محاضرات في الإلهيّات

الشيخ علي الربّاني الگلبايگاني

محاضرات في الإلهيّات

المؤلف:

الشيخ علي الربّاني الگلبايگاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١١
ISBN: 978-964-357-294-5
الصفحات: ٥٢٨

تدلّ الأساليب الصحيحة والاستعمال العربي الصراح على أنّ العبادة ضرب من الخضوع بالغ حد النهاية ناشٍ عن استشعار القلب عظمة للمعبود لا يعرف منشأها ، واعتقاده بسلطة لا يدرك كنهها وماهيتها. وقصارى ما تعرفه منها أنها محيطة به ولكنّها فوق إدراكه. فمن ينتهي إلى أقصى الذّل لملك من الملوك لا يقال إنّه عبده ، وإن قبّل موطئ أقدامه ، ما دام سبب الذلّ والخضوع معروفاً وهو الخوف من ظلمه المعهود ، أو الرجاء بكرمه المحدود. (١)

نتائج البحث

وعلى ما ذكرنا لا يكون تقبيل يد النبي أو الإمام أو المعلّم أو الوالدين ، أو تقبيل القرآن أو الكتب الدينية ، أو أضرحة الأولياء ، وما يتعلّق بهم من آثار ، إلّا تعظيماً وتكريماً ، لا عبادة ، وبذلك يتّضح أنّ كثيراً من الموضوعات الّتي تعرّفها فرقة الوهّابية عبادة لغير الله وشركاً به ، ليس صحيحا على إطلاقه ، وإنّما هو شرك وعبادة إذا كان المخضوع له معنوناً بالأُلوهية وأنّه فوّض إليه الخلق والتدبير والإحياء والإماتة والرزق وغير ذلك من شئون الإلهية المطلقة ، أو الاعتقاد بأنّ في أيديهم مصير العباد في حياتهم الدنيوية والأُخروية. وأمّا إذا كان بداعي تكريم أولياء الله تعالى كان مستحسناً عقلاً وشرعاً ، لأنّه وسيلة لإبراز المحبّة والمودّة للصالحين من عباد الله تعالى وفيه رضاه سبحانه بالضّرورة.

__________________

(١) تفسير المنار : ١ / ٥٦ ـ ٥٧ ؛ وانظر ايضاً تفسير المراغي : ١ / ٣٢.

٨١
٨٢

الباب الثالث

في

صفاته تعالى

وفيه عشرة فصول :

١. تقسيمات الصفات عند المتكلمين ؛

٢. طرق معرفة صفاته تعالى ؛

٣. علمه تعالى ؛

٤. قدرته سبحانه ؛

٥. حياته تعالى ؛

٦. ارادته سبحانه ؛

٧. كلامه تعالى ؛

٨. الصفات الخبرية ؛

٩. الصفات السلبية ؛

١٠. نفي الرؤية البصرية.

٨٣
٨٤

الفصل الأوّل :

تقسيمات الصفات عند المتكلّمين

قد ذكروا لصفاته تعالى تقسيمات وهي :

١. الصفات الجمالية والجلالية

إذا كانت الصفة مثبتة لجمال ومشيرة إلى واقعية في ذاته تعالى سمّيت «ثبوتية» أو «جمالية» وإذا كانت الصفة هادفة إلى نفي نقص وحاجة عنه سبحانه سمّيت «سلبية» أو جلالية.

فالعلم والقدرة والحياة من الصفات الثبوتية المشيرة إلى وجود كمال وواقعية في الذات الإلهية ولكن نفي الجسمانية والتحيّز والحركة والتغيّر من الصفات السلبية الهادفة إلى سلب ما هو نقص عن ساحته سبحانه.

قال صدر المتألهين : «إنّ هذين الاصطلاحين (الجمالية) و (الجلالية) قريبان ممّا ورد في الكتاب العزيز ، قال سبحانه :

(تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) (١).

__________________

(١) الرحمن : ٧٨.

٨٥

فصفة الجلال ما جلّ ذاته عن مشابهة الغير ، وصفة الإكرام ما تكرّمت ذاته بها وتجمّلت ، فيوصف بالكمال وينزّه بالجلال». (١)

٢. صفات الذات وصفات الفعل

قسَّم المتكلّمون صفاته سبحانه إلى صفة الذات وصفة الفعل ، والأوّل : ما يكفي في وصف الذات به ، فرض نفس الذات فحسب ، كالقدرة والحياة والعلم. والثاني : ما يتوقّف توصيف الذات به على فرض فعله سبحانه.

