رحلة العبدري

أبو عبدالله العبدري

رحلة العبدري

المؤلف:

أبو عبدالله العبدري


المحقق: د. علي إبراهيم كردي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار سعد الدين للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
الصفحات: ٧٢٨

عثمان ذي النّورين صهر المصطفى

زوج ابنتيه غدا بذاك مكرّما

٣٥ ـ الجامع القرآن والحبر الّذي

في كفّه نطق الجماد فأفهما

جعل النّبيّ المصطفى يده له

عن كفّه بدلا إلى أن يقدما (١)

وعليّ أبي الحسن الإمام المرتضى

ذي الفخر والنّسب الكريم المنتمى

زوج البتول ، أخي الرّسول ، فتى الوغى

ما فرّ قطّ ولا تأخرّ محجما (٢)

حقّا وقال المصطفى : من كنت مو

لاه فمولاه عليّ معلما (٣)

٤٠ ـ يا ربّ وال وليّه ونصيره

أبدا وعاد عدوّه أنّى ارتمى

من كان في الأحكام أقضاهم وبال

علم المصون عن البّرية أعلما (٤)

وبنوه والصّحب الكرام جميعهم

والتاّبعون لمن خلا وتقدّما

وعلى ابنة الصّدّيق عائشة الّتي

في شأنها نزل الكتاب معظّما

وجميع أزواج النّبيّ وآله

صلّى عليهم ربّنا وترحّما

٤٥ ـ يا سيّد الأبرار جئتك أشتكي

ألما ألمّ وحادثا قد أظلما

رانت على قلبي الذّنوب فلم يع الذ

ذكرى وقد بلغ الزّبا سيل طما (٥)

وبذا الجناب أعوذ يا خير الورى

إذ زرته من أن أزور جهنّما

ولقد وقفت بساحة المولى الّذي

وسع الأنام ندّى وجاد فعمّما (٦)

__________________

(١) في ط : عن فكّه. وهو تصحيف.

(٢) أحجم عن الأمر : نكص وجبن.

(٣) في ط : وبجم ، وموضع هذا البيت بياض في ت.

(٤) في ت : من البرية.

(٥) هذا البيت والأبيات الثلاثة التي تليه ساقطة من ط ، ران الذنب على القلب : غلب. والمثل بلغ السيل الزبا في مجمع الأمثال للميداني ١ / ٩١.

(٦) في ط : وجاء فعمّما ، وفي ت : معمّما. وعمّ : شمل.

٢٦١

يا سيّدي والوفد منقلب غدا

بم يرجع المسكين منقلبا بم؟ (١)

٥٠ ـ إنّي أتيتك تائبا متنصّلا

مستغفرا من زلّتي متندّما

يا ذا الجلال ارحم بحقّ المصطفى ال

عبد الفقير المستجير المجرما

وامنن عليه بتوبة تمحو بها

ما كان منه وما جناه وقدّما

واغفر لمنشدها عليّ ذنبه

واغفر لمنشئها عليّ وارحما

[٦٣ / ب] فبمدح أحمد يرتجون شفاعة

ذا منشدا فرحا ، وذاك منظّما (٢)

٥٥ ـ واغفر لمستمع دعا لهما فما

أجدى دعاء المؤمنين وأكرما

وأنشدني لبعضهم ولم يسّمه : [الكامل]

اقرأ ـ هديت ـ كتاب ربّك تهتد

فالحقّ فيه وفي حديث محمّد

حازا علوما جمّة فالزمهما

واقنع بحفظهما حياتك ترشد

الله يعلم أنّني لك ناصح

فاقبل مقالة ناصح متودّد

وأنشدني أيضا في معناه لبعضهم : [البسيط]

ما العلم إلّا كتاب الله أو أثر

تجلو بنور هداه كلّ ملتبس (٣)

نور لمقتبس ، خير لملتبس

حمى لمحترس ، نعمى لمبتئس

فاعكف ببابهما على طلابهما

تحو الغنى بهما عن كلّ ملتمس

__________________

(١) في ت : يا سيّدا ، وفي ط : والوفد منفلت.

(٢) في ت وط : يرجوان.

(٣) في ط : تخلق بنور.

٢٦٢

ورد بقلبك عذبا من حياضهما

تغسل بماء الهدى ما فيه من دنس (١)

واقف النّبيّ وأتباع النّبيّ وكن

من هديهم أبدا ترنو إلى قبس (٢)

واقصد مجالسهم واحفظ مجالسهم

واندب مدارسهم بالأربع الدّرس

واسلك طريقهم ، واصحب فريقهم

تكن رفيقهم في حضرة القدس

تلك السّعادة إن تلمم بساحتها

فحطّ رحلك قد عوفيت من تعس

وأنشدني أيضا قال : أنشدني بعض أشياخي ولم يسمّه : [البسيط]

سواد شعرك ملبوس تدلّ به

أنّ السّواد يغطّي كلّ ملتبس

فوقّر الشّيب عن عيب يدنّسه

إنّ البياض قليل الحمل للدّنس (٣)

وأنشدني أيضا قال : أنشدنا (٤) الإمام المؤرّخ أبو الحسن محمّد بن القطيعيّ ببغداد ، قال : أنشدنا فارس المنبر أبو الفرج عبد الرّحمن بن الجوزيّ قال : أنشدنا محمّد بن عبد الباقي الأنصاريّ : (٥) [الخفيف]

__________________

(١) في ت وط : ما فيك من دنس.

(٢) في ط : ترقى إلى قبس. اقف : اتبع.

