رحلة العبدري

أبو عبدالله العبدري

رحلة العبدري

المؤلف:

أبو عبدالله العبدري


المحقق: د. علي إبراهيم كردي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار سعد الدين للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
الصفحات: ٧٢٨

ومطالعهم ومراقبهم

وطوالعهم وثواقبهم

[٣٠ / آ] ومثالبهم ومناقبهم

ومعائشهم وعواقبهم (١)

ليست في المشي على عوج

نفس عدلت نفس ظلمت

نفس سلمت نفس ألمت

نفس جهلت نفس علمت

حكم نسجت بيد حكمت (٢)

ثمّ آنتسجت بالمنتسج (٣)

هذي دخلت هذي خرجت

هذي بقيت هذي درجت

هذي سلفت هذي عرجت

فإذا اقتصدت ثمّ انعرجت (٤)

فبمقتصد وبمنعرج (٥)

خاضت بحرا فيه لجج

صدّت قوما لمّا انتهجوا (٦)

وهدت قوما فيها ابتهجوا

شهدت بعجائبها حجج (٧)

قامت بالأمر على الحجج (٨)

__________________

(١) المثالب : العيوب. والمناقب : الخصال الجّيدة.

(٢) حكم جمع حكمة. نسجت هنا بمعنى قدرت.

(٣) انتسجت : بمعنى نفذت بالكاف والنون : كن فيكون. المنتسج : استعارة تصريحية لقدرته تعالى.

(٤) اقتصدت : اعتدلت. انعرجت : مالت.

(٥) المراد بقوله : فبمقتصد وبمنعرج : أي بمدبّر يدبّر أمرها.

(٦) في ط : لها انتهجوا. وانتهج الطريق : استبانه وسلكه.

(٧) في ط : فيها انتهجوا. حجج ، بضمّ الحاء : جمع حجّة أي البرهان أو الدليل.

(٨) الحجج ، بكسر الحاء : جمع حجة أي السنة.

١٤١

اقرع بابي أمل ورجا

واسلك هولا واركب لججا

فرجاء الله هدى ونجا

ورضا بقضاء الله حجى (١)

فعلى مركوزته فعج (٢)

احفظ أنفاسك كالسّعدا

واحذر أن تذهب عنك سدى (٣)

وانعم بالّلائح حين بدا

وإذا انفتحت أبواب هدى

فاعجل لخزائنها ولج (٤)

وتوخّ بقصدك ايتها

وارفع بالهمّة رايتها

وانهض كي تدرك غايتها

وإذا حاولت نهايتها

فاحذر إذ ذاك من العرج (٥)

اترك أمرا يجنيك أذى

والزم ذكرا يجزيك غذا (٦)

واهجر هجرا وهوى وبذا

لتكون من السّبّاق إذا (٧)

ما جئت إلى تلك الفرج (٨)

__________________

(١) الحجى : العقل.

(٢) عاج على الشيء : عرّج عليه ومال إليه.

(٣) في ط : كالصعدا.

(٤) لج : فعل أمر من ولج : أي دخل.

(٥) العرج : الميل عن الطريق المستقيم.

(٦) في ط : يجديك غدا.

(٧) البذاء : الفحش.

(٨) الفرج : المتّسع.

١٤٢

[٣٠ / ب]برهان الحقّ وحجّته

ولسان الصّدق ولهجته (١)

وطريق الرّشد ونهجته

فهناك العيش وبهجته (٢)

فلمبتهج ولمنتهج (٣)

نفس رضيت بالله جدت

شكرت نعما مهما شكدت (٤)

وكذلك إن بخلت جحدت

فهج الأعمال إذا ركدت (٥)

فإذا ما هجت إذا تهج

نفس كثفت فزجاجتها

خبثت بالهجر مجاجتها (٦)

وبدت في الذّنب لجاجتها

ومعاصي الله سماجتها (٧)

تزدان لذي الخلق السّمج (٨)

عرّج عن ساح مساحتها

واقبض راحا عن راحتها (٩)

فلتقوى الله وراحتها

ولطاعته وصباحتها (١٠)

أنوار صباح منبلج (١١)

__________________

(١) في ت : وبهجته.

(٢) في ط : فهناء العيش.

(٣) رواية الشطر في ت : فلمنتهج وبمنتهج. والمنتهج : الذي استبان طريقه وسلكه.

(٤) في ت : بالله حدت ، وفي ط : شكرت ، جدت : بلغت الغاية ، وشكدت : أعطيت من الشكد : الإعطاء.

(٥) هج : فعل أمر من هاج الشّيء بمعنى تحرّك وثار.

(٦) المجاجة : العصارة.

(٧) السماجة : القبح.

(٨) في ت : تزداد. وفي الأصل رسمت باء إلى جانب (لذي) ؛ فتقرأ أيضا : (بذي).

(٩) كذا في ت وط ، وفي الأصل : ولطاعته وصباحتها ، كررّها في البيتين ، وهو سهو.

(١٠) ـ صباحتها : إشراقها وجمالها.

