رحلة العبدري

أبو عبدالله العبدري

رحلة العبدري

المؤلف:

أبو عبدالله العبدري


المحقق: د. علي إبراهيم كردي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار سعد الدين للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
الصفحات: ٧٢٨

فراخا نأى أنسي بنأي محلّهم

وصحبا كراما ضمّهم أفق الغرب

فأفطرت من قبل الغّدو بعبرة

غنيت بها يومي عن الأكل والشّرب

وكنت نزلت بالمدرسة الكامليّة (١) منها في علّو مشرف على السّوق ، فكنت قلّما أرقد إلّا منغصّا لصياح الباعة ؛ وهم يبيعون طول اللّيل ، وقلّما يكون طعام الشّريف منهم والوضيع إلّا من السّوق ، والضّغط على ذلك ، والزّحام متّصل ، والطّرق غاصّة بالخلق ، حتّى ترى الماشي فيها ماله همّ سوى التّحفّظ من دوس الدّواب إيّاه ، ولا يمكنه تأمّل شيء في السّوق لأن الخلق يندفعون فيها مثل اندفاع السّيل. وقد ضاعت لي بها دابّة بسبب الزّحام ، كان عليها شخص راكبا ، فتكاثر عليه الزّحام حتّى أسقط عنها ، واندفعت في غمار الخلق ولم يمكنه التوصّل إليها وهو [٦٩ / آ] يبصرها حتّى غابت عنه ، وكان آخر العهد بها.

وحدّثت أنّ رسولا من قبل ملك الرّوم ـ أخزاهم الله ـ وصل إليها في مدّة الملك الظّاهر (٢) ، فأمرهم الملك أن يدوروا به بعد العصر في البلد قصدا لأن يرى إفراط (٣) عمارة البلد ، فداروا به ، فقال لهم : إنّ بلدكم هذا ضعيف. فقالوا : وكيف ذلك؟ أو ماترى المخلوق الذّي به؟ فقال لهم : إنّ هؤلاء جميعا

__________________

(١) بناها الملك الكامل وتمّ الانتهاء من عمارتها سنة ٦٢١ ه‍. انظر خطط المقريزي ٢ / ٣٧٥.

(٢) الملك الظاهر بيبرس العلائي : فاتح ، قائد شهير ، تولى سلطنة مصر والشام سنة ٦٥٨. له وقائع مع التتار والإفرنج. توفي بدمشق ٦٧٦ ه‍ ودفن فيها. ترجمته في فوات الوفيات ١ / ٢٣٥ ـ النجوم الزاهرة ٧ / ٩٤ ـ بدائع الزهور ١ / ٣٠٨ ـ ٣٤٢ ـ حسن المحاضرة ٢ / ٩٥.

(٣) ليست في ط.

٢٨١

ما خرجوا إلّا لشراء عشائهم من السّوق ، ولو كان في ديارهم طعام لاستغنوا عنه ، ولو تعذّر السّوق عليهم لماتوا جميعا من الجوع.

ومن المألوف عندهم الأكل في الأسواق ، والطّرقات ، والمحافل. والعرض عندهم ساقط ، وقد شاهدت من بعض أكابرهم ، والمشار إليه عندهم في هذا المعنى ما لا منتهى وراءه في القبح ، ونعوذ بالله من وضاعة الأخلاق.

وقد حدّثنا الشّيخ [الإمام](١) المعمّر شهاب الدّين أبو الهيجاء غازي بن أبي الفضل بن عبد الوهاب الدّمشقيّ ، قراءة عليه وأنا أسمع ، أخبركم الشّيخ أبو حفص عمر بن محمّد بن طبرزد البغداديّ الدارقزّي (٢) المؤدّب بدمشق في سنة ثلاث وستّ مئة ، قال : أخبرنا الشّيخ الرّئيس أبو القاسم هبة الله بن محمّد بن عبد الواحد بن الحصين الشّيباني في سنة خمس وعشرين وخمس مئة ، قال : أخبرنا الشّيخ أبو طالب محمّد بن محمّد بن إبراهيم بن غيلان البزّار ، قال : أنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن إبراهيم الشّافعي ، قال : نا عبد الله بن إسحاق الخطيب ، قال : نا لوين ، نا بقية ، حدّثني عمر بن موسى ، حدّثني القاسم مولى ابن يزيد عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «الأكل في السّوق دناءة» (٣).

وحدّثنا الفقيه المقرىء تقيّ الدّين أبو محمّد إبراهيم بن عمر بن إبراهيم الجعبريّ ـ بحرم الخليل (٤) عليه‌السلام قراءة منّي عليه ، قال : أنا

__________________

(١) زيادة من ت.

(٢) نسبة إلى محلّة دار القزّ في بغداد.

(٣) أخرجه ابن عدي في الكامل ٢ / ٥١٢ والبغدادي في تاريخ بغداد ٣ / ١٦٣ و ١٠ / ١٢٥ ـ وهو في فيض القدير ٣ / ١٨١ وكنز العمال ١٥ / ٢٦٠.

(٤) الخليل : مدينة شهيرة في فلسطين ، تقع إلى جنوب القدس إلى المغرب ، وتبعد عنها نحو ٥٩ كم. وفيها قبر الخليل عليه‌السلام في مغارة تحت الأرض ، انظر ياقوت ٢ / ٣٨٧.

