطة من ط.

٣٣٦

ومن بئر (١) النّخل إلى عقبة أيلة ثلاثة أيّام ، والغالب في ورودها الرّبع ، وهناك قصير وأثر بناء قديم ، وهو موضع مدينة أيلة ، وماؤها أحساء في الرّمل ، [وهناك](٢) يقطع الخليج الدّاخل من بحر القلزم المذكور ، [٨٤ / ب] وهو بحر موسى عليه‌السلام ، إلى صوب الشّام ، [ومن هناك](٣) طريق إلى الشّام ، والأحساء المذكورة في ساحل البحر ، وإذا طمت الموجة كستها ومع ذلك ما أثّر فيها ماء البحر ، فسبحان من لا غاية لغرائب صنعه ، ولا حيلة في إعطائه ومنعه.

[أيلة]

وأيلة معدودة من كور مصر ، وفيها عدّها البكريّ ، وجعلها القاضي صاعد حدّ طول مصر حسبما تقدم (٤) وقد ذكرها القاضي عياض (٥) في «مشارقه» (٦) وغلط فيها فحكى عن أبي عبيدة : «أنّها مدينة على شاطىء البحر من بلاد الشّام ، وهي نصف الطّريق من فسطاط مصر إلى مكّة (٧) وذكرها المتيجيّ صاحب «الرّسالة في القبلة» في رسالته فقال : «إنّ منها إلى مكّة نصف شهر». فغلط فيها أيضا كما رأيت ، وذلك غير مستنكر ، فإنّ من لم يشاهد الشّيء يصعب عليه وصفه ، وقلّما يسلم فيه من الغلط.

__________________

(١) ليست في ت.

(٢) بياض في سائر النسخ استدركته من نسخة الأحمدية.

(٣) بياض في سائر النسخ استدركته من نسخة الأحمدية.

(٤) طبقات الأمم : ١٠٥.

(٥) هو أبو الفضل عياض بن موسى بن عياض بن عمرون اليحصبي السبتي : قاض ، حافظ ، فقيه محدث. توفي بمراكش سنة ٥٤٤ ه‍ له : ترتيب المدارك وتقريب المسالك في معرفة أعلام مذهب مالك. والشفا بتعريف حقوق المصطفى ، ومشارق الأنوار. ترجمته في قضاة الأندلس ١٠١ ـ الصلة ٤٥٣ ، وفيات ابن قنفذ ٢٨٠.

(٦) هو مشارق الأنوار على صحاح الآثار في تفسير غريب الحديث المختص بالصحاح الثلاثة وهي الموطأ ، والبخاري ومسلم طبع غير مرّة.

(٧) مشارق الأنوار ١ / ٥٩.

٣٣٧

[نقد المسالك والممالك للبكريّ]

ومازال أهل الإتقان يقعون في مثل هذا. ألا ترى إلى أبي عبيد البكريّ مع تحقيقه (١) وفرط اعتنائه ، ونبل تواليفه ، قد أودع في مسالكه من الغلط في صفات البلدان ، وتحديدها وترجمتها ما لا غاية وراءه. فمن ذلك قوله في إيلياء مدينة بيت المقدس : «إنّ الجبال محيطة بها» وإنّما (٢) هي في نشز من الأرض كما ذكر ، وليس بالقرب منها جبل إلّا رواب وتلال. وأظنّه سمع بما دار بها من الوعر ، وما حازها من جهات الأودية المنقطعة ، فظنّها جبالا. ومنه قوله في وصف قصر الجمّ بإفريقيّة ـ وهو قصر الكاهنة ـ : «إن في دوره نحوا من ميل» (٣) وقد طلعت (٤) إلى أعلاه ، وتأمّلته ولو رمى الرّامي حجرا لخلّفه به. ومن ذلك قوله في سرت : «إنّها مدينة كبيرة على ساحل البحر بها حمّام وأسواق ، ولها بساتين ونخل» (٥) ، وهذا كلّه لا وجود له ، وإنّما هي قصير صغير يعرف بالمدينة ، وهو أوّل قصور سرت من جهة الشّرق. وبينه وبين البحر مسافة ، وما للنّخل بسرت كلّها وجود ، وأظنّه [٨٥ / آ] سمع بأنّ التّمر عندهم كثير ، فحكم بوجود النّخل عندهم ، وغلط في عكس القضيّة. والتّمر عندهم مجلوب من بلاد أوجلة (٦). ومن ذلك قوله في نفيس (٧) بالمغرب الأقصى «إنّها مدينة

__________________

(١) في ت وط : تحققّه.

(٢) في ط : وإنّها وهو تحريف.

(٣) المغرب في ذكر إفريقية والمغرب : ٦.

(٤) في ت وط : طلعته.

(٥) المغرب : ٣١

(٦) أوجلة : مدينة بينها وبين برقة في البحر عشر مراحل. وهي مدينة صغيرة متحضرة ، وهي في ناحية البرية يطيف بها نخل وغلات لأهلها. انظر الروض المعطار ٦٤.

