رحلة العبدري

أبو عبدالله العبدري

رحلة العبدري

المؤلف:

أبو عبدالله العبدري


المحقق: د. علي إبراهيم كردي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار سعد الدين للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
الصفحات: ٧٢٨

وتثير كامن الأسقام ، وتنفذ كما تنفذ السّهام. ما يعدوها من أفلتها إلّا نضوا (١) ، لا يقلّ (٢) من شدّة النّحول عضوا. وبعد طول التّعنّي بهذا المهمه المرت (٣) ، لاح لنا في البيداء قصيرات سرت (٤) ، ولسان حالها يقول لنزيلها : أقويت وأقفرت ، فإن عدلت عدلت ، وإن كنت ما جرت فقد جرت : [الطويل]

لي اسم ولكن لا مسمّى وراءه

فلا تغترر إن كنت ذا فطنة باسمي

فكم طار في الآفاق صيت مشهّر

لمن ماله في صالح الفعل من قسم

[ذكر سرت]

وهذا الاسم يطلق على عدّة قصور بينها مسافة ، أولها يسمّى الشّبيكة ، وهي أعمرها في هذا الوقت ، وآخرها يسمّى المديّة (٥). وأكثر ما يطلق اسم سرت عليها ، وحكمها كلّها حكم القفار ، قلّما يعمرها إلّا الأعراب ، ومن ليس به عبرة. وقد ذكر البكري في مسالكه : «أنّ سرت مدينة كبيرة على ساحل البحر لها نخل وبساتين» (٦). وذكر نحو ذلك في أجدابية (٧) وبينهما نحو من عشر مراحل (٨) ، ولا وجود لشيء ممّا ذكر إلّا أن يكون ممّا غبر ودثر ، وأظنّه سمع

__________________

(١) النّضو : المهزول.

(٢) لا يقلّ : لا يحمل.

(٣) المهمه : المفازة البعيدة ، والمرت : الذي لا نبت فيه.

(٤) سرت : مدينة ليبية على ساحل البحر المتوسط بين برقة وطرابلس الغرب بينها وبين طرابلس مئتا ميل وثلاثون ميلا. انظر ياقوت ٣ / ٢٠٦.

(٥) تبعد ٨٠ ميلا عن البحر المتوسط. انظر وصف إفريقيا ٢ / ٤١.

(٦) المغرب في ذكر إفريقية والمغرب ٦.

(٧) أجدابية : مدينة كبيرة قديمة في حيّز برقة تبعد أربعة أميال عن البحر. انظر الروض المعطار ١١ ـ ١٢.

(٨) المغرب : في ذكر إفريقية والمغرب ١٢.

٢٠١

بوجود التّمر بها ، فظنّ أنّ بها نخلا ، والتّمر إليها (١) مجلوب من بلاد أوجلة (٢) ، وهو جلّ عيشهم بها ، وممّا أنشده البكريّ في سرت : (٣)

[السريع]

يا سرت لا سرّت بك الأنفس

لسان مدحي فيكم أخرس

ألبستم القبح فلا منظر

يروق منكم ، لا ، ولا ملبس

بخستم في كلّ أكرومة

وفي فعال القبح لم تبخسوا (٤)

ثم سرنا من سرت سير من خاف يدا (٥) عادية ، أو أسدا ضارية أن تنوشه ، مقتحمين لقحم (٦) الخطر ، ومرتكبين لمركب الغرر (٧) ، في برّيتي سنانة ومنهوشة ، وهما من القفار المعنّية ، وكل راحة فيهما [٤٦ / ب] عن المسافر مولّية ، لا معهد بهما ولا أنيس ، ولا محطّ للرّحال عن ظهر (٨) العيس. مجرّ جيوش وغارات ، ومقرّ نوائب وملمّات. ماؤهما وشل زعاق (٩) ، ولصّهما بطل لا يطاق.

__________________

(١) ليست في ط.

(٢) قال البكري : أوجلة مدينة عامرة كثيرة النخل ، وأوجلة اسم الناحية ، واسم المدينة أرزاقية ، وأوجلة قرى كثيرة فيها نخل وشجر كثير وفواكه. وبمدينتها مساجد وأسواق ، المغرب ١٢. وقال الوزان : ناحية مسكونة في صحراء ليبيا على بعد ٤٥٠ ميلا من النيل. انظر وصف افريقيا ٢ / ١٠٩.

(٣) الأبيات في المغرب في ذكر إفريقية والمغرب ٦ ، ومعجم البلدان ٣ / ٢٠٧.

(٤) عجز البيت في المغرب : وفي الخنا واللؤم لم تبخسوا. والبخس : النقص.

(٥) ليست في ط.

(٦) القحم : الأمور العظام التي لا يركبها كل أحد.

(٧) الغرر : التعريض للهلكة.

(٨) في ط : ظهور.

(٩) وشل زعاق : أي قليل مرّ. لا يطاق شربه من أجوجته.