٢٨٢

الشّيخ العالم الصّالح تقيّ الدّين أبو عبد الله محمّد بن شبل بن عبد الله المقريء الضّرير ، قال : أنا [الشّيخ](١) الشّريف أبو المكارم محمّد بن عبد الواحد ابن أحمد بن المتوكّل على الله ، والشّيخ أبو محمّد [٦٩ / ب] عبد الرّحمن بن أبي العزّ محمّد بن أبي البركات البزّار المعروف بابن الخبّازة ، قراءة عليهما وأنا أسمع ، قالا : أخبرنا أبو الوقت عبد الأوّل بن عيسى السّجزيّ ، قال : أنا الإمام أبو إسماعيل عبد الله بن محمّد بن عليّ بن متّى (٢) الأنصاريّ قراءة عليه ، قال : أنبأنا بشر بن محمّد بن عبد الله الأبوورديّ الصّوفي ، حدّثنا أحمد ابن محمّد بن عليّ السّوسيّ (٣) بالسّوس ، قال : أنا أبو جعفر محمّد بن محمّد المقريء (٤) بالبصرة ، نا سهل بن عليّ بن عفير الأنصاريّ ، نا إسماعيل بن توبة الثّقفيّ ، نا إسماعيل بن جعفر ، قال حدّثني حميد الطّويل عن أنس بن مالك رضي‌الله‌عنه ، قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «سمعت جبريل يقول : سمعت ميكائيل يقول : سمعت إسرافيل يقول : قال الله عزوجل : إنّ هذا الدّين ارتضيته لنفسي ولن يصلحه إلّا السّخاء والخلق الحسن» (٥) ورواه عليّ بن سلّام متابعا لإسماعيل بن توبة وزاد فيه «فأكرموه بهما ما صحبتموه».

__________________

(١) زيادة من ت.

(٢) في ت وط : مت.

(٣) في الأصل : التونسي وهو تحريف.

(٤) في ت : المصري.

(٥) حديث قدسي أخرجه ابن حبّان في المجروحين من المحدثين والضعفاء والمتروكين ٢ / ١٣٤ والهندي في كنز العمال ٣ / ٢٠ ، وهو في الاتحافات السنية في الأحاديث القدسية ٥٥.

٢٨٣

[عناية أهل القاهرة بالمنطق]

ومن الأمر المنكر عليهم ، والنّكر المألوف لديهم ، تدارسهم لعلم الفضول ، وتشاغلهم بالمعقول عن المنقول ، في إكبابهم على علم المنطق ، واعتقادهم أنّ من لا يحسنه ، لا يحسن أن ينطق ، فليت شعري هل قرأه الشّافعيّ ومالك ، أو هو أضاء لأبي حنيفة (١) المسالك. وهل عاركه أحمد بن حنبل (٢) ، أو كان الثّوريّ (٣) على تعلّمه قد أقبل ، وهل استعان به إياس (٤) في ذكائه ، أو بلغ به عمرو (٥) ما بلغ من دهائه. أو تمرّس به قسّ وسحبان (٦) ، ولولاه ما أفصح أحد منهما (٧) ولا أبان. أترى عقول القوم كليلة. إذ لم تشحذ على مسنّه ، أترى فطنهم عليلة لمّا لم تكرع (٨) في أجنه (٩) عجبا كيف رويت قرائحهم ولم تمطر بعارض دجنه (١٠) ، كلّا هي أشرف من أن تقيّد في سجنه. وأشفّ من أن يستحوذ (١١) عليها طارق جنّه. تالله لقد أغرق القوم فيما لا يعنيهم ، وأظهروا

__________________

(١) النعمان بن ثابت التّميميّ بالولاء فقيه ، صاحب المذهب الحنفي توفي سنة ١٥٠ ه‍.

(٢) أحمد بن حنبل : إمام المذهب الحنبلي ، توفي سنة ٢٤١ ه‍.

(٣) هو سفيان بن سعيد بن مسروق : مفسّر محدّث ، كان عالم هذه الأمة. وعابدها وزاهدها ولد ونشأ بالكوفة وتنقّل بين المدن إلى أن توفي بالبصرة سنة ١٦١ ه‍. له تفسير القرآن الكريم ، ترجمته في سير أعلام النبلاء : ٧ / ٢٢٩ ، ومصادرها ثمة.

(٤) هو إياس بن معاوية : قاضي البصرة ضرب به المثل في الذكاء والفطنة توفي سنة ١٢٢ ه‍ ترجمته في وفيات الأعيان ١ / ٢٤٧ ـ ثمار القلوب ٧٢.

(٥) عمرو بن العاص : أحد عظماء العرب ودهاتهم فاتح مصر توفي سنة ٤٣ ه‍. ترجمته في الإصابة ٣ / ٢ ـ الاستيعاب ٢ / ٥٠٢.

(٦) قس بن ساعدة الإيادي وسحبان وائل فصيحان من فصحاء العرب يضرب بهم المثل في البلاغة.

(٧) في ط : أحدهما.

(٨) كرع في الماء : تناوله بفيه من موضعه.

(٩) أجن الماء : تغيّر لونه وطعمه ورائحته.

(١٠) ـ العارض : ما اعترض في الأفق فسدّه من سحاب وغيره. الدّجن : ظلمة الغيم في اليوم المطير.

(١١) ـ يستحوذ : يستولي ويغلب.

٢٨٤

الافتقار إلى ما لا يغنيهم ، بل يعنتهم مع (١) السّاعات ويعنيّهم. والشّيطان (يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ)(٢) أما إنّه قد كان الآحاد من أهل العلم ينظرون فيه غير مجاهرين ، ويطالعونه لا متظاهرين ، لأنّ أقلّ آفاته أن يكون شغلا بما لا يعني الإنسان ، وإظهار حوجه (٣) إلى ما أغنى عنه الرّبّ المنّان ، والّذي دعا بعض الفضلاء إلى مطالعته [٧٠ / آ] هو اتّقاء شرّه ، والحذار من غائلته (٤) ومكره ، وقد قال عمر رضي‌الله‌عنه : «من لم يعرف الشّرّ أجدر (٥) أن يقع فيه» ونظم هذا بعضهم فقال (٦) : [الهزج]

عرفت الشّرّ لا للشّر

ر لكن لتوقّيه

ومن لم يعرف الشّرّ

من النّاس يقع فيه

وأما هؤلاء ، فقد جعلوه من أكبر المهمّات ؛ واتّخذوه عدّة لللنّوائب والملمّات ؛ فهم يكثرون فيه الأوضاع ؛ وينفق كلّ منهم في تحصيله العمر المضاع. ويحهم! أما سمعوا قول داعي الهدى لمن أمّه ، حين رأى عمر كتب التّوراة في لوح فضمّه (٧) ، فغضب وقال مفهما للحافظ الواعي : «لو كان موسى وعيسى حيّين ما وسعهما إلّا اتّباعي» (٨) وإذا لم يوسعه عذرا في الكتاب الّذي

__________________

(١) في ط : على.