(٣) ينظر إلى بيت الشافعي في ديوانه ١٠٨ :

احفظ لشيبك من عيب يدنّسه

إن البياض قليل الحمل للدنس

(٤) في ت وط : أنشدني.

(٥) البيتان منسوبان في وفيات الأعيان ٤ / ٤٥١. والوافي بالوفيات ٤ / ١٤٣ ومعجم الأدباء ١٨ / ٢٥٩ ـ ومراة الزمان ٨ / ١٠. للشاعر محمد بن علي بن الحسن بن أبي الصقر ، وهو فقيه شافعي توفي سنة ٤٩٨ ه‍. له ترجمة في طبقات الشافعية للإسنوي ٢ / ٤٠ إضافة إلى المصادر السابقة.

٢٦٣

علّة سمّيت ثمانين عاما

منعتني للأصدقاء القياما

فإذا عمّروا تمهّد عذري

عندهم في الّذي ذكرت وقاما (١) [٦٤ / آ]

قال : وأنشدنا ابن القطيعيّ أيضا ، قال : أنشدنا عمر (٢) بن عليّ الدّمشقيّ في كتابه ، قال : أنشدنا أبو حامد (٣) محمّد بن عبد الرّحيم الأندلسيّ لنفسه : [الرمل]

تكتب العلم وتلقي في سفط

ثمّ لا تحفظ ، لا تفلح قطّ

إنّما يفلح من يحفظ من

بعد فهم وتوقّ من غلط

قلت : لم يسمع في (٤) كلام العرب إدخال قطّ على الفعل المضارع ، وإنّما يدخلونه على الفعل الماضي ، فيقولون (٥) : لم أفعل هذا قطّ. وذلك أن «لم» تصيّر الفعل في المعنى ماضيا ، ولا يقولون : لا أفعله قطّ ، لأن «قطّ» مشتقّة من قطّ يقطّ ، أي : يقطع ، فمعناه : لم أفعله في كلّ ما مضى من الزّمان وانقطع ، وهذا الّلفظ تغلط فيه الخاصّة والعامّة من أهل المشرق ، وقد رأيت إنكاره لبعضهم وأظنّه أبا محمّد الحريريّ في كتابه «درّة الغوّاص» (٦) وذكر في معناه ما ذكرته سواء ، والله الموفق.

__________________

(١) في بقية المصادر : بالذي.

(٢) في ط : عمرو.

(٣) ليست في ط.

(٤) في ت : من.

(٥) في ط : فيقول.

(٦) هو كما ظن المؤلف ، والكلام على «قط» في درة الغواص ١٣ ـ ١٤.

٢٦٤

وأنشدني أيضا قال : أنشدنا أبو القاسم عبد الرّحمن بن عبد المجيد الصّفراويّ في كتابه ، قال : أنشدنا أبو الفداء الموصليّ في مجلس وعظه : (١) [الخفيف]

كلّ أمر إذا تفكّرت فيه

وتأمّلته رأيت طريفا (٢)

كنت أمشي على اثنتين قويّا

صرت أمشي على ثلاث ضعيفا

وأنشدني أيضا قال : أنشدني بعض المغاربة ولم يسمّه : (٣) [مخلع البسيط]

خانت عهودي يدي ورجلي

فليس خطو وليس خطّ

كلّ على كلّ من يراني

أشال كالثّقل أو أحطّ (٤)

وأنشدني أيضا قال : أنشدنا الشّيخ الأديب الفقيه أبو عمرو بن الحاجب لنفسه : (٥) [الخفيف]

إن تغيبوا عن العيون فأنتم

في قلوب حضوركم مستمرّ (٦)

مثلما تثبت الحقائق في الذّه

ن وفي خارج لها مستقرّ (٧) [٦٤ / ب]

__________________

(١) البيتان لمحمد بن علي بن الحسن الواسطي المعروف بابن أبي الصقر قالهما عندما طعن في السّنّ وكبر. وهما في طبقات الشافعية للإسنوي ٢ / ٢٤١ ـ وطبقات السبكي ٤ / ١٩٢ ووفيات الأعيان ٤ / ٤٥٠ ـ والوافي ٤ / ١٤٣ ـ ومعجم الأدباء ١٨ / ٢٥٨.

(٢) في وفيات الأعيان والوافي : كل أمري ، وفي طبقات السبكي كل مرء ، وفي المصادر السابقة : رأيت ظريفا.

(٣) البيتان في ألف باء للبلوي ٢ / ٤٣٠ دون عزو.

(٤) في ألف باء : من يليني. والكلّ : الذي يعتمد على غيره في المشي.

(٥) البيتان في البلغة ١٤٠ والطالع السعيد ٣٥٦.

(٦) في البلغة : في فؤادي.

(٧) في البلغة : مثلما قامت ـ وفي الخارج.

٢٦٥

وأنشدني للبحتريّ : (١) [الطويل]

ظعنت فلم أصبح لظعنك نادما

رضيت بأن تنأى وترجع سالما

وما ذاك إلّا لاعتناقك ظاعنا

وأخرى انتظارا لاعتناقك قادما

رضيت بتسليم وغيبة أشهر

إذا لم تكن لي في مقامك راحما (٢)

ولمّا عزمت على السّفر ، قال لي : أتعلم (٣) أنيّ بتّ البارحة مهموما؟ قلت : لماذا؟ قال : لأجل فراقك. وقيّد اسمي ونسبي في برنامج شيوخه ، وقيّد عني أبياتا من شعري وكتب بخطّه جميع القصيدة الّتي كتبت بها إلى ولدي محمّد ـ وفّقه الله ـ من القيروان ، وبالغ في استحسانها ، وسمع مني القصيد الحجازيّ الّذي قلته في طريق الحجّ.