٢٠٢

[ذكر برقة]

وبعد مكابدة الأين (١) ، ومعاينة الحين ، ومقاساة غصّة وحرقة ، والسّلو عن ألم وداع وفرقة ، وصلنا إلى القفر القواء أرض برقة (٢). فوجدنا برّيّة هي أمّ البراري والقفار ، (٣) والموماة المومئة بالإقلال (٤) من وصال الأسفار (٥) ، يستعذب عذابها المنفضّ (٦) من الحجّاج ، كما استعذب الظّمان المورد الأجاج ، امتدّت وطالت ، واشتدت وهالت ، واربدّت (٧) وحالت ، ولو أنشدت لقالت :

[الطويل]

أنا الغول غالت من يطور فناءها

وتخدع بالألطاف طورا وبالبرّ (٨)

فإن أكلوا برّي شربت نفوسهم

وكم بين نفس المرء في الغدر والبرّ (٩)

سكنها (١٠) من الأعراب كلّ فظّ غليظ ، يحرج بجفائه الأحنف (١١) ويغيظ ، حتّى تكاد منه النّفس تغيظ (١٢) ، لا جرم (١٣) إنّهم يقرون النّزيل ، ويوالون

__________________

(١) الأين : الإعياء والتعب.

(٢) برقة : مدينة ليبيّة قديمة بين الاسكندرية وإفريقية بينها وبين البحر ستة أميال. انظر ياقوت ١ / ٣٨٨.

(٣ ـ ٣) ـ على هامش الأصل : والمهامه التي يحار فيها أرباب الأسفار.

(٤) في ط : بالإحلال.

(٥) المنفضّ : المتفرّق.

(٦) اربدّت : تغيرّت.

(٧) في ت وط : إذا الغول ، وغالت : أهلكت. يطور : يقرب.

(٨) البرّ : حبّ القمح ، والبرّ : الخير والإحسان.

(٩) في ط : سكانها.

(١٠) ـ الأحنف بن قيس سيد تميم وأحد العظماء الفاتحين ، يضرب به المثل في الحلم ، توفي سنة ٧٢ ه‍. له ترجمة في طبقات ابن سعد ٧ ، وفيات الأعيان ٢ / ٤٩٩.

(١١) ـ في ت : تفيض ، وكلاهما بالمعنى نفسه.

(١٢) ـ لا جرم : أتت هنا بمعنى حقّا.

٢٠٣

المنفضّ بالجميل ، ولا معترض (١) للحاجّ عندهم ، وإن كان فهو قليل ، والشّأن عندهم في التّبايع المعاوضة بالمبيعات (٢) ، والتّبادل في المثمونات ، لا يجري بينهم فيها (٣) دينار ولا درهم ، وباب التّعامل بهما عندهم مبهم. وقد ساوم أحد الحجّاج بعضهم بجمل يعطيه به بكرا (٤) وزيادة دينارين. فقال له : لا أدخل خيمتي ما لم يدخل قطّ خيمة أبي ولا جدّي. وهذا حالهم في العينين يجهلون بهما أثمان الأشياء ، ويستعملون نساءهم في البيع والشّراء ، فلا يتوصّل الحاج إلى شراء القوت إلّا بعرض مبتذل ، وحال ممقوت.

ومن العجب عندهم أنّ كلّ امرأة لا بدّ لها من خرقة تسدلها على وجهها ويسمّونها البرقع ، وهي تتخلّل النّاس مكشوفة الرأس والأطراف ، حافية القدمين ، لا تهتمّ بستر ماسوى وجهها ، كأنّ ليس لها عورة سواه ، فلاتزال تلك الخرقة عرضة [٤٧ / آ] للاتّساخ ، ومرصدا لعارض الأوساخ. لا تصان فتماط (٥) عن ذقن ، ولا تنزع فتماص (٦) من درن (٧) ، حتّى تصير أوسخ من عرض اللّئيم وأقبح من وجه الشّيطان الرّجيم. فتفاجىء العيون من ذلك أشوه (٨) منظر يرى ، وتسمع الآذان من وصفها أقبح حديث جرى.

__________________

(١) في ت : متعرّض.

(٢) في ط : في المبيعات والمعاوضة : المبادلة.

(٣) ليست في ط.

(٤) البكر : ولد الناقة.

(٥) تماط : تزال ، تنحّى.

(٦) ماص الثوب يموصه : غسله.

(٧) الدرن : الوسخ.

(٨) في ط : بأشوه.

٢٠٤

وما رأيت في أرض برقة مع اتّساعها ما يحلى بعين الرّامق ، وتعلق به مقة الوامق (١) ، سوى مسكن رأيته في خلاء من الأرض بين الرّجل المشقوق وقصر الصّفاقنة (٢) منقور (٣) في حجر صلد (٤) بأصل جبل ، على صورة دار رائقة ، وعلى بابها صفة ، ولها بناء مليح نقر فيه عن يمين وشمال صور بيوت لم يتمّ عملها. وإذا دخلت من باب الدّار ألفيت قبّة مليحة متّسعة مرتفعة السّمك ، مربّعة منقوشة بأبدع النّقش. وفيها مصاطب قد دارت بها حتّى اتّصلت بالباب ، وقبالة الباب باب آخر يطلع منه على درج إلى بيت آخر كبير ، وجميع ذلك منحوت في حجر صلد يفوت الوصف إتقانه ، فسبحان من يرث الأرض ومن عليها وإليه المرجع والمصير (٥). وقد رأيت نحو هذا في موضع آخر من أرض برقة حال الرّجوع ، وسيأتى ذكره إن شاء الله تعالى

فصل

[لمحة تاريخية]

وبرقة مدينة قديمة من بناء الرّوم ، وكان اسمها عندهم أنطابلس. قال البكريّ «ومعناها بلغة الرّوم الإغريقية خمس مدن (٦) ، ومعنى أطرابلس ثلاث مدن» (٧). وليس الآن هناك مدينة تسمّى برقة ، ولا مدينة مذكورة إلّا طلميثة ،

__________________

(١) الوامق : المحبّ.

