رحلة العبدري

أبو عبدالله العبدري

رحلة العبدري

المؤلف:

أبو عبدالله العبدري


المحقق: د. علي إبراهيم كردي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار سعد الدين للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
الصفحات: ٧٢٨

الكتاب بعودين ، ولا يمسّه بيده ، ويعاني تصفيحه (١) كذلك ، فيكابد منه شدّة لهبها يضرم ، وحبل الرّاحة لأجلها يصرم ، ويحلّ بالكتب (٢) منه العذاب المهين والبلاء المبرم.

وقد أجازني جميع ما حدّث به من [٧٤ / ب] مسموعاته ، وجميع ما صدر عنه من نظم ونثر ، وكذلك أجاز ولدي محمّدا ـ وفقّه الله ـ وقيّد لي بذلك خطّ يده ، وقيّد لي بخطّه مولده ، وذكر أنّه كان بينبع (٣) من البلاد الحجازيّة في يوم السّبت الخامس والعشرين من شعبان من عام خمسة وعشرين وستّ مئة. ووقف على ما تقيّد من هذه الرّحلة واستحسنه ، وأفادني فيها أشياء ، وقيّد منها وفاة الشّقراطسيّ صاحب القصيدة المشهورة ، حسبما تقيّدت في موضعها فيما (٤) تقدّم ، وذكر لي أنّه طالما بحث عنها فلم يجدها. وفي أوّل ما رأيته قال لي : كان عندكم بمرّاكش رجل فاضل ، فقلت له : من هو؟ فقال : هو أبو الحسن بن القطّان (٥) ، وذكر كتابه «الوهم والإيهام» (٦) وأثنى عليه ، وذكرت له

__________________

(١) في ط : تصفّحه.

(٢) في ت وط : بالكتاب.

(٣) ينبع : ميناء بين مكة والمدينة ، على سبع مراحل من المدينة ، وعلى ليلة من جبل رضوى. انظر ياقوت ٥ / ٤٤٩.

(٤) في ت وط : ممّا. وتقدّمت وفاة الشقراطسي في الصفحة ١١٩ من الرحلة.

(٥) علي بن محمد بن عبد الملك الكتامي الحميري الفاسي : من حفاظ الحديث ونقدته ، ولي قضاء سجلماسة. له تصانيف منها : «بيان الوهم والإيهام» توفي سنة ٦٢٨ ه‍. ترجمته في سير أعلام النبلاء ٢٢ / ٣٠٦ ـ الإعلام للمراكشي ٩ / ٧٥.

(٦) هو كتاب : «بيان الوهم والإيهام الواقعين في كتاب الأحكام» انتقدبه الأحكام الشرعية الكبرى لأبي محمد عبد الحق بن عبد الرحمن بن عبد الله الأزدي الإشبيلي المعروف بابن الخراط المتوفى سنة ٥٨١ ه‍.

٣٠١

تعقّب ابن الموّاق (١) عليه ، وأنّه تركه في مسوّدته. فعانى إخراجه صاحبنا الفقيه الأديب الأوحد أبو عبد الله بن عبد الملك (٢) ـ حفظه الله تعالى ـ فقال لي : ومن هذا الرّجل؟ فعرّفته به وبما حضرني من تحليته ، وما أذكر من تقاييده ، ومن جملتها تذييله (٣) على كتاب «الصّلة» (٤) لابن بشكوال ، وأنّه كتاب متقن مفيد ، فعجب من ذلك وكتب ما أمليت (٥) عليه منه. (٦) وسألني عن موضعي فذكرت له مرّاكش ، فقال لي : بلادكم بعيدة وبين يومكم ويومنا في الطّلوع والغروب مقدار ساعتين ، لأنّ بلادكم موغلة في الغرب (٧).

وجرى معه ذكر أبي القاسم الشّاطبيّ ـ رحمه‌الله ـ صاحب القصيدة المشهورة ، فوصفه بالحفظ العظيم ، وذكر أنّه جرت مسألة بمحضره فذكر فيها نصّا واستحضر كتابا ، فقال لهم : اطلبوها منه في مقدار كذا ، وما يزال يعيّن لهم موضعها (٨) حتّى وجدوها على ما ذكر ، فقالوا له : أتحفظ

__________________

(١) في ت وط : الموّاز ، وهو خطأ. وابن الموّاق هو عبد الله محمد بن يحيى بن خلف بن فرج بن صاف : فقيه ، حافظ. محدّث ، ناقد. له تعقّب على كتاب شيخه أبي الحسن بن القطان الموسوم ببيان الوهم والإيهام الواقعين في كتاب الأحكام. له مؤلفات منها : شيوخ الدار قطني وشرح مقدمة صحيح مسلم. توفي بمراكش سنة ٦٤٢ ه‍. له ترجمة في الذيل والتكملة ٨ / ٢٧٢ ـ ٢٧٤ ـ الإعلام للمرّاكشي ٤ / ٢٣١ ـ ٢٣٤.

(٢) هو محمد بن محمد بن سعيد بن عبد الملك الأنصاري الأوسي المراكشي : مؤرخ ، أديب ، قاض ، ولي قضاء مراكش مدة ، توفي بتلمسان سنة ٧٠٣ ه‍. من كتبه الذيل والتكملة لكتاب الصلة ، وهو يتضمن تراجم أندلسية ومغربية طبع منه أجزاء في بيروت والرّباط. ترجمته في الديباج ٣٣١ ـ ٣٣٢ ـ والإعلام للمراكشي ٤ / ٢٣١ ـ معجم المؤلفين ١١ / ٢١٩.

(٣) هو كتاب الذيل والتكملة لكتابي الوصول والصلة. طبعت أجزاء منه.

(٤) كتاب تراجم أندلسية طبع غير مرّه.

(٥) في ت وط : أمليته.

(٦ ـ ٦) ـ سقط من ت.

(٧) في ت : موضعا.

