رحلة العبدري

أبو عبدالله العبدري

رحلة العبدري

المؤلف:

أبو عبدالله العبدري


المحقق: د. علي إبراهيم كردي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار سعد الدين للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
الصفحات: ٧٢٨

وسنان أقصده النّعاس فرنّقت

في عينه سنة وليس بنائم

وأفرطوا حتّى جعلوه مرضا ، فقال النّابغة : (١) [الكامل]

نظرت إليك بحاجة لم تقضها

نظر السّقيم إلى وجوه العوّد (٢)

وتبعه جرير فقال : (٣) [البسيط]

إنّ العيون الّتي في طرفها مرض

قتلننا ثمّ لم يحيين قتلانا

[٢٠ / آ] وأمّا المحاجر فما وصفها أحد بالوسن فيما أعلم.

وترتيب اللّوذعيّ مع وصف المحاجر ، كترتيب الدّلّ مع الشّنب (٤) ، والتّحاكم في ذلك إلى كثير ؛ وقوله : «معنوي» بعد : منخنث المعاطف ، أبعد من هذا ؛ ولقد استربت به حتّى ظننت أنّه مصحّف ، ولا أتبرأ فيه من تصحيف. وذكر الانخناث في المعاطف ليس بدون هذا في القبح ، فإنّ اللّفظ وإن كان له أصل في اللّغة في اللّين والتّثنّي ، فقد رفعه كثرة (٥) الاستعمال في وجه آخر ، وإنّما جرت عادة الشّعراء في وصف المعاطف بذكر التّثنّي واللّين والانعطاف لا (٦) بالانخناث.

__________________

(١) ديوانه : ٣٥.

(٢) في الديوان : المريض.

(٣) ديوانه : ١ / ١٦٣

(٤) الشّنب : جمال الثغر وصفاء الأسنان. ويشير العبدريّ هنا إلى قصة الكميت بن زيد عندما أنشد نصيبا فاستمع له فكان فيما أنشده :

وقد رأينا بها حورا منعّمة

بيضا تكامل فيها الدّلّ والشّنب

فثنى نصيب خنصره فقال له الكميت : ما تصنع؟ قال : أحصي خطأك. تباعدت في قولك : تكامل فيها الدّلّ والشّنب هلّا قلت كما قال ذو الرمة :

لمياء في شفتيها حوّة لعس

وفي اللّثاث وفي أنيابها شنب

انظر الأغاني : ١ / ٣٤٨ حاشية ٣.

(٥) في ط : كثير

(٦) قوله : لا ، ليس في بقية النسخ.

١٠١

وقوله : «رشا رباطي» لفظ مختلّ (١) جاف ، ما جلبه إلّا التّجنيس ، وإذا وجد الرّشاء والرّباط فما بقي إلّا الضّرب ؛ وأيّ رقّة مع هذه الألفاظ الجافية؟ ولو قال : رشا ارتباطي لكان أقرب مع بعده ؛ لأنّه أراد التّماسك والتّثبّت ، فالارتباط به أليق.

وقوله : «مغاربهنّ في قلب الشّجيّ» خارج عن اعتدال الكلام ؛ فإنّه أراد بما ذكر من غروبهنّ في القلوب اشتمالها على حبّهنّ ، وليس إذا غرب حبّهنّ في القلوب فقد غربن فيها ؛ ولا يحسن أن يقال : «مطالعهنّ (٢) قطرفاس ، ومغرب حبّهن قلب الشجيّ» ، وإنّما يحسن أن يذكر في غروبهنّ (٣) ما يغيّبهنّ عن النّواظر كالخدور (٤) ونحوها ، وبذلك جرت عادة الشّعراء ، وهو مستعمل كثير ، نحو قوله : [الكامل]

قمر إذا استخجلته بعتابه

لبس الغروب ولم يعد لطلوع

ونحو منه قول أبي الطّيّب : (٥) [الكامل]

بأبي الشّموس الجانحات غواربا

 .................................

فهذا الرّجل لم يخالف مبدعا ، ولم يوالف متبعا.

__________________

(١) في الأصل : محتمل ، وهو تصحيف.

(٢) في ط : مطلعهنّ.

(٣) زاد في ت : غروبهنّ في القلوب.

(٤) في ط : كالخدود.

(٥) صدر بيت ، عجزه : «اللّابسات من الحرير جلاببا» وهو مطلع قصيدة للمتنبيّ في مدح علي بن منصور الحاجب : في ديوانه ١ / ١٢٢.

١٠٢

وقوله : «بدور بل شموس بل صباح» نزول مفرط ، وعكس للرّتبة ؛ فإنّ الشّمس أشهر من الصّباح وأنور ، والانتقال عن التّشبيه بالأعلى إلى الأدنى أشبه بالذّمّ منه [٢٠ / ب] بالمدح ، ولا سيّما مع الإضراب.

وقوله : «بهي في بهيّ في بهيّ» غير منطبق على صدر البيت ، ولا ملائم له ، ولو قال : «بدور في خدور في قصور» لجاء عليه عجز البيت أليق من العقد بجيد الحسناء ، وأوفق من الجود (١) للرّوضة الغنّاء.

وقوله : «إذا أنسوني الولدان حسنا» ضعيف ساقط ؛ لأنّ التّشبيه والتّمثيل (٢) يجب أن يكونا في كلّ صنعة بما تعارفه أهلها واشتهر عندهم ، هذا على تقدير التقّييد في الولدان ، فكيف واللّفظ بهم مطلق (٣) ، يدخل تحته كلّ ما يسمّى ولدا.