(٢) في ت وط : الصعاقبة.

(٣) ليست في ط.

(٤) الصّلد : الصّلب الأملس.

(٥) افاد من قوله تعالى في سورة مريم ٤٠(إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ)

(٦) في ت وط مدائن والقول في المغرب في ذكر إفريقية والمغرب ٤

(٧) المغرب في ذكر إفريقية والمغرب ٦ ـ ٧.

٢٠٥

وهي قديمة ، ولست أدري أهي برقة فغيّر اسمها ثانيا إلى طلميثة كما غيّر أولا إلى برقة ، أم هي غيرها.

وبرقة الآن عند النّاس اسم أرض لا اسم مدينة ، والمغاربة يسمّون بها ما ردّت عين أقيان (١) من غربي أجدابية إلى الإسكندريّة ، وذلك نحو من أربعين مرحلة. وأما عرب (٢) تلك الأرض فإنّي رأيتهم لا يسمّون بها إلّا ماردّ الحصوي شرقا إلى أرض برنيق غربا ، وهو حدّ (٣) الغابة ، وما حاذاها من السّاحل ومن القبلة ، ويسمون ماردّ الحصوي إلى العقبة [٤٧ / ب] الكبيرة البطنان ، ومنها إلى الإسكندريّة لا يذكرون إلّا العقبتين ، وذلك مسيرة عشرة أيام.

فصل

[فصاحة عرب برقة]

وعرب برقة اليوم من أفصح عرب رأيناه (٤) ، وعرب الحجاز أيضا فصحاء ، ولكنّ عرب برقة لم يكثر ورود النّاس عليهم ، فلم يختلط كلامهم بغيره (٥) ، وهم إلى الآن على عربيّتهم (٦) ، لم يفسد من كلامهم إلّا القليل ، ولا يخلّون من الإعراب إلّا بما لا قدر له بالإضافة إلى ما يعربون.

__________________

(١) في ت : أقيار.

(٢) ليست في ت.

(٣) ليست في ط.

(٤) في ط : رأيناهم.

(٥) في ت : بغيرهم.

(٦) في ط : عروبتهم.

٢٠٦

وقد سألت بدويّا وجدته (١) يسقي إبله في الحصوي عن ماء يقال له : أبو شمال ، هل نمرّ (٢) عليه؟ وذكرته بالواو في موضع الخفض على عادة أهل الغرب. فقال لي : نعم تطؤون أبا شمال. وأثبت النّون في الفعل ، ونصب المفعول ، وليس في الغرب عربيّ ولا حضريّ يفعل ذلك.

ومررنا (٣) بأطفال منهم يلعبون ، فقال لنا واحد منهم : يا حجّاج أمعكم (٤) شيء تبيعونه؟ وأثبت النّون ، وسكّن الهاء للوقف.

ورأيت أعرابيّا منهم قد ألحّت عليه امرأة (٥) تسأله من طعام معه (٦) فقال لها : والله ما تذوقينه. فأتى بضمير المخاطبة على وجهه ، وأثبت النّون ، وسكّن الهاء.

وسمعت (٧) شخصا ينشد في الرّكب مكتري (٨) راحلة ويقول : من يكري زاملة (٩)؟ فسمعه بدويّ فقال له (١٠) : أعندك الزّاملة؟ فقال : نعم. قال : فلا تقل من يكري؟ وقل : من يستكري؟.

__________________

(١) في ت : لقيته.

(٢) في ت : مرّ.

(٣) في ت : ومررت.

(٤) في ت وط : معكم.

(٥) في ت : امرأته.

(٦) ليست في ت.

(٧) في ط : ورأيت.

(٨) المكتري : المستأجر.

(٩) الزاملة : الدابة التي يحمل عليها من الإبل وغيرها.

(١٠) ـ ليست في ط.

٢٠٧

وذكر لي بعض أصحابنا ممّن حجّ معنا ، أنّ شخصا شرب من زمزم فقال : في هذا الماء رائحة الحبل ، وحرّك الباء على عادة (١) أهل الغرب ، يعني الرّشاء المستقى (٢) به ، فسمعه أعرابيّ ، فقال له : ومن أين جاءت رائحة الحبل إلى الماء؟ فأشار له إلى الرّشاء. فقال له : قل الحبل ، ولا تقل : الحبل.

وأمّا نادر ألفاظ اللّغة وما جرت عادة أهل الغريب بتفسيره ، فهم حتّى الآن يتحاورون به على سجيّتهم. فمن ذلك أنّ شخصا منهم وقف عليّ بموضع نزولي من محلّة الركب ، وكانت التّرعة (٣) منه بعيدة ، فقال لي : يا سيّدي! تدعني أظهر يعني أخرج. [٤٨ / آ].