٣٠٢

الفقه؟ فقال لهم : إني أحفظ وقر (١) جمل من كتب ، فقيل له : هلّا درّستها؟ فقال : ليس للعميان إلّا القرآن. قال : وقال لي صهره أبو الحسن عليّ بن شجاع بن سالم (٢) وكان أيضا ضريرا ، وأخذ القراءة (٣) عنه : أردت مرّة أن أقرأ شيئا من الأصول على ابن الورّاق. فسمع بذلك [٧٥ / آ] فاستدعاني فحضرت بين يديه فأخذ بأذني ثم قال لي : أتقرأ الأصول؟ فقلت : نعم. فمدّ بأذني ثم قال لي : من الفضول أعمى يقرأ الأصول (٤).

وسمعته يقول : دخل القاضي الفاضل (٥) على السّلطان (٦) ، وفي يده كتاب زوّر عليه ، وأراد قتل الّذي زوّره أو قطع يده ، [فاستشار القاضي الفاضل عمّا يجب عليه في ذلك من العقوبة] ، (٧) فقال له : عسى أن تكتب تحت خطّه مثلما كتب لأرى هل يشبه خطّه خطّك؟ فكتب فلمّا فرغ منه قال له : إن كان الأوّل مزوّرا عليكم فهذا غير مزوّر ، يعني خطّه ، فاستحسن السّلطان لطف احتياله ، وعفا عنه وأمضى كتابه.

وقال لي : كان بمصر شاعر هجّاء ، فصنع (٨) قصيدا هجا فيه جميع أهل الخطط في مصر ، وبدأ بالسّلطان ، فبلغ ذلك إليه ، فاستحضر القاضي

__________________

(١) الوقر : الثقل يحمل على ظهر أو على رأس.

(٢) في الأصل : علي بن سلام بن شجاع.

(٣) في ت وط : القراءات.

(٤) الخبر في الذيل والتكملة ٥ ـ ٢ / ٥٤٩ ـ ٥٥٠

(٥) القاضي الفاضل : هو عبد الرحيم بن علي بن محمد بن الحسن اللخمي : قاض حظي عند السلطان صلاح الدين الأيوبي بمنزلة عظيمة ، له رسائل متقنة ، مات سنة ٥٩٦ ه‍. ترجمته في خريدة القصر قسم مصر ١ / ٣٥ ـ حسن المحاضرة ١ / ٥٦٤ ـ شذرات الذهب ٤ / ٣٢٤.

(٦) المقصود صلاح الدين الأيوبي.

(٧) زيادة من ت.

(٨) في ط : فنظم.

٣٠٣

الفاضل فسأله عمّا ينبغي من عقوبته ، وكان الشّعر في يده ، فقال له : انظر إلى هذا الّذي صنع ، فقال له : وما صنع؟ إنّما قال : أنا جائع فأطعموني ، فعفا عنه السّلطان وأمر له بعطاء جزيل (١).

وأملى عليّ حديثا عن شيخه الفقيه القاضي أبي عمران موسى بن زكرياء بن إبراهيم بن محمّد بن صاعد الحصكفيّ (٢) قال : وكان فقيها حنفيّا قاضيا (٣) [بآمد](٤) ، مدرّسا بالمدرسة الدّيلميّة (٥) من المعزّية ، فقلت له : ما المعزّية؟ فقال لي : هي مدينة القاهرة ، بناها المعزّ العبيديّ (٦) ـ لعنه الله ـ وسمّاها بذلك فكان العلماء يتحرّجون من ذكر هذا الاسم ، فينسبونها إليه ، المعزّية. قلت : والتّحرّج في ذكر المعّز أحقّ ، وأرى أن يقال عنها : قاعدة ديار مصر أو مدينتها ، أو قصبتها ، أو نحو ذلك ، ممّا تعرف به وبالله التّوفيق.

وحدّثني إملاء من كتابه قال : قرأت على والدي الفقيه مجد الدّين أبي الحسن ، وكان مفتيا متفنّنا ، نفع الله به في العلم أمّة من النّاس ، وقرأ عليه أيضا فيما قرأه هو على الإمام الحافظ أبي الحسن عليّ بن المفضّل المقدسيّ قال : أنا الإمامان (٧) أبو الطّاهر إسماعيل بن مكيّ بن اسماعيل

__________________

(١) في ط : بجائزة عظيمة.

(٢) نسبة إلى حصن كيفا وهي مدينة من ديار بكر انظر الأنساب ٤ / ١٥٤.

(٣) ليست في ت.

(٤) ليست في الأصل. وآمد : أعظم مدن ديار بكر ، وهو بلد قديم حصين ، ركين مبني من الحجارة السود على نشز دجلة.

(٥) تقع في حي الدّيلم. انظر خطط المقريزي ٢ / ٣٧٨.

(٦) هو معدّ بن إسماعيل بن القائم بن المهدي عبيد الله الفاطمي العبيدي صاحب مصر وإفريقية تولى الحكم سنة ٣٤١ ه‍. دخل الإسكندرية سنة ٣٦٢ ه‍. ودخل القاهرة فأصبحت مقرّ ملك الفاطميين إلى آخر أيامهم. توفي سنة ٣٦٥ ه‍. انظر اتعاظ الحنفا ١٣٤.

(٧) في الأصل : الإمامين وفيها غلط نحوي.

٣٠٤

الزّهري ، وأبو طالب صالح بن إسماعيل بن سند الزّنّاري والمشايخ [٧٥ / ب] أبو الحجاج يوسف بن محمّد بن عليّ القرويّ ، وأبو منصور ظافر بن عطيّة ابن قائد اللّخميّ وابو المفضّل عبد المجيد بن المحسن بن دليل الكنديّ ، قالوا : أخبرنا أبو بكر محمّد بن الوليد بن محمّد الفهريّ ، قال : أنا أبو عليّ عليّ (١) ابن أحمد بن عليّ بن محمّد (٢) التّستريّ بالبصرة ، قال : أنا أبو عمر القاسم ابن جعفر بن عبد الواحد العبّاسي قال : أنا أبو عليّ محمّد بن أحمد بن عمرو اللؤلؤيّ ، قال : أنا أبو داود سليمان بن الأشعث (٣) السّجستانيّ ، قال : أنا مسدّد ، قال : أنا حمّاد بن زيد وعبد الوارث بن عبد العزيز عن أنس بن مالك رضي‌الله‌عنه قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا دخل الخلاء قال عن حمّاد : «اللهمّ إنّي أعوذ بك» ، وقال : عن عبد الوارث «إنيّ أعوذ بالله من الخبث والخبائث» (٤). قال الشّيخ : هكذا في الأصل الّذي بخطّ والدي من الخبث ، بإسكان الباء. وقد عدّ ذلك من غلط المحدّثين ، وله وجه يصحّ به فسألته عنه : فقال لي هو إسكان العين في كلّ ما جاء على «فعل» في لسان العرب. قلت : المنكر للإسكان هو الإمام أبو سليمان الخطّابي (٥) ـ رحمه‌الله ـ وليس ممن يقعقع له بالشّنان (٦) ، ولا يقابل تحقيقه بزخرفة لسان ، وذلك أنّه إن أريد

__________________

(١) ليست في ط.

