رحلة العبدري

أبو عبدالله العبدري

رحلة العبدري

المؤلف:

أبو عبدالله العبدري


المحقق: د. علي إبراهيم كردي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار سعد الدين للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
الصفحات: ٧٢٨

العوان (١). تنصب عليه مجانيق الطّوى (٢) ، فتقذفه بجلاميد الخوى (٣) ، وترميه بسهام الرّوائح المنكرة ، عن قسيّ الأهوية المغيّرة ، بأكفّ الأبخرة المكدرّة ، فما تلبث أن تحطّ علاه ، وتبيح (٤) للأسقام (٥) حماه ، تنصبّ حواليه أنهار تشتعل بها في حشا الظمان نار ، ودارت بها غابة من نخيل ، وقد طلسمت (٦) ثمرتها بكفّ كلّ بخيل ، فلو أتاها جبلة بن الأيهم (٧) ، أو حلّ حماها إبراهيم بن أدهم (٨) لم تنل إلا برقية الدّينار والدّرهم ، على أنّ الهواء العفن قد منعها الجفوف ، فليس لها على الخزيز (٩) والغثاء (١٠) شفوف ، لأنّه إذا أفردت عن أشجارها القطوف ، بدت العفونة بها تطوف.

__________________

(١) حرب عوان : كان قبلها حرب ، أي الحرب المترددة.

(٢) الطوى : الجوع.

(٣) الخوى خلو البطن من الطعام.

(٤) في ط : تهيج.

(٥) في ط : للأسهام.

(٦) في ط : طلمست ، وطلسمت : نقش عليها نقوش بكيفيّات خاصّة لردّ الأذى.

(٧) جبلة بن الأيهم بن جبلة الغساني : آخر ملوك الغساسنة ببلاد الشام ، أسلم وارتد وخرج إلى بلاد الروم ، ولم يزل بالقسطنطينية عند هرقل حت مات حوالي ٢٠ ه‍. ترجمته في العقد الفريد ٢ / ٥٦ ـ ٦٢ ، نشوة الطرب ١ / ٢٠٥ ، نهاية الأرب ١٥ / ٣١١.

(٨) إبراهيم بن أدهم بن منصور بن يزيد بن جابر التميمي البلخي : زاهد مشهور ، كان من الأشراف ، وكان أبوه كثير المال والخدم ، تفقه ورحل إلى بغداد ، وجال في العراق والشام والحجاز ، وأخذ عن كثير من العلماء ، وأرجح الروايات في وفاته أنها كانت في سوفنق «حصن من بلاد الروم» سنة ١٦١ ه‍. ترجمته في سير أعلام النبلاء ٧ / ٣٨٧ ـ فوات الوفيات ١ / ١٣.

(٩) الخزيز : العوسج الجاف جدا.

(١٠) ـ الغثّاء : الزبد والقذر.

١٨١

وأما العلم عندهم فقد ركدت ريحه ، والجهل لديهم (١) لا يؤسى جريحه ، عامّ لا يتطرّق إليه الخصوص ، وظاهر جاء على وفق النّصوص. وهذا حكم استفدته من العيان ، ونتيجة الاختبار لهم والامتحان ، نعم بها آحاد الفضلاء الصّلحاء. كالشّعرة البيضاء في اللّمّة (٢) السّوداء ، يستمطر بهم المزن إذا لم يسبل سبله (٣) ، والنّادر لا حكم له.

وقد حضرت بجامعها شيخا يشار إليه ، ويعوّل في نوازل المسائل عليه ، وحواليه جماعة من أعيانها ، وأهل الخطط من سكّانها ، فقرئ عليه في المرابحة من «التّلقين» باب استبهم عليه فيه وجه الصّواب ، فخبطوا فيه خبط عشواء ، وأتوا أثناءه بكلّ شوهاء (٤) وشنعاء. فممّا جرى لهم في مسألة الغلط في الثّمن بالزّيادة أو النّقص أنّ اعتبار القيمة فيها لتختبر صحّة قول البائع أو المشتري [٤١ / آ] ، وهذا كلام لا يتحصّل في الذّهن فضلا عن صحّته وفساده ، وقالوا : إنّ القيمة لمّا اعتبرت بالثّمن كان المعتبر إذا هو الثّمن ، ثمّ نقضوا هذا الهراء (٥) بأنّ القيمة يضرب عليها الرّبح وقالوا : إنّ الثّمن يعتبر دون ربح ، وهذا هراء (٦) أشدّ من الأوّل ، وما كفاهم ذلك حتّى أخذوا في تحقيق ذلك من ألفاظ الكتاب ، بتنزيلها على وجوه الإعراب ، وبعد مجاراة (٧) طويلة ، ومماراة (٨) ليست بقليلة ، وقفتهم على ما أملوا من تلك القبائح ، الّتي لم يغد

__________________

(١) ت : عندهم.

(٢) اللّمّة : شعر الرأس.

(٣) السّبل : المطر.

(٤) الشوهاء : القبيحة.

(٥) الهراء : المنطق الفاسد الذي لا نظام له.

(٦) في ط : هذيان.

(٧) في ت : محاورة.

(٨) المماراة : المعارضة.

١٨٢

بمثلها غاد ولا راح رائح ، واستبان لهم لمّا لاح في ليل خبطهم نهار ، أنّ بنيانهم كان على (شَفا جُرُفٍ هارٍ)(١) ، ولولا ما أتوقّع من جدال المماحك (٢) لم أشن وجوه الأوراق بهذه المضاحك ، ولم أخلّد لها ذكرا في كتاب ، بل أطويها (٣)(كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ)(٤).

ثم قطعنا برّية المراحل الحمر ، وهي بيداء تغري بالرّواحل الضّمر. على أنّها أقلّ البراري غررا (٥) ، وأخفّها مؤونة وضررا ، ماؤها مورود ، قلّما يغبّ (٦) الورود ، ولكن معالمها دوارس ، ومسالكها طوامس (٧) ، للرّمال المنهالة والرّياح الرّوامس (٨).