ولمّا ودّعني في منصرفي إلى الحجاز أخذ بيدي وقال لي : استودع الله دينك ، وأمانتك ، وخواتم عملك ثلاث مرّات. ثم قال لي : ردّ عليّ مثلها ففعلت ، وأنشدني مودّعا باكيا في انصرافي عنه إلى الغرب : (٤) [الوافر]

أودّعكم وأودعكم جناني

وأنثر عبرتي نثر الجمان (٥)

وقلبي لا يريد لكم فراقا

ولكن هكذا فعل الزّمان (٦)

__________________

(١) عبارة وأنشدني البحتري ساقطة من ط ، والأبيات لم أقف عليها في المطبوع من ديوان البحتري.

(٢) في ط : رغبة أشهرا. وهو تصحيف واضح.

(٣) ليست في ط.

(٤) البيتان لابن دقيق العيد في ديوانه ١٨٥ ، وهما في النجوم الزاهرة ٥ / ٢٢٨ والوافي بالوفيات ٥ / ١١٢ منسوبان لمحمد بن نصر بن منصور بن سعد القاضي المتوفى سنة ٥١٨ ه‍.

(٥) في الديوان أودعكم حياتي ، وانثر دمعتي.

(٦) في الديوان وت وط : ولكن هكذا حكم الزمان.

٢٦٦

ولقيت بالإسكندريّة أشخاصا عرّفني بهم سيدي الشّريف المذكور ، وذكر أنّ لهم إسنادا ، واستجازهم لي فأجازوني ، وكتبوا لي خطّهم بذلك ، ولم أسمع منهم شيئا لا نحفازي للسّفر ، وإجازتهم كلّها عامّة ، وكان الشّيخ أبو الحسن المذكور هو الّذي دار بي عليهم ، وقيّد لي بعض مسموعاتهم ، شكر الله اهتباله (١) ، وأنعم باله بمنّه وكرمه.

[لقاؤه لمحيي الدّين المازونيّ]

وممّن لقيت بها الشّيخ الأديب المسنّ أستاذ العربيّة في وقته أبو عبد الله محمّد بن عبد الله بن عبد العزيز الزّناتي ، ويعرف بمحيي الدّين المازونيّ فأنشدني لنفسه (٢) [الطويل]

ومعتقد أنّ الرّياسة في الكبر

فأصبح ممقوتا به وهو لا يدري

[٦٥ / آ] يجرّ ذيول العجب طالب رفعة

ألا فاعجبوا من طالب الرّفع بالجرّ (٣)

وأنشدني أيضا لنفسه : (٤) [الطويل]

عتبت على الدّنيا لتقديم ناقص

وتأخير ذي فضل ، فقالت : خذ العذرا (٥)

بنو النّقص أبنائي ، وكلّ فضيلة

فأربابها أبناء ضرّتي الأخرى (٦)

__________________

(١) الاهتبال : العناية والتوفر وفرط الاهتمام وهي من ألفاظ المغاربة والأندلسيين.

(٢) البيتان في البلغة ٢٣١ ـ فوات الوفيات ٣ / ٤١٠ ـ الوافي بالوفيات ٣ / ٣٦٥ ـ بغية الوعاة ١ / ١٣٨ ـ غرر الخصائص الواضحة ٦٨.

(٣) في ت : ذيول العز ، وفي الوافي والفوات : ذيول الكبر ـ وفي الغرر : ذيول الفخر.

(٤) البيتان في : الديباج المذهب ٦٧ ونيل الابتهاج على هامش الديباج ٢٣٥.

(٥) في ط وت والديباج والنيل لتقديم جاهل ، وفي الديباج : وتأخير ذي علم.

(٦) نيل الابتهاج والديباج : ذوو الجهل.

٢٦٧

وأنشدني لنفسه أيضا : [البسيط]

مالي أذكّر بالأوراق في نسق

فما انتفعت بتذكيري ولا ملقي (١)

وصرت من سوء حفظي إذ أذكّركم

كأنّني أبعث النّسيان في الورق (٢)

وأيضا : (٣) [الطويل]

إذا ما الّليالي جاورتك بساقط

وقدرك مرفوع فعنه ترحّل (٤)

ألم تر ما لاقاه في جنب جاره

«كبير أناس في بجاد مزمّل» (٥)

يعني الخفض على الجوار ، (٦) وهذا المعنى الّذي ابتكره (٧) حسن جدّا. وقد سألته : هل رآه لغيره؟ فقال لي : لم أره لأحد.

وأنشدني لنفسه أيضا : (٨) [الخفيف]

قل لأهل الزّمان حاشاك ممّا

أصبحوا فيه من مساو سواء

ما على شاعر هجاكم ملام

هل رآكم أحسنتم فأساء؟

كان من قد مضى يعلّمنا المد

ح وأنتم تعلّمونا الهجاء

__________________

(١) الملق : التودّد والتلطّف.

(٢) في ت وط : سوء خطّي.

(٣) البيتان في البلغة ٢٣١ ، وفي النفح ٥ / ١٩٠ دون نسبة.

(٤) في ت والبلغة : جاورتك بناقص.