(٢) في ت وط : بحر.

(٣) في ط : الأشعب.

(٤) سلف تخريج الحديث في الصفحة ، وهو في غريب الحديث لابن سلام ٢ / ١٩٢.

(٥) هو حمد بن محمد بن إبراهيم الخطّابي البستي : فقيه محدّث من أهل بست. له شعر وتصانيف منها : «معالم السنن» في شرح سنن أبي داوود «بيان إعجاز القرآن» توفي في بست سنة ٣٨٨ ه‍. له ترجمة في إنباه الرواة ١ / ١٢٥ ـ وفيات ابن قنفذ ٢٢٢ ـ وفي شذرات الذهب ٣ / ١٢٧.

(٦) في الأصل وت بالسّنان ، وهو مثل كما في المستقصى ٢ / ٢٧٤ ، واللسان : شنّ.

٣٠٥

بالخبث هنا المصدر من خبث ، تفاوت نسق الكلام ، واضطرب منه نظام الانتظام ، كما لو قيل : أعوذ بالله من أن أكون خبيثا ، ومن إناث الشّياطين ، وسماجة (١) هذا الوصف ممّا لا يخفى ، وإن أريد بالخبث جمع خبيث ، وخفّف الخبث بالضمّ كما زعم الشّيخ هنا وجب أن يمنع لأنّ التّخفيف إنّما يطرّد فيما لا يلتبس مثل : عنق وأذن من المفرد ، ورسل وسبل ونذر من الجمع ، ولا يطرّد فيما يلتبس مثل : حمر وحصر فإنّ التّخفيف في حمر يلتبس بجمع أحمر وحمراء ، وفي الحصر بالمفرد. والحصر : احتباس النّجو ، (٢) ولذلك قريء في السّبع : رسلنا ، وسبلنا ، ونذرا ، و (الْأُذُنَ بِالْأُذُنِ)(٣) ، كلّ ذلك بالتّخفيف ، ولم يقرأ في السّبع (كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ)(٤) إلّا بضمّ الميم. فكذلك ينبغي ألّا يخفّف الخبث إلّا مسموعا من العرب [٧٦ / آ] لئلّا يلتبس بالمصدر ؛ ومن هذا امتناعهم من إدغام ما يلتبس إدغامه نحو : وتد ، وعتد ، وشاة زنماء وادغموا في همّرش وامّحى لمّا (٥) أمنوا اللّبس. والإدغام وجه من التّخفيف ، فهم كما ترى لا يخفّفون إلّا حيث يأمنون اللّبس وهو هنا غير مأمون. ألا ترى أنّ أبا عبيد القاسم بن سلّام ، على إمامته ، قد فسّر الخبث هنا بالشّرّ لمّا رواه بإسكان الباء (٦) ، والصّواب ضمّها كما قال أبو سليمان رحمه‌الله.

وحدّثني إملاء بلفظه من كتابه ، قال : أنا الحافظ أبو البقاء خالد بن يوسف بن سعد (٧) النّابلسيّ بدمشق ، عن الحافظ ابن الحافظ أبي محمّد

__________________

(١) السّماجة : القبح.

(٢) النّجو : العذرة.

(٣) سورة المائدة ٤٥.

(٤) سورة المدثّر ٥٠.

(٥) في الأصل كما وهو تصحيف.

(٦) غريب الحديث ٢ / ١٩٢.

(٧) في ت وط : سعيد. والصواب ما أثبتناه ، انظر طبقات الحافظ للسيوطي ٥٠٧.

٣٠٦

القاسم بن عليّ بن الحسن قراءة عليه ، قال : أخبرنا أبو الدّر ياقوت بن عبد الله أيضا ، قال : أنا أبو محمّد عبد الله بن محمّد الخطيب ، قال : أنا محمّد بن عبد الرّحمن بن العبّاس الذّهبيّ المخلص ، قال : أنا أبو القاسم عبد الله بن محمّد ، قال : أنا طالوت بن عبّاد أبو عثمان الصّير فيّ ، قال : أنا فضّال بن جبير ، قال سمعت أبا أمامة الباهليّ يقول :سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «اكفلوا لي بستّ أكفل لكم بالجنّة : إذا حدّث أحدكم فلا يكذب ، وإذا اؤتمن فلا يخن. وإذا وعد فلا يخلف. غضّوا أبصاركم ، وكفّوا أيديكم ، واحفظوا فروجكم». (١)

قال الشّيخ : هذا من العوالي الّتي تسمو همم أهل الحديث إليها ، وتتهافت رغبة الطّلبة عليها ، وهو تساعيّ الإسناد. وقال الحافظ أبو محمّد القاسم : فضّال بن جبير يكنى أبا المهنّى ويروي عن أبي أمامة صدي بن عجلان نحوا من عشرة أحاديث كلّها غير محفوظة والله أعلم.

قلت : ليس العلوّ بكونه تساعيّ الإسناد مستغربا لمثله من الشّيوخ ، وقد رأينا من يروي الثّمانيّات (٢) ، وأمّا التّساعيّات (٣) فهي الغالب من علوّ السّند في زماننا هذا ، وقد جمع شيخنا الفقيه الحافظ الحافل أبو زيد عبد الرحمن ابن محمّد بن محمّد القيروانيّ جزءا من تساعيّاته وكان ـ حفظه الله ـ قد وهب لي منها نسخة فضاعت بآفة طرأت في الطّريق [٧٦ / ب] والحمد لله على كلّ حال.