ومنها إلى قريتي زوارة (٩) وزواغة (١٠) ، ذوي الأنفس الخبيثة والقلوب الزّواغة (١١) ، معتقدات شنيعة ، وأعمال (كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ)(١٢) ومذاهب سوء رديّة ، وضمائر شرّ عمر منهم كل طويّة ، إن استنام إليهم حاجّ لم

__________________

(١) سورة التوبة / ١٠٩.

(٢) رجل مماحك : لجوج.

(٣) في ط : طويتها.

(٤) سورة الأنبياء ، من الآية : ١٠٤.

(٥) الغرر : الخطر.

(٦) الغبّ : أن تشرب يوما ، ويوما لا ، أي ورد يوم ، وظمأ آخر.

(٧) الطوامس : جمع طامس ، وهو البعيد الذي لا يتبين من بعد. وطمس الطريق : درس وامّحى أثره.

(٨) الرياح الروامس : التي تنتقل التراب من بلد إلى آخر ، وبينها أيام. والروامس : الرياح التي تثير التراب وتدفن الآثار.

(٩) زوارة : بلدة ذات نخل وأشجار ، أهلها من الخوارج ، تقع على ساحل البحر ، بينها وبين زواغة ستة أميال. رحلة التجاني ٢١٠ ، وقال الوزان : تبعد عن جربة شرقا مسافة ٥٠ ميلا. وصف إفريقيا ٢ / ٩٦.

(١٠) ـ زواغة : من بلاد إفريقية ، وسميت بزواغة قبيلة من البربر ، فيها نخل. انظر رحلة التجاني ٢١١.

(١١) ـ في ط : الرّواغة.

(١٢) ـ سورة النور : ٣٩.

١٨٣

يوقظه إلّا برد ماء التّقديس ، ودويّ أصوات النّواقيس ، أو استأمن إليهم داج لم يرعه إلا تلفيق المعاذير عن إساءة رعي الخنازير ؛ لأنّهم يبيعونهم (١) من النّصارى بأبخس الثّمن ، ويعتقدون ذلك حقّا [لازما](٢) تنتقي عنه الظّنن ، قطع الله دابرهم ، وخضد (٣) أصاغرهم وأكابرهم ، ولا أخلاهم من قارعة تجتاحهم قرعا ، وتسحتهم (٤) أصلا وفرعا.

ثم خطرنا على قرية زنزور (٥) ، ولم أخبرها فلا أحدّث عنها بزور ، إلا أنّ (٦) مظهرها (٧) معجب مونق ، وشجرها مخصب مورق ، ولا أدري [٤١ / ب] هل مخبرها موافق ، أو هي ذات وجهين كالمنافق.

[ذكر طرابلس]

ثم وصلنا إلى مدينة أطرابلس ، وهي للجهل مأتم وما للعلم بها عرس ، أقفرت ظاهرا وباطنا ، وذمّها الخبير بها سائرا وقاطنا ، تلمع لقاصدها لمعان البرق الخلّب (٨) ، وتريه ظاهرا مشرقا والباطن قد قطبّ ، اكتنفها البحر والقفر ، واستولى عليها من عربان البرّ ونصارى البحر النّفاق والكفر ، وتفرقّت عنها الفضائل تفرّق الحجيج يوم النّفر (٩) ، لا ترى بها شجرا ولا ثمرا ، ولا تخوض في

__________________

(١) في ط : يبيعونها.

(٢) زيادة من ط.

(٣) في ط : حصد ، وخضد البدن : تكسّره وتوجّعه.

(٤) سحت : استأصل.

(٥) زنزور : قرية قريبة من البحر على بعد نحو ١٢ ميلا من طرابلس. انظر وصف إفريقيا ٢ / ١١٠.

(٦) في ط : لأن.

(٧) في ت : منظرها.

(٨) برق خلّب : لا غيث فيه ، وفي المثل : إنما هو كبرق الخلب. انظر الميداني ١ / ١٨.

(٩) النّفر : التّفرّق.

١٨٤

رجائها حوضا ولا نهرا ، ولا تجتلي روضا يحوي نورا ولا زهرا ، بل هي «أقفر من جوف حمار» ، (١) وأهلها «سواسية كأسنان الحمار (٢)» ، ليس على ناشئ منهم فضل لذي شيبة (٣) ، ولا لذي الفضل منهم (٤) هيبة ، ترى أجساما حاضرة والعقول في عقل غيابات الغيبة ، ملابس يلبسها ليلبس بها من ملابس العيوب العيبة ، إلى بخل لو مازج ماء البحر جمد ، أو خالط الهواء سكن في آذار وركد. وخلق يضيق به متّسع الفضاء ، ونزق يحقّ له في ذمّهم كشف الغطاء. وأذهان أربت في الضّيق على الخاتم ، سواء لديها (٥) من حارب ومن سالم : [السريع]

كأنّهم من ضيق أفهامهم

لم يخرجوا بعد إلى العالم

فسبحان من خلقهم (٦) وأهل تونس في طرفي نقيض ، أولئك في الأوج وأولاء في الحضيض.

__________________

(١) في المثل : أخلى من جوف حمار ، وهو رجل من عاد يقال له حمار بن مويلع. وجوفه واد خصيب ، وفيه من كل الثمرات ، فخرج بنوه يتصيدون ، فأصابتهم صاعقة فهلكوا ، فكفر وقال : لا أعبد من فعل هذا ببنيّ ، ودعا قومه إلى الكفر فمن عصاه قتله ، فأهلكه الله تعالى وأخرب واديه ، انظر ثمار القلوب ٨٤ والميداني ١ / ٢٥٧.

(٢) المثل في أمثال أبي عبيد ١٣٢ ، وجمهرة الأمثال ١ / ٥٢٢ ، ومجمع الأمثال للميداني ١ / ٣٢٩ ، والمستقصى ٢ / ١٢٣ وفصل المقال ١٩٦ ، واللسان سوا.

(٣) إشارة إلى قول كثير في ديوانه ٣٨٤ :

سواء كأسنان الحمار فلا ترى

لذي شيبة منهم على ناشيء فضلا.