(٥) في البلغة : كثير التأسي في بجاد مزّمل. والبجاد : كساء مخطط من أكسية العرب. وقد ضمن الشاعر شطر بيت امرئ القيس وصدره : «كأن أبانا في أفانين ودقه» وهو من معلقته.

(٦ ـ ٦) ـ في ت وط : وهذا معنى ابتكره.

(٧) سلفت الأبيات في الصفحة ٣٢ من الرحلة.

٢٦٨

وأيضا : (١) [الكامل]

أمعلّمي حسن التصبّر بالجفا

فثنى فؤادا منك لم يك ينثني (٢)

لا بدّ من أجر لكلّ معلّم

ولك السّلوّ ثواب ما علّمتني

وأيضا في أهل الإسكندريّة : (٣) [الكامل]

يا منكرا من بخل أهل الثّغر ما

عرف الورى أنكرت ما لا ينكر (٤)

إن كان قد صحّت نتانة أهله

فمن الثّغور كما علمت الأبخر (٥)

وأيضا : [الخفيف]

أهل ذا الثّغر خير شيء يزين

فيه أن تفقدوا وألّا تكونوا

جئتم للزّمان عونا عليّنا

ومضى من على الزّمان يعين [٦٥ / ب]

وأنشدني أيضا لنفسه في منار الإسكندريّة : [البسيط]

إن كنت تحسن تشبيه المنار فقل

كما أقول وصفها مثلما أصف

طالت فطاولت الأرض السّماء بها

لو لم تقف جازت الجوزاء لا تقف (٦)

كأنّها غادة قامت على شرف

تأتي الجواري إليها ثمّ تنصرف

__________________

(١) البيتان في الوافي بالوفيات ٣ / ٣٦٥ وفوات الوفيات ٣ / ٤١٠.

(٢) في الوافي والفوات : ومعلمي الصبر الجميل بهجره ـ منه لم يك ينثني.

(٣) البيتان في البلغة ٢٣١ ـ والوافي ٣ / ٣٦٥ ـ والفوات ٣ / ٤١٠.

(٤) في البلغة : علم الورى.

(٥) في البلغة والوافي والفوات : أقصر فقد صحّت نتانة أهله. والبخر : الرائحة المتغيره من الفم.

(٦) في ت : ولم تقف حاجة الجوزاء.

٢٦٩

وأنشدني أيضا لنفسه في المنار بيتا مفردا وهو : [الطويل]

كأنّ الجواري والمنارة غادة

جوار وقوف عندها وجواري

وأنشدني أيضا لنفسه : [البسيط]

لامت على سرفي في الجود ، قلت لها :

يا هذه! سرفي في الجود من شيمي

وحسن ظنّي بالرّحمن يحملني

على الّذي أتعاطاه من الكرم

فلا وجدت سوى مال أجود به

ولا عدمت يدا تصبو إلى عدم

وأنشدني أيضا لغيره في أهل الإسكندرية : (١) [الكامل]

يا ساكني الإسكندريّة فيكم

بات النّزيل بليلة الملسوع (٢)

تقرونه بالإسطقسّات الّتي

هي أصل كلّ مؤلّف مجموع

بهوائها ، وبمائها ، وترابها

والنّار في أحشائه بالجوع (٣)

__________________

(١) الأبيات في النجوم الزاهرة في حلى حضرة القاهرة ٣٣٢ منسوبة للشاعر جلال الدين مكرم بن أبي الحسن بن أحمد بن أبي القاسم بن حبقة الخزرجي.

(٢) في النجوم الزاهرة : عندكم.

(٣) في النجوم الزاهرة : بترابها وهوائها وبمائها.

٢٧٠

وأنشدني أيضا لغيره في البحر : (١) [مخلع البسيط]

البحر مرّ المذاق صعب

لا رجعت حاجتي إليه (٢)

أليس ماء ، ونحن طين

فما عسى صبرنا عليه (٣)؟

وأخبرني أنّ مولده سنة ستّ وستّ مئة.

[البيع بالإشارة]

ومما قضى كلامي فيه بالإسكندرية مسألة البيع بالإشارة. كنت في أوّل يوم اجتمعت فيه بالفقيه زين الدّين ـ حفظه الله ـ ألفيت شيخا من طلبة الشّافعية يقرأ عليه كتابا من كتبهم ، فقرأ هذه المسألة ، وأنّه لا ينعقد بها إلّا ممّن يتعذّر عليه الكلام كالأخرس ، فقلت له : إن كان هذا لأنّ الإشارة عندكم محتملة ، فقولوا : لا ينعقد إلّا بالنّصّ الّذي لا يتطرّق إليه احتمال البتّة [٦٦ / آ] وهو يعزّ وجوده ، مع أنّكم لا تقولون به ، فرام الجواب ولم يأت بشيء. وزيّف الفقيه جوابه. ثم أجاب أيضا بأنّه إنّما انعقد في حقّ الأخرس للضّرورة إلى بيعه وشرائه ، ولا يمكن إلّا بالإشارة ، فقلت له : إن كانت الإشارة لا تدلّ ، فمن أين عرفنا قبوله أو ردّه؟. وإن كانت تدلّ فلم منعتم البيع بها في غير الأخرس؟ وقد دلّت كما دلّ النّطق ، فإن دلّت ، دلّت في الأخرس وغيره ، وإن لم تدلّ لم يلزم حكما بها (٤) ، وكيف يلزم إخراج مال عن ملكه بغير دلالة على التزامه لذلك؟ هذا ما لا معنى له.