__________________

(١) حديث أخرجه ابن عدي في الكامل ٦ / ٢٠٤٧ ، والطبراني في المعجم الكبير ٨ / ٣١٤ والجامع الكبير للسيوطي ٢ / ١٣ وكنز العمال ١٥ / ٩٤.

(٢) الثمانيات : وهي التي يكون في سندها ثمانية رجال من الراوي إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(٣) التساعيات : وهي التي يكون في سندها تسعة رجال من الراوي إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٣٠٧

(١) وقد وقع لنا هذا الحديث تساعيّا : أنا الشّريف أبو الحسن الغّرافي وأبو الحسن عليّ بن محمّد بن المنيّر عن ابن المبارك ابن الشّهرزوريّ عن أبي الحسين أحمد بن محمّد بن ... (٢) عن أبي القاسم عبد الله بن محمّد بن إسحاق بن حبابة عن أبي القاسم عبد الله بن محمّد بن بنت منيع وهو الرّاوي عن طالوت (٣).

وأنشدني شيخنا أبو الفتح المذكور إملاء من كتابه ، قال : أنشدني الفقيه المفتي هارون بن عبد الله بن هارون بن الحسين بن أحمد المهرانيّ قديما ، قال : أنشدنا الفقيه الإمام العالم أبو الحسن عليّ بن المفضّل بن عليّ المقدسيّ لنفسه (٤) : [الكامل]

خسر الّذي ترك الصّلاة وخابا

وأبى معادا صالحا ومآبا (٥)

إن كان يجحدها فحسبك أنّه

أمسى بربّك كافرا مرتابا (٦)

أو كان يتركها لنوع تكاسل

غشّى على وجه الصّواب حجابا (٧)

فالشّافعيّ ومالك رأيا له

إن لم يتب حدّ الحسام عقابا

__________________

(١ ـ ١) ـ سقط من ت.

(٢) بياض في جميع النسخ بمقدار كلمة. وأظنه ابن السّراج.

(٣) القصيدة بتمامها في الذيل والتكملة ٨ ـ ٢ / ٤٣٦. والأبيات ١ ـ ٢ ـ ٣ ـ ٤ ـ ٩ ـ في المستطرف ٣٥ ـ ٣٦ ـ والأبيات ١ ـ ٢ ـ ٣ ـ ٤ ـ ٧ ـ ٨ ـ ٩ ـ ١٠ ـ ١١ ـ ١٢ في درّة الحجال ٢ / ١٨٥ ـ ١٨٦ والأبيات ١ ـ ٢ ـ ٣ ـ ٤ ـ ٧ ـ في الإعلام للمراكشي ٥ / ٢٠٦ ـ ٢٠٧.

(٤) في ت : وإيابا.

(٥) في المستطرف ودرة الحجال : أضحى بربّك.

(٦) في درة الحجال والإعلام : لفرط تكاسل غطى على وجه.

٣٠٨

٥ ـ ومن الأئمّة من يقول بأنّه

لا ينتهي عنه وإن هو تابا (١)

إيه ومنهم من يقول بقتله

كفرا ويقطع دونه الأسبابا

وأبو حنيفة قال : يترك مرّة

هملا ويحبس مرّة إيجابا (٢)

والظّاهر المشهور من أقواله

تعزيره زجرا له وعذابا (٣)

والرّأي عندي أن يؤدّبه الإما

م بكلّ تأديب يراه صوابا

١٠ ـ ويكفّ عنه القتل طول حياته

حتّى يلاقي في المآب حسابا

فالأصل عصمته إلى أن يمتطي

إحدى الثّلاث إلى الهلاك ركابا (٤)

الكفر أو قتل المكافيء عامدا

أو محصن طلب الزّنا فأصابا (٥)

وأنشدني أيضا قال : أنشدني شهاب الدّين أبو عبد الله محمّد بن الشّيخ أبي محمّد عبد المنعم بن محمّد الأنصاريّ (٦) لنفسه : (٧) [الكامل]

__________________

(١) البيت ساقط من ط.

(٢) في درّة الحجال : ويسجن.

(٣) رواية البيت في درة الحجال والإعلام :

والشائع المشروح من أقواله

تأديبه زجرا له وعقابا

والتعزيز : العقوبة ما لم تبلغ الحدّ الشرعيّ.

(٤) في درة الحجال : إلى المآل ركابا.

(٥) في درة الحجال : فأجابا.

(٦) هو محمد بن عبد المنعم بن محمد بن يوسف بن أحمد اليمني الأنصاري : أديب عالم ، شاعر ، أخذ عنه ابن رشيد توفي سنة ٦٨٥ ه‍ له ترجمة في ملء العيبة ٣ / ١٩١ ـ ودرّة الحجال ٢ / ٦.

(٧) البيتان في ملء العيبة ٣ / ٢٠٢ ودرّة الحجال : ٢ / ٧.

٣٠٩

يا طالبا للعزّ هاك نصيحتي

لفظا على المعنى البسيط وجيزا [٧٧ / آ]

ما الذّلّ إلّا في مطاوعة الهوى

فإذا عصيت هواك كنت عزيزا (١)

وأنشدني أيضا : [الكامل]

أعرضت عن شيب ألمّ بعارضي

بغضا فكيف أراه بعد شباب

وهجرت مرآة أرى شيبي بها

فرأيته بالرّغم في أترابي

وأيضا له : (٢) [الوافر]

ألام على الخلاعة إذ شبابي

ورونق جدّتي ذهبا جميعا

ومن ذهبت بجدّته اللّيالي

فلا عجب إذا أضحى خليعا

[ومن شعره أيضا : (٣) [البسيط]

قال العواذل : كم هذا الضّلال بمن

تهوى يغرّك منه المنظر النّضر

فقلت : إن كنت مغرورا بطلعته

فلست أوّل من قد غرّه القمر](٤)

وأنشدني أيضا قال : أنشدني أبو الحسن بن عبد الكريم الأنصاريّ لنفسه :

بعثت لي روضة بالنّور باسمة

برقعة قد غدت من طيبها عبقه

وكان عهدي بالبستان ذا ورق

حتّى رأيت بها البستان في ورقه

__________________

(١) «في» ليست في ط ولا يستقيم الوزن دونها.