(٤) في ط : بينهم.

(٥) في ت : لديهم.

(٦) في ت وط : جعلهم.

١٨٥

ولم أر بها ما يروق العيون (١) ، وسماعن أن يقوم بالدّون ، سوى جامعها ومدرستها ، فإنّ لهما من حسن الصّورة نصيبا ، ومن إتقان الصّنعة سهما مصيبا. وما رأيت في الغرب مثل مدرستها المذكورة ، لولا أنّ محاسنها مقصورة على الصّورة ، فما يشبّ (٢) بها للعلم طفل ، ولا يحجّ صرورة (٣) : [الطويل]

وما الحسن في وجه الفتى شرفا له

إذا لم يكن في فعله والخلائق (٤)

[لقاؤه لا بن عبد السّيّد]

وقد حضرت بها تدريس الشّيخ المسن القاضي الخطيب أبي محمّد عبد الله بن عبد السّيّد ، وهو بيت قصيدتهم ، وكبش (٥) كتيبتهم [٤٢ / آ] وواسطة قلادتهم ، وأنف سيادتهم ، ذو سمت ووقار ، وقد أثّر الكبر في جسمه ، كثير المواظبة للمسجد والذّكر ، خيّر في دينه ، وما كنت آتيه بعدما رأيته إلا بقصد الدّعاء ؛ لأنّه ضيّق الخلق ، ليّن النظر ، وفي لسانه حبسة لا يكاد يفهم معها ، وقد استفرغت جهدي وقت إقرائه في تفهّم ما يقول ، فما فهمته إلا بعد مدّة ، وأظنّه لا رواية له ؛ فإنّي سألته عن ذلك فأبهم جوابه وتنمّر (٦) ، وحاولت مداخلته فصدّني عن ذلك بشكاسته (٧) وجهامة لقائه. وما أبعد جميع (٨) أحواله من

__________________

(١) في ت : للعيون.

(٢) في ت : يشيب.

(٣) رجل صرورة : لم يحج قط.

(٤) للمتنبي في مدح سيف الدولة. الديوان ٢ / ٣٢٠.

(٥) كبش الكتبة : قائدها.

(٦) تنمرّ : غضب.

(٧) الشّكس : العسر الخلق.

(٨) ليست في ت وط.

١٨٦

أحوال شيخنا الفقيه القاضي الأوحد الإمام ، قاضي الجماعة بحضرة مرّاكش ـ كلأها الله ـ أبي عبد الله محمّد بن عليّ بن يحيى الشّريف (١) قدس الله تربته ، وآنس في قبره غربته ؛ فإنّه كان ـ والله ـ زين الدّنيا والدّين ، وهو كما قال القائل : [الطويل]

أقاموا بظهر الأرض فاخضرّ عودها

وصاروا ببطن الأرض فاستوحش الظّهر

وتالله إنّ فقد مثله ليهوّن الرّزايا ، وإنّه لحقيق بما قال أحمد بن المعدّل (٢) في ابن الماجشون : (٣) «ما ذكرت أنّ الأرض تأكل لسان عبد الملك إلاهانت الدّنيا في عيني»(٤).

وقد سألت الشّيخ أبا محمّد بن عبد السّيّد عن أشياء ما قام فيها ولا قعد ، وما استفدت منه في العلم فائدة سوى ما تقدّم تسيطره في قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا نودي للصّلاة أدبر الشّيطان» (٥).

__________________

(١) محمد بن علي بن يحيى الشريف : قاضي الجماعة بمراكش : فقيه ، محدّث ، كان يميل إلى الاجتهاد ، وله مشاركة في الأصول والكلام والمنطق والحساب. توفي بمراكش سنة ٦٨٢ ه‍. ترجمته في الإعلام للمراكشي ٤ / ٢٨١ ، الذيل والتكملة مقدمة السّفر الثامن ١٦ ـ ١٧.

(٢) أحمد بن المعدل بن غيلان العبدي البصري : فقيه مالكي صحب عبد الملك بن الماجشون ، كان له عدّة مصنفات ، وتفقه عليه جماعة من كبار المالكية توفي سنة ٢٤٠ ه‍. ترجمته قي : ترتيب المدارك ٢ / ٥٥٠ ـ الديباج المذهب ٣٠ ـ شذرات الذهب ٢ / ٩٥ ـ شجرة النور ٦٤.

(٣) عبد الملك بن عبد العزيز بن عبد الله التيمي بالولاء : فقيه مالكي من الفصحاء ، انتفع به كثيرون ، دارت الفتيا عليه في زمانه. وفي وفيات الأعيان ثلاثة أقوال في وفاته : ٢١٢ ه‍ و ٢١٣ ه‍ و ٢١٤ ه‍ ترجمته في : نكت الهميان ١٩٧ ـ ابن قنفذ ١٦٢ ـ وفيات الأعيان ٣ / ١٦٦.

(٤) القول في : ترتيب المدارك ٢ / ٣٦١ ـ نكت الهميان ١٩٧ ـ وفيات الأعيان ٣ / ١٦٦ ـ سير أعلام النبلاء ١٠ / ٣٦٠.

(٥) أخرجه البخاري في الأذان ، فضل التأذين رقم ٦٠٨ ـ ٢ / ٨٤ ؛ العمل في الصلاة ، يذكر الرجل الشيء في الصلاة رقم ١٢٣٢ ـ ٣ / ٨٩ : السهو ، إذا لم يدركم صلى رقم ١٢٣١ ـ ٣ / ١٠٣ : بدء الخلق ، صفة إبليس وجنوده رقم ٣٢٨٥ ـ ٦ / ٣٣٧. ومسلم في الصلاة ، فضل الأذان وهرب الشيطان رقم ١٩. وأبو داود في الصلاة ، رفع الصوت بالأذان رقم ٥١٦. وابن حنبل : ٢ / ٣١٣ ، ٤٦٠ ـ ٥٢٢. والنسائي : ٢ / ٢١ و ٣ / ٣١. والدارمي : ١ / ٢٧٣ ـ والموطأ : ٥٧.