فصفات الفعل هي المنتزعة من مقام الفعل ، بمعنى أنّ الذات توصف بهذه الصفات عند ملاحظتها مع الفعل ، وذلك كالخلق والرزق ونظائرهما من الصفات الفعلية الزائدة على الذات بحكم انتزاعها من مقام الفعل.

٣. الحقيقيّة والإضافيّة

إنّ للصّفات تقسيماً آخر وهو تقسيماً إلى الحقيقيّة والاضافية والمراد من الاولى ما تتّصف به الذات حقيقة ، وهي إمّا حقيقية ذات إضافة كالعلم والقدرة ، إمّا حقيقية محضة كالحياة. والإضافية هي الصفات الانتزاعية كالعالميّة والقادرية والخالقية والرازقية والعليّة.

__________________

(١) الأسفار : ٦ / ١١٨.

٨٦

٤. الذاتية والخبريّة

قسّم بعض المتكلمين صفاته سبحانه إلى ذاتية وخبرية. والمراد من الأولى أوصافه المعروفة من العلم والقدرة والحياة ، والمراد من الثانية ما ورد توصيفه تعالى بها في الخبر الإلهي من الكتاب والسنّة ولو لا ذلك لما وصف الله تعالى بها بمقتضى حكم العقل وذلك ككونه سبحانه مستوياً على العرش وكونه ذا وجه ، ويدين ، وأعين ، إلى غير ذلك من الألفاظ الواردة في القرآن أو الحديث الّتي لو أجريت على الله سبحانه بمعانيها المتبادرة عند العرف لزم التجسيم والتشبيه.

٨٧
٨٨

الفصل الثاني :

طرق معرفة صفاته تعالى

الطرق الصحيحة إلى معرفة صفات الله تعالى ثلاثة :

الأوّل : الطريق العقلي

للطريق العقلي إلى التعرّف على صفاته تعالى وجهان :

الوجه الأول : الطريق العقلي الصرف ويكفي لذلك إثبات أنّه تعالى واجب الوجود بالذات ، فيستدلّ بطريق اللمّ جميع صفاته الجمالية والجلالية.

وقد سلك المتكلم الإسلامي الشهير نصير الدين الطوسي هذا السبيل للبرهنة على جملة من الصفات الجلالية والجمالية حيث قال :

وجوب الوجود يدلُّ على سرمديته ، ونفي الزائد ، والشريك ، والمثل ، والتركيب بمعانيه ، والضدّ ، والتحيّز ، والحلول ، والاتّحاد ، والجهة ، وحلول الحوادث فيه ، والحاجة ، والألم مطلقاً ، واللّذة المزاجية ، والمعاني ، والاحوال ، والصفات الزائدة والرؤية وعلى ثبوت الجود ، والملك ، والتمام ، والحقيّة ،

٨٩

والخيرية ، والحكمة ، والتّجبُّر ، والقهر ، والقيّوميّة. (١)

والوجه الثاني : مطالعة الكون المحيط بنا ، وما فيه من بديع النظام ، فيكشف بطريق الإنّ عن علم واسع وقدرة مطلقة عارفة بجميع الخصوصيات الكامنة فيه ، وكلّ القوانين الّتي تسود الكائنات ، فمن خلال هذا الطريق ، أي مطالعة الكون ، يمكن للإنسان أن يهتدي إلى قسم كبير من الصفات الجمالية لمبدع الكون وخالقه وقد أمر الكتاب العزيز بسلوك هذا الطريق ، يقول سبحانه :

(قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) (٢).

وقال سبحانه :

(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ)(٣).

وقال سبحانه :

(إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ) (٤).

__________________

(١) كشف المراد : المقصد الثالث ، الفصل الثاني ، المسألة ، ٧ ـ ٢١.

(٢) يونس : ١٠١.

(٣) آل عمران : ١٩٠.

(٤) يونس : ٦.