وقوله : «فهذا بالغدوّ يهيم غربا» كلام غير محصّل ؛ فإنّ الجسم العريّ من القلب لا يهيم ، وإنّما يهيم القلب ؛ وليست الباء هنا ظرفية بمعنى «في» ؛ لأنّ الهيمان لا يتخيّر الأوقات ، وما أضعف حبّا لا يهيج (٤) إلّا مرّة في اليوم ، وإنّما هي للإلصاق ؛ أي : هذا يشتاق في وقت الغروب إلى الغدوّ ، وذلك في وقت الشّروق إلى العشّي ، شوقا من هذا إلى الشّرق ، ومن ذاك إلى الغرب ؛ وهو معنى حسن لو ساعده اللّفظ.

__________________

(١) الجود : المطر الغزير.

(٢) في ت : التمثيل والتشبيه.

(٣) بدا للمصنّف أن لفظ «الولدان» بهم مطلق ، غير أنّه يبدو لي أنّ الشاعر أراد الولدان المخلّدين الذين ورد ذكرهم في الآية الكريمة رقم (١٩) من سورة الإنسان.

(٤) في ط : يهيم.

١٠٣

[ذكر بونة]

ثمّ وصلنا إلى مدينة بونة (١) ، فوجدناها بلدة بطوارق الغير مغبونة ، مبسوطة البسيط ولكنّها بزحف النّوائب مطويّة مخبونة (٢) ؛ تلاحظ من كثب فحوصا (٣) ممتدّة ، وتراعي من البحر جزره ومدّه ؛ تغار لها العيون من جور النّوائب ، وتأسى لها النّفوس من الأسهم الصّوائب. وقد أزعج السّفر عن حلولها ، فلم أقض وطرا من دخولها. ومن أغرب المسموعات أنّا صادفنا ـ وقت المرور بها ـ زويرقا (٤) للنّصارى ، لا تبلغ عمارته عشرين شخصا ، وقد حصروا البلد حتّى قطعوا عنه الدّخول والخروج ، وأسروا من البرّ أشخاصا فأمسكوهم للفداء بمرسى البلد ، وتركناهم ناظرين في فدائهم. ومن مولانا اللّطيف الخبير نسأل اللّطف بنا في أحكام [٢١ / آ] المقادير.

[ذكر خولان]

ثمّ مررنا على قرية خولان ، ولم يعرّج عليها من صحبنا إنسان ، ولم أر بها ما يتعرّض له ببيان (٥) ، ولا يعمل فيه قلم ولا لسان ، سوى أنّ فناءها رحب المسرح ، وبسيطها أبسط من غيره وأشرح ، ولكنّ أيدي الخطوب قد زوته (٦) فانزوى ، وأظمات أهلها وهم شرّع في الماء الرّوى.

__________________

(١) بونة : مدينة جزائرية على ساحل البحر المتوسط ، وتعرف اليوم بعنّابة ، تبعد ١٢٠ ميلا شرق قسنطينة. انظر وصف إفريقيا : ٢ / ٦١.

(٢) تورية بمصطلحات العروض «البحر البسيط» و «الزحافات» و «الطيّ» و «الخبن». والطيّ في العروض حذف الرابع من مستفعلن ومفعولات. ويكون في البسيط والرجز والمنسرح انظر الوافي للخطيب التبريزي : ٢٠٦. والخبن : حذف الثاني الساكن انظر الوافي : ٢٠٦. ومخبونة هنا بمعنى : مقلّصة.

(٣) الفحص : ما استوى من الأرض.

(٤) في ت وط : زورقا.

(٥) في ت : ببنان.

(٦) زوى الشيء : جمعه وقبضه.

١٠٤

[ذكر باجه]

ثمّ وصلنا إلى مدينة باجة (١) ، وهي مدينة جرّعها الدّهر أجاجه (٢) ؛ قد هتكتها الأيدي العادية ؛ وفتكت فيها الخطوب المتمادية ، حتّى صارت وهي حاضرة بادية ؛ فخشوعها لائح وضراعتها بادية ؛ وقد حدّثت بها أنّ أهلها لا يفارقون السّور خوفا من العربان ، وأنّهم يستعدّون لدفن الجنائز كما يستعدّ (٣) ليوم الضّراب والطّعان. ولم نقم (٤) بها إلّا ظلّ نهار ، فلم أختبر لذلك حالها حقيقة الاختبار.

[لقاؤه لأبي علي الطّبليّ]

وما رأيت بها من له إلى العلم انتماء ، أو لهمّته نحو المعارف ارتماء (٥) ، سوى الأديب النّحويّ أبي عليّ حسين بن محمّد الطّبلي ؛ بالطّاء والباء السّاكنة بواحدة ؛ وهو رجل له مقول منقاد ، وذهن مشتعل وقّاد ، حسن الخلق مقبول الصّورة ، ولكنّ همّته فيما رأيت على علم العربيّة مقصورة ، وقد جمع أكثر مؤلّفاتها ، واحتفل في تحصيل مصنّفاتها ، فاجتمع له من (٦) ذلك ما دلّ على نبله ، وأعانه على تسديد نبله ؛ سألته عن نسبته المتقدّمة فقال لي : هو لقب جرى علينا قديما واشتهرنا به. وقد قرأت عليه بعض كتاب «المقرّب» (٧) في

__________________

(١) باجة : بلد بإفريقية كثيرة القمح ، بينها وبين تنس يومان. تبعد ٢٥ ميلا عن البحر المتوسط و ٦٥ ميلا عن تونس. انظر وصف إفريقيا : ٢ / ٦٦.

(٢) الأجاج : الماء الشديد الملوحة.

(٣) في ت وط : يستعدّون.

(٤) في ط : أقم.

(٥) في ت : ارتقاء.

(٦) في ت : في ذلك.

(٧) طبع الكتاب في بغداد بتحقيق أحمد عبد الستار الجواري وعبد الله الجبوري.