(٢) سورة النساء الآية ١٢٠.

(٣) في ط : حوج.

(٤) في ط : غوائله.

(٥) في ت وط : كان أجدر.

(٦) الشاعر هو أبو فراس الحمداني ، والبيتان في ديوانه ٣ / ٤٣١.

(٧) في ط : من فضّة.

(٨) أخرجه أحمد في مسنده : ٣ / ٣٣٨ ، وهو في الأسرار المرفوعة في الأخبار الموضوعة ٢٩٢.

٢٨٥

جاء به موسى نورا ، فما ظنّك بما وضعه المتخبطّون في ظلام الشّرك ، وافتروا فيه كذبا وزورا ، فيا لله (١) للعقول المنحرفة ، غرقت في بحور ضلال الفلسفة. ولله درّ شيخنا شرف الدّين الدّمياطيّ (٢) فإنّه مباين لهم في ذلك ، منزّه لنفسه عن تلك المسالك ، وقد أنشدني في هذا المعنى لنفسه : (٣) [الطويل]

وما العلم إلّا في كتاب وسنّة

وما الجهل إلّا في كلام ومنطق

وما الخير إلّا في سكوت بحسبة

وما الشّرّ إلّا من كلام ومنطق (٤)

ومن قول الفقيه القاضي الأوحد فريد عصره أبي حفص عمر بن عبد الله بن عمر السّلمي رحمه‌الله في بعض كلامه : (٥)

[خطبة أبي حفص بن عمر]

«عباد الله! الدّين النّصيحة (٦) ، فخذوها محضة صريحة ، هدي الله هو الهدى ، ومن اتّبع رسل (٧) الله اهتدى ، فإيّاكم والقدماء وما أحدثوا ، فإنّهم عن

__________________

(١) ليست في ت.

(٢) عبد المؤمن بن خلف الدمياطي : حافظ للحديث من أكابر فقهاء الشافعية ، ولد بدمياط سنة ٦١٣ ه‍ وتنقّل في البلاد وتوفي في القاهرة سنة ٧٠٥ ه‍. له «معجم» ضمنّه أسماء شيوخه و «كشف المغطى في تبيين الصلاة الوسطى». ترجمته في طبقات لشافعية للسبكي ٤ / ١٠ ، فوات الوفيات ٢ / ٤٠٩ ـ شذرات الذهب ٦ / ١٢.

(٣) البيتان في مستفاد الرحلة والاغتراب ٧٧.

(٤) في ت : سكوت بخشية ـ وما الشر إلا في كلام ومنطق.

(٥) الخطبة بتمامها في الذيل والتكملة ٨ / ٢٢٧ ـ ٢٢٨.

(٦) في الحديث الشريف : ( إن الدين النصيحة). الشفا ٢ / ٥٨٢ ـ وابن عدي ٢ / ٨١٨ ـ ومسند أبي يعلى ٣ / ٢٥٩.

(٧) في ت وط : رسول.

٢٨٦

عقولهم حدّثوا ؛ أتوا من الافتراء بكلّ أعجوبة ، وقلوبهم عن الأسرار محجوبة. الأنبياء ونورهم ، لا الأغبياء (١) وغرورهم ، عنهم يتلقّى ، وبهم يدرك السّول ، (عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً. إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ)(٢)(الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ)(٣) [٧٠ / ب] والعلم كتاب الله وسنّة محمّد عليه‌السلام. ما ضرّ من وقف عندهما ما جهل بعدهما ، خير نبيّ في خير أمّة (يُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ)(٤) دلّهم من قرب عليه ، واختصر لهم الطّريق إليه ؛ فما ضرّ تلك النّفوس الكريمة ، والقلوب السّليمة ، والألباب العظيمة ، ما روي عنها من العلوم القديمة ، نقّاهم من الأوضار والأدناس ، وقال : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ)(٥). كتابهم أعظم كتاب أنزل ، ونبيّهم أكرم نبيّ أرسل. السّيّد الإمام ، لبنة التّمام ، خير البريّة على الإطلاق ، بعث ليتممّ مكارم الأخلاق (٦) ، أنزل الكتاب إليه (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ) ، (٧) هو الشّفاء والرّحمة ، وفيه العلم كلّه والحكمة. معجز في رصفه ، عزيز في وصفه (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ)(٨). آياته باهرة قائمة ، ومعجزاته باقية دائمة. إذ هي للنّبوّة والرّسالة خاتمة. لا تنقضي عجائبه ، ولا تنتهي غرائبه. ماذا أقول وقد بهر

__________________

(١) في الأصل : الأغنياء.

(٢) سورة الجن ٢٦ ـ ٢٧.

(٣) سورة آل عمران ١٩.

(٤) سورة الجمعة ٢.

(٥) سورة آل عمران ١١٠.

(٦) اقتباس من الحديث الشريف : (إنما بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق).

(٧) سورة المائدة ٤٨.

(٨) سورة فصلت ٤٢.