٩٠

الثاني : طريق الوحي الإلهي

الطريق الثاني لمعرفة صفات الله تعالى الوحي الإلهي إلى انبياء الله تعالى وما روى عن الهداة الإلهيين المعصومين عليهم‌السلام وذلك بعد ما ثبت وجوده سبحانه وقسم من صفاته ، ووقفنا على أنّ الأنبياء مبعوثون من جانب الله وصادقون في أقوالهم وكلماتهم.

وباختصار ، بفضل الوحي ـ الّذي لا خطأ فيه ولا زلل ـ نقف على ما في المبدأ الأعلى من نعوت وشئون ، فمن ذلك قوله سبحانه :

(هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ* هُوَ اللهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (١).

إلى غير ذلك من الآيات القرآنية والأحاديث المروية عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وعترته المعصومين عليهم‌السلام بطرق معتبرة.

الثالث : طريق الكشف والشهود

هناك ثلّة قليلة يشاهدون بعيون القلوب ما لا يدرك بالأبصار ، فيرون جماله وجلاله وصفاته وأفعاله بإدراك قلبي ، يدرك لأصحابه ولا يوصف

__________________

(١) الحشر : ٢٢ ـ ٢٣.

٩١

لغيرهم. والفتوحات الباطنية من المكاشفات أو المشاهدات الروحية والإلقاءات في الروع غير مسدودة ، بنصّ الكتاب العزيز.

قال سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً) (١).

أي يجعل في قلوبكم نورا تفرّقون به بين الحقّ والباطل ، وتميّزون به بين الصحيح والزائف ، لا بالبرهنة والاستدلال بل بالشهود والمكاشفة.

وقال سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٢).

والمراد من النور هو ما يمشي المؤمن في ضوئه طيلة حياته في معاشه ومعاده ، في دينه ودنياه. (٣)

وقال سبحانه : (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) (٤).

إلى غير ذلك من الآيات الظاهرة في أنّ المؤمن يصل إلى معارف

__________________

(١) الأنفال : ٢٩.

(٢) الحديد : ٢٨.

(٣) أمّا في الدنيا فهو النور الّذي اشار إليه سبحانه يقول :

(أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها). (الأنعام : ١٢٢).

وأمّا في الآخرة فهو ما اشار إليه سبحانه بقوله :

(يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ). (الحديد : ١٢).

(٤) العنكبوت : ٦٩.

٩٢

وحقائق في ضوء المجاهدة والتقوى ، إلى أن يقدر على رؤية الجحيم في هذه الدنيا المادية.

قال سبحانه : (كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ* لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ) (١).

نعم ليس كلُّ من رمى ، أصاب الغرض ، وليست الحقائق رَميَّة للنِّبال ، وإنّما يصل إليها الأمثل فالأمثل ، فلا يحظى بما ذكرناه من المكاشفات الغيبية والفتوحات الباطنية إلّا النزر القليل ممّن خلَّص روحه وصفّا قلبه.

__________________

(١) التكاثر : ٦ ـ ٥.

٩٣
٩٤

الفصل الثالث :

علمه تعالى

لا خلاف بين الإلهيين في أنّ العلم من صفاته تعالى وأنّ العالم والعليم من أسمائه سبحانه ، لكنَّهم اختلفوا في كيفية علمه تعالى بذاته وبغيره على أقوال. وقبل البحث عن مراتب علمه تعاليه وكيفيته يجب أن نبحث عن حقيقة العلم فنقول :

ما هو العلم؟

عرّف العلم بأنّه صورة حاصلة من الشيء في الذهن ، وهذا التعريف لا يشمل إلّا العلم الحصولي ، مع أنّ هناك قسما آخر للعلم وهو العلم الحضوري ، والفرق بين القسمين أنّ في العلم الحصولي ما هو حاضر عند العالم وحاصل له هي الصورة المنتزعة من الشيء وهذه الصورة الذهنية وسيلة وحيدة لدرك الخارج وإحساسه ولأجل ذلك أصبح الشيء الخارجي معلوماً بالعرض والصورة الذهنية معلومة بالذات ، وأمّا العلم الحضوري فهو عبارة عن حضور المدرَك من دون توسط أيّ شيء وذلك كعلم الإنسان بنفسه.