وسألت شخصا منهم عن (٤) الطّريق ، فقال لي : إذا ظهرتم من الغابة فخذوا (٥) صوب كذا يعني إذا خرجتم منها. وهذا اللّفظ قد أكثر فيه أهل الغريب في تفسير قول عروة بن الزّبير (٦) رضي‌الله‌عنه : «ولقد حدّثتني عائشة زوج النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يصلّي العصر والشّمس في حجرتها قبل أن تظهر (٧)». وأتوا عليه بشواهد وأمثال.

__________________

(١) في ت : لغة.

(٢) في ت : المستسقى.

(٣) التّرعة : مقام الشاربة من الحوض ، والتّرعة : فم الجدول ينفجر من النهر.

(٤) في ت وط : على.

(٥) في ط : فخذ.

(٦) عروة بن الزبير بن العوام أحد الفقهاء السبعة في المدينة لم يشارك في الفتن ، توفي بالمدينة سنة ٩٤ ه‍ له ترجمة في غربال الزمان ٨٣ وشذرات الذهب ١ / ١٠٣.

(٧) أخرجه البخاري في كتاب مواقيت الصلاة باب مواقيت الصلاة وفضلها رقم ٥٢٢ ، ٢ / ٦.

٢٠٨

وسمعت صبيّا منهم ينادي في الرّكب : يا حجّاج (١) من يشتري الصّفيف؟ فلم يفهم عنه أكثر النّاس. فقلت له : اللّحم معك؟ فقال : نعم. وأبرز لحم ظبي مقّدد. وهذا اللّفظ قد ذكره مالك رضي‌الله‌عنه في الموطّأ وتهمّم بتفسيره ، فقال بإثر الحديث : قال مالك (٢) ـ رحمه‌الله ـ (٣) والصّفيف : القديد» (٤).

وسألت شخصا عن ماء هل هو معين (٥)؟ فقال لي : هو ماء غرّ (٦). وهذا اللّفظ فسّره أبو عبيد في غريبه (٧) ،

وسمعت آخر ـ وقد ازدحم النّاس في مضيق ـ وهو يقول : تنحّوا (٨) عن الدّرب. وما يتكلمون به من الغريب أكثر من أن يحصر (٩) وبالله التّوفيق.

فصل

[من برقة إلى الإسكندريّة]

وممّا يلي الإسكندريّة من هذه الأرض العقبة الكبيرة ، وبينها وبين الإسكندريّة عشرة أيّام ، ثم العقبة الصغيرة ، وبينها وبين الكبيرة ستّة أيّام ، ومنها إلى الإسكندريّة أربعة ، وكلتاهما خلاء لا ساكن بها ولا مسكن. وأكثر

__________________

(١) في ط : أحجاج.

(٢ ـ ٢) ـ ليست في ط.

(٣) جاء في الموطأ ٢٤٠ عن هشام بن عروة عن أبيه : أنّ الزبير بن العوام كان يتزود صفيف الظباء وهو محرم. قال مالك : والصفيف : القديد.

(٤) الماء المعين : العذب الغزير ، الجاري على وجه الأرض.

(٥) غرّ الماء : نضب وقلّ.

(٦) انظر غريب الحديث ٢ / ١٢٨ ، و ٣ / ١٧٥ وفيه الغرار : النقصان.

(٧) في ت : انتحوا.

(٨) في ت : يحصى.

٢٠٩

مواضع هذه الأرض هكذا ؛ أسام بلا مسمّيات. وهي برّيّة واحدة ممتدّة إلى الإسكندريّة ، وفي آخرها الموماة المضنية (١) المؤذية ، أوحش المراحل على الرّاحل قفر لوبية ، أرض تستوحش منها ـ لنكارتها ـ القلوب ، وينسى ـ مع رؤيتها ـ كلّ خطب ينوب ، فقربها (٢) كرب من أعظم الكروب ، ونوبتها على المسافر من نوائب الدّهر وهي ضروب : [الطويل]

ولولا حبيب حبّه أضرم الحشا

يصرّفني شوقي إليه كما يشا

[٤٨ / ب] أهيم به حيّا وميتا وإنّني

لأضمر من حبّيه أضعاف مافشا (٣)

ترنّحني في ذكره أريحيّة

كما اهتزّ غصن للنّسيم إذا نشا (٤)

تركت إليه دون منّ أحبّة

تصدّع إذ فارقتهم منّي الحشا

لما بتّ في أكنافها ليلة ولا

خشيت هجيرا لافحا أن يعطّشا (٥)

[ذكر الإسكندريّة]

وبعد حفظ ما دلّ عليه هذا العنوان ، واتصال التّخمة (٦) بتلك الألوان ، منّ الله سبحانه بمفارقة تلك البرّيّة ، والوصول إلى مواصلة ثغر الإسكندريّة (٧). مدينة الحصانة والوثاقة ، وبلد (٨) الإشراق اللّامع والطّلاقة ، وطلاوة المنظر

__________________

(١) الضنا : المرض والهزل.

(٢) في ط : قفرّ بها.

(٣) فشا : ظهر.

(٤) الأريحيّة : الارتياح للكرم والمعروف. نشا : انتشرت رائحته.

(٥) الهجير : هو نصف النّهار عند اشتداد الحرّ.

(٦) التّخم : المعالم يهتدى بها في الطريق.

(٧) انظر ما جاء في بناء الإسكندرية في مروج الذهب : ١ / ٣٧٠ وجغرافية مصر للبكري ٩٩ ، وخطط المقريزي ١ / ١٤٤.