(١١) ـ منبلج : مشرق ومنير.

١٤٣

فادخل في منسب منصبها

واسلك في مسلك مكسبها

واسمك في مطلع مطلبها

من يخطب حور الخلد بها

يظفر بالحور وبالغنج (١)

يا من بالحسن هوى علقا

جرّد عزما وانف العلقا (٢)

حورا عينا تهوى علقا

فكن المرضيّ لها بتقى (٣)

ترضاه هوى وتكون نجي (٤)

بمعاصي الله القلب أذي

وبطاعته عوفي وغذي (٥)

فيها في كلّ حلاك خذ

واتل القرآن بقلب ذي

حزن وبصوت فيه شج (٦)

فحجاب النّفس وآفتها

عجب توليه سلافتها (٧)

وأمان الطّرق مخافتها

وصلاة اللّيل مسافتها

[٣١ / آ] فاذهب فيها بالفهم وجي (٨)

__________________

(١) الغنج : الدلال.

(٢) في ط : المعلقا. والعلق : المشاغل.

(٣) علق : أحبّ.

(٤) كذا في المنفرجة. يريد : نجيّا ، لكنّه خفّف وسكّن ضرورة.

(٥) غذي : أطعم.

(٦) شج : حزين.

(٧) السّلافة من كل شيء : خالصه.

(٨) أصلها وجيء : من الجيئة ، وحذفت الهمزة للضرورة الشعرية.

١٤٤

واعمر بالذّكر محانيها

واقطف بالفكر مجانيها (١)

والزم ما عشت مغانيها

وتأمّلها ومعانيها

تأت الفردوس وتفترج

والهج بلطائف محجرها

وابهج بطرائف متجرها (٢)

وبمبرّدها ومهجّرها

واشرب تسنيم مفجّرها (٣)

لا ممتزجا وبممتزج (٤)

ما من خلق أنشاه سدى

كلّ بالأمر بدا وغدا

أعمى من شا أزلا وهدى

مدح العقل الآتيه هدى

وهوى متولّ عنه هجي (٥)

هذا بحر وإفاضته

ما غضّت منه إغاضته (٦)

والصّعب تقدّم راضته

وكتاب الله رياضته (٧)

لعقول الخلق بمندرج

__________________

(١) في حاشية الأصل : «لعلّه : معانيها».

(٢) المحجر : ما حول القرية.

(٣) تسنيم : ماء في الجنّة.

(٤) أفاد من قوله تعالى في سورة المطففين ٢٧ : (وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ. عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ).

(٥) متولّ عنه : منصرف والضمير يعود على العقل. هجي : من الهجاء.

(٦) في ط : عنه.

(٧) الصّعب : نقيض الذلول.

١٤٥

أسباب الخوف حداتهم

وأولو التّثبيط عداتهم

وله لا تكمل ذاتهم

وخيار الخلق هداتهم

وسواهم من همج الهمج (١)

جنّب عبدا جهلا غفلا

واترك بدرا إمّا أفلا (٢)

وحز الإقدام تحز نفلا

فإذا كنت المقدام فلا (٣)

تجزع في الحرب من الرّهج (٤)

وارقب برقا للسّرّ بدا

وامدد لكريم الوعد يدا

واعمر أوقاتك مجتهدا

وإذا أبصرت منار هدى

فاظهر فردا فوق الثّبج (٥)

لله جباه قد سجدت

في جنح اللّيل وما هجدت (٦)

أضناها الشّوق وما وجدت

وإذا اشتاقت نفس وجدت (٧)

[٣١ / ب] ألما بالشّوق المعتلج (٨)

__________________

(١) الهمج : الرعاع من الناس.

(٢) أفل : غاب.

(٣) في ط : المقدم ، والنّفل : الغنيمة والهبة.

(٤) في ت وط : الهرج. والرّهج : غبار الحرب.

(٥) ثبج الرمل : معظمة ، وما غلظ من وسطه ، وقال الشيخ الأنصاري «الثبج : أي الوسط أو المعظم من منار الهدى» انظر طبقات الشافعيّة الكبرى ٨ / ٥٨ حاشية ٩.

(٦) هجد : نام.

(٧) وجد : شكا.

(٨) المعتلج : المتكاثر.

١٤٦

أهواء النّفس مماحكة

ورياض الأنس ملاحكة (١)

وشموس الفضل مضاحكة

وثنايا الحسنا ضاحكة (٢)

وتمام الضّحك على الفلج (٣)

وبروق الرّحمة قد لمعت

وغيوث النّعمة قد همعت (٤)

ومعاني الحكمة قد جمعت

وعياب الأسرار اجتمعت (٥)

بأمانتها تحت الشّرج (٦)

شمّر بطريقك لا حبه

واسلك قصدا بمصاعبه (٧)

فالقصد هدى لمصاحبه

والرّفق يدوم لصاحبه

والخرق يصير إلى الهرج (٨)

واقمع شهواتك بالزّهد

واكحل أجفانك بالسّهد

وصل الصّلوات لمن يهدي

صلوات الله على المهدي ال (٩)

هادي النّاس إلى النّهج (١٠)

__________________

(١) المماحكة : الملاجّة في الكلام ، والملاحكة : شدة التئام الشيء بالشيء.