__________________

(١) الشاعر هو ابن رشيق القيرواني ، والبيتان في ديوانه ٢٢٦ ومعاهد التنصيص ٣ / ٩٠.

(٢) رواية الديوان هي :

البحر صعب المرام مرّ

لا جعلت حاجتي إليه

(٣) عسى : ليست في ت. ودونها لا يستقيم الوزن.

(٤) في ت : حكم بها.

٢٧١

وقولهم : لا يمكن البيع من الأخرس إلّا بالإشارة إقرار منهم بأنّ لها دلالة ، ونقض لقولهم في غير الأخرس ، ثم أجاب الفقيه زين الدّين عن (١) الوجه الأوّل ، وهو النّقض بإيجاب البيع باللّفظ الظّاهر بأنّ الأحكام تبنى على الظّاهر ، وليست الإشارة في الظّهور كاللّفظ. هذا معنى كلامه ، وهو غير مقنع ، فإنّ الكلام إنّما هو في الإشارة الظّاهرة الدّلالة ، وقد تكون أظهر في الدّلالة من اللّفظ ، فلا فرق بينهما كما ذهب إليه مالك ـ رحمه‌الله ـ والله أعلم.

(٢) والأليق بالصّواب على مذهب الشّافعيّ (٣) في كون الإشارة لا تدلّ عنده في غير الأخرس أن يلحق الأخرس بالسّفيه فيولّى عليه من يتولّى النّظر في مصالحه ، فيبيع عليه ويشتري لتعذّر توصلّه إلى مصالحه ، وهو المعنى الموجب للولاية على السّفيه ، ولكنّهم لم يقولوا ذلك ، وتناقضوا فيما ذهبوا إليه والله أعلم. (٤)

وسألت الفقيه زين الدّين عن معنى قول ابن الحاجب : وفي تقدير موافق صفة الماء مخالفا نظر. فقال : معناه أنّ المائع الّذي يضيف الماء وهو على صفة الماء بحيث لا يغّيره ، هل يعتبر عدم تغييره للماء؟ فيقال : إنّ الماء باق على أصله ، أو يقدّر مخالفا للصّفة بحيث يغيّر الماء ، فتؤثّر (٥) في سلب (٦)

__________________

(١) في ت : على.

(٢ ـ ٢) ـ سقط من ت.

(٣) أبو عبد الله محمد بن إدريس بن العبّاس بن عثمان بن شافع الهاشمي. أحد الأئمة الأربعة. ولد في غزة سنة ١٥٠ ه‍ وتوفي سنة ٢٠٤ ه‍. ترجمته في طبقات الشافعية للسبكي ١ / ٢٩٣ وما بعد ، المحمدّون من الشعراء ١٩٢.

(٤) في ط : فيؤثر.

(٥) في ت : سبب.

٢٧٢

التّطهير إضافة الماء بالمقدار الّذي يغيّره لو كان مخالفا ، فيه نظر. قلت : وهذا تفسير جيد مناسب لما تقدّم [٦٦ / ب] من كلام المؤلّف على الماء المضاف ، ويحتمل وجها آخر وهو التّشكّك في الماء ، هل هو ماء مطلق أو غيره ممّا [هو](١) على صفته ؛ فإذا وجدنا مائعا هو على صفة الماء المطلق ولم نقطع بأنّه ماء مطلق ، وجوّزنا أن يكون مائعا آخر ، فهل يحمل على الماء أو على غيره فيه نظر؟ وقد عرضنا (٢) عليه هذا الوجه ، فقال : يحتمل ، قلت : وهذا الوجه لم أقف فيه على نصّ والأظهر في الوجه الأوّل أنّ التّقدير المذكور لا بدّ منه ، فإن حصل في الماء من المائع الّذي على صفته ما يغيّره لو كان مخالفا سلبه التّطهير ، ولو كان ذلك لا يؤثّر لبقاء الماء على صفته ، لصحّ الوضوء بنقطة ماء صبّ عليه قنطار من مائع آخر على صفته. وقد روى أشهب عن مالك في «العتبيّة» (٣) المنع في أخذ المتوضىء الماء بفيه لغسل يديه. وأشار الباجيّ في تعليله إلى ما ذكرنا. وروى موسى بن معاوية عن ابن القاسم جوازه ، واعتبر بعدم ظهور الإضافة مع أنّ الغالب أنّ الرّيق يضيفه ، والأظهر في الوجه الثّاني حمله على الماء المطلق حملا على الغالب ، واعتبارا بالأكثر لأنّ الغالب أنّ المائع الّذي على صفة الماء هو ماء مطلق ، وتجويز غير ذلك تشكّك (٤) ووسوسة لم تبن على أمارة ، فلا تؤثر كما لو تحقّق أنّه ماء مطلق

__________________

(١) زيادة من ت.

(٢) في ت : عرضت.

(٣) منسوبة إلى مصنّفها فقيه الأندلس محمد بن أحمد بن عبد العزيز العتبي القرطبي المتوفى سنة ٢٤٥ ه‍ واسمها كاملا : «المستخرجة العتبية على الموطأ» وهي مسائل في مذهب الإمام مالك. انظر كشف الظنون ١١٢٤.

(٤) في ط : تشكيك.

٢٧٣

وشكّ هل وقعت فيه نجاسة ، وإن كانت هناك أمارة وجب اعتبارها ، مثل (١) أن يوجد المائع في إناء لم تجر العادة باستعماله في الماء المطلق ، أو يوجد مطيّنا عليه أو نحو ذلك ، والله أعلم.