(٨) في ت : وبلاد.

٢١٠

وحلاوة المذاقة. كلّ عنها ظفر الزّمان ونابه ، وملّ منها جيش الحدثان وأحزابه. فلم تبد عليها للزّمان ضراعة. ولا وكست (١) لها في معاملاته سلعة ولا بضاعة. ولا وقفت له موقف ذلّ يوما ولا ساعة. بل ثبتت لحزبه (٢) ثبوت البطل ، وصابرت كيده حتّى اضمحلّ سحره وبطل ، ولم تصغ أذنا إلى ما يوعد به من الخنا والخطل (٣). فهي واقفة وقوف الأطواد (٤) ، سامية بطرف غير كليل ، وجيد غير مناد (٥). آخذة (٦) من الكفر وأهله بالمخنّق (٧) ، حتّى أبدلتهم من الصّافي المروّق الكدر المرنّق (٨) ، فسامروا الأسف مسامرة النّدى للمحلّق (٩). ودجا عليهم ليل [همّ](١٠) ادلهمّ بعد نهار سرور تألّق ، واضطرم عليهم الأسى واحتدم فحالفوا النّدم ، وقالوا : عوض لا يتفرّق (١١). مدينة فسيحة الميدان ، صحيحة الأركان ، مليحة البنيان ، تسفر عن محيّا جميل المنظر ، وترنو بطرف ساج (١٢) أحور. وتبسم عن ثغر كالأقحوان إذا نوّر ، كأنّه لم يغب عنها

__________________

(١) الوكس : اتضّاع الثمن في البيع.

(٢) في ت : لحربه. وينظر المصنّف إلى موقف موسى من حزب فرعون حين قال : (ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ) سورة يونس ٨١.

(٣) الخنا : الفحش في الكلام والخطل : الكلام الفاسد.

(٤) الأطواد : جمع طود وهو الجبل.

(٥) منآد : معوج.

(٦) في ت : وأخذت.

(٧) في ط : بالخنق ، والمخنّق : موضع الخنق من العنق.

(٨) الرنق : تراب في الماء من القذى ونحوه ، والمرنّق : المعكّر.

(٩) هو المحلّق الكلبي ممدوح الأعشى الذي قال فيه :

تشب لمقرورين يصطليانها

وبات على النّار النّدى والمحلّق

وكان الأعشى سببا في تزويج بناته انظر الأغاني ٩ / ١١٣ ـ ١١٤.

(١٠) ـ من ت وط.

(١١) ـ أفاد من قول الأعشى في ديوانه ٢٢٥

رضيعي لبان ثدي أم تحالفا

بأسحم داج عوض لا نتفرّق

أي لا نتفّرق أبدا.

(١٢) ـ طرف ساج : فاتر.

٢١١

شخص الإسكندر (١) ، بما ساس فيها من عجائب مبانيها ودبّر ، ناهيك بمدينة كلّها عجب ، قد ستر حسنها حسن [٤٩ / آ] غيرها وحجب ، ووفّي فيها الإتقان حقّه كما وجب ، وقد أغنى عن [٤٩ / آ] تسطير وصفها ما سطره الأعلام ، (٢) وضرب به الأمثال على المهارق بالأقلام (٣).

ومن جملة إبداعها وإغرابها ما رأيت من إتقان أبوابها. وذلك أنّ عضائدها وعتبها ـ مع إفراط طول الأبواب ـ كلّها من حجارة منحوتة ، يتعجّب من حسنها وإتقانها ، وكلّ عضادة منها حجر واحد ، وكذلك كلّ عتبة وأسكفّة (٤) ، ولا أعجب من وضعها هنالك مع إفراط عظمها ، ولم يغيّر طول الزّمان شيئا من ذلك ، ولا أثّر فيه ، بل بقي بجدّته ورونقه. وأمّا مصاريعها (٥) فهي غاية في الإحكام ، ملبّسة بالحديد ظهرا وبطنا بأدقّ ما يكون من الصّنعة وأحسنه وأتقنه.

[عمود السّواري]

ومن أغرب ما رأيت (٦) بها عمود من رخام بظاهرها يعرف بعمود السّواري (٧). وهو حجر واحد مستدير عال جدّا على قدر الصّومعة المرتفعة ، وهو يبدو من بعيد بارزا في غابة من النّخيل مرتفعا عنها ، وقد أقيم على حجارة منحوتة مربّعة (٨) على قدر الدّكاكين العظام ، علوّها أزيد من قامتين ،

__________________

(١) هو الإسكندر الأول ذو القرنين الرّومي باني الإسكندرية.

(٢ ـ ٢) ـ في ت وط : وصرّت به على المهارق الأقلام.

(٣) الأسكفة والأسكوفة : عتبة الباب التي يوطأ عليها.

(٤) المصاريع : الأبواب.

(٥) في ط : ما رأيته.

(٦) انظر ما قيل في عمود السواري في خطط المقريزي ١ / ١٥٩.

(٧) في ط : مرتفعة.

٢١٢

ولا يعلم كيف أقيم عليها ، ولا كيف ثبت (١) هناك مع الرّياح والعواصف ، وهو ممّا لا يمكن تحريكه البتّة فضلا عن إقامته هنالك (٢).