(٢) البيتان في ملء العيبة ٣ / ٢٠٢ ـ و ٤ / ٥٨ ـ آ. ودرّة الحجال ٢ / ٧.

(٣) البيتان في ملء العيبة ٣ / ٢٠٢ ـ ودرّة الحجال ٢ / ٧.

(٤) زيادة من ط.

٣١٠

وأنشدني أيضا ـ حفظه الله ـ لنفسه : (١) [الطويل]

تمنّيت أنّ الشّيب باشر لمّتي

وقرّب منّي في شبابي مزاره (٢)

لآخذ من عصر الشّباب نشاطه

وآخذ من عصر المشيب وقاره

وأيضا في إصلاح معنى : (٣) [الخفيف]

أنكرتني لمّا ادّعيت هواها

وأصرّت على العناد جحودا

قلت : إنّ الدّموع تشهد لي قا

لت صحيح لكن قذفت الشّهودا

 ـ فصل ـ

[عجائب مصر]

وأمّا أرض مصر ، ونيلها ، وعجائبها ، واتّساعها ، فأكثر من أن يحصرها كتاب ، أو يحيط بها حساب. وقد سطّرّ المؤرّخون من ذلك ما أغنى عن ترداده ، وشغل القلم بإيراده ، وما ظنّك بأرض هي مسيرة شهر للمجدّ ، وطيئة ، سهلة ، مغلّة ، (٤) ما بها قرية (٥) إلّا وهي تناظر أخرى [٧٧ / ب] ولا بستان إلّا وهو يسامي آخر ، ولا مدينة إلّا وهي تشير إلى أختها ، ما تسافر بها إلّا في عمارة متّصلة ، وطمأنينة من الأرض متأصّلة ، والطّرق في الصحراء غاصّة بالخلق ،

__________________

(١) البيتان في ديوان ابن دقيق العيد ١٩٩. ومستفاد الرحلة والاغتراب ٣٥ ، وطبقات السبكي ٩ / ٢١٤ ، وملء العيبة ٥ / ٣٢٦ والوافي بالوفيات ٤ / ٢٠١. والطالع السعيد ٥٩٣. وطبقات الشافعية للإسنوي ٢ / ٢٣١. وشذرات الذهب ٦ / ٦.

(٢) في بقية المواضع : عاجل لمّتي ، في صباي.

(٣) ديوان ابن دقيق العيد ١٧٢.

(٤ ـ ٤) ـ سقط من ت.

٣١١

فكأنّ المسافر بها لم يزل في مدينة. (١) وهذا لمن يجوبها عرضا «(٢) لأنّ عرضها من بلد أسوان الّتي بأعلى نيل مصر وما سامتها من أرض الصّعيد إلى مدينة رشيد [و](٣) ماداناها من مساقط النّيل في البحر الرّوميّ وهو نحو ثلاثين مرحلة ، وطولها من أيلة [من ساحل الخليج الخارج](٤) من بحر الحبشة ، والزّاب ، والعين (٥) إلى برقة الّتي هي جنوب البحر الرومي(٦)».

قال هذا كلّه القاضي أبو القاسم صاعد (٧) في طبقات الأقاليم (٨) ، وذلك أربعون مرحلة (٩).

[نيل مصر]

ونيلها من عجائب الدّنيا عذوبة ، واتّساعا ، وغلّة ، وانتفاعا. وقد وضعت عليه المدائن والقرى ، فصار كسلك انتظم دررا.

وقد روينا في الصّحيح أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ليلة الإسراء وصل إلى سدرة المنتهى ، فإذا في أصلها أربعة أنهار : نهران ظاهران ، ونهران باطنان ، فسأل عنها جبريل عليه‌السلام ، فقال له : أمّا الباطنان ففي الجنّة ،

__________________

(١ ـ ١) ـ الفقرة بكاملها ساقطة من ت وط.

(٢ ـ ٢) ـ الفقرة منقولة من طبقات الأمم ١٠٥ ـ ١٠٦ بخلاف يسير.

(٣) من طبقات الأمم.

(٤) بياض في سائر النسخ والتكملة من طبقات الأمم ١٠٥.

(٥) في طبقات الأمم : الزنج والهند والصين.

(٦) هو صاعد بن أحمد بن عبد الرحمن بن صاعد الأندلسي : مؤرخ ، قاض ، ولي قضاء طليطلة إلى أن توفي سنة ٤٦٢ ه‍ له : طبقات الأمم ومقالات أهل الملل والنحل. ترجمته في الصله ٢٣٦ ـ ٢٣٧.

(٧) هو كتاب في تاريخ الأمم القديمة طبع غير مرّة.

٣١٢

وأما الظّاهران فالنّيل والفرات» (١) قال البكريّ : «وليس في الأرض نهر يسمّى بحرا ويمّا غيره. قال الله تعالى : (فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِ) ، (٢) واليّم : البحر. فسمّاه بحرا وحقّ له ذلك ، قال : وليس في الدّنيا نهر يزرع عليه ما يزرع على النّيل ، ولا نهر يجبى منه إلّا جزء ممّا يجبى من النّيل. (٣) «وابتداؤه بالتّنفّس في حزيران ، وهو شهر يونيه ، فإذا انتهت الزّيادة ستّة عشر ذراعا تمّ خراج السّلطان وخصب النّاس الكافي ، (٤) وكان المرعى ناقصا فأضرّ بالبهائم ، فإذا بلغ سبعة عشر ، فذلك الخصب العام ، والصّلاح التّام ، فإذا بلغ ثمانية عشر أضرّ بالضّياع ، وأعقب الوباء بمصر. وقد بلغ في خلافة عمر بن عبد العزيز (٥) رضي‌الله‌عنه تسعة عشر ذراعا (٦)» قال ابن حبيب (٧) : «وإن نقص إلى خمسة عشر ذراعا ، نقص من خراج السّلطان ولا يستسقى لذلك ، وإن حطّ إلى أربعة عشر [٧٨ / آ] ذراعا استسقوا ، وكان الضّرر الشّديد» (٨) قال : وذكر «أنّ أرض مصر مصوّرة في كتب الأوائل وسائر المدن مادّة أيديها إليها (٩) تستطعمها». (١٠)

__________________

(١) أخرجه البخاري في بدء الخلق ، باب ذكر الملائكة رقم ٣٢٠٧ ـ ٦ / ٣٠٢ والمعراج رقم ٣٨٨٧ ـ ٧ / ٢٠١ ـ ومسلم في كتاب الإيمان باب الإسراء رقم ٢٦٤ ـ وابن حنبل ٤ / ٢٠٨ ـ والنسائي ١ / ٢٢٠ ـ والمعجم الصغير للطبراني ٢ / ١٣١.