وسألته عن ظروف الماء إذا حالت رائحتها ، وكنت سئلت عنها في الطّريق ، وكثيرا ما يتّفق فيها ذلك ، فقال : إنّ ذلك من باب تغيير الماء لطول المكث فينبغي ألّا يؤثر ولا سيما مع الضّرورة في الأسفار إليها. قلت : وينبغي أن ينظر فإن كان التّغيّر لمجرّد (٢) طول المكث ، أو (٣) لأجل المياه المتغيّرة التي لها حكم التّطهير وجب ألّا يؤثر ، وإن كان لنقص في عمل الظّرف [٦٧ / آ] ودباغه ، فالتّغيّر (٤) إذا من عفونة الجلد فوجب أن يؤثّر ، وقلّما يخفى التّمييز بينهما ، فإن خفي وأشكل فمحلّ نظر ، وينبغي أن يلحق بالماء الّذي يسميه أصحابنا المشكوك ، فيجمع بينه وبين التّيمّم على رأي من يرى ذلك منهم ، والله أعلم.

[ذكر القاهرة]

ثمّ وصلنا إلى قاعدة الدّيار المصرية ، ومدينة المملكة بالبلاد المشرقيّة ، فوجدناها معيديّة (٥) المعنى ببعض ما رأينا بها وسمعنا. وهي مدينة كبيرة

__________________

(١) في ت : حدّ.

(٢) في ط : بمجردّ.

(٣) في ت : إلى أجل.

(٤) في ت وط : فالتغيير.

(٥) في ت وط : معدية. وهي إشارة للمثل : تسمع بالمعيدي خير من أن تراه. انظر أمثال أبي عبيد ٩٧ والمستقصى ١ / ٣٧٠ ، والميداني ١ / ١٢٩.

٢٧٤

القطر ، وساكنها يحاكي عدد (١) الرّمل والقطر ، وهي مع ذلك تصغر عن أن يسطّر ذكرها في سطر. تريك صورة ليلى (٢) في عين ابن الحميّر (٣) ، وتسفر لك خيرتها عن وجه كثيّر (٤) ، وتبلّد الذّكيّ النّحرير (٥) [وتحيّر]. (٦) وتكدّر الذّهن الصّقيل وتغيّر ، وتنفي بأذاها وقذاها كلّ فاضل خيّر. فإن (٧) نظرت إلى صورتها ذكرت قول القائل : (٨) [الوافر]

بغاث الطّير أطولها رقابا

ولم تطل البزاة ولا الصّقور (٩)

وإن تأولت إلى مغناها ذكرت قوله :

وقد عظم البعير بغير لبّ

فلم يستغن بالعظم البعير

وإن تأمّلت إفراط عمارتها ذكرت قوله :

خشاش الطّير أكثرها فراخا

وأمّ الصّقر مقلاة نزور (١٠)

__________________

(١) في ت وط : عديد.

(٢) هي ليلى الأخيليّة الشاعرة محبوبة توبة بن الحمير.

(٣) توبة بن الحمير عاشق الأخيليّة ، وقصّتهما معروفة ومذكورة في كتب الأدب.

(٤) هو كثيرّ عزّة. وكان دميم الوجه.

(٥) النحرير : الحاذق ، الماهر العاقل المجرّب.

(٦) زيادة من ت وط.

(٧) في ت وط : فإذا.

(٨) الأبيات الثلاثة من قصيدة في ديوان كثّير عزّة ٥٢٩ ـ ٥٣٠ ، وهي من القصائد التي اختلف العلماء في عزوها ، انظر تخريجها ثّمة.

(٩) بغاث الطير : ما لا يصيد ، ولا يرغب في صيده.

(١٠) ـ خشاش الطير : شرار الطير وما لا يصيد ، النزور من الإناث : القليلة الأولاد.

٢٧٥

[هجاء أهل القاهرة]

وحسبها شرّا أنها جرين لحثالة (١) العباد ، ووعاء لنفاية البلاد ، ومستقرّ لكلّ من يسعى في الأرض بالفساد ، من أصناف أهل الشّقاق والنّفاق (٢) ، والعناد والإلحاد. استولى الحسد على قلوبهم ، واستوى الغشّ في جيوبهم ؛ فنار الحسد مضطرمة في الجوانح ، وسمّ (٣) الغشّ ممزوج في عسل النّصائح. خرجت عمارتها عن الحدّ المعروف ، وزادت كثيرا على القدر المألوف : [الوافر]

وما الّلجج الملاح بمرويات

ويلفى الرّيّ في النّطف العذاب (٤)

[٦٧ / ب] فهي سوق ينصب بها الشّيطان رايته ، ويجري إليها غايته ، ويري فيها لأتباعه ـ وهم أهلها ـ آيته. أطبقوا (٥) على سوء الأخلاق ، وتوافقوا على رفض الوفاق ، وتراضعوا لبان اللّؤم ، وتحالفوا لا وجد منا افتراق (٦) فجوادهم «أبخل من الحباحب» (٧) وشجاعهم : «أجبن من صافر الجنادب» (٨) وعالمهم : «أجهل من

__________________

(١) جرين : تصغير جرن. والحثالة : الرديء من كل شيء ، وحثالة الناس : رذالهم وشرارهم.

(٢) ليست في ط.

(٣) في ت وط : سهم.

(٤) النّطفة : الماء الصافي قلّ أو كثر.

(٥) في ت : طبعوا.