[منار الإسكندريّة]

وأمّا المنار (٣) فقد كتب النّاس فيه وسطّروا ما فيه الكفاية ، وقد دخلته وتأملّته وما وصلت إلى أعلاه إلّا بعد جهد ، ولا يظهر له من خارج فرط علّو. وهو خارج المدينة على أزيد من ثلاثة أميال وعلى تلّ (٤) مرتفع بشمال البلد ، وقد أحاط به البحر شرقا وغربا حتّى تاكل حجره من النّاحيتين ، فدعّم منها ببناء وثيق اتّصل إلى أعلاه وزيد دعما بدكاكين (٥) متّسعة وثيقة ، وضع أساسها في البحر ، ورفعت عنه نحو ثلاث قامات.

وباب المنار مرتفع عن الأرض نحو أربع قامات ، وبني إليه بنيان حتّى حاذاه ، ولم يتّصل به ، ووضعت عليه ألواح يمشى عليها إلى الباب ، فإن أزيلت لم يوصل إليه [٤٩ / ب] وفوق الباب من داخل موضع متّسع لحراسة الباب ، يقعد فيه الحارس وينام فيه ، وفي داخل المنار عدّة بيوت رأيتها مغلقة. وسعة الممرّ فيه ستة أشبار وفي غلظ الحائط عشرة أشبار (٦) ، ذرعته من أعلاه.

__________________

(١ ـ ١) ـ سقط من ت.

(٢) انظر ما قيل في بناء منار الإسكندرية في مروج الذهب ١ / ٣٧٥ ، وجغرافية مصر للبكري ١٠٤ وخطط المقريزي ١ / ١٥٥.

(٣) ليست في ط.

(٤) الدّكان : المصطبة.

(٥) في جغرافية مصر للبكري ١١٠ : غلظ الحائط ثمانية أشبار.

٢١٣

وسعة المنار من ركن إلى ركن مئة وأربعون شبرا ، وفي أعلاه جامور (١) كبير عليه آخر دونه ، وفوق الأعلى قبّة مليحة يطلع إليها في درج مشرعة إلى النّواحي ، ولها محراب للصّلاة.

ومن الإسكندريّة إلى المنار برّ متّصل أحاط به البحر حتّى اتّصل بسور البلد ، فلا يمكن الوصول إلى المنار في البرّ (٢) إلّا من البلد وفي هذا البرّ مقابر الإسكندريّة ، وفيها من المزارات وقبور العلماء والصّالحين ما لا يعدّ كثرة.

وفي ما سطّر النّاس من وصف الإسكندريّة ومنارها ، وما ذكروا من عجائب آثارها ما هو الغاية في إتقان الوصف وإجادته ، وما يغني عن تكلّف إعادته ، بيد أنّها الآن بلد زادت صورته على معناه ، واستأثر بالفضائل مغناه ، فهو كجسم حسن لا روح فيه ، أو برد مفوّف (٣) خلا من ملتحفيه ، أو غمد مرقّش (٤) اندقّ الصّارم الّذي كان يخفيه. أكثر أهلها رعاع (٥) ، ضرر بلا انتفاع ، مع سوء أخلاق ، ومرارة مذاق ، وقلوب ربّاها الضّغن (٦) تربية الأولاد ، وجفاها الخير والصّلاح لما عمرها من الشّرّ والفساد ، الخيّر فيهم فعل لا يتصرّف ، والغريب بينهم نكرة لا تتعرّف ، إن رأوه زادوا الوجوه جهامة ،

__________________

(١) الجامور : كلمة مولدة تطلق على كرة من النّحاس وتجعل في أعلى المآذن وعلى رأس الخيام الرفيعة ، حاشية طبعة الرباط صفحة ٩٢.

(٢) في ط : البحر وهذا خطأ واضح.

(٣) بردّ مفوّف : أي رقيق موشّى.

(٤) مرقّش : منقط.

(٥) رعاع الناس : سقّاطهم وسفلتهم.

(٦) الضّغن : الحقد.

٢١٤

ونكروا (١) منها ما قد نكّرته الدّمامة والذّمامة (٢) ، وجمجموا (٣) قولا رماه اللّكن (٤) عن قوس العجمة سهامه ، الحسد فيهم مضطرم النيران ، قد أفسد أمزجتهم فحالت الألوان. فإن سمعوا بفاضل فهو يوم بحران (٥) ، أخرسهم العيّ فعاذوا بالصمّات ، فإن سئلوا سكتوا لا عن كبر ولا عن إخبات (٦) ، ومنهم من أضناه الحسد فالسّكوت منه [٥٠ / آ] سبات. تمالؤوا على كلّ وصف شان ومازان ، وتواطؤوا (٧) على تطفيف المكيال والميزان. فإن عاملهم غريب ، لم يلق منهم إلّا ما يريب ، يتّخذونه هدفا ولكلّ منّهم فيه سهم مصيب ، حتّى يخرج من ماله بغير نصيب. لا ترجى منهم فيئة (٨) إنابة (٩) ، ولا تلفى فيهم فئة رأفة ولا عصابة ، ولا ينفع الغريب في معاملتهم أن يقول : لا خلابة (١٠). حسبك ببلد أربى في الحسن على البلاد ، وله من الفضيلة كلّ طارف وتلاد (١١) ، وليس به من أهل الفضل إلّا آحاد ، قلّوا عددا واتّحدوا كلّ الاتّحاد. فهم فيهم أقلّ من التّوفيق ، غرباء بينهم في كل معنّى وطريق.