١٠٥

النّحو ، وحدّثني بجميعه قراءة على مؤلّفه الشّيخ الأستاذ النّحوي أبي الحسن عليّ بن مؤمن بن محمّد بن عليّ بن أحمد بن محمّد بن أحمد بن عمر بن عبد الله بن منظور بن عصفور الحضرميّ الإشبيليّ ، وقيّد لي هذا النّسب بخطّه ، وذكر لي أنّ ابن عصفور أملاه عليه ، وأنّ مولده عام السّيل بإشبيلية (١) [٢١ / ب] سنة سبع وتسعين وخمس مئة ، قال : وتوفي بثغر تونس ـ كلأه الله ـ يوم السّبت ، الرّابع والعشرين من ذي قعدة عام تسعة وستّين وستّ مئة. وحدّثني عنه بكتابه الكبير في «شرح الجمل» إجازة ، وحدّثني به وبغيره من تواليفه إجازة عنه شيخنا الفقيه المحصّل الرّاوية أبو زيد عبد الرّحمن بن محمّد الأسيدي (٢) بالقيروان (٣) وأفادني أبو عليّ المذكور حكاية عن أبي محمّد الحريريّ لم يذكر لها سندا ، وهي أنّ رجلا طلب منه إعارة كتاب كان يمسكه كثيرا للمطالعة فأنشده ارتجالا (٤) : [الطويل]

__________________

(١) إشبيلية : مدينة كبيرة بالأندلس ، تسمّى حمص أيضا ، وبينها وبين قرطبة ثمانون ميلا ، وبها كان بنو عباد. انظر الروض المعطار : ٥٨.

(٢) عبد الرحمن بن محمد بن علي الأنصاري من ولد أسيد بن حضير : مؤرخ ، باحث ، فقيه ، من أهالي القيروان ، له نظم جيّد ، ولد سنة ٦٠٥ ه‍ وتوفي سنة ٦٩٩ ه‍ ، أشهر تصانيفه : معالم الإيمان في معرفة أهل القيروان. ترجمته في معالم الإيمان : ٤ / ٨٩ ـ شجرة النور الزكية : ١ / ١٩٣ ، وفيها عبد الرحمن بن عبد السلام الأسيدي.

(٣) القيروان : مدينة عظيمة بإفريقية بناها عقبة بن نافع الفهري سنة ٥١ ه‍. انظر ذكر بناء القيروان في معالم الإيمان : ١ / ٥ ـ ٣٠ ، والبيان المغرب : ١ / ١٩ ـ ٢٠ ، وانظر كتاب القيروان للدكتور منجي الكعبي ...

(٤) البيتان في محاضرات الأدباء : ١ / ٥٥ ، وطبقات الشافعية للسبكي : ٣ / ٣١ وفيها منسوبان لأبي العباس بن سريج ومعهما بيت ثالث هو :

جموع لأصناف العلوم بأسرها

فأخلق به ألّا يفارقه كمّي

١٠٦

سمير فؤادي منذ عشرين حجّة

وصيقل ذهني والمفرّج من همّي (١)

قبيح على مثلي إعارة مثله

وآيته ألّا يفارقه كمّي (٢)

وقد ذكرّتني هذه الحكاية حكاية أخرى عن الحريريّ حكاها لي الفقيه القاضي الحاجّ أبو أميّة الدّلائي (٣) ـ رحمه‌الله ـ رأيت تقيدها بهذا الموضع ، و «الحديث شجون» (٤) ، وهي أنّ رجلا رحل إليه ليقرأ عليه ، فلمّا جاءه سأله عن قصده ، فأخبره ، فقال مرتجلا (٥) : [البسيط]

ما أنت أوّل سار غرّه قمر

ورائد خدعته خضرة الدّمن (٦)

فاركض برجلك مصرا إنّني رجل

شبه المعيديّ فاسمع بي ولا ترني (٧)

__________________

(١) في الطبقات والمحاضرات : لصيق فؤادي ... وصيقل من الصّقال : الجلاء والصقل.

(٢) في الطبقات : عزيز على مثلي ، وفي المحاضرات : يعز على مثلي ، ورواية الشطر الثاني في الطبقات : لما فيه من علم لطيف ومن نظم.

(٣) أبو أمية الدلائي : فقيه ، قاض ، تولّى قضاء فاس ليعقوب بن عبد الحق المريني ، له ذكر في روض القرطاس ٢٩٨ ، وجذوة الاقتباس : ٢ / ٥٥٧ ، ونسبته إلى دلاية بالأندلس.

(٤) المثل في أمثال الضبيّ : ٤٧ ، وفيه : إنّ الحديث لذو شجون ، وفي فصل المقال : ٦٧ ـ والميداني ١ / ١٣٣ ـ والفاخر : ٤٧ ، وجمهرة الأمثال : ١ / ٣٧٧ ـ والوسيط : ٣٧.

(٥) البيتان في وفيات الأعيان : ٤ / ٦٦ ـ ٦٧ ـ غربال الزمان : ٤٠٩ ـ معاهد التنصيص : ٣ / ٢٧٥ ـ تاريخ ابن الوردي : ٢ / ٤٧ ـ مرآة الجنان : ٣ / ٢١٦ ـ البداية والنهاية : ١٢ / ١٩٢ وتمثال الأمثال : ١ / ٣٩٥.

(٦) في المصادر السابقة : «ورائد أعجبته». الدّمن : البعر ، وكذلك ما اختلط من البعر والطين عند الحوض فتلبّد ؛ وفيه إشارة إلى الحديث المعروف.

(٧) في المصادر السابقة : «فاختر لنفسك غيري إنّني رجل مثل المعيدي ...» وهذه إشارة للمثل : أن تسمع بالمعيديّ خير من أن تراه ، وسيرد في الصفحة التالية مخرجا ومصر الفرس : استخرج جريه.