٢٨٧

العقول حسبي. حسبي (قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي)(١) : [السريع]

هذا كلام للهدى جامع

فآصغ إليه أيّها السّامع (٢)

الشّرع للعقل هدى من يصل

بينهما برهانه قاطع

الشّرع للعقل بلا مرية

كالشّمس للعين سنا طالع (٣)

الشّرع متبوع به يهتدي

من ضلّ والعقل هو التّابع (٤)

لا يهتدي العاقل في قصده

إلّا بما سنّ له الشّارع

هذا كتاب الله يهدي الورى

لكلّ علم نوره ساطع (٥)

معرفة الله وآياته

ومنهج الرّسل وما الرّابع (٦)

والعلم والحكمة في طيّه

أجمع وهو المعجز الصّادع

وهو من الله فما فوقه

هاد إلى الله ولا شافع

ومن غيرها :

تحت لواء الشّرع يمضي الحجا

والشّرع وال ماله خالع [٧١ / آ]

__________________

(١) سورة الكهف ١٠٩.

(٢) الأبيات في الذيل والتكملة ٨ / ٢٢٨.

(٣) في الذيل والتكملة : سنا ساطع.

(٤) في الذيل والتكملة : له تابع.

(٥) في الذيل والتكمله : الساطع.

(٦) في الذيل والتكملة : وما نهج.

٢٨٨

[لقاؤه لشرف الدّين الدّمياطيّ]

ولم أر بهذه المدينة ـ على كثرة الخلق بها ـ أمثل وأقرب إلى الإنسانيّة ، وأجمل معاملة ، من الشّيخ الفقيه ، المحدّث ، الرّاوية ، المسند ، المفتي ، الثّقة ، الضّابط ، شرف الدّين ، ذي الكنيتين أبي محمّد وأبي أحمد عبد المؤمن بن خلف بن أبي الحسن الدّمياطيّ (١) ، المحدّث بالمدرسة الظّاهريّة (٢) ـ حفظه الله ـ وهو شيخ وسيم أبيض ، ذو صورة مقبولة ، وهيئة حسنة ، وركانة ، وحسن خلق ، وسراوة همّة (٣) ، راوية جمّاعة ، مقيّد ، ضابط ، حافظ ، رحل في طلب العلم ، ولقي من أهله أعدادا ، وجمع ، وألّف ، وروى حتّى صار أوحد وقته في ذلك ، وله «معجم» في أسماء شيوخه ، ومن لقيه وأخذ عنه في أيّ فنّ كان ؛ كبير في أربعة أسفار. وسمعته يقول : إنّهم ينيفون على ألف ومئتين وسبعين. فقال له بعض الحاضرين : وهل كانوا كلّهم أئمّة؟ فقال لهم : لو لم أكتب إلّا عن العلماء الأئمّة ما كتبت عن خمسة. ونشأته بدمياط ، مدينة هي قاعدة ريف مصر ، وعندها يصبّ بحر النّيل في البحر الرّومي (٤) ، وتقييدها : بدال مكسورة وبعدها ميم ساكنة وياء باثنتين تحتها بعدها ألف وطاء ، والدّال والطّاء مهملتان. وأكثر النّاس يعجم الدّال منها ، وقد سألته عن ذلك فقال : إعجامها

__________________

(١) توفي شرف الدين الدمياطي سنة ٧٠٥ ه‍. انظر شذرات الذهب ٦ / ١٢.

(٢) أمر ببنائها بيبرس سنة ٦٦٠ ه‍ وانتهت عمارتها ٦٦٢ ه‍ ، وجعل بها خزانة كتب تشتمل على أمهات الكتب في سائر العلوم. انظر خطط المقريزي ٢ / ٣٨٧ ـ ٣٧٩.

(٣) في ط : سمت.

(٤) هو البحر الأبيض المتوسط.

٢٨٩

خطأ ، وقد غلط في ذلك أبو محمّد الرّشاطيّ (١) فوضعها في باب الدّال المعجمة ، وإنّما هي بالمهملة.

وقد كتبت عنه أحاديث ، وسمعت منه حديث عبد الله بن عمرو «الرّاحمون يرحمهم الرّحمن» (٢) ، وهو أوّل حديث سمعته منه ، وحدّثني به بسنده (٣) مسلسلا ، وسمعت عليه جملة من سنن الشّافعيّ ـ رحمه‌الله ـ وسمعته يقول وهو يقرأ عليه : العجب من حديث هذا الرّجل أكثر ألفاظه مخالف لما في الصّحيح ، وكان إذا ذكر مالكا ـ رحمه‌الله ـ وفّاه حقّه كما يجب حتّى ظننت أنّه مالكيّ ، فسألته عن مذهبه فقال : شافعيّ ، وإذا ذكره قال : ذهب الإمام مالك إلى كذا. وهكذا يعرف إنصاف أهل العلم.

وقد سألته عن سنّه فقال لي : أقبل على شأنك ، فإنّي سألت شيخنا بهاء الدّين [٧١ / ب] أبا الحسن عليّ بن أبي الفضائل هبة الله بن سلامة (٤) بن المسلم بن أحمد بن عليّ الشّافعيّ عن سنّه ، فقال [لي](٥) : أقبل على شأنك ، فإنّي سألت الإمام شرف الدّين مفتي العراقين شيخ المذاهب أبا سعيد عبد الله بن محمّد بن هبة الله بن عليّ بن المطهّر بن أبي عصرون (٦) عن سنّه

__________________

(١) عبد الله بن علي بن عبد الله اللخمي الأندلسي : عالم بالأنساب والحديث من أهل أوريولة بالأندلس وسكن ألمرية وتعلم بها. له تصانيف منها : «اقتباس الأنوار والتماس الأزهار في أنساب الصحابة ورواة الآثار». استشهد بألمرية عند تغلّب الروم عليها سنة ٥٤٢ ه‍. ترجمته في الصلة ٢٩٧ ـ المعجم لابن الأبار ٢٢٧ ـ وفيات الأعيان ٣ / ١٠٦.

(٢) تقدم صفحة ١٦٦.

(٣) ليست في ط.

(٤) ليست في ط.

(٥) زيادة من ت.

(٦) في ت : عمرون.