٩٥

على ضوء ما ذكرناه من تقسيم العلم إلى الحصولي والحضوري يصحّ أن يقال :

«إنّ العلم على وجه الإطلاق عبارة عن حضور المعلوم لدى العالم».

وهذا التعريف يشمل العلم بكلا قسميه ، غير إنّ الحاضر في الأوّل هو الصورة الذهنية دون الواقعية الخارجية ، وفي الثاني نفس واقعية المعلوم من دون وسيط بينها وبين العالم.

إذا وقفت على حقيقة العلم ، فاعلم أنّ الإلهيّين أجمعوا على أنّ العلم من صفات الله الذاتية الكمالية ، وأنّ العالم من أسمائه الحسنى ، وهذا لم يختلف فيه اثنان على إجماله ، ولكن مع ذلك اختلفوا في حدود علمه تعالى وكيفيته على أقوال ، يلزمنا البحث عنها لتحقيق الحال في هذا المجال ، فنقول :

١. علمه سبحانه بذاته

قد ذكروا لإثبات علمه تعالى بذاته وجوهاً من البراهين نكتفى بذكر وجهين منها :

الأوّل : مفيض الكمال ليس فاقدا له

إنّه سبحانه خلق الإنسان العالم بذاته علما حضوريا ، فمعطي هذا الكمال يجب أن يكون واجداً له على الوجه الأتمّ والأكمل ، لأنّ فاقد الكمال لا يعطيه ، ونحن وإن لم نحط ولن نحيط بخصوصية حضور ذاته لدى ذاته ،

٩٦

غير إنّا نرمز إلى هذا العلم ب «حضور ذاته لدى ذاته وعلمه بها من دون وساطة شيء في البين».

الثاني : التجرّد عن المادة ملاك الحضور

ملاك الحضور والشهود العلمي ليس إلّا تجرّد الوجود عن المادّة ، فإنّ الموجود المادّي بما أنّه موجود كمّي ذو أبعاض وأجزاء ليس لها وجود جمعى ، ويغيب بعض أجزائه عن البعض الآخر ، مضافاً إلى أنّه في تحوّل وتغيّر دائمي ، فلا يصحّ للموجود المادّي من حيث إنّه مادّي أن يعلم بذاته ، لعدم تحقّق ملاك العلم الّذي هو حضور شيء لدى آخر.

فإذا كان الموجود منزّهاً من المادّة والجزئية والتبعّض ، كانت ذاته حاضرة لديها حضورا كاملاً وبذلك نشاهد حضور ذواتنا عند ذواتنا ، فلو فرضنا موجوداً على مستوٍ عالٍ من التجرد والبساطة عاريا عن كلّ عوامل الغيبة الّتي هي من خصائص الكائن المادّي ، كانت ذاته حاضرة لديه ، وهذا معنى علمه سبحانه بذاته أي حضور ذاته لدى ذاته بأتمّ وجه لتنزّهه عن الماديّة والتركّب والتفرّق كما تقدّم برهان بساطته عند البحث عن التوحيد.

الإجابة عن إشكال

قد استشكل على علمه تعالى بذاته بأنّ لازم العلم بشيء المغايرة والاثنينية بين العالم والمعلوم ، فعلمه تعالى بذاته يستلزم مغايرة واثنينية في ذاته سبحانه وهو محال.

٩٧

والجواب عنه : أنّ المغايرة الاعتبارية تكفى لانتزاع عناوين العلم والمعلوم والعالم من ذات واحدة ، وليس التغاير الحقيقي من خواصّ العلم حتى يستشكل في علم الذات بنفس ذاته بتوحّد العالم والمعلوم ، بل الملاك كلّه هو الحضور ، وهذا حاصل في الموجود المجرّد كما تقدّم.

٢. علمه سبحانه بالأشياء قبل إيجادها

إنّ علمه سبحانه بالأشياء على قسمين : علم قبل الإيجاد أي علمه بالأشياء في مقام ذاته سبحانه ، وعلم بعد الإيجاد أي علمه بالأشياء في مقام فعله. ونستدلّ على القسم الأوّل بوجهين :

الأوّل : العلم بالسّبب علم بالمسبَّب

إنّ العلم بالسّبب والعلّة بما هو سبب وعلّة ، علم بالمسبّب ، والمراد من العلم بالسبب والعلّة ، العلم بالحيثية الّتي صارت مبدأ لوجود المعلول وحدوثه ، ولتوضيح هذه القاعدة نمثّل بمثالين :

١. إنّ المنجّم العارف بالقوانين الفلكيّة والمحاسبات الكونيّة يقف على أنّ الخسوف والكسوف أو ما شاكل ذلك يتحقّق في وقت أو وضع خاص ، وليس علمه بهذه الطوارئ ، إلّا من جهة علمه بالعلّة من حيث هي علّة لكذا وكذا.