١٠٧

قلت : خفّف (١) الدّال من المعيديّ ، وهو الأشهر ، والأصل فيه التّثقيل ، وإنّما خفّفت لكثرة الاستعمال ، قال أبو عبيد : «وكان الكسائيّ (٢) يرى التّشديد في الدّال» (٣) وقال : إنّما هو تصغير رجل منسوب إلى معدّ ، ولم أسمع هذا من غيره ، والمثل «أن تسمع بالمعيديّ خير من أن تراه» (٤) ، قال أبو عبيد : «العامّة لا تذكر أن» (٥) ثمّ ذكر الاختلاف فيمن قاله وفيمن قيل فيه.

[ذكر تونس]

ثمّ وصلنا إلى مدينة تونس (٦) مطمح الآمال ومصاب كلّ برق ، ومحطّ الرّحال من الغرب والشّرق ، ملتقى الرّكاب والفلك ، وناظمة فضائل البرّين في سلك ، فإن شئت أصحرت في موكب ، وإن شئت [٢٢ / آ] أبحرت في مركب ، كأنّها ملك والأرباض لها إكليل ، وأرجاؤها روضة باكرتها ريح بليل (٧) ؛ إن وردت مواردها نقعت غليلا ، وإن ردت فرائدها شفيت حشا عليلا ؛ جليت بها

__________________

(١) في ت وط : خفّفت.

(٢) هو علي بن حمزة بن عبد الله الأسدي : إمام في اللّغة والنحو والقراءة ، توفّي بالرّيّ سنة ١٨٩ ه‍ له تصانيف ، منها : معاني القرآن ـ الحروف ـ النوادر. انظر الأعلام : ٤ / ٢٨٣.

(٣) أمثال أبي عبيد : ٩٧.

(٤) ورد المثل في : أمثال أبي عبيد : ٩٧ ، والمستقصى ١ / ٣٧٠ ، وفصل المقال : ١٣٥. ويروى : تسمع ... ويستشهد به على حذف (أن) مع بقاء عملها شذوذا ، وهذ رواية المفضل الضّبيّ : ٥٥ ، والفاخر : ٦٥ ، وجمهرة الأمثال : ١ / ٢٦٦ وفيه : ... لا أن تراه ، وتمثال الأمثال : ١ / ٣٩٥ ، والميداني : ١ / ١٢٩ ويضرب لمن خبره خير من مرآه

(٥) أمثال أبي عبيد : ٩٧.

(٦) تونس : مدينة كبيرة بإفريقية على ساحل البحر ، وهي عاصمة تونس اليوم ، انظر وصف إفريقيا ٢ / ٧٠.

(٧) البليل : ريح باردة مع ندى ، ولا تجمع.

١٠٨

عروس الغروس ، وحليت (١) بها على ممرّ الحروس (٢) الطّروس (٣) ؛ لا تنشد بها ضالّة من العلم إلّا وجدتها ، ولا تلتمس بها بغية معوزة إلّا استفدتها ؛ وأهلها ما بين عالم كالعلم ، رافع بين أهله للعلم ومعطّل حدّ الظّبا بحدّ القلم ، ومسلّم على ربع بذي سلم ، شاك من وجده فرط الألم ؛ فاقت بحسن مغانيها وإتقان مبانيها (٤) غيرها من المدن وطالت ، وسطت بنخوتها ، وانتخت بسطوتها على قواعد الشّرق والغرب وصالت ، وترجم حسنها البهيج وعرفها (٥) الأريج عن معناها ، ولو نطقت لقالت : [الطويل]

أنا الغادة الحسناء فاق جمالها

فالت : يمينا لا خطبت على زوج (٦)

إذا الغانيات آرتدن وصل بعولة

فما بي ـ ولا فخر ـ إلى الزّوج من حوج (٧)

أغادي إذا ما شئت ظبيا بقفرة

وأطرق نون اليمّ في ظلم الموج (٨)

وفيّ لمكدود الحجيج استراحة

فهم يردوني الدّهر فوجا على فوج

وإنيّ إلى البيت العتيق كسلّم

به يرتقي من في الحضيض إلى الأوج (٩)

__________________

(١) في ط : حلت.

(٢) الحرس : الدّهر.

(٣) الطّرس : الصّحيفة التي محيت ثمّ كتبت.

(٤) في ط : فاقت بحسن معانيها واتقان مغانيها.

(٥) العرف : الرائحة الطيبة.

(٦) في ط : فقالت يمينا ... وآلت : أقسمت.

(٧) في ت : فما لي.

(٨) في ت : نوء. والنون : الحوت.

(٩) في ت : على البيت العتيق.

١٠٩

وهذه المدينة ـ كلأها الله ـ من المدن العجيبة الغريبة ، وهي في غاية الاتّساع ونهاية الإتقان ، والرّخام بها كثير (١) ، وأكثر أبواب ديارها معمول به عضائد وعتبا ، وجلّ مبانيها في حجر منحوت محكم العمل ، ولها أبواب عديدة ، وعند كلّ باب منها ربض (٢) متّسع على قدر البلد المستقلّ ، ولو أتّفق أن يكون بها ماء جار لكانت معدومة النّظير شرقا وغربا ، ولكن ماؤها قليل ؛ وفي ديارها مصانع لماء المطر ، وهو المستعمل عندهم.

وأمّا السّاقية المجلوبة من ناحية زغوان (٣) [٢٢ / ب] فقد استأثر بها قصر السّلطان (٤) وجنانه إلّا رشحا يسيرا سرّب إلى ساقية (٥) جامع الزّيتونة ، يتسرّب (٦) منها في أنابيب من رصاص ، ويستقي منها الغرباء ومن ليس في داره ماء ، ويكثر عليها الازدحام (٧).

[جامع الزّيتونة]

وهذا الجامع من أحسن الجوامع وأتقنها وأكثرها إشراقا ، ودائره مسقّف ووسطه فضاء قد نصبت فيه أعمدة من خشب على قدر ارتفاع

__________________

(١) في ت وط : كثير بها.

(٢) ربض المدينة : ما حولها.

(٣) زغوان : جبل بالقرب من تونس في الجانب القبلي منها ، ياقوت : ٣ / ١٤٤ وهي اليوم بلدة قرب مدينة تونس.