__________________

(١) نكّروا : غيرّوا.

(٢) الدّمامة : القبح ، والذّمامة : سوء الأخلاق.

(٣) الجمجمة : أن لا يبين كلامه من غير عيّ.

(٤) اللّكن : عجمة في اللسان وعيّ.

(٥) في الأصل : بوم بحران ، وفي اللسان «بحر» : والأطبّاء يسّمون التغيّر الذي يحدث للعليل دفعة في الأمراض الحادّة : بحرانا ، يقولون : هذا يوم بحران بالإضافة.

(٦) الإخبات : التواضع.

(٧) في ت وط : تواصوا.

(٨) الفيء على ذي الرحم : العطف عليه والرجوع إليه بالبر.

(٩) الإنابة : الرجوع إلى الله بالتوبة.

(١٠) ـ لا خلابة : لا خداع.

(١١) ـ الطارف : المستحدث ، والتّلاد : القديم.

٢١٥

[اعتراض الحجّاج]

ومن الأمر المستغرب ، والحال الّذي أفصح عن قلّة دينهم وأعرب ، أنّهم يعترضون الحجّاج ، ويجرعونهم من بحر الإهانة الملح الأجاج ، ويأخذون على وفدهم الطّرق والفجاج (١) ، يبحثون عمّا بأيديهم من مال ، ويأمرون بتفتيش النّساء والرّجال. وقد رأيت من ذلك يوم وردنا عليهم ما اشتدّ له عجبي ، وجعل الانفصال عنهم غاية أربي ، وذلك أنّه لمّا وصل إليها (٢) الرّكب جاءت شرذمة (٣) من الحرس ـ لا حرس الله مهجتهم الخسيسة ، ولا أعدم منهم لأسد الآفات فريسة ـ فمدّوا في الحجّاج أيديهم ، وفتّشوا الرّجال والنّساء وألزموهم أنواعا من المظالم ، وأذاقوهم ألوانا من الهوان ، ثم استحلفوهم وراء ذلك كلّه.

وما رأيت هذه العادة الذّميمة ، والشّيمة اللّئيمة ، في بلد من البلاد ، ولا رأيت في النّاس أقسى قلوبا ، ولا أقلّ مروءة وحياء ، ولا أكثر إعراضا عن الله سبحانه ، وجفاء لأهل دينه من أهل هذا البلد (٤) ، نعوذ بالله من الخذلان ، فلو شاء لاعتدل المائل وانتبه الوسنان. وكنت إذ (٥) رأيت فعل المذكورين ظننت أنّ ذلك أمر أحدثوه ، حتّى حدّثني نور الدّين ، أبو عبد الله بن [زين](٦) الدّين أبي الحسن يحيى بن الشّيخ وجيه الدّين أبي علي منصور بن عبد [٥٠ / ب] العزيز

__________________

(١) الفجاج : جمع فجّ : الطريق الواسع بين جبلين.

(٢) في ت : لها.

(٣) الشّرذمة : الجماعة من الناس القليلة.

(٤) في ت : هذه البلدة.

(٥) في ت : إذا.

(٦) من ت وط.

٢١٦

ابن حباسة الإسكندريّ بمدرسة جدّه المذكور (١) حكاية اقتضت أنّ لهم في هذه الفضائح سلفا غير صالح. وذلك أنّه حدّثني إملاء من كتابه قال : حدّثني الشّيخ (٢) الصّالح أبو العبّاس أحمد بن عمر بن محمّد السّبتيّ الحميري بثغر الإسكندريّة سنة اثنتين وستّين وستّ مئة ، قال : حدّثني الشّيخ (٣) الإمام المحدّث أبو الحسين محمّد بن أحمد بن جبير الكنانيّ بثغر (٤) الإسكندريّة سنة إحدى عشرة وستّ مئة أنّه ورد الإسكندريّة في ركب عظيم من المغاربة برسم الحجّ ، فأمر النّاظر على البلد بمدّ اليد فيهم للتّفتيش ، والبحث عمّا بأيديهم ، ففتّش الرّجال والنّساء ، وهتكت حرمة الحرم ، ولم يكن فيهم إبقاء على أحد. قال : «فلما جاءتني النّوبة ـ وكانت معي حرم ـ ذكرّتهم بالله ، ووعظتهم فلم يعرجوا على قولي ، ولا التفتوا إلى كلامي ، وفتّشوني كما فتّشوا غيري» (٥). فاستخرت الله تعالى ، ونظمت هذه القصيدة ناصحا لأمير المسلمين صلاح الدّين يوسف بن أيّوب (٦) ومذكّرا له بالله في حقوق المسلمين ومادحا له فقلت : (٧) [المتقارب]

__________________

(١) ليست في ط.

(٢ ـ ٢) ـ سقط من ت.

(٣) ليست في ت.

(٤) رحلة ابن جبير ١٣.

(٥) صلاح الدين يوسف بن أيوب : من أشهر ملوك الإسلام ، قائد صد الفرنج حين هاجموا مصر واستقل بملكها ، وكان أعظم انتصار له يوم حطين. وافتتاح القدس سنه ٥٨٣ ه‍ ، توفي بدمشق سنة ٥٨٩ ه‍ انظر النجوم الزاهرة ٦ / ٣ ـ ٦٣.