٢٩٠

فقال : أقبل على شأنك فإنّي سألت القاضي الإمام أبا عبد الله الحسين بن نصر بن محمّد بن خميس عن سنّه فقال : أقبل على شأنك ، فقد حدّثنا الشّيخ أبو بكر أحمد بن عليّ الطّريثيثي وسألته عن سنّه ، فقال : أقبل على شأنك ، حدّثنا (١) القاضي هنّاد بن إبراهيم وسألته عن سنّه ، فقال : أقبل على شأنك ، فإنّي سألت أبا الفضل محمّد بن أحمد الجاروديّ عن سنّه ، فقال : أقبل على شأنك ، فإنّي سألت أبا بكر محمّد بن عديّ بن جزء (٢) المنقريّ البصريّ عن سنّه ، فقال لي : أقبل على شأنك ، فإنّي سألت أبا أيّوب الهاشميّ عن سنّه ، فقال لي : أقبل على شأنك ، فإنّي سألت أبا إسماعيل التّرمذيّ عن سنّه فقال لي : أقبل على شأنك فإنّي سألت الشّافعيّ عن سنّه ، فقال لي : أقبل على شأنك ، فإنّي سألت مالك بن أنس عن سنّه ، فقال لي : أقبل على شأنك ثم قال [لي](٣) : «ليس من المروءة أن يخبر الرّجل بسنّه» (٤) قلت : وفي بعض الروايات : «فإنّه إن كان صغيرا احتقر ، وإن كان كبيرا استهرم» وقد يقال : إنّما ذلك لئلّا يكذّب ، لأنّ كثيرا من النّاس لا توافق صورته سنّه ، فربّما يظنّ به الكبر وهو صغير أو بالعكس.

وحدّثني بالحديث المعروف بحديث الفقهاء ، لأنّ رواته كلّهم فقهاء وأئمّة ، وهو حديث ابن عمر المشهور : «المتبايعان كلّ واحد منهما على صاحبه (٥)

__________________

(١) في ط : أخبرنا

(٢) في ت وط : جزي.

(٣) زيادة من ت.

(٤) مرآة الزمان ٨ / ١٠٩.

(٥) في ت : يفترق.

٢٩١

بالخيار ما لم يتفرّقا إلّا بيع الخيار» (١) وذكر الإمام السّلفي أنّ أبا الحسن عليّ بن محمّد الكياء (٢) ، شيخه ، قال عقيب هذا الحديث : «إذا بدت رايات النّصوص في ميادين (٣) الكفاح ، طاحت أعلام المقاييس في مدارج الرّياح». وسند الحديث مقيدّ في الجزء الّذي كتبت عنه.

وحدّثني ـ حفظه الله ـ سماعا من لفظه ، قال : أخبرنا الشّيخ الصّالح أبو الحسن بن أبي عبد الله [٧٢ / آ] بن أبي الحسن البغداديّ الأزجيّ بقراءة الحافظ أبي بكر محمّد بن شيخنا الحافظ أبي محمّد عبد العظيم المنذريّ قال : أنا أبو بكر محمّد بن عبيد الله بن نصر بن الزّاغونيّ (٤) إجازة ، قال : أنا (٥) أبو القاسم عليّ بن أحمد بن محمّد البسريّ البندار (٦) قراءة عليه وأنا أسمع ، قال : أنا (٧) أبو طاهر محمّد بن عبد الرّحمن الذّهبيّ المخلص ، قال : نا عبد الله ابن محمّد بن عبد العزيز ، نا داود بن رشيد ، نا الفضل بن زياد ، قال : نا شيبان عن الأعمش ، عن سليمان بن مسهر ، عن خرشة بن الحرّ ، قال : شهد رجل عند عمر بن الخطّاب ـ رضي‌الله‌عنه ـ بشهادة فقال له : لست أعرفك ،

__________________

(١) أخرجه البخاري في البيوع باب البيّعان بالخيار رقم ٢١١١ ـ ٤ / ٣٢٨ ـ ومسلم في البيوع ـ باب خيار المجلس للمتبايعين رقم ١٥٣١ ـ وأبو داود في البيوع باب في خيار المتبايعين رقم ٣٤٥٤ ، والترمذي في أبواب البيوع باب ما جاء في البيعين بالخيار رقم ١٢٤٥ بخلاف في اللفظ ، والنسائي ٧ / ٢٤٨ والموطأ ٤٦٦.

(٢) علي بن محمد بن علي الطبري : فقيه شافعي مفسّر ، درّس ببغداد. توفي سنة ٥٠٤ ه‍ ترجمته في وفيات الأعيان ٣ / ٢٨٦.

(٣) في ت وط : ميدان.

(٤) في ت : الزغاوي.

(٥ ـ ٥) ـ سقط من ت بنقلة عين.

(٦) في ط : البنداري.

٢٩٢

ولا يضرّك ألّا أعرفك ، ايت بمن يعرفك ، فقال رجل من القوم : أنا أعرفه. قال : بأيّ شيء تعرفه؟ قال : بالعدالة والفضل. قال : هو جارك الأدنى الّذي تعرف ليله ونهاره ، ومدخله ومخرجه؟ قال : لا. قال : فمعاملك بالدّينار والدّرهم اللّذين (١) بهما يستدلّ على الورع؟ قال : لا. قال : فرفيقك في السّفر الّذي يستدلّ به على مكارم الأخلاق؟ قال : لا. قال : فلست تعرفه. ثمّ قال للرّجل : ايت بمن يعرفك.