(٢) سورة القصص من الأية ٧.

(٣) الفقرة منقولة من الجزء الضائع من المسالك والممالك.

(٤) في الأصل : الكفاية.

(٥) عمر بن عبد العزيز : «٦١ ـ ١٠١ ه‍» خليفة أموي اشتهر بصلاحه وعدله. انظر ترجمته في الأغاني ٩ / ٢٥٤. فوات الوفيات ٣ / ١٣٣ وسيرته لابن كثير.

(٦) مروج الذهب ١ / ٣٤٢ ، وجغرافية مصر للبكري ١١.

(٧) عبد الملك بن حبيب : يعدّ عالم الأندلس وفقيهها في عصره كان عالما بالتاريخ والأدب ، له مصنّفات منها : حروب الإسلام ، وطبقات الفقهاء توفي سنة ٢٣٨ ه‍ ترجمته في علماء الأندلس ٢٦٩ ـ الديباج ١٥٤ ، بغية الملتمس ٣٧٧ ـ ٣٧٨ ـ مطمح الأنفس ٢٣٣.

(٨) مروج الذهب ١ / ٣٤٢ ـ ٣٤٣ ، وجغرافية مصر للبكري ١١.

(٩) ليست في ط.

(١٠) ـ جغرافية مصر للبكري ١٢.

٣١٣

قلت : والنّيل (١) نهر عظيم (٢) متّسع جدّا ، آخذ من الجنوب إلى الشّمال ، ويفترق بعد مسافة من فسطاط مصر على ثلاثة أنهار ، ولا يدخل واحد منها إلّا في القوارب شتاء وصيفا ؛ وقد دخلته من مجمع نهرين فقرأت حزبا (٣) من القرآن قبل أن يقطع القارب إلى الجزيرة (٤) الأخرى ، وصورة السّقي به أنّ أهل كلّ بلد لهم خلج (٥) تخرج منه ، فإذا جاء مدّ أترعها (٦) ففاضت على المزارع وسقتها كما تسقي سائر الأنهار ؛ وقد علموا أين ينتهي سقي كلّ مقياس ، ومن غرائب صنع الله ، أن مدّه يبتدىء في معمعان الحرّ وشدّته. في الوقت الّذي تفيض (٧) فيه الأنهار ، وينتهى في الوقت الّذي تمدّ فيه الأنهار ؛ ويفيض فيحسر الماء عن الأرض في مبدأ زمان الحرث. وقد حكى البكريّ عن ابن حبيب «أنّ الله تعالى جعل النّيل معادلا لأنهار الدّنيا ، فحين يبتدى بالزّيادة تنقص كلّها ، وذلك لخمس بقين من شهر يونية وحين يبتدى بالنّقصان تزيد كلّها». (٨)

__________________

(١) انظر ما كتب في النيل وفضائله في خطط المقريزي ١ / ٥٠ ـ ٦٨.

(٢) ليست في ط.

(٣) الحزب من القرآن : ربع الجزء.

(٤) في ط : الجيزة ، والجزيرة هي التي تفصل بين الجيزة والمدينة القديمة. انظر وصف إفريقية ٢ / ٢٤٠ ـ رحلة ابن جبير ٢٩.

(٥) الخلج : واحدها خليج : وهو نهر يشتقّ من نهر كبير لينتفع به.

(٦) أترعها : ملأها.

(٧) في ط : تفيض.

(٨) في جغرافية مصر للبكري ١٠ بخلاف يسير في اللفظ.

٣١٤

[الأهرام والبرابي]

أمّا أهرامها وبرابيها (١) ، فمبان عجيبة في غاية الغرابة مضمّنة (٢) من الحكمة وغرائب العلوم ما صار أعجوبة على وجه الدّهر. وبين النّاس تنازع في أوّل من بناها ، وفي أيّ شيء قصد بها ، ولهم فيه خوض كثير لا حاجة بنا إليه ، وقد ذكر القاضي صاعد صاحب الطّبقات : «أنّ جماعة من العلماء زعموا أنّ جميع العلوم الّتي ظهرت قبل الطّوفان إنّما صارت عن هرمس الأوّل السّاكن بصعيد مصر الأعلى ، وهو الّذي يسمّيه العبرانيون خنوخ وهو إدريس [النّبي](٣) عليه الصّلاة والسّلام ، وأنّه أوّل من تكلّم في الجواهر العلوية ، والحركات (٤) النّجوميّة ، وأوّل من بنى الهياكل ، ومجّد الله تعالى فيها ، وقالوا : إنّه أوّل من أنذر بالطّوفان ، ورأى أنّ آفة سماوية تلحق الأرض من الماء أو النّار [٧٨ / ب] فخاف ذهاب العلم ودروس الصّنائع فبنى الأهرام والبرابي الّتي في الصّعيد ، وصوّر فيها جميع الصّناعات والآلات ، ورسم فيها العلوم حرصا منه على تخليدها.» (٥).

قال القاضي صاعد المذكور : «وكانت دار الملك والعلم بمصر في قديم الدّهور (٦) مدينة منف ، (٧) وهي على اثني (٨) عشر ميلا من الفسطاط. فلمّا

__________________

(١) البرابي : المعابد. انظر ما كتب عن الأهرام والبرابي في مروج الذهب ١ / ٣٥٩ ـ ٢٦٣. وبدائع الزهور ١ / ١٣ وما بعد وخطط المقريزي ١ / ١١١ ـ ١٢٢.

