محاضرات في الإلهيّات

الشيخ علي الربّاني الگلبايگاني

محاضرات في الإلهيّات

المؤلف:

الشيخ علي الربّاني الگلبايگاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١١
ISBN: 978-964-357-294-5
الصفحات: ٥٢٨

نعم ربّما يستظهر من قوله تعالى : (وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ) (١) إنّ الجنة في السماء فإنّ الظاهر من قوله : (وَما تُوعَدُونَ) هو الجنة». (٢)

هذا كلّه على القول بأنّ الجنّة والنار حسب ظواهر الكتاب موجودتان في الخارج مع قطع النظر عن أعمال المكلّفين ، وإنّهما معدَّتان للمطيع والعاصي ، وأمّا على القول بأنّ حقيقة الجنّة والنار عبارة عن تجسّم عمل الإنسان بصورة حسنة وبهيَّة أو قبيحة ومرعبة ، فالجنّة والنار موجودتان واقعاً بوجودهما المناسب في الدار الآخرة وإن كان أكثر الناس ، لأجل كونه محاطاً بهذه الظروف الدنيوية ، غير قادر على رؤيتهما ، وإلّا فالعمل سواء كان صالحاً أو طالحاً قد تحقّق وله وجودان وتمثّلان ، وكلٌّ موجود في ظرفه.

٦. من هو المخلَّد في النار؟

اختلفت كلمة المتكلّمين في المخلَّدين في النار ، فذهب جمهور المسلمين إلى أنّ الخلود يختصّ بالكافر دون المسلم وإن كان فاسقاً ، وذهبت الخوارج والمعتزلة إلى خلود مرتكبي الكبائر إذا ماتوا بلا توبة. (٣)

قال المحقّق البحراني :

__________________

(١) الذاريات : ٢٢.

(٢) الميزان : ١٨ / ٣٧٥.

(٣) أوائل المقالات : ٥٣.

٤٦١

المكلّف العاصي إمّا أن يكون كافراً أو ليس بكافر ، أمّا الكافر فأكثر الأُمّة على أنّه مخلّد في النار ، وأمّا من ليس بكافر ، فإن كانت معصيته كبيرة فمن الأُمّة من قطع بعدم عقابه وهم المرجئة الخالصة ، ومنهم من قطع بعقابه وهم المعتزلة والخوارج ، ومنهم من لم يقطع بعقابه إمّا لأنّ معصيته لم يستحقّ بها العقاب وهو قول الأشعرية ، وإمّا لأنّه يستحق بها عقاباً إلّا أنّ الله تعالى يجوز أن يعفو عنه ، وهذا هو المختار. (١)

واستدلّ المحقّق الطوسي على انقطاع عذاب مرتكب الكبيرة بوجهين حيث قال :

وعذاب صاحب الكبيرة ينقطع لاستحقاقه الثواب بإيمانه ولقبحه عند العقلاء.

توضيحه : إنّ صاحب الكبيرة يستحقّ الثواب والجنّة لإيمانه ، فإذا استحقّ العقاب بالمعصية ، فإمّا أن يقدّم الثواب على العقاب ، وهو باطل ، لأنّ الإثابة لا تكون إلّا بدخول الجنّة والداخل فيها مخلّد بنصّ الكتاب المجيد وعليه إجماع الأُمّة ، أو بالعكس وهو المطلوب.

أضف إلى ذلك أنّ لازم عدم الانقطاع أن يكون من عبد الله تعالى مدّة عمره بأنواع القربات إلى الله ، ثمّ عصى في آخر عمره معصية واحدة مع

__________________

(١) قواعد المرام : ١٦٠.

٤٦٢

حفظ إيمانه ، مخلّداً في النار ، ويكون نظير من أشرك بالله تعالى مدّة عمره وهو قبيح عقلاً محال على الله سبحانه. (١)

واستدلّت المعتزلة على خلود الفاسق في النّار بإطلاق الآيات الواردة في الخلود ، ولكنّ المتأمّل في الآيات يقف على قرائن تمنع من الأخذ بإطلاقها ولا نرى ضرورة في التعرّض لها. (٢)

٧. كيف يصحّ الخلود مع كون الذنب منقطعاً؟

إنّ من السنن العقلية المقرّرة رعاية المعادلة بين الجرم والعقوبة ، وهذه المعادلة منتفية في العذاب المخلّد ، فإنّ الذنب كان موقتاً منقطعاً.

والجواب عنه أمّا أوّلاً : فإنّ المراد من المعادلة بين الجرم والعقوبة ليس هو في جانب الكمّيّة ومن حيث الزمان ، بل في جانب الكيفيّة ومن حيث عظمة الجرم بلحاظ مفاسده الفردية أو النوعية ، كما نرى ذلك في العقوبات المقرّرة عند العقلاء لمثل القتل والإخلال في النظم الاجتماعي ، ونحو ذلك ، فالجرم يقع في زمان قليل ومع ذلك فقد يحكم عليه بالأعدام والحبس المؤبَّد.

وأمّا ثانياً : «فإنّ العذاب في الحقيقة أثر لصورة الشّقاء الحاصلة بعد تحقّق علل معدّة وهي المخالفات المحدودة وليس أثراً لتلك العلل

__________________

(١) لاحظ : كشف المراد ، المقصد ٦ ، المسألة ، ٨.