(٢) ثنايا الإنسان : هي أربعة أسنان في مقدّم فيه ، ثنتان من فوق وثنتان من أسفل.

(٣) فلج الأسنان : تباعد ما بينها. وهو حسن فيها.

(٤) في ت : بروج الرحمة. وهمعت : نزلت.

(٥) عياب : جمع عيبة ، وهي وعاء من جلد تصان فيه الأمتعة كالثياب.

(٦) الشّرج : العرى.

(٧) اللحب والّلاحب : الطريق الواضح.

(٨) الخرق : الحمق. والهرج في الحديث : التخليط فيه.

(٩) في ط : المهتدي ، وبها لا يستقيم الوزن.

(١٠) ـ النّهج : الطريق المستقيم الواضح.

١٤٧

وإمام الخلق وخيرته

ووسيلته وذخيرته

وعلى خلصان عشيرته

وأبي بكر في سيرته

ولسان مقالته اللهج (١)

الشّاهر سيف صرامته

ومجهّز جيش عرامته (٢)

لمسيلمة ويمامته

وأبي حفص وكرامته (٣)

في قصّة سارية الخلج (٤)

قالي الدّنيا ذي الطّمرين

ومزيل الرّيب مع الرّين (٥)

ومذيق الكفر المرّين

وأبي عمرو ذي النّورين ال (٦)

 ـ مستهدي المستحيي البهج

[٣٢ / آ] قال الشّيخ أبو عبد الله ـ رحمه‌الله ـ : هذا النّظم على أنّ الشّطر النّون ، وهو الّذي تسبق إليه الظّنون ؛ وأمّا على أنّ الشّطر اللّام ـ وهو الّذي يرتضيه الأعلام ـ فيكون الرّصف والنّظام ، والوصف الّذي يقتضيه الإعظام : [المتدارك]

__________________

(١) اللهجة واللهجة : جرس الكلام.

(٢) العرام : الشدة والقوّة.

(٣) مسيلمة الكذاب ، كان في اليمامة. وأبو حفص : عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه.

(٤) هو سارية بن زنيم بن عبد الله بن جابر الكناني : صحابّي من الشعراء القادة الفاتحين ، جعله عمر أميرا على جيش وسيّره إلى بلاد فارس سنة ٢٣ ه‍ ففتح بلادا ، وهو المعنيّ بقول عمر : يا سارية الجبل الجبل. توفي سنة ٣٠ ه‍ انظر الإصابة : ٢ / ٢ ـ ٣ وأضاف سارية إلى الخلج ، بضم الخاء واللام : قوم من العرب من عدوان. طبقات الشافعية الكبرى ٨ / ٥٩ ، حاشية ٥.

(٥) الرّين : الصدأ.

(٦) أبو عمرو : عثمان بن عفان رضي‌الله‌عنه.

١٤٨

المنعم في اللأوا المجمل

والمعمل للشّورى المكمل (١)

والقامع للشّرك المحمل

وأبي عمرو ذي النّورين ال

 ـ مستهدي المستحيي البهج

جلّى عن جيش العسر أذى

وحمى عن عين الحقّ قذى

وأضا عينا رمقت وقذى

وأبي حسن في العلم إذا (٢)

وافى بسحائبه الخلج (٣)

بدر يلتاح بهالته

ويدلّ بنور دلالته

وغيوم علوم مقالته

تزهو الدّنيا بجلالته

ومحبّ فيه بذاك حجي

وعلى باقي تلك العشره

وذوي الرّضوان لدى الشّجره

وليوث صحابته الخيره

ونجوم هدايته البرره (٤)

أهل الإخلاص مع الثّلج (٥)

زاد المصريّ رحمه‌الله :

ربّي هب لي علما يعلي

يشفي ظمئي ويقي عملي (٦)

ويحقّق في الزّلفى أملي

واحم النّحويّ مع ابن علي

بجلال علاك من الوهج

__________________

(١) في ط : الّلأواء ، وبه لا يستقيم الوزن. والّلأواء : ضيق العيش وشدّته.

(٢) كذا في ت ، وفي الأصل وط : وأخاعين ، ولا وجه له. وقوله : وأبي عطف على ما تقدّم في الأبيات السابقة.

(٣) السحابة الخلوج : الكثيرة الماء شديدة البرق.

(٤) في ت وط : هوايته.

(٥) الثّلج : الفرحون بالأخبار.

(٦) في ت : عملا يعلي.

١٤٩

قلت : وفي كثير من هذا التّخميس مقال ، وليس لبعض أقسامه بالبيت اتّصال ، وأمّا ما خمّس به أوّلا قوله :

 ...................................