وأنشدني ـ حفظه الله ـ قال : أنشدني لنفسه شيخنا العلامّة حجّة العرب أبو الفضائل الحسن بن محمّد بن الحسن العدويّ العمريّ من ولد عمر بن الخطّاب رضي‌الله‌عنه ، ويعرف بالصّغانيّ ، بصاد مهملة وغين معجمة ، وآخره نون بعدها ياء النّسبة ، قال : ومولده بلوهور (٢) من بلاد الهند ، عاشر صفر سنة سبع وسبعين وخمس مئة ، ووفاته ببغداد في ليلة الجمعة التّاسع عشر من شعبان من سنة خمسين وستّ مئة ، ودفن بداره ببغداد. ثمّ نقل بوصيّة منه إلى مكّة ، ودفن مع الفضيل بن عياض (٣) رحمهما‌الله تعالى ، وكان شرف الدّين الدّمياطيّ ، يثني عليه كثيرا ، ويذكر أنّه كان إماما مقدّما في الأدب (٤) واللّغة ، وأنّ له شعرا كثيرا ، وتآليف في اللّغة عديدة مفيدة ،

__________________

(١) في ت وط : الذي.

(٢) لوهور : قال ياقوت : المشهور من اسم هذا البلد لهاور : وهي مدينة عظيمة مشهورة في بلاد الهند. وتقع اليوم في باكستان. واسمها لاهور. انظر معجم البلدان ٥ / ٢٦ ـ ٢٧.

(٣) الفضيل بن عياض بن مسعود التميمي اليربوعي : شيخ الحرم المكّي ، من أكابر العبّاد والصلحاء. كان ثقة في الحديث. ولد بسمر قند سنة ١٠٥ ه‍ وتوفي بمكة سنة ١٨٧ ه‍. ترجمته في شذرات الذهب ١ / ٣١٦ ـ غربال الزمان ـ ١٧٣ ـ طبقات الحفاظ للسيوطي ١١٠ ـ تذكرة الحفاظ ١ / ٢٤٥.

(٤) في ت وط : الآداب.

٢٩٣

وخمّس «مقصورة ابن دريد (١)» ثمّ شرحها بتخميسها شرحا جيّدا مفيدا : (٢) [البسيط]

يوم بمكّة خير من مضيّ سنه

بغيرها تنقضي باللهو أو بسنه

فلا القلوب إلى الأهواء مائلة

ولا النّفوس بكسب الإثم مرتهنه

[٧٢ / ب] ولا الفقير مع الإملاق ذو جزع

ولا الغنيّ تحامى النّاس ما احتجنه (٣)

ولا يمرّ على من لا طباخ له

أقلّ من لحظة لا يقتني حسنه

ولا يذمّهم أو من يساكنهم

إلّا القويّ الّذي جدّ العلا رسنه

وأنشدني أيضا قال : أنشدني الصّغانيّ المذكور لنفسه : (٤) [البسيط]

إذا اختبيت تجاه الرّكن يحدق بي

أفاضل النّاس من شام ومن يمن

ذوو محابر أعداد النّجوم ومن

قد آثر السّفر المضني على الوطن

أظلّ أنشدهم شعري وأخبرهم

بما سمعت من الآثار والسّنن

__________________

(١) هي قصيدة لأبي بكر محمد بن الحسن بن دريد الأزري إمام اللغة والأدب في عصره ، المتوفى ببغداد سنة ٣٢١ ه‍ ويمدح فيها ابن ميكال الشاه وأخاه ويصف سيره إلى فارس ويتشوق إلى البصره وإخوانه بها ومطلعها :

أما ترى رأسي حاكى لونه

طرّة صبح تحت أذيال الدّجا

وعدد أبياتها ٢٢٩. وطبعت غير طبعة مع شروحهما.

(٢) الأبيات في مستفاد الرحلة والاغتراب ٢٤٠.

(٣) في ت وط : مع الأماق ذو جزع.

(٤) الشعر في مستفاد الرحلة والاغتراب ٧٩.

٢٩٤

موثّقا عدل أهليها ، وأجرح من

تكلّموا فيه في ماض من الزّمن

أروي الأحاديث عن ثبت أخي ثقة

أقول : حدّثني شيخي وأخبرني

وأشبع القول في إيضاح معضلها

وحلّ معظمها جريا على السّنن

خطّت على جبهة الأيّام خالدة

«تلك المكارم لا قعبان من لبن» (١)

قلت : وقد تقدّم إلى هذا الفقيه أبو مروان الطّبنيّ (٢) في قوله : (٣) [البسيط]

إنّي إذا حضرتني ألف محبرة

يكتبن حدّثني طورا وأخبرني (٤)

نادت بعقوتها الأقلام معلنة

«هذي المفاخر لا قعبان من لبن» (٥)

وأنشدني له أيضا : (٦) [الطويل]

__________________

(١) تضمين صدر بيت أمية بن أبي الصلت في ديوانه ٤٥٩ ، وعجزه :

«شيبا بماء فعادا بعد أبوالا»

(٢) عبد الملك بن زيادة الله الطّبني : أصله من طبنة بإفريقية وهي قاعدة اقليم الزاب : عالم باللغة والحديث ، شاعر ، توفي سنة ٤٥٧ ه‍ انظر جذوة المقتبس ٢٨٤ .. المغرب ١ / ٩٢ ، الصلة ١ / ٣٦١.

(٣) الأبيات في جذوة المقتبس ٢٨٥ ، بغية الملتمس ٣٧٩ ، الصلة ٣٦١ ، المغرب ١ / ٩٣ ، النفح ٧ / ٤٩ ، الذخيرة ١ / ٥٤٢.

(٤) في الصلة والبغية والجذوة : إذا احتوشتني ، وفي المغرب : تقول أخبرني هذا وحدثني ، وفي الذخيرة : تقول أنشدني طورا وأخبرني.

(٥) في الصلة والبغية والجذوة والمطمح : بعقوتي ، وفي النفح : نادت بمفخري ، وفي المغرب : صاحت بعقوتي الأقلام زاهية وفي الذخيرة : يا حبذا ألسن الأقلام ناطقة.

(٦) البيتان ١ و ٢ في مستفاد الرحلة والاغتراب ٧٨ والعقد الثمين ٤ / ١٧٨.