٢. إنّ الطبيب العارف بحالات النبض وأنواعه وأحوال القلب وأوضاعه يقدر على التنبّؤ بما سيصيب المريض في مستقبل أيّامه وليس هذا العلم إلّا من جهة علمه بالعلّة من حيث هي علّة.

٩٨

إذا عرفت كيفية حصول العلم بالمعلول قبل إيجاده من العلم بالعلّة نقول : إنّ العالم بأجمعه معلول لوجوده سبحانه ، وذاته تعالى علّة له ، وقد تقدّم انَّ ذاته سبحانه عالم بذاته.

وبعبارة أخرى : العلم بالذات علم بالحيثيّة الّتي صدر منها الكون بأجمعه ، والعلم بتلك الحيثيّة يلازم العلم بالمعلول.

قال صدر المتألّهين :

إنّ ذاته ـ سبحانه ـ لمّا كانت علّة للأشياء ـ بحسب وجودها ـ والعلم بالعلّة يستلزم العلم بمعلولها ... فتعقّلها من هذه الجهة لا بدّ أن يكون على ترتيب صدورها واحداً بعد واحد (١).

الثاني : إتقان الصنع يدلّ على علم الصانع

إنّ المصنوع من جهة الترتيب الّذي في أجزائه ومن جهة موافقة جميع الأجزاء للغرض المقصود من ذلك المصنوع ، يدلّ على أنّه لم يحدث عن فاعل غير عالم بتلك الخصوصيات. فالعالم بما انّه مخلوق لله سبحانه يدلّ ما فيه من بديع الخلق ودقيق التركيب على أنّ خالقه عالم بما خلق ، عليم بما صنع ، فالخصوصيات المكنونة في المخلوق ترشدنا إلى صفات صانعه وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا الدليل بقوله : (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)(٢).

__________________

(١) الأسفار : ٦ / ٢٧٥.

(٢) الملك : ١٤.

٩٩

وقال الإمام علي بن موسى الرضا عليه‌السلام : «سبحان من خلق الخلق بقدرته ، أتقن ما خلق بحكمته ، ووضع كلّ شيء منه موضعه بعلمه». (١)

٣. علمه سبحانه بالأشياء بعد إيجادها

إنّ كلّ ممكن ، معلول في تحقّقه لله سبحانه ، وليس للمعلولية معنى سوى تعلّق وجود المعلول بعلّته وقيامه بها قياماً كقيام المعنى الحرفي بالمعنى الاسمى ، فكما أنّ المعنى الحرفي بكلّ شئونه قائم بالمعنى الاسمى فهكذا المعلول قائم بعلّته المفيضة لوجوده ، وما هذا شأنه لا يكون خارجا عن وجود علّته ، إذ الخروج عن حيطته يلازم الاستقلال وهو لا يجتمع مع كونه ممكناً.

فلازم الوقوع في حيطته ، وعدم الخروج عنها ، كون الأشياء كلّها حاضرة لدى ذاته والحضور هو العلم ، لما عرفت من أنّ العلم عبارة عن حضور المعلوم لدى العالم.

ويترتّب على ذلك أنّ العالم كما هو فعله ، فكذلك علمه سبحانه ، وعلى سبيل التقريب لاحظ الصور الذهنية الّتي تخلقها النفس في وعاء الذهن ، فهي فعل النفس وفي نفس الوقت علمها ، ولا تحتاج النفس في العلم بتلك الصور إلى صور ثانية ، وكما أنّ النفس محيطة بتلك الصور وهي قائمة بفاعلها وخالقها ، فهكذا العالم دقيقه وجليله مخلوق لله سبحانه قائم به وهو

__________________

(١) بحار الأنوار : ٤ / ٨٥.

١٠٠