(٦) القصيدة في الذيل والتكملة ٥ / ٥٩٨ ـ ٦٠١. وفي نفح الطيب ٢ / ٣٨٣ أبيات خمسة متفرقة منها.

٢١٧

[قصيدة ابن جبير في مدح صلاح الدّين]

أطلّت على أفقك الزّاهر

سعود من الفلك الدّائر

فأبشر فإنّ رقاب العدا

تمدّ إلى سيفك الباتر

وعمّا قليل يحلّ الرّدى

بكندهم النّاكث الغادر (١)

وخصب الورى يوم تسقي الثّرى

سحائب من دمها الهامر

٥ ـ فكم لك من فتكة فيهم

حكت فتكة الأسد الخادر (٢)

كسرت صليبهم عنوة

فلّله درّك من كاسر

وغيّرت آثارهم كلّها

فليس لها الدّهر من جابر

وأمضيت جدّك في غزوهم

فتعسا لجدّهم العاثر (٣)

فأدبر ملكهم بالشّآم

وولّى كأمسهم الدّابر

١٠ ـ جنودك بالرّعب منصورة

فناجز متى شئت أو صابر (٤)

[٥١ / آ] فكلّهم غارق هالك

بتيّار عسكرك الزّاخر (٥)

__________________

(١) في ت : بكيدهم ، والكند : هو ما يسمى الكونت وهو من ألقاب الشرف عند النصارى.

(٢) في ت : الحاذر ، والأسد الخادر : المقيم في عرينه ، الداخل في الخدر.

(٣) الجدّ الأولى بكسر الجيم : الاجتهاد في العمل ، بينما الجدّ الثانية بفتح الجيم : الحظ والرزق.

(٤) الرعب : الفزع والخوف ، وفي الحديث «نصرت بالرّعب مسيرة شهر». ناجز : قاتل. صابره : غلبه في الصبر.

(٥) في الذيل والتكملة : غرق.

٢١٨

ثأرت لدين الهدى في العدا

فآثرك الله من ثائر

وقمت بنصر إله الورى

فسمّاك بالملك النّاصر (١)

وجاهدت مجتهدا صابرا

فلله درّك من صابر

١٥ ـ تبيت الملوك على فرشها

وترفل في الزّرد السّابري (٢)

وتؤثر جاهد عيش الجهاد

على طيب عيشهم النّاضر (٣)

وتسهر جفنك في حقّ من

سيرضيك في جفنك السّاهر

فتحت المقدّس من أرضه

فعادت إلى وصفها الطّاهر (٤)

وجئت إلى قدسه المرتضى

فخلّصته من يد الكافر

٢٠ ـ وأعليت فيه منار الهدى

وأحييت من رسمه الدّاثر

لكم ذخر الله هذي الفتوح

من الزّمن الأوّل الغابر (٥)

وخصّك من بعد مازرته

بها لا صطناعك في الآخر

محبّتكم ألقيت في النّفوس

بذكر لكم في الورى طائر

فكم لهم عند ذكر الملوك

بمثلك من مثل سائر

__________________

(١) الملك الناصر : صلاح الدين الأيوبي.

(٢) منسوب إلى سابور. والأصل فيها : الدّروع السابرية.

(٣) في الأصل : جاهد جيش وهو تصحيف.

(٤) المقدّس : المراد بها مدينة بيت المقدس.

(٥) في ت : لكم ذكر الله هذا الفتوح.

٢١٩

٢٥ ـ رفعت مغارم أرض الحجاز

بإنعامك الشّامل الهامر (١)

فكم لك بالشّرق من حامد

وكم لك بالغرب من شاكر

وكم بالدّعاء لكم كلّ عام

بمكّة من معلن جاهر

وقد بقيت حسبة في الظّلوم

وتلك الذّخيرة للذّاخر (٢)

يعنّف حجّاج بيت الإله

ويسطو بهم سطوة الجائر (٣)

٣٠ ـ ويكشف عمّا بأيديهم

وناهيك من موقف صاغر

وقد أوقفوا بعد ما كوشفوا

كأنّهم في يد الآسر (٤)

ويلزمهم حلفا باطلا

وعقبى اليمين على الفاجر

وإن عرضت بينهم حرمة

فليس لها عنه من ساتر

أليس يخاف غدا عرضه

على الملك القادر القاهر

[٥١ / ب] ٣٥ ـ وليس على حرم المسلمين

بتلك المشاهد من غائر (٥)

ولا حاضر نافع زجره

فيا ذلّة الحاضر الزّاجر

ألا ناصح مبلغ نصحه

إلى الملك النّاصر الظّافر (٦)

__________________

(١) في نفح الطيب : مكس الحجاز ، الشامل العامر. وورد في طبعة الجزائر ونفح الطيب ٢ / ٣٨٣ البيتان التاليان بعد هذا البيت.

وأمّنت أكناف تلك البلاد

فهان السّبيل على العابر

وسحب أياديك فيّاضة

على وارد وعلى صادر

(٢) في الذيل والتكملة : وكم بقيت.

(٣) التعنيف : الأخذ بالشدّة.

(٤) في الذيل والتكملة : وقفوا ـ في ت : كشفوا.

(٥) الغائر : الغيور.

(٦) يريد صلاح الدين الأيوبي.

٢٢٠