وأبي عمر وذي النّورين ال

فغلط لا شكّ فيه ؛ لأنّه يؤدّي إلى قطع همزة «المستهدي» ، وبقطعها ينكسر [٣٢ / ب] البيت لزيادة حرفين على وزن الخبب ، وأظن أنّه نبّه على هذا ولم يفته علما ، فلذلك بقي على اعتقاد صحّة الوجه الأوّل.

وأما قوله :

 ...................................

صلوات الله على المهدي ال

وأظنّه خفّف فيه الياء وقطع الهمزة بعدها ليتأتّى له التّخميس ؛ لأنّ الأقسام تبنى على التّرنّم كحرف الرّويّ ، وذلك موجب للمدّ والإدغام يمنعه ، ولو بنى الأقسام على الياء المشدّدة كما هي في عروض البيت لزاد حرفا في أوّل القسم الرّابع ضرورة ؛ لأنّ حركة الياء تكون إذا في كلّ قسم معدودة من الّذي بعده لإدماج البيت ؛ فإذا عدّت من (١) القسم الرّابع ـ وقد قام وزنه ـ كانت زائدة وانكسر الوزن ضرورة ، وبالله التّوفيق.

وقرأت أيضا على صاحبنا أبي عبد الله بعض كتاب «المذهبة في الحلي والشّيات» (٢) ثم قرأت عليه جميعها في المرّة الثّانية حسبما يأتي ذكره إن شاء الله ؛ وحدّثني بها عن الشّيخ الفقيه العالم أبي الجيش محمّد بن إبراهيم بن أحمد الأنصاري قراءة ، وعن أبي إسحاق إبراهيم بن محمّد الأزديني ـ بياء ونون بعد الدّال ـ كلاهما عن ناظمها الشّيخ الفقيه القاضي أبي عبد الله محمّد بن عيسى بن أصبغ بن المناصف (٣) ـ رحمه‌الله ـ.

__________________

(١) في ط : في.

(٢) هي أرجوزة تحتوي على ألف بيت مزدوجة ، قرأها الوادي آشي على أبي عبد الله اللبيدي. انظر برنامج الوادي آشي ٣٠٤ ، كما قرأها التّجيبي على أبي عبد الله بن صالح ، انظر برنامج التّجيبي ٢٨٣.

(٣) هو محمد بن عيسى بن محمد بن أصبغ الأزدي : أديب ، عالم من أهل قرطبة ، استوطن إفريقية ، وانتفع به كثيرون. ولد سنة ٥٦٣ ه‍ وتوفي سنة ٦٢٠ ه‍ ، له مؤلفات منها : «الإنجاد في أحكام الجهاد» و «المذهبة» و «المعقبة» و «الدرّة» في الفقه وأصوله ، انظر ترجمته في : برنامج شيوخ الرّعيني ١٢٨ ـ ١٢٩ ، المغرب ١ / ١٠٥.

١٥٠

[مشاركات فقهيّة]

وقد رأيت أن أقيّد هنا شيئا ممّا وقع كلامي فيه بمدينة تونس كلأها الله تعالى ، مستعينا بالله ومستهديا له. فمن ذلك أنّ بعض أصحابنا من طلبتها ـ حفظهم الله ـ حكى لي عن الفقيه الزّاهد المتصوّف (١) أبي محمّد المرجانيّ (٢) أنه سئل في مجلسه عن سبب فرار الشّيطان من الأذان دون الصّلاة ، وشأنها أعظم. ثم أجاب عن هذا بأجوبة منها أنّه يفرّ من الأذان لئلّا يشهد به للمؤذّن ، إذ لا يسمعه (٣) شيء إلا شهد له يوم القيامة. قلت : كأنّه من فرط حسده يروغ عن الشّهادة له ، وإن علم أنّه مستغن عنها ، كما ترى الحسود يتلكّأ في الشّهادة لمن حسده [٣٣ / آ] بفضيلة أو حقّ ، وإن كان في غنى عن شهادته لقيام غيره بها. ولكنّ هذا الجواب يردّ [عليه](٤) مثل السّؤال الأوّل ، وهو لم خصّ الأذان بشهادة كلّ شيء سمعه دون الصّلاة؟. فكأنّه سئل : لم خصّ (٥) الأذان بفرار الشّيطان منه؟ فقال : لأنّه خصّ بشهادة الأشياء له ، ومنها أنّ الأذان بمثابة دعاء الملك لخاصّته لحضور سرّ ، وإذا دعا الدّاعي تميّزت خاصّة الملك من غيرهم. قلت : وهذا جواب غير محصّل ، فإنّ التّمييز إنّما يكون عند حضور السّرّ ، فكأنّ فرار الشّيطان من الصّلاة أنسب

__________________

(١) ليست في ت.

(٢) هو عبد الله بن محمد العرشي المرجاني ، فقيه ، واعظ ، صوفي ، قدم مصر ووعظ بها واشتهر في البلاد. ومات بتونس سنة ٦٦٩ ه‍ وامتحن وأفتى العلماء بتكفيره ولم يؤثر فيه فعملوا عليه الحيلة وقتلوه. ترجمته في وفيات ابن قنفذ ٣٣٥ ـ طبقات الشعراني ١ / ٢٠٣ ـ شذرات الذهب ٥ / ٤٥١.