١٨٧

ولمّا حضرت تدريسه مرّ لهم في دولة التّفسير قوله تعالى : (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ)(١) ، فسألته : ما الكتاب المنير الّذي أراد هنا؟ فأجاب : بأنّه جنس ، وهو بمعنى الزّبر قبله بإجماع من المفسّرين. فقلت له : لم كرّر؟ فقال : للتّأكيد. وجمد على ذلك ، ولا يفهم هنا للتّأكيد معنى. ولو قال : كرّر لما تضمّنه من المدح كما تعطف النّعوت بعضها على بعض لكان أشبه ، ولكنّ تكرار الباء يشعر بالفصل ؛ لأنّ فائدة تكرار العامل بعد حرف العطف إشعار بقوّة [٤٢ / ب] الفصل بين الأوّل والثّاني ، وعدم التّجوّز في عطف الشّيء على نفسه ، (٢) والله أعلم (٣).

ثمّ مرّ لهم بعدها قوله تعالى : (وَغَرابِيبُ سُودٌ)(٤) وهي من الآيات الّتي صدئت فيها الأذهان الصّقيلة ، وعادت بها أسنّة الألسنة (٥) مفلولة الشّبا كليلة ؛ وذلك أنّ المنهج في كلامهم تقديم المتبوع على التّابع فيقولون : أبيض ناصع ، وأصفر فاقع ، وأحمر قان ، وأسود حالك ، وغربيب. ولا يقولون : ناصع أبيض ، ولا فاقع أصفر ، ولا قان أحمر ؛ لأنّ التّابع (٦) فيه معنى زيادة الوصف فلو قدّم كان ذكر المتبوع بعده عيّا ، إلّا أن يكون المعنى (٧) أوجب تقديمه. فلمّا

__________________

(١) سورة فاطر : ٢٥.

(٢ ـ ٢) ـ سقط من ت.

(٣) سورة فاطر : ٢٧.

(٤) في ت : ألسنة الأسنة.

(٥) في ت : التبع.

(٦) في ت وط : بمعنى.

١٨٨

قرعت أسماعهم بهذا سكتوا ولم يجد أحد منهم جوابا. وكان الشّيخ قد ذكر ما قال بعضهم ، وأظنّه القاضي أبا محمّد بن عطيّة (١) أنّه من فصيح الكلام فلم أقنع بذلك ، وقررّته على ما تقدّم فسكت.

ومن جملة العجائب أنّ شيخا ممّن حضر إقراءه أراد أن يحتجّ عنه لما كلّمته ، فقال لي : إنّما ذكر السّود ؛ لأنّه قد يكون في الغربان ما فيه بياض ، وقد رأيته في بلاد المشرق ، فلم يفهم من الآية ـ وقد حضر تفسيرها ـ شيئا إلّا أنّ الغربيب هو الغراب!.

وقد ظهر لي في الآية الأولى وجهان أردت أن أثبتهما مستخيرا لله عزوجل : أحدهما : إنّ قوله تعالى : (جاءَتْهُمُ) يعود فيه الضّمير على المكذّبين للنّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعلى الّذين من قبلهم فيكون النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم داخلا في الرّسل المذكورين (٢) ، والكتاب المنير : القرآن ، وقوله : (ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا)(٣) معطوف على قوله : (فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ)(٤) أي : كذّبوا ، ثم أخذتهم لقيام الحجّة عليهم بالبيّنات وبالزّبر ، وبالكتاب المنير ، وجاء تقديم قيام

__________________

(١) عبد الحق بن غالب بن عبد الرحمن بن عطية المحاربي الغرناطي ، مفسّر ، فقيه ، قاض ، عارف بالحديث ، له مشاركة في علوم اللغة والأدب والشعر. ولد سنة ٤٨١ ه‍ ، وتوفي سنة ٥٤٢ ه‍. له تصانيف منها : «المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز» طبعته وزارة الأوقاف في فاس ، وفهرس بأسماء شيوخه. ترجمته في : الصلة ٢ / ٣٨٦ ـ قضاة الأندلس ١٠٩ ـ معجم ابن الأبار ٢٦٩ ـ بغية الملتمس ٣٨٩.

(٢) في ت : المكذبين.

(٣) سورة فاطر : ٢٦.

(٤) سورة فاطر : ٢٥.

١٨٩

الحجّة قبل العطف اعتراضا للتّهمّم به ، وهو من أرقّ وجوه البلاغة كما قال (١) : [الوافر]

فإنّك إن أفتك يفتك منّي

 ـ فلا تسبق به ـ علق نفيس(٢)

[٤٣ / آ] وكما قال حسّان رضي‌الله‌عنه (٣) : [البسيط]

فإنّ في حربهم فاترك عداوتهم

شرّا يخاض عليه الصّاب والسّلع (٤)

وأرى مثل هذا في آية آل عمران ، وهي قوله تعالى : (فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ)(٥) الآية. وقوله : (جاؤا) انصراف من المخاطبة إلى الغيبة ، كأنّه قال : جاء هؤلاء المذكورون (٦) ، فيكون النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم داخلا في الضّمير ، وهو في موضع جاءتهم بالبيّنات وبالزّبر وبالكتاب المنير ، فأقام الإخبار عن الغائب مقام الخطاب كما قال : (حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ)(٧) ، وفيها (٨) وجه من التّفخيم والتّعجّب ، كما أنّ المخاطب إذا استعظم الأمر رجع إلى الغيبة ؛ ليعمّ الإخبار به جميع النّاس ، وهذا موجود في الآيتين ، ومن ذلك قول النّابغة الذّبيانيّ (٩) : [البسيط]

__________________

(١) البيت في حلية المحاضرة ٥٧ ، معاهدة التّنصيص ١ / ٣٦٤ دون عزو.

(٢) العلق : النفيس من كل شيء يتعلّق به القلب.

(٣) ديوانه ٢٥٠.

(٤) الصاب والسلع : شجرمر.