٢٩٥

تسربلت سربال القناعة والرّضا

صبيّا فكانا في الكهولة ديدني (١)

وقد كان ينهاني أبي ـ حفّ بالرّضا

وبالعفو ـ أن أولي يدا من يدي دني

[فمذ كنت لم أقبل يدا من يدي فتى

سنيّ فهل أرضى بها من يدي دني](٢)

وأنشدني أيضا ، قال : أنشدنا الشّيخ الأجلّ ، العدل ، الفاضل ، عزّ الدّين أبو القاسم عبد الله بن الحسن بن عبد الله بن رواحة الأنصاريّ الحمويّ ، قال :

أنشدتنا الشّيخة الأديبة أمّ عليّ تقيّة بنت الإمام أبي الفرج غيث بن عليّ بن عبد السّلام الأرمنازيّ الصّوريّ (٣) لنفسها بالإسكندريّة : [الطّويل]

[٧٣ / آ] سلام على هند ، وإن بعدت عنّا

فقد خلّفت قلبا كئيبا بها مضنى

يظلّ مدى الأيّام يقرع سنّه

ولا غرو للمشتاق أن يقرع السّنا

ويمشي على جمر الغضى متقلّبا

ويبكي على أوطانه أبدا حزنا (٤)

ويرقب نجما لا يغور ، ويرتجي

خيالا من الأحباب يلتبس الجفنا

٥ ـ ترى تجمع الأيّام شملي بجلّق

على روضة غنّاء طيّبة المغنى

وأنهار ثورا ، والبساتين حولها

وأطيارها يبكين شجوا ويندبنا

تمنّيتها دارا أحلّ بقربها

رضيت ولو كانت منازلها سجنا (٥)

__________________

(١) في ط : تسرّبت.

(٢) البيت غير موجود في الأصل. وهو في ت وط.

(٣) تقية بنت غيث بن علي بن عبد السلام الأرمنازي : فاضلة ، متأدبة ، لها شعر جيد جمع في ديوان صغير أصلها من بلدة صور. وولدت بدمشق سنة ٥٠٥ ه‍. وسكنت الإسكندرية وتوفيت بها سنة ٥٧٩ ه‍ ، ترجمتها في أعلام النساء ١ / ١١٤ ـ النجوم الزاهرة ٦ / ٩٦ ـ وفيات الأعيان ١ / ٢٩٧ خريدة القصر : قسم مصر ٢ / ٢٢١ ـ.

(٤) في ت وط : يمسي.

(٥) في ط : تمنّيتمو دارا.

٢٩٦

بلاد رباها المسك والرّاح ماؤها

فلو سيّرونا في الهوى نحوها سرنا (١)

لأنّ بها أختا عليّ عزيزة

وقد أخذت قلبي لدى قربها رهنا

١٠ ـ وأضحيت في دار غريبا بأرضها

وحيدا بلا قلب ، وما طاب لي سكنى (٢)

ولولا نسيم جاءنا بنسيمها

وقرب الإمام الحافظ الحبر ما عشنا

تعني الحافظ السّلفيّ رحمه‌الله.

وأنشدني شيخنا المذكور لنفسه : [البسيط]

سروا بقلبي الّذي قدما له أسروا

وخلّفوني بنار الشّوق أستعر

أهوى نسيم الصّبا هبّت لنا سحرا

في طيّها خبر من نشرهم عطر

يا عاذلي لورأت عيناك حسنهم

علمت أنّي مالي عنه مصطبر

يقيمني نحوهم وجدي ، ويقعدني

إذا نهضت إلى مغناهم القدر

٥ ـ أليّة برّة بالخيف خيف منى

وبالحجيج ، وما حجّوه واعتمروا (٣)

ما زلت بعدهم صبّا لرؤيتهم

ليلي بهم ، ونهاري كلّه فكر

قرّت عيونهم بالنّوم في دعة

ومقلتي سخنت قد شفّها السّهر

وأحسد العيس إذ فازت بقربهم

دوني وقربهم المأمول والوطر (٤)

يا صاح إن جزت بالجرعاء عج بهم

واحذر ومن قدر لا ينفع الحذر (٥)

__________________

(١) في ط : تربها الملك.

(٢) في ط : في داري ، وفي ت : ولا طاب.

(٣) الأليّة : اليمين.

(٤) في ت : وأحسد العين. وفي ط : وأحسد العيش.

(٥) اقتباس من الحديث الشريف : (لن ينفع حذر من قدر ، ولكن الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل فعليكم بالدعاء عباد الله). وقد أخرجه أحمد في مسنده : ٥ / ١٣٤ من حديث معاذ رضي‌الله‌عنه.

٢٩٧

١٠ ـ فإن رموك بسهم اللّحظ متّ جوى

ولم يداووك إذ قتلاهم هدر (١)

وأنشدني أيضا لنفسه مشيرا إلى أنّ ما روي عن رسول الله [٧٣ / ب] صلى‌الله‌عليه‌وسلم من التّرجيع في القراءة إنّما أوجبه ركوب البعير (٢) : [الطويل]

روينا بإسناد عن ابن مغفّل

حديثا شهيرا صحّ من علّة القدح (٣)

فإنّ رسول الله حين مسيره

لثامنة وافته في غزوة الفتح

تلا خير مسموع بمتن بعيره

فرجّع في الآيات من سورة الفتح (٤)

وأنشدني أيضا لنفسه : (٥) [البسيط]

علم الحديث له فضل ومنقبة

نال العلاء به من كان معتنيا

ما جازه كامل إلّا ونقّصه

أو حازه عاطل إلّا به حليا (٦)

وأنشدني أيضا لنفسه :

وما العلم إلّا في كتاب وسنّة ... البيتين. وقد مضى تقييدهما (٧) والحمد لله.

__________________

(١) في ط : ولم يدروا ودما قتلاهم هدر.