(٣) في ط : لا يسميه.

(٤) من ت وط.

(٥) في ت وط : يخصّ.

١٥١

لهذا المعنى إذ هي السّرّ الّذي دعي إلى حضوره ، وقد سمّاها النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم مناجاة فقال : «إنّ المصلّي يناجي ربّه فلينظر بما يناجيه به» (١).

ومنها أنّه يفرّ من الأذان ويرسل على المصلّي ليقع اختبار المخلص من غيره. قلت : وهذا قاصر جدا فإنّه لم يزد على ما في الحديث من تسلّطه في الصّلاة ، وعدم تسلّطه في الأذان ، ولم يجب عن السّؤال بشيء. وهذه الأجوبة على وهيها أمثل ما حكي لي عنه.

وقد كنت أجبت النّاقل عنه حين أورد السّؤال عليّ ، قبل أن يذكر أجوبته ، بأنّه يمكن أن يقال : إنّ طاعة الله بالجملة محاربة للشّيطان ، وجهاد له ، والعدوّ إنّما يفرّ عند كشف الغطاء وبلوغ الغاية في المجاهرة بالعداوة ، وليس في العبارات (٢) أبلغ في هذا المعنى من الأذان وقد عرضت هذا الوجه على الشّيخ الفقيه الصّالح أبي محمّد عبد الله بن عبد السّيّد بمدينة أطرابلس (٣) فاستحسنه وقال لي : إنّ هذا يؤكّده قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ساعتان تفتح لهما أبواب السّماء ، وقلّ داع تردّ عليه دعوته ؛ حضرة النّداء للصّلاة ، والصّفّ في سبيل الله (٤)» يعني أنّهما ساعتا جهاد.

__________________

(١) أخرجه ابن حنبل في مسنده ٤ / ٣٤٤ ومالك في الموطأ ٦٣ والبيهقي في سننه ٣ / ١٢ وكنز العمال ٧ / ٥٢٩.

(٢) في ط : العبادات.

(٣) أطرابلس : مدينة ليبية على شاطئ البحر. انظر ياقوت ١ / ٢١٧.

(٤) الحديث في الطبراني الكبير ٦ / ٤٠ و ١٥٩ ـ البيهقي ١ / ٤١١ ـ الجامع الصغير ٢ / ٣٠ ـ كنز العمال ٢ / ١٠١ ـ فيض القدير ٤ / ٨١.

١٥٢

وأجاب عن هذا بعض أصحابنا بأنّ المؤذّن داع للخير ، والشّيطان داع إلى الشّرّ ، والضّدّان لا يجتمعان ، وهذا مليح رشيق ، وفي مثل هذا [٣٣ / ب] المجال متّسع للكلام وبالله التّوفيق.

وأمّا تخصيص الأذان بالشّهادة له (١) فيمكن أن يقال : إنّ ذلك لأنّه دعاء إلى الله ، وإقامة حجّة على عباده ، فاحتيج إلى الشّهادة على التّبليغ (٢) كما احتيج (٣) إليها للفصل بين المتحاكمين ، فهذه الشّهادة كشهادة الأمّة يوم القيامة بتبليغ الأنبياء إلى الأمم على ما جاء في الحديث ، والله أعلم.

ومن ذلك أن سائلا سأل عن قوله تعالى (أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما)(٤)(فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى)(٥) وقال : لم كرّر لفظ إحداهما (٦)؟ والأليق بالإيجاز أن يضمر فيكون الّلفظ : فتذكّرها الأخرى. وأجبت إذ ذاك بجواب غير مخلص حسبما حضرني ، ولم يكن لمن حضر فيه جواب ، ثمّ منّ الله جلّ وعلا بفهم المعنى في ذلك وهو بديع فيما أرى والله أعلم ، وهو أنّ إعادة لفظ «إحداهما» لتعادل الكلام ، وتوازن الألفاظ في التّركيب ، وتماثل أقسام الكلام فيما اشتملت عليه من المفردات وهو المعنى ، في التّرصيع ، ولكنّ هذا أبلغ وأبدع لأنّ التّرصيع توازن الألفاظ من حيث صيغتها ، وهذا من حيث تركيبها

__________________

(١) ليست في ت.

(٢ ـ ٢) ـ سقط من ت وط.

(٣ ـ ٣) ـ سقط من ت.

(٤) البقرة : ٢٨٢.

١٥٣

وكأنّه ترصيع معنويّ وقلّما يوجد إلّا في نادر من الكلام ، وقد استغرب أبو الفتح بن جنّي (١) ما حكي عن المتنبّي في قوله : (٢) [الطويل]

وقد عادت الأجفان قرحا من البكا

وعادت بهارا في الخدود الشّقائق (٣)

قال : سألته هل هو قرحى ممال أو قرحا منّون؟ فقال لي : قرحا منّون ، ألا ترى أنّ بعده : وعادت بهارا. قال : يعني أن بهارا جمع بهارة (٤) ، وقرحا جمع قرحة. ثم أطنب في الثّناء على المتنبّي واستغراب (٥) فطنته لأجل هذا.