(٥) سورة آل عمران : ١٨٤.

(٦) في ط : المذكورين وفيها خطأ نحوي.

(٧) سورة يونس : ٢٢.

(٨) بقية النسخ : وفيه.

(٩) ديوانه : ٢ وهو مطلع اعتذارية له.

١٩٠

يا دارميّة بالعلياء فالسّند

أقوت وطال عليها سالف الأبد

والوجه الاخر : أن يكون المعنى على حذف مضاف كأنّه قال : وبخبر الكتاب المنير يعني : القرآن ، فيكون مثل قوله : (وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ)(١) وهذا وجه حسن قريب ، وكان شيخنا زين الدين أبو الحسن المالكيّ الإسكندريّ قد استحسنه حين عرضته عليه والحمد لله.

وأما الآية الأخرى وهي قوله تعالى : (وَغَرابِيبُ سُودٌ) فحسبك به (٢) إشكالا أنّ فحول المفسّرين (٣) أحجموا عن (٤) القول فيه ، وقصّروا عمّا يتمّ الغرض ويوفّيه ، والّذي ظهر لي في ذلك بعد طول تأمّل ، وفرط قلق فيه وتململ ، أنّ الموجب لتقديم الغرابيب هو تناسب الكلم ، وتماثل نسق الألفاظ ، وجريانها على نمط متساوي التّركيب ، وهو معنى قلّما يوجد في غير الكتاب العزيز حسبما تقدّم في قوله تعالى : (فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى). وذلك أنّه لمّا تقدّم ذكر البيض والحمر دون إتباع كان الأليق بحسن النّسق ، وترتيب النّظام أن تكون السّود كذلك ، ولكنّه لما كان في السّود هنا زيادة [٤٣ / ب] الوصف كان الأليق بالمعنى أن تتبع بما يقتضي ذلك وهو الغرابيب فتقابل حظّ اللفظ وحظّ المعنى ، فوفّي الحظّان معا ، وكمل الغرضان (٥) جميعا ، ولم يطّرح أحدهما للآخر ، فيقع النّقص من جهة المطّرح ، وذلك بتقديم الغرابيب

__________________

(١) سورة الصف : ٦.

(٢) في ت وط : منها.

(٣ ـ ٣) ـ في ت : أجدّوا علي.

(٤) في الأصل : الغرض.

١٩١

على السّود ، فوفّى لفظ الغرابيب حظّ المعنى في زيادة الوصف ، ووفى ذكر السّود مفردا من الإتباع حظّ اللّفظ ؛ إذ جاء مجرّدا على صورة البيض والحمر فاتّسقت الألفاظ كما ينبغي ، وتمّ المعنى كما يجب ، ولم يخلّ بواحد من الوجهين ، ولم يقتصر على الغرابيب ، وإن كانت متضمّنة لمعنى السّود ؛ لئلّا تتنافر الألفاظ ، فإن ضمّ الغرابيب إلى البيض والحمر ، ولزّهما في قرن واحد : [البسيط]

كابن اللّبون إذا مالزّ في قرن

 .................................

(١) وذلك غير مناسب لتلاؤم الألفاظ وتشاكلها وجريها في سنن الاتّفاق ، وبذكر السّود وقع (٢) الالتئام ، واتّسق نسق النّظام وجاء اللّفظ والمعنى في درجة التّمام ، وهذا ـ لعمر الله ـ من العجائب الّتي تكلّ دونها العقول ، ويعيا بها اللّسن (٣) فلا يدري ما يقول ، والحمد لله على حسن عونه.

ومرّ لهم في دولة «الموطّأ» حديث ابن عمر رضي‌الله‌عنه في «من نسي صلاة (٤) فلم يذكرها إلّا وهو وراء الإمام (٥)» فقال في الكلام عليه : سمعت

__________________

(١) صدر بيت لجرير ، وعجزه : لم يستطع صولة البزل القناعيس. ديوانه : ١ / ١٢٨. ورواية الديوان : وابن اللبون. وهو ما أوفى على ثلاث سنين ، لزّ : ربط القرن : الحبل الذي يشدّبه البعيران ونحوهما فيقرنان معا.

(٢) في بقية النسخ : يقع.

(٣) اللّسن : الفصيح.

(٤) في ت : الصلاة.

(٥) أخرجه شيرويه في فردوس الأخبار ٤ / ٩٥ ـ وهو في مجمع الزوائد ١ / ٣٢٤ بخلاف في اللفظ ـ والبيهقي ٢٠ / ٢٢١ ـ وكنز العمال ٧ / ٥٤١.

١٩٢

الإمام فخر الدّين أبا عليّ بن رشيق (١) بمصر يقول في تعليل قطع الصّلاة إذا ذكرت فيها صلاة أخرى ، إنّما ذلك لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من نام عن صلاة أو نسيها فليصلّها إذا ذكرها ، فإنّ ذلك وقت لها» (٢).

قال : فعيّن (٣) النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقت الذّكر للفائتة فوجب أن يقطع الّتي هو (٤) فيها. فقلت له : هذا عامّ محتمل للتّخصيص بمن ذكرها في غير صلاة ، فأمّا من ذكرها في الصّلاة فخارج عن هذا العموم بدليل قوله تعالى : (وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ)(٥). كما خرج عنه من ذكرها في أوقات النّهي عند من يرى ذلك من العلماء.

ثم إنّ هذا التّعليل لا يأتي على مذهب مالك ـ رحمه‌الله ـ لأنّه لا يرى القطع واجبا بدليل أنّ من صلّى صلوات وهو [٤٤ / آ] ذاكر لصلاة فإنّه لا يعيد منها إلّا ما بقي وقته ، وبدليل أنّ الإمام إذا ذكر صلاة ثم قطع فقد أبطل على من خلفه ، ولو كان القطع واجبا لصحّت صلاة من خلفه ؛ لأنّه مغلوب على القطع ، كما إذا ذكر أنّه جنب ، ولكنّ القطع في ذلك استحباب ، فكأنّ الإمام متعمّد له (٦) ، فلذلك أبطل على من خلفه ، وكنت أذكر هذا المعنى

__________________

(١) هو الحسين بن عتيق بن رشيق : فقيه مالكي ، عالم ، كانت عليه مدار الفتيا بالديار المصرية عاش بين سنتي ٥٤٧ ـ ٦٣٢ ه‍ ترجمته في : حسن المحاضرة ١ / ٤٥٥ ـ الديباج المذهب ١٠٥ ـ شجرة النور الزكية ١ / ١٦٦ وفيها الحسين بن رشيق.