(٤) المقصود بالسّلطان : أبو حفص عمر بن أبي زكريا الحفصي الذي حكم تونس بين سنتي ٦٨٣ و ٦٩٤ ه‍.

(٥) في ت : سقاية.

(٦) في ت وط : يترشف.

(٧) في ط : الزّحام.

١١٠

الجدر ، وشدّت إليها حبال متينة في حلق من حديد مثبتة فيها وفي السّقوف شدّا محكما ، فإذا كان يوم الجمعة نشرت عليها شقق (١) الكتّان المطبّقة الموصولة حتّى تظلّل جميع الفضاء ؛ ذلك دأبهم فيها حتّى ينصرم (٢) فصل الصّيف.

وأمّا السّاقية المذكورة فهي من جملة غرائب الدّنيا ، وهي قديمة من عمل الرّوم ، مجلوبة من جبال بجنوبي (٣) تونس ، على مسيرة يومين أو نحوها في أوعار وأودية منقطعة وجبال وآكام (٤) ، فإذا انتهوا بها إلى جبل أو تلّ خرقوه وسربوا الماء فيه ، وإذا انتهوا إلى واد أو وهد بنوه قناطر بعضها فوق بعض ، حتّى يستوي مع مجرى السّاقية بصخر منحوت أتقن ما يكون من البناء ، وأغربه وأوثقه ، حتّى ينسرب (٥) الماء منها في مستو معتدل ، واتّصلت هذه السّاقية بهذا العمل ، حتّى دارت من وراء تونس إلى الغرب وانتهت إلى قرطاجنّة (٦) ، وبينها وبين تونس اثنا عشر ميلا ، وهي من أعجب مدن الأرض وأغربها ؛ لما (٧) يحكى عنها في فرط الاعتناء وغرابة الصّنعة ، وحسبك أنّ هذه السّاقية من جملة الاعتناء بها.

وأمّا الرّخام فمنها يجلب إلى كلّ موضع بإفريقية قديما وحديثا ، ولا يفنيه ذلك منها ، وهي الآن داثرة لا أنيس بها ؛ وأهل تونس يخرجون إليها

__________________

(١) الشّقّة : قطعة من الثياب مستطيلة أو نصف ثوب.

(٢) في ت وط : ينصرف.

(٣) في ت وط : بجنوب.

(٤) الآكام : جمع أكمة : التلّ من القفّ ، وهو حجر واحد.

(٥) في ط : يتسرّب.

(٦) قرطاجنة : مدينة بإفريقية بينها وبين تونس عشرة أميال أو نحوها. انظر ياقوت : ٤ / ٣٢٣.

(٧) في ط : فيما.

١١١

تفرّجا وتعبّدا ، والقناطر من تونس إليها معطّلة ، وهذه القنطرة تعرف عندهم بالحنايا (١) ، وهو ممّا يقصّر (٢) عنها الوصف (٣) لفرط إتقانها وغرابتها ؛ ويذكر أنّ الرّوم أقاموا في تدبيرها والنّظر في وضعها أربع مئة سنة [٢٣ / آ] وهذا بعيد.

وأمّا أبو عبيد البكريّ فحكى «أنّ عملها فرغ حتّى استوى فيها الماء في أربعين سنة» (٤) وهذا يشبه مع الاعتناء التّامّ ، والأداة الكاملة ، والقوّة الوافرة. وقد كان بعض الأمراء ـ وهو أخو القائم بها الآن ـ احتاج إلى إصلاح بعض الحنايا بها ممّا يلي تونس ليوصل الماء إليها ـ إذ كانت معطّلة قبله ـ فأقام في عملها مجتهدا بأقصى ما يمكنه أعواما عديدة ، ولم يمكنه ردّ ذلك على ما كان عليه ، ولا ما يقرب منه ، بل اقتنع بتسديده كيف ما أمكن مع قلّته وتفاهته بالإضافة إلى غيره.

وما زالت مدينة تونس ـ كلأها الله ـ دار ملك وضخامة ، وهي الآن دار مملكة إفريقية على ضعف المملكة بها ، وانتهائها إلى حدّ التّلاشي ، ومع ذلك فقد أربت على البلاد في كلّ فضيلة ، وما رأيت لأهلها نظيرا شرقا وغربا ، شيما فاضلة ، وخلالا حميدة ، (٥) ومعاشرة جميلة (٦) ، وقد كان الأخلق بمن شاهد أخلاقهم أن يطنب في وصفهم ، ويضرب عمّن لم يمحضهم الوداد

__________________

(١) الحنايا : جمع حنيّة ، وهي القوس.

(٢ ـ ٢) في ط : الوصف عنه.

(٣) المغرب في وصف إفريقية والمغرب : ٤٢.

(٤) سقط من ت.

(٤) سقط من ت.

١١٢

وينصفهم (١) ؛ إذ ذاك من بعض واجبهم ، وأقلّ مراتبهم ، ولكنّ الزّمان لا يعين على توفية الحقوق ، ولا يتعمّد بالفراغ إلّا أهل العقوق ، وناهيك من بلد (٢) لا يستوحش به غريب ، ولا يعدم فيه كلّ فاضل أديب ؛ يبدؤون من طرأ عليهم بالمداخلة ، ويخطبون منه لفضل طباعهم المواصلة ، فهو منهم بين أهل مشفق ، ورفيق مرفق ؛ وقد كان بعض أخيار طلبتها وحسبائهم (٣) لا زمني مدّة الإقامة بها وترك لأجلي مهمّات أموره ، وعرّفني بفضلائها ، وكان لا ينفصل عنّي عامّة النّهار ، وكثيرا ما كنت أمرّ بمن لا يعرفني من أهلها ، فأسأله عن الطّريق إلى ناحية منها ، فيقوم من حانوته ماشيا بين يديّ يسأل الناس عن الطّريق ، ويدلّ بي ، وهذا من أغرب ما يسمع من جميل الأخلاق و (ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ)(٤). ولولا أنّي دخلتها لحكمت بأنّ العلم في أفق الغرب قد [٢٣ / ب] محي رسمه ، (٥) ونسي اسمه (٦) ، وضاع حظّه وقسمه ، ولكن قضى الله بأنّ الأرض لا تخلو من قائم له بحجّة ، يرى سبيل الحقّ ويوضح المحجّه (٧) ، وما من فنّ من فنون العلم إلّا وجدت بتونس به قائما ، ولا مورد من موارد المعارف إلّا رأيت بها حوله واردا وحائما (٨).