(٢) الأبيات في طبقات الشافعية ١٠ / ١٢ ، والأول والثاني في النجوم الزاهرة ٨ / ٢١٩ ومستفاد الرحلة والاغتراب ٧٦.

(٣) هو عبد الله بن مغفل المزني : صحابي من أصحاب الشجرة ، سكن المدينة ، ثم أرسل إلى البصرة لتفقيه الناس حيث توفي فيها سنة ٥٩ أو ٦٠ ه‍. له ترجمة في الإصابة ٢ / ٤٦٣ ، الجمع بين رجال الصحيحين ٢٤٢.

(٤) رواية الشطر الأول في طبقات الشافعية : تلا خير مقروء على خير مرسل.

(٥) البيتان في مستفاد الرحلة والاغتراب ٧٦ وفهرس الفهارس ١ / ٤٠٩.

(٦) رواية الشطر الأول في ت : ما حازه ناقص إلّا وكّمله ، وفي ط : إلّا به عليا.

(٧) سلف البيتان في الصفحة ٢٨٦.

٢٩٨

ولمّا استجزته لي ولولدي محمّد ـ هداه الله ـ ووقف على الاستدعاء لذلك قال لي : ألك ولد غيره؟ فقلت : نعم ، ثلاثة. فقال لي : ولم لم تستجز لهم جميعا؟ فقلت : لأنّهم صغار. وهذا الّذي استجزت له قد حفظ القرآن ، فقال لي : أنا أكتب لك ولهم جميعا ، (١) حتّى يكون من يكتب في هذا الاستدعاء بعد خطّي يجيزكم جميعا (٢). فكتب الإجازة بكلّ ما يحمل ، وكلّ ماله من تأليف وتخريج لي ولجميع الأولاد ـ وفّقهم الله ـ وكنّى أحد المحمّدين الآخرين (٣) أبا عليّ ، والآخر أبا بكر ، وقيّد خطّه بذلك في الاستدعاء. وهو مليح الخطّ. ما رأيت بديار مصر أملح منه خطّا ، وكان يسائلني عن أشياء ويباسطني. ولمّا وردت مصر راجعا من الحجاز ، وكنت مريضا ، أنزلني عنده في المدرسة وكان عنده بها طبيب ماهر يحضر مواعيده ، فأمره أن يتفقّدني بالغداة (٤) والعشيّ (٥) فكان يفعل ذلك ، ولم يقصّر في العلاج حتّى استقللت ، ومنّ الله بالرّاحة له الحمد والشّكر كثيرا.

[لقاؤه لابن دقيق العيد]

وممّن لقيته بها الشّيخ ، الفقيه المحدّث ، الأصوليّ ، المتفنّن ، عالم الدّيار المصريّة ، تقيّ الدّين أبو الفتح محمّد [٧٤ / آ] بن عليّ بن وهب بن مطيع بن أبي الطّاعة القشيريّ (٦) ، ويعرف بابن دقيق العيد ، صاحب المدرسة الكامليّة. لقيت منه حبرا [كاملا عالما](٧) يحقّ له اللّقاء ، وبحرا من علم لا تكدّره

__________________

(١) سقط من ط.

(٢) ليست في ت وط.

(٣) في ط : بالغدوة.

(٤) ليست في ط.

(٥) توفي ابن دقيق العيد سنة ٧٠٢ ه‍. انظر شذرات الذهب ٦ / ٥.

(٦) زيادة من ت.

٢٩٩

الدّلاء (١) ، وطبّا آسيا يشفي بقوله الدّاء العياء ، له تفنّن في فنون العلوم ، وتسلّط عليها بذهن يردّ المجهول إلى المعلوم ، وقلّما يلفى له في سعة المعارف نظير ، أو يوجد من يماثله في صحّة البحث والتّنقير (٢) ، وله في البلاد ذكر شهير ، وصيت مستطير ، وخطر خطير ، يضرب في كلّ فنّ بسهم مصيب ، ويحظى منه بأوفر نصيب ، ولقي جماعة من الأعلام فأخذ عنهم وحصّل ؛ وما زال يؤصّل نفسه في المعارف حتّى تأصّل. فهو الآن قطب مصر وعلمها ، لولا وسوسة تصحبه ، وأخلاق يجلّ عنها منصبه ، لو كانت لها صورة كانت أشنع الصّور ؛ أو تليت له سورة كانت أبدع السّور ، وكان في أوّل أمره مالكيّا على رأى أبيه ، ثم انتقل بعد شافعيّا لصورة تسمج ، وقضيّة عن أحكام المروءة تخرج. وقد ذكر لي عنه بعض من أثق به ممّن له به اختصاص ، كلاما في حقّ الإمام مالك ـ رضي‌الله‌عنه ـ جاريا على سنن أخلاقه ، ودالا على إنهاج (٣) ثوب المروءة وإخلاقه ، ومن جملة ما يصحبه من الوسواس أنّه لا يمسّ منه عضو ولا لباس ، بل يقتصر الوارد عليه على الإشارة بالسّلام إليه ، وحطّ الرّأس على العادة الذّميمة بين يديه. (٤)

وقد حدّثني عنه [بعض](٥) من أثق به أنّه يأتي إلى جابية الماء في شدّة البرد ، فينغمس فيها بثيابه لأقلّ وسوسة تعتريه ، حتّى أثّر ذلك في ضعف قوّته ، ولاح أثره في اختلال صحّته. ورأيته وهو يملي عليّ من حديثه يمسك

__________________

(١) أفاد من قول حسان في ديوانه ١٠ :

لساني صارم لا عيب فيه

وبحري لا تكدّره الدلاء

(٢) التنقير : التفتيش.

(٣) نهج الثوب : إذا بلي.

(٤) ذكر التجيبي في مستفاد الرحلة والاغتراب ١٧ أمثلة كثيرة على وسواس ابن دقيق العيد.

(٥) زيادة من ت وط.

٣٠٠