(٦) أفاد من قول الأعشى في ديوانه ٢٢٥ :

رضيعي لبان ثدي أمّ تحالفا

بأسحم داج عوض لا نتفرّق

(٧) في ت : نار الحباحب ، ويقال أبخل من أبي حباحب ، وهو رجل من العرب كان لا يوقد إلّا نارا صغيرة لئلا يراها ضيف. انظر الدّرّة الفاخرة ١ / ٩٠ ـ جمهرة الأمثال ١ / ٢٤٦ والمستقصى ١ / ١١ واللسان والتاج حبحب.

(٨) هو في الدّره ١ / ١١١ ، أمثال أبي عبيد ٣٧١ ـ الجمهرة ١ / ٢٢٥ ، الميداني ١ / ١٨٤ ، المستقصى ١ / ٤٤ ، تمثال الأمثال ١ / ١٢٠. فصل المقال ٤٩٩ ، اللسان والتاج صفر. وفيها أجبن من صافر. ويقال : إنه لأجبن من صافر. قال أبو عبيد : هو ما صفر من الطير ، ولا يكون الصّفير في سباع الطير إنما يكون في خشاشها وما يصاد منها.

٢٧٦

فراش» (١) ، ورفيعهم : «أوضع من خشاش» (٢) ، ورصينهم «أحير من خداش» (٣) ، وجميلهم «أقبح من غول» (٤) وصحيحهم : «أسقم من مذبول» (٥) ، وفصيحهم : «أعيا من باقل» (٦) ، وعزيزهم : «أذلّ من سائل» (٧) يمشي الكرم بينهم مطرقا ومقنّعا ، وينفق اللّؤم لديهم مفرّقا ومجمّعا. من أظهر منهم نسكا فأحبولة نصبها للصّيد. ومن تعلّم علما فحيلة أدارها (٨) للكيد. يسهر اللّيالي فلا ينام ولا ينيم ، ويرتكب من مشاقّ الاجتهاد كلّ عظيم. ويمشي الهوينى مشي الوجي (٩) أو السّقيم ، حتّى يصيب وديعة ليتيم. على السّلطان وقفت آمال العالم منهم والمتعلّم. وعلى اقتناص دراهمه يحوم الزّاهد ، والفقيه ، والمحدّث ، والمتكلّم. فمهما لاح له برق طمع وقف شائما له لم يرم (١٠) ، على ذلك نشأ

__________________

(١) هو في الدرّة ١ / ١٢١ والجمهرة ١ / ٣٣٤ ـ والميداني ١ / ١٨٨ والمستقصى ١ / ٥٨ ـ وفيها جميعا أجهل من فراشة. قيل : لأنها تطلب النار فتلقي نفسها فيها. وانظر ثمار القلوب ٥٠٦.

(٢) لم أقف عليه في كتب الأمثال ، وفي اللسان : الخشاش : الحشرات.

(٣) لم أقف عليه في كتب الأمثال ولعله يريد الإشارة إلى البيت :

تكاثرت الظباء على خداش

فما يدري خداش ما يصيد

(٤) هو في الدرة الفاخرة ١ / ٣٥١.

(٥) لم أقف عليه في كتب الأمثال ، والمذبول : الإنسان الذي ذوى بعد صحة من مرض.

(٦) هو في الدّرة ١ / ٣١١ والجمهرة ٢ / ٧٢ والمستقصى ١ / ٢٥٦ والميداني ٢ / ٤٣ وفي أمثال أبي عبيد ٣٦٨ وفصل المقال ٤٩٦ ، وفيها : إنه لأعيا من باقل. وانظر اللسان : بقل ، وثمار القلوب ١٢٧.

(٧) لم أجده مثلا فيما رجعت إليه من كتب الأمثال. وفي ثمار القلوب ٦٧٤ «ذلّ السؤال» ومن أحسن ما سمعت فيه قول القائل :

يقول الناس كسب فيه عار

فقلت : العار في ذلّ السّؤال

لنقل الصخر من قلل الجبال

أخفّ عليّ من منن الرجال

(٨) في ت وط : أرادها.

(٩) الوجا : الحفا. وقد استفاد من قول الأعشى في ديوانه ٥٥ :

غرّاء فرعاء مصقول عوارضها

تمشي الهوينى كما يمشي الوجي الوحل

(١٠) ـ لم يرم : لم يفارق.

٢٧٧

النّاشيء منهم ، وعليه درج الهرم. الدّنيا عندهم جوهر ، والآخرة عرض ، وآمالهم صحيحة ، ودينهم به مرض ، وسهم الرّياء بينهم يرشق كلّ غرض (١).

وقد رأيت فيهم من قلّة الحياء ، وعدم التّنزّه عن الخنا والفحش. ومن قلّة التّستّر عند قضاء الحاجة والأكل ما تقضّيت منه العجب. وأمّا بغضهم للغريب ، وتمالؤهم على ذلك ، فأمر لا يحيط به علما إلّا من عاينه ، وقد رأيتهم في طريق الحجاز إذا سمعوا مهارشة شخص منهم لغريب (٢) يتجارون إليه (٣) من كلّ ناحية كما تصنع الكلاب إذا رأت كلبا غريبا بينها. وما رأيت بالمغرب الأقصى والأندلس على شكاسة أخلاقهم ، ولا بإفريقية وأرض برقة والحجاز والشّام فريقا من النّاس أرذل أخلاقا [٦٨ / آ] ، وأكثر لؤما وحسدا ، ومهانة نفوس ، وأضغن قلوبا ، وأوسخ أعراضا ، وأشد دمامة (٤) وخيانة ، وسرقة وقساوة ، وأجفى للغريب من أهل هذه المدينة المؤسّسة على غير التّقوى. وحقّ لمدينة وضع أساسها عبد الزنادقة (٥) غلام بني عبيد (٦) ـ لعنهم الله ـ أن تجمع أخلاق العبيد ، وأحوال الزّنادقة (٧) ، ناهيك من قوم جعلوا الخنا شعارهم ، والحسد المؤرّث للضّنا (٨) دثارهم. فترى الشّيوخ منهم يتهارشون في الطّرقات ، ويقطعون بلعنة

__________________

(١) الغرض : الهدف الذي ينصب فيرمى إليه.