وبيان ما ذكرت في الآية أنّها متضمّنة لقسمين : قسم الضّلال وقسم التّذكير ، فأسند الفعل الثّاني إلى ظاهر حسب إسناد الأوّل ولم يوصل بضمير مفعول ، لكون الأوّل لازما ، فأتى بالثّاني على صورته من التّجرّد [٣٤ / آ] عن المفعول ، ثمّ أتى به أخيرا بعد اعتدال الكلام ، وحصول التّماثل في تركيبه ، ولو قيل : إنّ المفعول حذف لكان أبلغ في المعنى المذكور ، وتكون الأخرى بدلا أو نعتا على جهة البيان ، كأنّه قال : «إن كان ضلال من إحداهما ، كان تذكير من الأخرى» ، وقدّم على الأخرى لفظ إحداهما ليسند الفعل الثّاني إلى مثل (٦) ما أسند إليه الأوّل لفظا ومعنى والله أعلم.

__________________

(١) هو عثمان بن جنّي الموصلي من أئمة الأدب والنحو ، ولد في الموصل ، وقرأ على أبي علي الفارسي وصحبه أربعين عاما. توفي سنة ٣٩٢ ه‍ في بغداد. له ترجمة في بغية الوعاة ٢ / ١٣٢ ـ إنباه الرواة ٢ / ٣٣٥ ـ البلغة ١٣٧.

(٢) ديوانه ٢ / ٣٤٢.

(٣) في الديوان : وقد صات ، وصار.

(٤) أنظر كلام ابن جني فيما نقله عنه العكبري في شرح الديوان ٢ / ٣٤٢.

(٥) في ط : واستغرب.

(٦) ليست في ط.

١٥٤

ولمّا وقع السّؤال في هذا عرض لي سؤال في قوله تعالى في هذه الآية : (فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ)(١) وهو أنّ الضّمير في : «يكونا» للرّجلين لأنّ الشّهيدين قيّدا بأنّهما من الرّجال ، فكأنّ الكلام : فإن لم يكن الرّجلان رجلين وهذا محال. ولما سألت عن هذا لم يجب عنه أحد ، ثم أجابوا بعد ذلك بأجوبة غير مرضية ، منها ما قال الفارسيّ (٢) في قوله تعالى : (فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ)(٣) أنّ الخبر هنا أفاد العدد المجرّد من الصّفة ، وهذا ضعيف ؛ إذ وضع فيه لفظ الرّجلين موضع لفظ الاثنين ، وهو تجوّز بعيد.

والصّفة الّتي ذكر الفارسيّ التّجرّد منها هي الرّجوليّة أو الأنوثيّة أو غيرهما من الصّفات ، فكيف يكون لفظ موضوع لصفتها دالا على نفيها؟ وأيضا فإنّ جواب الفارسيّ فيه نظر ، وذلك أنّه لم يزد على أنّ جعل نفس السّؤال جوابا ، كأنّه قيل له : لم ذكر العدد وهو متضمّن الضّمير فقال : لأنّه يفيد العدد المجرّد فلم يزد إلا لفظ التّجرّد.

وممّا أجابوا به أنّ «رجلين» منصوب على الحال المبيّنة ، و «كان» تامّة وهذا أظرف من الأوّل فإنّه سئل عن وجه النّظم ، وأسلوب البلاغة ، ونفي ما لا يليق بها من الحشو ، فأجاب بالإعراب ، ولم يجب عن السّؤال بشيء ،

__________________

(١) سورة البقرة : ٢٨٢.

(٢) الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسي الأصل ، أحد أئمة العربية. دخل بغداد سنة ٣٠٧ ه‍ وقدم حلب سنة ٣٤١ ه‍ ، وأقام مدة عند سيف الدولة ، ثم عاد إلى فارس وتوفي سنة ٣٧٧ ه‍. ترجمته في إنباه الرواة ١ / ٢٧٣ ، بغية الوعاة ١ / ٤٩٦ ، البلغة ٥٣ وفيها وفاته سنة ٣٧٦ ه‍ ، شذرات الذهب ٣ / ٨٨.

(٣) سورة النساء : ١٧٦.

١٥٥

والّذي يردّ عليه وهو حال ، ومازدنا (١) إلّا التّكليف (٢) في جعله حالا. والّذي يظهر لي من الجواب في هذا هو أن «شهيدين» لمّا صحّ أن يطلق على المرأتين بمعنى شخصين شهيدين قيّده تعالى بقوله : (مِنْ رِجالِكُمْ)(٣) ، ثم أعاد الضّمير في قوله : (فَإِنْ لَمْ يَكُونا) [٣٤ / ب] على الشّهيدين المطلقين ، وكان عوده عليهما أبلغ ليكون نفي الصّفة عنهما كما كان إثباتها لهما ، فيكون الشّرط موجبا ومنفيّا عن الشّهيدين المطلقين ؛ لأنّ قوله (مِنْ رِجالِكُمْ) كالشّرط ، كأنّه قال : إن كانا رجلين ، وفي النّظم على هذا الأسلوب من الارتباط وتعانق الكلام ، وجريه على نمط واحد ما لا خفاء به ، كما أنّ في ضدّه من الاختلاف والتّزايل (٤) ، والتّدابر والتّخاذل ما يذهب رونق الكلام ، ويبلي جدّة (٥) الفصاحة وبالله التّوفيق.