(٧) نفيس : مدينة من بلاد المغرب عند أغمات تعرف بالبلد النفيس. وهو مدينة قديمة صغيرة حولها عمارات وطوائف من قبائل البربر. انظر المغرب ١٦٠ ، الروض المعطار ٥٧٨.

٣٣٨

بينها وبين البحر مسيرة يوم» (١). وإنّما هو اسم نهر كبير عليه قرى كثيرة وعمارة متّصلة ، وبينه وبين البحر ثلاثة أيّام. ومن ذلك أنّه ذكر (٢) في طريق تامدولت إلى بلاد السّودان جبلا يقل له : آزور وقال : «وأظنّه جبل درن ، وجبل درن قد حازه السّوس الأقصى. فليس شيء منه وراءه» (٣) وتامدولت من وراء السّوس على مسيرة أيّام. ومن ذلك أنّه ذكر من بلاد الصحراء بلدة يقال لها : تاد مكّة وترجمها فقال : «معنى تاد : الهيئة أي أنّها على هيئة مكّة.» (٤) وليس معنى تاد : الهيئة كما ذكر ، ولا للهيئة (٥) اسم في لسانهم البتّة ، وإنّما معنى تاد : هذه ، وهي من أسماء الإشارة عندهم. يقولون : لهذا : واد ، ولهذين وهؤلاء ، ويد ، ولهذه : تاد ، وهؤلاء تيد ، وليس للمثنّى عندهم عبارة سوى عبارة الجمع ، إلّا في ألفاظ العدد فمعنى تاد مكّة ، هذه مكّة أي مشبهتها.

[عقبة أيلة]

وعقبة أيلة المذكورة عقبة كؤود (٦) ، شاقة طويلة ، مسافتها نحو من خمسة أميال ، تضرّ بالنّاس ، وتقتل الجمال وخصوصا في الرّجوع. وهي في الذّهاب حدور. وأيلة من أسواق الرّكب الكبار ، وربّما أقام بها يومين وثلاثة لأنّها مجمع المصريّين والشّاميّين يتجمّعونها (٧) في طلوع الرّكب ورجوعه

__________________

(١) المغرب في ذكر إفريقية والمغرب ١٦٠.

(٢) أنه ذكر : سقط من ط

(٣) المغرب ١٥٦ ـ ١٥٧.

(٤) المغرب ١٨١.

(٥) في ط : لهيئة.

(٦) عقبة كؤود : أي شاقة المصعد صعبة المرتقى.

(٧) في ت وط : يتحينونها.

٣٣٩

بأنواع المبيعات ، ولا سيما الطّعام ، وربّما كثر بها حتّى يزيد سعره على سعر الشّام ومصر ، لأنّ الجالب إليها لا بدّ له من البيع لبعد المسافة وعدم (١) المستعتب. وكثير من الحجّاج من يتجهّز منها ولكنّ الأمل ربّما غرّ فضرّ ، وقديما قالوا : «عشّ ولا تغترّ» (٢). وقد كان كثير من النّاس رجوا رخصها (٣) لرخص الشّام ، فلم يكملوا جهازهم من مصر فلمّا أتيناها بلغت بها ويبة (٤) الدّقيق ستة عشر درهما ، ثم انتهت إلى أكثر وإلى العدم. والويبة [٨٥ / ب] المصريّة ستة عشر قدحا وقدحهم أقلّ من المدّ الحفصيّ ، والصّرف اثنان وعشرون درهما بدينار يوسفيّ ، فكان حساب الويبة قريبا من ثلاثة أرباع الدّينار. فلما صدر الحجّاج كثر الجلب إليها لما رأوا من غلائها ، فلم تزد الويبة على ثلاثة دراهم ، وانتهى إلى أن لم يوجد له مشتر فرجعوا به إلى الشّام.

[وادي القرّ]

والمنهلة من هذا الموضع قريبة على نصف يوم ، رحلنا في وقت الظّهر أو قبله بيسير ، فوردناها في وقت المغرب ، وهي أحساء على البحر غزيرة عذبة مثل الأولى سواء (٥) ، ومن هنالك يدخل في وادي القرّ ، وهو واد متطاول لا ماء به ، وهو متّصل إلى مغارة شعيب ، شديد البرد ، ولذلك سمّي وادي القرّ.

__________________

(١) في ت : وبعد.

(٢) المثل في : أمثال أبي عبيد ٢١٢ ، والوسيط ١٢٤ ، وجمهرة الأمثال ٢ / ٤٦ ، والمستقصى ٢ / ١٦٢ والميداني ٢ / ١٦ ، واللسان : عشا

(٣) في ت وط : رخصا

(٤) الويبة : مكيال للحبوب يستعمل بمصر ويزن ٢٥ كيلو غراما والقدح هنا يزن ٥٦٢. ١ كغ تقريبا. «حاشية طبعة الرباط ١٥٩».

(٥) ليست في ط.

٣٤٠