(٢) هو في ابن ماجه : الصلاة ، من نام عن الصلاة أو نسيها رقم ٦٩٦ ـ ابن حنبل : ٣ / ١٠٠ و ٢٨٢ عن أنس ـ مجمع الزوائد ١ / ٣٢٢ بخلاف في اللفظ ـ ابن عدي في الكامل ٣ / ٢٥٨ ـ فردوس الأخبار ٤ / ٩٥.

(٣) في ت : يعني.

(٤) ليست في ط.

(٥) سورة محمد : ٣٣.

(٦) ليست في ت.

١٩٣

من كلام الشّيخ الإمام أبي الحسن اللّخميّ على المسألة ، فلمّا فرغت من كلامي هذا سكتوا ، ولم يجدوا جوابا. وهذا وما أشبهه إنّما أثبتّه تنبيها على ضعف العلم في هذا الأوان ، وقلّة الرّاغب فيه ، لا أنّي معجب فيه بنفسي ويعلم الله أنّ معتقدي أنّ أدلّ دليل على فناء العلم ، وامّحاء رسومه (١) ، هو كلامي وكلام أمثالي فيه ، فإنّه ما أوجبه إلا عدم علماء التّحقيق ، وحسبنا الله وبه التّوفيق.

والّذي أرى في الحديث الّذي استدلّ به ابن رشيق أنّه يقصر على مثل الصّورة التي ورد فيها ، وهي صلاة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الصّبح يوم الوادي بعد طلوع الشّمس ، لا من حيث أنّه وارد في صورة ، فإنّ معتقدي أنّ اللّفظ إذا كان مستقلّا بنفسه اعتبر بما يجب له ، ولم يقصر على الصّورة الّتي ورد فيها ، ولكن من حيث قام الدّليل ، إنّ ذلك هو المراد ، وذلك أنّ حمله على العموم يؤدّي إلى باطل متّفق على بطلانه ، وهو أنّ من ذكر صلاتين فأكثر لا يؤدّيهما أبدا ، لأنّه كلّما وقف في صلاة ذكر فيها أخرى فتبطل عليه ، فالتّخصيص في مثل هذا ضربة لازم (٢) ، والله أعلم.

[قبّة باب البحر]

ولم أر بأطر ابلس أثر عناية ، سوى ما تقدّم ذكره ، إلّا قبّة بباب البحر من بناء الأوائل ، في غاية الإتقان ، ونهاية الأحكام ، مبنيّة من صخور (٣) منحوتة في

__________________

(١) في ت وط : رسمه.

(٢) في ط : لازب. وكلاهما صحيح.

(٣) في ت : صخر.

١٩٤

نهاية العظم ، منقوشة بأحسن النّقش ، مرصوفة بأعجب الرّصف ، متماثلة المقدار علويّها وسفليّها ، ولا ملاط (١) بين الصّخور من طين ولا غيره ، ومن العجب ترتيب تلك الصّخور [٤٤ / ب] ورصفها في الأساس فضلا عن رفعها إلى السّقف ورصفها هناك مع إفراط عظمها ، وفي مقعد القبّة صخرة مستديرة منقوشة ، يحار النّاظر في حسن وضعها ، وعلى القبّة قبّة أخرى عالية ، ومبان مرتفعة ، ورأيت للقبّة السّفلى بابا مسدودا ، وعليه من خارجه صورة أسدين قد اكتنفاه مصوّرين من تلك الصّخور بأبدع صنعة ، وأغربها ، وهما متقابلان على الباب ، وفي كلّ واحد منهما صورة لجام قد أمسك بعنانه شخص واقف وراءه ، وقد منعه به أشدّ المنع ، ولعلّ ذلك كان لمعنى تعطّل وجهل سرّه ، والله أعلم.

[قصر الجمّ]

والّذي في بلاد إفريقية من عجائب البناء ، وآثار الاعتناء أمر يضيق عنه الوصف ، منها قصر الجمّ (٢) ، وسيأتي ذكره إن شاء الله ، ومنها قصر يعرف بالمنارة غربي القيروان ، على مرحلة منه ، مبنيّ من صخور منحوتة ، موضوع على الاستدارة (٣) كأنّه مخروط من عود ، وهو من فرط إتقانه كأنّه حجر واحد ، وفي أعلاه طوق ناتىء من تلك الصّخور على هيئة طنف (٤) قد نحت ورقّقت أطرافه حتّى تجردّت (٥) ، وعرّض من الأصل فأتت لذلك جميلة المنظر.

__________________

(١) الملاط : الطين الذي يجعل بين ساقي البناء ، ويملط بين الحائط.

(٢) قصر الجم : هو أعظم قصور إفريقية وأشهرها ، شكله مستدير ، وارتفاعه في الهواء مائة ذراع ، وذكر البكري أن تكسير دائرته في الأرض ميل. ويقال : إن الكاهنة حصرها عدوّها في هذا الحصن فحفرت منه سربا نفذت به إلى سلقطة. انظر : رحلة التجاني : ٥٧ ، الحلل السندسية ١ / ٣٠٦.

(٣) ليست في ت.

(٤) الطّنف : هو ما أشرف خارجا من البناء.

(٥) في ط : حدّدت.

١٩٥

وفي أعلى القصر من كل جهة صخور بارزة من البنيان عظيمة ، قد نحتت مستديرة ، وحفرت فيها مجار للماء من السّطح فصارت ميازيب متّسعة المجاري في غاية الإحكام وجمال المنظر.