(٢) في ت وط : متضمنة.

(٣) زيادة من ت.

(٤) في ت : الحركة.

(٥) طبقات الأمم ١٠٦ ـ ١٠٧ بخلاف يسير

(٦) في ت وط : الدهر.

(٧) في الأصل : منوف. ومنف هي منفيس القديمة ، وهي قرية ميت رهينة الحالية وقد نسبت الكورة إليها رغم أنا كانت مدينة مندرسة عند الفتح العربي ، انظر جغرافية مصر للبكري في حاشية الصفحة ٦٢.

(٨) في ط : اثنا وفيها غلط نحوي واضح.

٣١٥

بنى الإسكندر مدينة الإسكندريّة ، رغب النّاس في عمارتها ، فكانت دار العلم (١) والحكمة بمصر إلى أن تغلّب عليها المسلمون ؛ واختطّ عمرو بن العاص على نيل مصر مدينته المعروفة بفسطاط عمرو ؛ فانسرب (٢) أهل مصر وغيرهم إليها ، فصارت قاعدة مصر إلى يومنا هذا»(٣).

قلت : وقد صارت اليوم المدينة الّتي بناها العبيديون قاعدة الدّيار المصريّة بأسرها ، ودار ملكها على الإطلاق ، فسبحان من له الملك على الحقيقة ، وإليه المرجع والمصير ، لا ربّ غيره.

والأهرام (٤) مبان من حجارة ، صارت لإحكامها كالحجر الواحد ، في غاية العلوّ ، متّسعة الأسفل ، مستديرة الشّكل ، فكلّما طلعت انخرطت حتّى صار أعلاها حادّا على شكل المخروط. وليس لها باب ولا مدخل ولا يعلم كيف بنيت.

وقد ذكر البكريّ في المسالك ، وذكره المسعوديّ (٥) ، ومن كتابه نقله البكريّ : «أنّ أحمد بن طولون (٦) صاحب مصر ، استحضر من أرض الصّعيد

__________________

(١) في ت وط : العلوم.

(٢) في ت : فانسرر.

(٣) طبقات الأمم : ١٠٨ بخلاف يسير.

(٤) انظر ما قيل في الأهرام في خطط المقريزي ١ / ١١١.

(٥) هو علي بن الحسين بن علي : مؤرخ ، من أهل بغداد أقام بمصر وتوفي فيها سنة ٣٤٦ ه‍. له مروج الذهب ، والتنبيه والإشراف. ترجمته في النجوم الزاهرة ٣ / ٣١٥ ـ طبقات الشافعية للسبكي ٣ / ٤٥٦ ، فوات الوفيات ٣ / ١٢.

(٦) أحمد بن طولون : صاحب الديار المصرية ، تركي ، بنى الجامع المنسوب إليه في القاهرة ، ومن آثاره قلعة يافا بفلسطين ، ولي إمرة الثغور وإمرة دمشق ثم إمرة مصر ٢٥٤ ه‍ للخليفة المتوكل ، توفي بمصر سنة ٢٧٠ ه‍. له ترجمة في بدائع الزهور ١ / ١٦١ ـ ١٧٤ ـ المنتظم ٥ / ٧١ ـ ووفيات الأعيان ١ / ١٧٣.

٣١٦

شيخا له مئة وثلاثون سنة ، موصوفا بالعلم والحكمة ، فسأله عنها ، فقال : إنّها بنيت لحفظ جثث (١) الملوك. فقال له : كيف بنيت بتلك الحجارة العظيمة؟ فقال : إنّهم كانوا يبنونها على مراق أبرزوها من البنيان ، فإذا فرغوا نحتوها» (٢).

وذكر البكريّ أيضا «أن شونيد بن سهلوق ملك مصر قبل الطّوفان رأى رؤيا هالته ، وحملته على بناء الأهرام بالصّخور ، وأعمدة الحديد ، والرّصاص ، بأمر المنجّمين لتكون حفظا لجثّته ، وجثث أهله ، ومستودعا للعلوم من آفة الطّوفان ، واختير لها موضع بقرب النّيل في الجانب الغربيّ [٧٩ / آ] فلمّا فرغ منها قال لهم : انظروا هل يفتح منها (٣) موضع؟ قالوا : تفتح (٤) من الجانب الشّماليّ ، وحقّقوا له الموضع ، وأنّ ذلك يكون لأربع (٥) آلاف دورة للشّمس ، وأنّه ينفق في هدمه كذا وكذا ، فأمر أن يجعل في [ذلك](٦) الموضع ذهب يزن ما ذكروا ، وحثّ على الفراغ من الأهرام ففرغ منها في ستّين سنة ، وكتب عليها : «بنينا هذه الأهرام في ستّين سنة فليهدمها من يريد ذلك في ستّ مئة سنة ، فإنّ الهدم أهون من البناء» (٧).

__________________

(١) في ط : جثّة.

(٢) مروج الذهب : ١ / ٣٥٠.

(٣) في ت : منه.

(٤) في ت وط : يفتح.

(٥) في ت وط : لأربعة.

(٦) زيادة من ت.

(٧) خطط المقريزي ١ / ١١٣.

٣١٧

فلمّا كان المأمون أراد أن يهدمها ، فقال له بعض شيوخ مصر : قبيح بمثلك أن يطلب شيئا لا يناله ، فقال : لا بدّ أن أعلم علم (١) ذلك ، ثم أمر بفتحها (٢) من الجانب الشّمالي لقلّة دوام الشّمس على العمّال. فكانوا يوقدون النّار عند الحجر فإذا احمرّ رشّ عليه الخلّ ، ورمي بالمنجنيقات ، حتّى فتحت الثّلمة الّتي يدخل منها اليوم. ووجدوا عرض الحائط عشرين ذراعا ، وبإزاء النّقب مالا ، فأمرهم بوزنه ، وبإحصاء ما أنفق على نقبه فوجدوهما سواء. فعجب المأمون من ذلك (٣). قال : ووجدوا طول كلّ هرم (٤) من الهرمين الكبيرين أربع مئة ذراع بالمالكيّ ، وهو ذراع ونصف بذراع اليد (٥). ويقال : ليس على وجه الأرض أرفع بناء منهما ، ويذكر أنّ عمقهما في الأرض مثل ارتفاعهما.