__________________

(١) في ط : يصفهم.

(٢) في ت وط : ببلد.

(٣) في ت : وحسبانهم.

(٤) من الآية ٥٧ من سورة الحديد.

(٥ ـ ٥) ـ سقط من ت وط.

(٦) المحجّة : الطريق المستقيم.

(٧) في ط : وقائما ، وهو تصحيف. وحومان الطائر : دورانه حول الماء.

١١٣

وبها من أهل الرّواية والدّراية عدد وافر ، يجلو الفخار بهم عن محيّا سافر ، وينير علمهم وقد : [الكامل]

 ...................................

ألقت ذكاء يمينها في كافر (١)

ولكنّه لم يقض لي حين ورودها أن أقضي الوطر من لقاء جميع مذكورها ومعدودها (٢) ، بسبب وظائف السّفر ولوازمه ، واقتصار معربه على أعمال جوازمه.

[لقاؤه لابن هارون]

وكان حكم السّفر حينئذ قد استمرّ وتمادى ، فلم ألق بها من أهل العلم إلّا آحادا ، منهم الشّيخ الفقيه الأديب (٣) الفاضل المسند المسنّ أبو محمّد عبد الله بن محمّد بن هارون الطّائي القرطبيّ (٤) ، وهو شيخ وطيء الأكناف ، ليّن الجانب لقاصديه ، له رواية عالية لكبر سنّه ، أدرك جملة من أفاضل العلماء وروى عنهم ، منهم الشّيخ الفقيه الخطيب المقرىء جدّه لأمّه (٥) أبو

__________________

(١) عجز بيت لثعلبة بن صعير المازني يصف الظليم والنعامة ورواحمها إلى بيضهما عند غروب الشمس ، وصدره : (فتذكّرا ثقلا رثيدا بعدما ...). وذكاء : اسم للشمس. و «ألقت يمينها في كافر» : بدأت في المغيب. والبيت في المفضليّات : ١٣٠ ، والأمالي : ٢ / ١٤٥ ، ونضرة الإغريض : ١٣٦ ، واللسان «ثقل» و «كفر» ، والتاج «رثد».

(٢) في ت : ومحدودها.

(٣) في ت : الأديب الفقيه.

(٤) توفي أبو محمد بن هارون سنة ٧٠٢ ه‍ ، انظر برنامج الوادي آشي : ٥١ ـ ٥٢.

(٥) في الأصل : الإمام.

١١٤

جعفر أحمد بن محمّد بن إبراهيم بن خلصة الحميريّ ، والقاضي أبو القاسم أحمد بن يزيد بن بقيّ (١) ، وصحب أبا القاسم ابن الطّيلسان (٢) ، وأخذ عنه كثيرا ، وأخذ عن جماعة من أهل الأندلس بها وبالعدوة ، وقد جمع أسماءهم في «برنامج» له ، قرأته عليه حين لقيته ثانية حسبما يأتي ذكره إن شاء الله تعالى. لقيته حين وردت تونس فقرأت عليه بعض «الموطّأ» رواية يحيى بن يحيى ، وناولني سائره ، وحدّثني به عن الشّيخ الفقيه القاضي أبي القاسم بن بقيّ قراءة عليه لبعضه ، وسماعا عليه (٣) لسائره بأسانيده المعروفة. وقرأت عليه بعض كتاب «التّيسير» للإمام أبي عمرو المقرىء ، وناولني سائره ؛ وسمعت عليه دولا من «صحيح مسلم» وقد سمع جميعه (٤) على القاضي أبي القاسم بن بقيّ ، وناولني «فهرسته» [٢٤ / آ] وفهرستي جدّه أبي جعفر والقاضي أبي القاسم بن بقيّ تخريج ابن الطّيلسان ، وحدّثني بهما وبما تضمنّتاه عنهما ، وأجازني في كلّ ما تصحّ روايته عنه إجازة عامّة ، وكذلك أجاز ولدي محمّدا ـ وفّقه الله ـ وكتب لي بذلك خطّ يده.

__________________

(١) أحمد بن يزيد بن بقي : عالم ، قاض ، كاتب ، شاعر ، من أهل قرطبة ، جمع شعره في ديوان ، توفي بقرطبة سنة ٦٢٥ ه‍ وله كتاب في الآيات المتشابهات. له ترجمة في قضاة الأندلس : ١١٧ ، وبرنامج شيوخ الرعيني : ٥٠ ، وشجرة النور الزكية ١ / ١٧٨.

(٢) هو القاسم بن محمد بن أحمد الأوسي القرطبي : عالم بالقراءات ، باحث من أهل قرطبة ، رحل عنها لمّا أخذها الإفرنج وأقام بمالقة خطيبا حتى توفي فيها سنة ٤٦٢ ه‍ ، ومولده سنة ٥٧٥ ه‍ ، من كتبه : الجواهر المفصلات في المسلسلات ، وأخبار صلحاء الأندلس ، ترجمته في بغية الوعاة ٢ / ٢٦١ ـ برنامج شيوخ الرّعيني : ٢٧ ـ شجرة النور الزكية : ١ / ١٨٢.

(٣) ليست في ت.

(٤) في ت : سمعه.