وقد دلّت آثار تلك البلدان على ضخامة مملكتها في غابر الزّمان ، على ضدّ ماهي عليه الآن ، فإنّها شديدة الإهمال ، غير سديدة الأحوال ، طامسة المسالك ، دامسة كاللّيل الحالك ، عمرانها خراب ، وغدرانها سراب ، وعنوانها يباب (١) ، يكلّ عن وصف فنائها لسان المنطيق (٢) ، ويضيق في ميدان تبيان خلائها عنان التّلفيق ، حلت بها الآفات والمحن ، وشفى منها الدّهر على عقد لها من حقود وإحن (٣) ، لا يسلكها إلا مخاطر ، ولا يعدم من عربانها إيلام خاطر [٤٥ / آ] قد استوى لديهم الصّالح والطّالح ، واتّفق في مذاقهم لكفرهم ونفاقهم كل عذب ومالح. اتخذوا أخذ الحاج خلقا ودينا واعتقدوا إهلاكه ملّة ودينا ، فماله عندهم طعمة (٤) أحلى من مال اليتيم في في (٥) الوليّ الفاجر اللّئيم ، ومن حديث إخوان الصّفاء (٦) ، ومن الوعد على ثقة الوفاء ، لبسوا أسمال (٧) المعاوز ،

__________________

(١) اليباب : المكان الخالي ، القفر.

(٢) في ط : النطيق.

(٣) الإحن : جمع إحنة : الحقد في الصدر.

(٤) في ت : طلعة.

(٥) ليست في ط وت ، وفي الثانية بمعنى فم.

(٦) إخوان الصفا : جماعة من فلاسفة المسلمين من أهل القرن الثالث ببغداد ، اتحدوا على أن يوفقوا بين العقائد الإسلامية والحقائق الفلسفية المعروفة في ذلك العهد فكتبوا في ذلك خمسين مقالة سمّوها «تحفة أخوان الصفا». انظر دائرة معارف القرن العشرين ١ / ١٠٦.

(٧) في ت : أشمال.

١٩٦

وألفوا خلال المفاوز (١) ، فهم بها أغنى عن الماء من ضبّ (٢) ، وأصبّ إلى صبّ الفواقر على فقر المسافر (٣) من صبّ ، على كل مرقب منهم عقاب يرقب الضيّفان ليقريهم أمرّ عقاب ، فما يمرّ بتلك المسالك سالك ، ولا يخطر على تلك المعابر عابر ، ولا يرد في تلك المناهل ناهل ، إلا انقضّوا عليه انقضاض الصّقور على البغاث (٤) ، وانكدروا (٥) عليه بحيث لا يغاث من استغاث ، فمزقوا أشلاءه تمزيق الدّهر للأحرار ، وعاثوا فيه عيث أويس (٦) في ثلّة (٧) وأسامة (٨) في صوار (٩) ، لا أمن لهم من عوادي الدّهر ربرب (١٠) ، ولا عذب لهم من موارد الآمال مشرب ، ولا رحل عنهم يوم حتّى يستخلف عليهم نكبة ، ولا وردت عليهم ساعة إلا بتحفة عطبة (١١) ، حتّى يصيروا عبرة للبادي والحاضر ، وأحدوثة المقيم والمسافر ، بحول الإله (١٢) الّذي يسبّحه (١٣) الضّب والنّون (١٤) ، وأمره بين الكاف والنّون.

__________________

(١) المفاوز : واحدها مفازة : الصحراء الواسعة التي لا ماء فيها.

(٢) في المثل : لا أفعله حتّى يرد الضبّ الماء ، ولا يكون كذا حتى يحنّ الضبّ في إثر الإبل الصادرة ، وهذا لا يكون لأن الضبّ لا يرد. انظر مجمع الأمثال ٢ / ٢٢٦ واللسان : ضبب.

(٣) في ت وط : المسافرين.

(٤) البغاث : ما لا يصيد من الطير.

(٥) في ط : انكدوا ، وانكدروا : انقضّوا.

(٦) في ت : أوس ، والأوس : الذئب وتصغيره أويس : قال أسماء بن خارجة :

في كل يوم من ذؤاله

ضغث يزيد على إباله

فلأحشأنّك مشقصا

أوسا ، أويس من الهباله

والهبالة اسم ناقته ، وأويس : تصغير أوس وهو الذئب. وقيل : افترس له شاة فقال : لأضعنّ في حشاك مشقصا يا أويس من غنيمتك التي غنمتها من غنمي.

(٧) الثلة : جماعة الغنم. وفي المثل : عاث فيهم عيث الذئاب يلتبسن بالغنم. انظر مجمع الأمثال ٢ / ٣٩.

(٨) أسامة : من أسماء الأسد.

(٩) الصّوار والصّوار : القطيع من البقر.

(١٠) ـ الرّبرب : القطيع من بقر الوحش.

(١١) ـ العطبة : الهلاك.

(١٢) ـ في ت وط : الله.

(١٣) ـ في ط : يسبح له.

(١٤) ـ النون : الحوت.

١٩٧

فصل

[حكم السفر]

وقد رأيت أن أثبت في هذا الفصل ما أعتقد أنّه الفصل في حكم السّفر بهذه البلاد ، لقضاء فريضة الله على العباد ، فأقول : (١) إنّ المرء إن كان (٢) عريّ الفؤاد من أوار (٣) الهوى ، خليّ الأحشاء من نار الجوى ، (٤) ساكن البال والبلبال (٥) ، منفسح المجال عن الأوجال (٦) ، صاحي اللّبّ سليم الحشا ، ثابت (٧) الذّهن قعد أومشى. فمهما أجرى السّؤال في هذا المجال ، وسأل عن حكم اشتغال باشتعال ، وغرام باضطرام ، والتدام (٨) في احتدام ، وتطرّق إلى تحرّق ، وتألّق (٩) من تملّق [٤٥ / ب] ، واضطراب لاقتراب ، وافتراق لاجتماع ، وإغراق في انخلاع ، شرب من كأس الحبّ حتّى ارتوى ، وذوى بدنه من خوف النّوى ، وهام بذكر حاجر (١٠) واللّوى (١١) ، نقل عن نسيم الصّبا حديث نجد (١٢) وروى ،

__________________

(١ ـ ١) ـ في ط : إن كان المرء.