والّذي يظهر لي أيضا من الجواب في قوله تعالى : (فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ)(٦). هو أنّ الضّمير (٧) هنا وضع موضع الظّاهر اختصارا (٨) لبيان المعنى ، بدليل أنّه لم يتقدّمه ما يعود عليه لفظا ، فكأنّه قال : فإن كان الوارث اثنتين ، ثم وضع ضمير الاثنتين موضع الوارث الّذي هو جنس لمّا كان المراد به الاثنين ؛ وأيضا فإنّ الإخبار عن الوارث ـ وإن كان جنسا ـ باثنتين فيه تفاوت ما ، لكونه مفرد اللّفظ ؛ فكان الأليق بحسن النّظم والأجرى (٩) على

__________________

(١) في ت : زادنا.

(٢) في ت : التكلّف.

(٣) البقرة : ٢٨٢.

(٤) ليست في ت.

(٥) في ت : جودة.

(٦) سورة النساء : ١٧٦.

(٧) في ت وط : المضمر.

(٨) في ت : انتصارا وهو تصحيف.

(٩) في ت : والجري.

١٥٦

منهج الإيجاز أن يوضع المضمر (١) موضع الظّاهر ، ثم يجري الخبر على من حدّث عنه ، وهو الوارث ، فيجري الكلام في طريقه ، مع الإيجاز في وضع المضمر موضع الظّاهر ، والسّلامة من تفاوت اللّفظ في الإخبار عن لفظ مفرد بمثنّى ؛ وهذا ـ لعمر الله ـ ممّا لا ينال إلّا بالتّأييد الإلهيّ ، والعصمة الرّبانيّة. ونظير هذا ممّا وضع (٢) فيه اسم موضع غيره إيجازا ، ثم جرى الكلام مجراه في الحديث عمّن هوله ، وإن لم يذكر قوله تعالى (وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ)(٣). فعاد هذا الضّمير والخبر على أهل القرية الّذين أقيمت القرية في الذّكر (٤) مقامهم ، فجرى (٥) الكلام مجراه مع حصول الإيجاز في وضع القرية موضع أهلها ، وفهم المعنى من غير كلفة ، وهذه الغاية في البيان يقصر عن مداها شأو الإنسان وبالله التّوفيق. [٣٥ / آ]

[ذكر القيروان]

ثم وصلنا إلى مدينة القيروان ، فدخلتها مجدّا في البحث غيروان (٦) ، فلم أر إلّا رسوما محتها يد الزّمان ، وآثارا يقال عنها : كان وكان ، والأحياء من أهلها جفاة الطّباع ، مالهم في رقّة الحضارة باع ، ولا في معنى من

__________________

(١) في ت : الضمير.

(٢) في ت : وقع.

(٣) سورة الأعراف : ٤.

(٤) «في الذكر» : سقط من ت.

(٥) في ت : لجري.

(٦) الونى : التّعب والفترة.

١٥٧

المعاني الإنسانيّة انطباع ، خفت نفس العلم بينهم فلم يبق به رمق (١) ، وكسدت سوق المعارف بينهم فياسخنة (٢) عين من رمق (٣).

والمدينة نفسها ليس لها برّ ولا بحر ، ولا سحر ولا نحر ، وضعت في سبخة (٤) قرعا ، لا ماء بها ولا مرعى ، ولا تنبت أصلا ولا تقلّ فرعا ، وما كان حالها في القديم إلا آي من آيات هذا الدّين القويم ؛ إذ أسّسها المخلصون من أهله ، المتمسّكون بحبله ، السّالكون لحزنه (٥) وسهله ، أهل الصّرائم (٦) النّافذة الماضية ، والصّوارم القاضبة القاضية ، والهمم الغالبة العالية ، فرسان (٧) الحراب والمحراب (٨) ، وليوث الطّعان والضّراب ، رضي‌الله‌عنهم ما ساح في الدّوّ (٩) فدفد (١٠) ، ولاح في الجو فرقد ، وقد كان شأن القيروان في غابر الأزمان بحيث لا يجهله إنسان ، ولا يحصّله لسان. حسبك ببلد وضعت الأوضاع في فضله ، وملئت الأسماع من وصف (١١) وابله وطلّه ، مأوى العلماء

__________________

(١) الرّمق : بقية الحياة.

(٢) سخنت العين : ضد قرّت.

(٣) الرّمق : إدامة النظر.

(٤) السّبخة : أرض ذات ملح ونزّ.