١١٥

ولقيته مرّة ثانية في رجوعي من المشرق فقرأت عليه أشياء يأتي ذكرها في موضعه إن شاء الله من هذه الرّحلة.

[لقاؤه لأبي جعفر اللّبليّ]

ومنهم الشّيخ الأستاذ النّحويّ الأديب الفاضل المحدّث الرّاوية أبو جعفر أحمد بن يوسف الفهريّ اللّبليّ (١) ، وهو شيخ مسنّ قويّ الرّجاء ، حسن الظنّ بأهل الدّين ، سريع العبرة ؛ رحل قديما إلى المشرق فحجّ ، ولقي جماعة من الأئمّة بالإسكندريّة ومصر والشّام والحجاز ؛ وله «برنامجان» كبير وصغير (٢) في أسماء شيوخه ، وعدّة تواليف ، منها «شرح الفصيح» و «شرح أبيات الجمل» وغير ذلك. لقيته وجالسته أيّاما فقرأت عليه جملة صالحة من أوّل كتاب «الموطّأ» رواية يحيى بن يحيى ، وجميع كتاب «الجامع» من آخره ، وناولني سائره مرارا ، وحدّثني بجميعه بأسانيده المرسومة في برنامجه ، وقرأت عليه جملة من قصيدة الشّيخ الإمام أبي القاسم الشّاطبيّ (٣) في القراءات ، وحدّثني بها عن صهر أبي القاسم المذكور زوج ابنته كمال الدّين

__________________

(١) توفي بتونس سنة ٦٩١ ه‍. انظر الديباج المذهب : ٨٠ ـ ٨١ ـ عنوان الدراية : ٣٠٠.

(٢) في ت : صغير وكبير.

(٣) هو القاسم بن فيرّة بن خلف بن أحمد الرّعيني الشّاطبي : إمام القراءة في عصره ، كان ضريرا ، ولد بشاطبة سنة ٥٣٨ ه‍ وقرأ ببلده وببلنسية ، ثمّ رحل للحجّ فسمع من أبي طاهر السّلفي بالإسكندرية ، وزار القدس بعد فتحها على يد صلاح الدين الأيوبي ، ثمّ رجع إلى القاهرة فأقام بالمدرسة الفاضلية إلى أن مات سنة ٥٩٠ ه‍. له الشاطبية ، ترجمته في نكت الهميان ٢٢٨ ـ ٢٢٩ ، وشذرات الذهب : ٤ / ٣٠١ ـ ٣٠٣ ، ووفيات ابن قنفذ : ٢٩٦ وفيها وفاته سنة ٥٨٩ ه‍ ، والديباج المذهب : ٢٢٤.

١١٦

أبي الحسن عليّ شجاع بن سالم (١) قراءة منه عليه بمصر عن ناظمها المذكور ، وسمعت عليه مجالس من كتاب «التّيسير» للإمام أبي عمرو المقرىء ، ومن كتاب «الشّمائل» للتّرمذي ، وقرأت عليه بعضه ، وناولني إيّاهما وأجازني عموما (٢) في كلّ مارواه وألّفه وكلّ ما تصحّ لي (٣) روايته عنه من منثور ومنظوم إجازة عامّة ، وأجاز ولدي محمّدا ـ وفّقه الله ـ وكتب لي بذلك خطّ يده حسبما سطّرته ؛ وسمعت عليه أرجوزته المسّماة ب «العقيدة» وما ضمّ إليها من نثر ، وكان قد أخذ يحفّظها صبيان المكاتب (٤) رغبة في نشرها (٥) والانتفاع بها (٦) ، وحملني حتّى سمعتها منهم [٢٤ / ب] بمحضره ، وحرّضني على نشرها رجاء الانتفاع بذلك ؛ نفعه الله وإيايّ ، وأخلص نيّتنا في طلب العلم لوجهه الكريم بمنّه.

[لقاؤه لابن هريرة]

ومنهم الفقيه الأديب الفاضل ذو العناية والتهمّم صاحبنا ووليّنا في الله أبو عبد الله محمّد بن عبد المعطي بن محمّد النّفزيّ ، شهر بابن هريرة ـ حفظه الله ـ لقيت منه خيّرا فاضلا ذا مروءة وأخلاق جميلة ، وله عناية

__________________

(١) علي بن شجاع بن سالم : مقرئ شافعيّ ضرير ، روى بالإجازة العامة عن السلفي ، وكان مشاركا في فنون العلم ، قرأ عليه جماعة من العلماء كالدمياطي ، توفي سنة ٦٦١ ه‍. ترجمته في العبر ٥ / ٢٦٦ نكت الهميان : ٢١٢ ، حسن المحاضرة ١ / ٥٠١.

(٢) ليست في ت وط.

(٣) ليست في ت وط.

(٤) في ط : المكتب.

(٥ ـ ٥) في ت وط : رجاء الانتفاع بها.

١١٧

بالتّاريخ وحظّ من الأدب ، ومشاركة في غير فنّ ، أفادنا وأفدناه ، وجالسته كثيرا ، وناولني كتابه الّذي جمعه في «وفيات المشاهير من أهل كلّ فنّ وموالدهم ونتف من أخبارهم» وأسمعني مواضع منه ، وأجازني سائره ، وهو كتاب مفيد لولا أنّه لم يرتّب على ما ينبغي ، وقرأت عليه قصيدة الشّيخ الفقيه (١) العالم الصّالح (٢) أبي محمّد عبد الله بن الشّيخ الفقيه الصّالح (٣). أبي زكرياء يحيى بن عليّ الشّقراطسيّ التّوزريّ ، وحدّثني بها عن شيخه الفقيه القاضي (٤) أبي عبد الله محمّد بن علي (٥) بن محمّد بن علي (٦) التّوزريّ الشّهير بالمصريّ ، قراءة منه عليه ، عن الشّيخ الفقيه أبي عبد الله محمّد بن أبي يحيى الطّولقي (٧) ، عن الشّيخ الفقيه القاضي أبي عمرو عثمان بن أبي القاسم عبد الرّحمن بن حجّاج ، عن الشّيخ أبي محمّد عبد العزيز (٨) بن عمر بن حمادي بفتح الحاء وتخفيف الميم وآخره ياء قبلها دال مكسورة ، عن الفقيه الخطيب المحدّث أبي القاسم عبد الرّحمن بن محمّد (٩) بن أحمد النّفطيّ عرف بابن الإمام وبابن الصّائغ ، عن الشّيخ الإمام أبي عبد الله محمّد بن يخلف ابن واطّاس بطاء مشدّدة ، عن ناظمها المذكور ؛ وذكر لي عن شيخه أبي عبد الله

__________________

(١) ليست في ت وط.