(٢) في ت : بغريب.

(٣) ليست في ط.

(٤) الدمامة : قبح المنظر.

(٥) يقصد به جوهرا الصقلّي.

(٦) بنو عبيد : الفاطميون.

(٧) في ط : الزندقة.

(٨) الضّنا : المرض والهزال.

٢٧٨

أسلافهم فسيح الأوقات. وقلّما يصدر من صبيانهم ما يصدر منهم. ولا يؤثر عن أطفالهم ما يؤثر عنهم ، وقد قيل فيهم : إنّهم أعقل النّاس صغارا ، وأحمقهم كبارا. حكاه أبو عبيد البكريّ في كتابه المسالك. وحكى فيه أيضا أنّ أبا دلامة (١) جاء إلى مصر ثم رجع فسئل عنها فقال : «ثلثها كلاب ، وثلثها تراب ، وثلثها دواب ، فقيل له (٢) : فأين النّاس؟ فقال : في الثّلث الأوّل».

وقلّما ترى (٣) من أهلها (٤) رجلا صافي اللّون إلّا (٥) إن كان من غيرها. ولا رجلا طلق اللسان. والّلكنة فيهم فاشية ، وجمهورهم يجعل القاف والكاف همزة. وقد سمعت شخصا منهم في التّلبية يقول : لبّيك اللهم لبّيك ، ويجعل كافاتها كلّها همزات ، فلو سمعته سمعت كلاما مضحكا.

وأمّا العقوق بينهم فمتعارف ، كان معنا في طريق الحجاز شخص منهم حجّ بأمّه ، فكان إذا اغتاظ عليها يقول لها : لعنك الله ، ولعن الّذي اواك ـ يعني أباه ـ وذلك بعد ما حجّ بها. وسمعت شخصا منهم ينادي رفيقه في الرّكب ، فلمّا أتاه لعنه ولعن أباه ، وقابله الآخر بمثل ذلك ، وتهارشا (٦) زمانا ثمّ قعدا يأكلان.

__________________

(١) أبو دلامة : زند بن الجون الأسدي بالولاء. شاعر مطبوع. نشأ بالكوفة ، واتصل بالخلفاء العباسيين ، وكان يتّهم بالزندقة لتهتكه. توفي سنة ١٦١ ه‍. ترجمته في وفيات الأعيان ٢ / ٣٢٠ ـ الأغاني ١٠ / ٢٣٥ ـ ٢٧٣ معاهد التنصيص ٢ / ٢١١ ـ غربال الزمان ١٥٠.

(٢) ليست في ط.

(٣ ـ ٣) ـ سقط من ط.

(٤) سقط من ت.

(٥) تهارشا : تخاصما وتقاتلا.

٢٧٩

[تضييع المساجد]

ومن الغرائب عندهم تضييع المساجد والجوامع وإهمالها ، وقلّة التّحفّظ فيها ، حتّى تصير مثل المزابل ، وتسودّ حصرها وحيطانها من الأوساخ. وقد صلّيت الجمعة في بعض جوامعها ، فرأيت فيه (١) أكواما من أنواع الكناسات. وهم يعتقدون [٦٨ / ب] نجاسة مساجدهم وجوامعهم ـ وهي كذلك ـ فلا يأتي من مصلّيهم شخص إلّا بحصير أو ثوب يصلّي عليه ، وقد رأيتهم يفرشون في المحراب ما يصلّي عليه الإمام ، فما أكثر جفاءهم ، وما أقلّ من الله حياءهم ، ولولا لطف الله في تملّك الأتراك لهم ما أمكن المقام بها مسلما. ولكنّ ملوكهم أهل دين ، وعقائد سليمة ، وشفقة وحنان على المسلمين ، وتفضّل على الفقراء ، وحسن ظنّ بأهل الدّين ، وهم ركن الإسلام ـ نفعهم الله وأحسن عونهم ـ وقد رأيت من خدمتهم للرّكب ، واحتياطهم وصبرهم ، وحسن محاولتهم ، ما تعجّبت منه ، فالحمد لله على تيسير العون على طاعته.

وكان وصولنا إلى هذه المدينة في أخريات رمضان ، فأتممنا الشّهر بها ، وصلّينا معهم صلاة العيد ، وهم يصلّونها (٢) في المساجد ، وبعضهم في ساحة تحت القلعة وسط البلد ، ولا يبرزون لها كما وردت به السّنّة ، ولم نر منهم يومئذ من صدر منه التّأنيس بكلمة. وممّا قلت في ذلك : [الطويل]

ذكرت بيوم الفطر في مصر إذ أتى

 ـ وقوس النّوى ترمي الحشا أسهم الكرب ـ (٣)

__________________

(١) في ت : فيها.

(٢) في ط : يصلّون.

(٣) النوى البعد. الكرب : الحزن والغّم الشديد.

٢٨٠