(٥) الحزن : ما غلظ من الأرض.

(٦) في ت وط : الغرائم ، والصريمة : العزيمة على الشيء وقطع الأمر.

(٧) في ت : فلسان ، وهو تصحيف.

(٨) ليست في ت.

(٩) الدّو : الفلاة الواسعة.

(١٠) ـ فدفد الرجل : إذا عدا هاربا من سبع أو عدو. التاج : فدّ.

(١١) ـ ليست في ت.

١٥٨

والصّلحاء في حياتهم ، وكفاتهم (١) بعد وفاتهم. بلد يناظر به إقليم ، ومتى ذكر علماؤه فليس إلّا التّسليم ، ولكنّها الأيّام إذا أعطت أخذت ، وكلما عطت (٢) نبذت ، لا تلوي على متعذّر (٣) ، ولا تعرف فضل المعذر على المعذر ، إن سالمت مالست (٤) ، وإن هادنت (٥) داهنت. وإن رافقت فارقت ، ومهما حلت ما حلت ، (لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ)(٦) فليكن العاقل منها على حذر (٧) : [البسيط]

لا تطمئنّ إلى حظّ حظيت به

ولا تقل باغترار : صحّ لي وثبت

فما اللّيالي وإن أعطت مقادتها

إلّا عدا المرء مهما استمكنت وثبت (٨)

ولم أر بالقيروان ما يؤرّخ ولا ما (٩) يتهمّم بذكره سوى جامعها ومقبرتها.

__________________

(١) الكفات : الموضع الذي يضمّ فيه الشيء ويقبض. وكفات الأرض : ظهرها للأحياء ، وبطنها للأموات وهو المقصود هنا ؛ وقد استفاد من الآية ٢٥ من سورة المرسلات (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً. أَحْياءً وَأَمْواتاً).

(٢) في الأصل : أعطت ، وفي ت : عضت ، وأثبتّ ما جاء في ط وهو الصواب ؛ وعطا الشيء : تناوله.

(٣) في ت : معذر.

(٤) في ت : سلمت ، وفي ط : سالمت.

(٥) في ط : هادت ، وفي ت : هدنت.

(٦) سورة المدثر ، من الآية : ٢٨.

(٧) البيتان في الحلل السندسية ١ / ٢٤٦ دون نسبة.

(٨) في ت : أعطت صداقتها

(٩) ما : ليست في ت.

١٥٩

[جامع القيروان]

أما جامعها : فهو من الجوامع الكبار ، المتقنة الرّائقة المشرقة الأنيسة ، ووسطه [٣٥ / ب] فضاء متّسع ، وكان المؤسّس له ، والمقيم لقبلته الرّجل الصّالح عقبة بن نافع الفهريّ (١) ، المعروف بالمستجاب ، مع جماعة من الصّحابة والتّابعين ، وهم المؤسّسون لمدينة القيروان.

ويحكى أنّه لمّا أمرهم ببنائها قالوا له : إنّك أمرتنا أن نبني في شعب (٢) وغياض ، ونحن نخاف من السّباع والهوام ، فمضى معهم حتّى وقف عليها وقال : أيّتها السّباع والهوام ؛ إنّا أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أردنا أن ننزل ههنا ، فارحلن عنّا. فرأى النّاس عجبا ؛ رأوا الأسود تحمل أشبالها ، والذّئاب تحمل أجراءها ، والحيّات تحمل أولادها حتّى ارتحلن جميعا.

ويقال : إنّه قد مرّ عليها أربعون سنة لم ير (٣) فيها حيّة لدعوته رضي‌الله‌عنه ، فلمّا بنوها طاف حولها عقبة وأصحابه ودعوا الله لها (٤) وأسّسوا مسجدها ، وأقام عقبة قبلتها (٥) برؤيا رآها (٦) ، وقد سألت إمام جامعها ومن حضر معه عن سمت قبلته (٧) فلم أجد أحدا منهم يعرفه ، ولم أبت به فأتعرّف

__________________

(١) عقبة بن نافع الفهري : قائد ، فاتح ، ولاه عمرو بن العاص إفريقية ففتح كثيرا من البلدان حتى وصل إلى البحر المحيط ، قتله الفرنجة في تهودة مع مجموعة من جنوده سنة ٦٣ ه‍. انظر ترجمته في رياض النفوس ١ / ٦٢ ـ البيان المغرب ١ / ١٩ ـ ٣٢ ـ الاستقصا ١ / ٣٦ ـ ٣٨.

(٢) في ت : شعاب ، وفي ط : شعراء.

(٣) في ت مما : ترى.

(٤) ليست في ت وط.

(٥ ـ ٥) ـ سقطت من ت.

(٦) ذكر أبو زيد الدباغ تفصيل ذلك فقال : «اختلف الناس في قبلة هذا المسجد ، فاغتمّ عقبة لذلك ودعا الله عزوجل فأتاه ات في منامه وقال له : إذا أصبحت فاحمل لواءك على عاتقك ، ـ

١٦٠