(٢ ـ ٢) ـ سقط من بقية النسخ ، وهذا يوقع في اللبس ؛ لأنّ ناظم القصيدة الشقراطسية هو أبو محمد عبد الله بن يحيى بن علي الشقراطسي انظر : وفيات ابن قنفذ : ٢٥٣ ـ شجرة النور الزكية : ١ / ١١٧.

(٣) في ط : المقرئ.

(٤ ـ ٤) سقط من ت وط.

(٥) نسبة إلى طولقة بالقرب من الزاب.

(٦) في ط : عبد الله.

(٧) في ط : محمد بن محمد.

١١٨

المصري المذكور أنّ شقراطس قصر قديم من قصور قفصة (١) ، وأنّه والى البحث عن وفاة الشّقراطسيّ حتّى أخبره من وثق به (٢) أنّها كانت في يوم الثّلاثاء لثمان خلون من ربيع الأوّل سنة ستّ وستّين وأربع مئة. [٢٥ / آ] وقد رأيت أن أثبت القصيدة هنا (٣) بجملتها بحول الله تعالى ، وهي هذه : (٤)

[البسيط]

[القصيدة الشّقراطسيّة]

الحمد لله منّا باعث الرّسل

هدى بأحمد منّا أحمد السّبل (٥)

خير البريّة من بدو ومن حضر

وأكرم الخلق من حاف ومنتعل (٦)

توراة موسى أتت عنه فصدّقها

إنجيل عيسى بحقّ غير مفتعل

أخبار أحبار أهل الكتب قد وردت

عمّا رأوا ورووا في الأعصر الأول

__________________

(١) قفصة : بلدة في طرف إفريقية من ناحية المغرب ، بينها وبين القيوان ثلاثة أيّام انظر ياقوت : ٤ / ٣٨٢.

(٢) في ت يثق بخبره.

(٣) ليست في ط.

(٤) القصيدة بتمامها في نهاية الأرب : ١٨ / ٣٤٧ ـ ٣٥٩ ، والمجموعة النبهانية : ٣ / ١٩٨ ـ ٢١١ ، والأبيات : ٥ ـ ٦ ـ ٧ ـ ٨ في تاريخ الخميس : ١ / ٢٠٢ ، والأبيات من ٨٦ إلى ١١٤ في شرح الزرقاني على المواهب اللدنية : ٢ / ٣٢٨ ـ ٣٣٢ ، والأبيات من ٨٦ إلى ١٠٦ في المواهب اللدنية : ١ / ١٥٦ ، والبيت ٢٢ في ١ / ٦٢ ومن ٥١ إلى ٥٥ في ١ / ٥٠ ، والأبيات من ٣٩ إلى ٤٦ في ١ / ٢٣٩ ، والأبيات من ٢٧ إلى ٣٣ في ١ / ٢٨٦ والبيت الثالث في : ٢ / ٦٤ ، وقد استعنت بحواشي القصيدة في نهاية الأرب.

(٥) منّا : تفضّلا وإحسانا ، وأحمد السبل : الإسلام.

(٦) الحافي والمنتعل : جميع الخلق.

١١٩

٥ ـ ضاءت بمولده الآفاق واتّصلت

بشرى الهواتف بالإشراق والطّفل (١)

وصرح كسرى تداعى من قواعده

وانقضّ منكسر الأرجاء ذا ميل (٢)

ونار فارس لم توقد ، وما خمدت

مذ ألف عام ونهر القوم لم يسل

ومنطق الذّئب بالتّصديق معجزة

مع الذّراع ونطق العير والجمل

خرّت لمبعثه الأوثان ، وانبعثت

ثواقب الشّهب ترمي الجنّ بالشّعل

١٠ ـ وفي دعائك بالأشجار حين أتت

تمشي بأمرك في أغصانها الذّلل (٣)

وقلت عودي فعادت في منابتها

تلك العروق بإذن الله لم تمل

والسّرح بالشّام لمّا جئتها سجدت

شمّ الذّوائب من أفنانها الخضل (٤)

والجذع حنّ لأن فارقته أسفا

حنين ثكلى شجتها لوعة الثّكل (٥)

ما صبر من صار من عين على أثر

وحال من حال عن حال إلى عطل (٦)

١٥ ـ حيّى فمات سكونا ثمّ مات لدن

حيّى حنينا فأضحى غاية المثل

والشّاة لمّا مسحت الكفّ منك على

جهد الهزال بأوصال لها قحل (٧)

__________________

(١) في نهاية الأرب : لمولده. والطّفل : العشيّ.

(٢) في نهاية الأرب : وانقاض.

(٣) في نهاية الأرب : تسعى بأمرك في أغصانها الخضل.

(٤) السّرح : الشجر العظيم. شمّ الذوائب : مرتفعات الأغصان التي في أطرافها. الخضل : الناعمة.

(٥) شجتها : أحزنتها.

(٦) في ت : ما ضرّ ، وفي ط : إلى أثر ... عن حلي. في الأصل : إلى حلل.

(٧) في ط : نحل ، وقحل : يابسة.

١٢٠