والّذي سطّر من غرائب مصر في أهرامها ، وبرابيها ، وغيرها أمر يضيق عنه الوصف. وما كدّر معينها ، وبخس ثمينها ، ونغّص نعيمها ، وأعلّ سليمها ، إلّا أهلها الّذين ينكل (٦) الخير عن وجوههم وينكص. وينمو الشّرّ بهم ولا ينقص ، وبجيرانها (٧) تغلو الدّيار وترخص ، وخصوصا أهل تلك المدينة المظلمة ، التي هي من كلّ الفضائل معدمة. أخطأهم النّوء المحمود (٨) ، وبعدا لهم كما بعدت ثمود. (٩) وليس في أرض مصر من ينتهي في كلّ وصف

__________________

(١) ليست في ت.

(٢) في الأصل : يفتح.

(٣) خطط المقريزي ١ / ١١٣.

(٤) في ط : واحد.

(٥) خطط المقريزي ١ / ١١٤ ، مستفاد الرحلة والاغتراب ١٦٦.

(٦) نكل : نكص.

(٧) في سائر النسخ : وبخيراتها.

(٨) النّوء : النجم.

(٩) استفاد من قوله تعالى : (أَلا بُعْداً لِثَمُودَ) هود ٦٨.

٣١٨

مذموم منتهاهم ، ولا من يحلّ في القبائح محلّهم ومثواهم. وقد سمعت ممّن جال في صعيد مصر وريفها أنّ أهلها لا بأس بهم ، وأنّهم أشبه من المذكورين بكثير. ومع ما ذكرت فقد كاد المغاربة ينيفون [٧٩ / ب] على أهل البلاد بكثير (١) لطيب الأرض وسعتها ، وكثرة أرزاقها ، وربّما تقاتلوا مع أهل الموضع فغلبوهم ، وقد (٢) فشا على لسان الصّغير منهم والكبير أنّ مغربيّا يملكهم لا محالة ؛ ويتحدّث بهذا عامّتهم وخاصّتهم ، ويأثرون (٣) ذلك عن علماء حدثانهم ، وقديما كانوا في انتظار ذلك ؛ وقد حكاه عنهم ابن جبير في رحلته (٤) ، وذكر عنهم أمارات نصبت بزعمهم علامة لذلك ، والله بغيبه أعلم ، وهو الملك الأعظم ، لا ربّ غيره ، ولا يرجى إلّا خيره.

[مزارات مصر]

وفي مصر من المزارات الشّريفة عدّة وافرة ؛ ومن أعظمها تربة رأس الحسين رضي‌الله‌عنه ، عليها رباط في غاية الإبداع (٥) والتّنويه ، والأبواب عليها حلق الفضّة وصفائحها ، وإلى الآن يوفّى واجب القيام بها والإشادة بذكرها ، حفظ الله أمراء التّرك (٦) بمصر ، فما أحماهم للدّين وأحنّهم (٧) على المسلمين ، وأحبّهم في الغريب ، وأفظّهم في ذات الله تعالى على المريب. ولم

__________________

(١) في ت وط : كثرة.

(٢) ليست في ت.

(٣) أثر الحديث يأثره : رواه.

(٤) رحلة ابن جبير : ٥٦ ـ ٥٧.

(٥) في ت : الابتداع.

(٦) يريد المماليك.

(٧) في ت : وأحسنهم ، في ط : وأحصنهم.

٣١٩

يتحقّق الآن عندي كيف نقل إلى أرض (١) مصر. وكان الدّعيّ (٢) ابن الدّعيّ (٣) عبيد الله بن زياد (٤) بعث به إلى معهد (٥) العناد والإلحاد طاغيتهم يزيد بن معاوية (٦). لا أخلى الله منه الهاوية ، وهو حينئذ بدمشق ، وأظنّ بعض العبيديين (٧) ـ أمر بنقله إلى عسقلان (٨) ؛ فإنّي رأيت بها رباطا ليس بعسقلان عمارة سواه ، وفوق الباب منقوشا في حجر : إنّ فلانا لشخص من العبيديين ولقبّه بأمير المؤمنين نسيت اسمه ، أمر ببناء هذه التّربة على رأس الحسين بن عليّ رضي‌الله‌عنه ، وفرغ من بنائها في تاريخ كذا ، وكان حدود الستّين وثلاث مئة ، ثم أمروا بنقله أيضا إلى مدينتهم بمصر فهو الآن بها.

وكان الذي حملهم على التّنويه (٩) بأهل البيت رضي‌الله‌عنهم ، تحقيق دعواهم الباطلة أنّهم منهم. فإنّه ما تأتّى لهم ماراموا في بدايتهم ، قبل استحكام أمرهم ، إلّا بانتمائهم إلى البيت الشّريف زاده الله جلالة ـ فلمّا تمكّنوا جاهروا بكلّ كفر ، وظاهروا [٨٠ / آ] بكل إلحاد ، وبقوا مع ذلك

__________________

(١) ليست في بقية النسخ.

(٢ ـ ٢) ـ ليست في ط.

(٣) في ت وط : عبد الله وهو خطأ. وهو عبيد الله بن زياد أبيه : قائد فاتح ، ولي إمارة البصرة ، وكانت فاجعة الحسين في أيامه. قتل سنة ٦٧ ه‍. انظر الأعلام ٤ / ١٩٣ ، ومصادره ثمّة.

(٤) في ت وط : معدن.

(٥) يزيد بن معاوية : ثاني خلفاء الدولة الأموية في الشام تولى بين ٦٠ ـ ٦٤ ه‍. وفي زمنه كانت فاجعة المسلمين بالسبط الشهيد الحسين بن علي. سنة ٦١ ه‍. ترجمته في الطبري حوادث ٦٤.

(٦) يريد الفاطميين.

(٧) عسقلان : مدينة على ساحل فلسطين بين غزة وبيت جبرين. انظر ياقوت ٤ / ١٢٢.

(٨) نوّه به : شهره وعرّفه.

٣٢٠