(٢) الأوار : شدة لفح النار ووهجها.

(٣) الجوى : الحرقة ، وشدة الوجد من عشق أو حزن.

(٤) البلبال : شدّة الهمّ والوسواس.

(٥) الأوجال : المخاوف.

(٦) في ط : ثبت.

(٧) الالتدام : الاضطراب.

(٨) في ت وط : في تملّق. والتملّق : التودّد والتّلطّف.

(٩) حاجر : منزل من منازل الحاج في البادية ، وهو موضع في ديار تميم. انظر معجم ما استعجم ٤١٦.

(١٠) ـ اللّوى : هو في الأصل منقطع الرملة ، وهو موضع بعينه قد أكثر الشعراء من ذكره. وهو واد من أودية بني سليم. انظر ياقوت ٥ / ٢٣.

(١١) ـ النجد : ما غلظ من الأرض وأشرف. وكل ما ارتفع من تهامة في الجزيرة العربية فهو نجد.

١٩٨

فحوى من علم الصّبابة ما حوى ، واشتمل على أسرار عليها انطوى ، وأخذها مشافهة عن معلّم الطّوى ، سرت في جسمه حميّا (١) راح الرّاح (٢) ، وغنّت على أفنان قلبه أطيار الارتياح ، وهبّ له نسيم وصل اهتزّ له وارتاح ، كما يهتزّ الغصن اللّدن في كفاح الرّياح. فهو مع الأوجال والجوى بمنزل ، وعن حكم السّؤال والجواب بمعزل ، لا يصغي أذنا إلى نصيح ، ولا يلقي أذنا إلى لاح (٣) يصيح. يخاطب وغير المخاطب عنى ، وينظر وإلى غير المنظور رنا. يشدو مترنّما ، ويترنّم مدندنا (٤) : [البسيط]

لم يحبب القلب حبّا مثل حبّكم

ولم تر العين شيئا دونكم حسنا

فهذا حكمه حكمه ، وأمره أمره (٥) ، وإلزامه التزامه (٦). لا يمتثل إلّا ما به الحبّ أمر ، ولا يسكن إلّا ما سكن الهوى وعمر ، فإن صحا مرّة فخوطب قال : أنا ضيف عمرو (٧). وإن حذّر بأمر أو خوّف بزيد أو عمرو ، قال وهو مشتعل الأحشاء (٨) بالجمر : دعوني فلا خوف ، و «لا حرّ بوادي عوف» (٩) : (١٠) [الكامل]

__________________

(١) الحميّا : بلوغ الخمر من شاربها. ودبيب الشراب.

(٢) الراح : الخمر.

(٣) اللاحي : العاذل.

(٤) الدندنة : الغناء بصوت خافت.

(٥) ليست في ط.

(٦) ليست في ط.

(٧) أراد عمرو بن العاص.

(٨) في ت : الحشا.

(٩) المثل في أمثال أبي فيد ٧٣ ، والجمهرة ٢ / ٤٠٦ والميداني ٢ / ٢٣٦ ، وأمثال أبي عبيد ٩٤ ، والمستقصى ١ / ٤٣٧ و، ٢ / ٢٦٢ ، وفصل المقال ١٢٩ ـ ١٣٠ ، والفاخر ٢٣٦. ويقال ذلك لرجل يسود قومه فلا ينازعه أحد منهم سيادته وهو عوف بن محلّم بن ذهل بن شيبان.

(١٠) ـ البيتان للمتنبي وهما في ديوانه ١ / ٣ ـ ٤. وفي الديوان البيت الثاني قبل الأول.

١٩٩

فومن أحبّ لأعصيّنك في الهوى

قسما به وبحسنه وبهائه (١)

القلب أعلم يا عذول بدائه

وأحقّ منك بجفنه وبمائه (٢)

[ذكر مصراتة]

ثم مررنا على بلد مصراتة (٣) ، وهو بلد لم يحو إلا جفاته ، وشأنه أحقر من أن يعمل فيه الواصف مقوله أو أداته. على أنّه ذو قرى ظاهرة ، ومناظر عند ظهورها باهرة ، تخيل الحسن إذا نظرت ، وتحيله إذا اعتبرت : [المتقارب]

مساكن غصّت بسكّانها

ولكن تراهنّ كالغامر (٤)

يظنّ بها الحسن ذو غرّة

وما حسن دار بلا عامر (٥)

[٤٦ / آ] ثم جبنا (٦) البرّيّة الرّديّة ، زدّيك معدن كل أذيّة ، سباخ (٧) تدهش النّواظر ، وتذهل (٨) بفرط ما تهول (٩) الخواطر (١٠) ، ومياه تحلّ قوى الأجسام

__________________

(١) في ط : د ع من أحب.

(٢) في ت : برأيه.

(٣) مصراته : مدينة من مدن طرابلس الكبيرة ، وهي ذات أهمية تجارية منذ القديم تقع شرقي مدينة طرابلس على نحو ١٩٠ كم. تاريخ طرابلس الغرب ١٢٩ حاشية رقم ٢. وقال الوزان : تقع على شاطئ المتوسط وتبعد ١٠٠ ميل عن طرابلس. وصف افريقيا ٢ / ١١١.

(٤) الغامر من الأرض : الخراب. وهو خلاف العامر.

(٥) غرّ الرجل : جهل الأمور وغفل عنها.

(٦) في ت : جئنا. وجبت الشيء : إذا قطعته ، وجاب البرية : قطعها سيرا واجتازها.

(٧) السّباخ : الأراضي ذات نزّ وملح ، لا تكاد تنبت.

(٨) تذهل : تنسي.

(٩) تهول : تفزع.

(١٠) ـ الخواطر : واحدها خاطر. وهو ما يخطر بالذهن من رأي أو أمر.

٢٠٠