(٢) راجع في ذلك : الإلهيات : ٢ / ٩٠٦ ـ ٩١١ الطبعة الأُولى ؛ ومنشور جاويد : ج ٩ ، فصل ٢٦ ، وهو تفسير موضوعي للقرآن الكريم لشيخنا الأُستاذ ـ دام ظلّه ـ (فارسي).

٤٦٣

المحدودة المنقطعة حتى يلزم تأثير المتناهي أثراً غير متناه وهو محال ، نظيره أنّ عللاً معدّة ومقرّبات معدودة محدودة أوجبت أن تتصوّر المادّة بالصورة الإنسانية فتصير المادة إنساناً يصدر عنه آثار الإنسانيّة المعلولة للصورة المذكورة».

ولا معنى لأن يسأل ويقال :

إنّ الآثار الإنسانية الصادرة عن الإنسان بعد الموت صدوراً دائمياً سرمديّاً لحصول معدّات محدودة مقطوعة الأمر للمادّة ، فكيف صارت مجموع منقطع الآخر من العلل سبباً لصدور الآثار المذكورة وبقائها مع الإنسان دائماً ، لأنّ علّتها الفاعلة ـ وهي الصورة الإنسانية ـ موجودة معها دائماً على الفرض ، فكما لا معنى لهذا السؤال لا معنى لذلك أيضاً. (١)

* * *

__________________

(١) الميزان : ١ / ٤١٥.

٤٦٤

خاتمة المطاف

إلى هنا وقفنا على الصحيح من العقائد الإسلامية مدعماً بالبرهنة من الكتاب والسنّة والعقل ، بقي الكلام في أمورٍ نختم أبحاثنا العقائدية بالبحث عنها ، وهي :

١. الإيمان وأحكامه

الإيمان من الأمن وله في اللّغة معنيان متقاربان : أحدهما : الأمانة الّتي هي ضد الخيانة ، ومعناها سكون القلب. والآخر : التصديق ، والمعنيان متدانيان. (١)

وأمّا في الشرع فاختلفت الآراء في تحقيق الإيمان وإنّه اسم لفعل القلب فقط ، أو فعل اللسان فقط ، أو لهما جميعاً ، أو لهما مع فعل سائر الجوارح ، وعلى القول الأوّل فهل هو المعرفة فقط أو هي مع إذعان القلب.

فنسب إلى الكرّامية إنّهم فسّروا الإيمان بالإقرار باللسان فقط ، واستدلّوا عليه بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «أمرت أن أُقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلّا الله ، محمّد رسول الله». (٢)

__________________

(١) معجم مقاييس اللغة : ١ / ١٣٣.

(٢) رواه مسلم في صحيحه : ١ / ٥٣.

٤٦٥

وردّ بأنّ معنى القول في كلامه : حتى يقولوا ، هو الإذعان والإيمان ، وإطلاق القول على الاعتقاد والإذعان شائع ، وأيضاً الإيمان أمر قلبي يحتاج إثباته إلى مظهر وهو الإقرار باللسان في الغالب ، وسيوافيك أنّ ظاهر كثير من النصوص هو أنّ الإيمان فعل للقلب.

وذهبت المعتزلة والخوارج إلى أن العمل بالجوارح مقوِّم للإيمان والفاقد له ليس بمؤمن بتاتاً ، إلّا أنّهما اختلفا ، فالخوارج يرون الفاقد كافراً ، والمعتزلة يقولون : إنّه ليس بمؤمن ولا كافر بل هو في منزلة بين المنزلتين ، وممّا استدلوا به قوله تعالى :

(وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) (١).

إذ المراد من الإيمان في الآية هو صلاتهم إلى بيت المقدس قبل النسخ.

وردّ بأنّ الاستعمال أعمّ من الحقيقة ، ولا شكّ أنّ العمل أثر الإيمان ، ومن الشائع إطلاق اسم السبب على المسبّب ، والقرينة على ذلك الآيات المتضافرة الدالّة على أنّ الإيمان فعل القلب وأنّ العمل متفرّع عليه كما سيجيء.

وذهب بعض المتكلّمين إلى أنّ الإيمان مركّب من الإذعان بالقلب والإقرار باللسان ، وهو مختار المحقّق الطوسي في تجريد العقائد ، والعلّامة الحلّي في نهج المسترشدين ، ونسبه التفتازاني إلى كثير من المحقّقين وقال :

__________________

(١) البقرة : ١٤٣.

٤٦٦

هو المحكي عن أبي حنيفة (١) ، واستدلّ عليه بقوله تعالى :

(وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا) (٢).

وأُجيب بأنّ مفاد الآية أنّهم كانوا عالمين بالحقّ مستيقنين به ، ومع ذلك لم يؤمنوا ولم يسلّموا به ظلماً وعلوّاً ، وهذا نظير قوله سبحانه :

(فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ) (٣).

فالآية وما يشابهها تدلّ على أنّ المعرفة بوحدها ليست هي الإيمان المطلوب في الشريعة بل يحتاج إلى إذعان بالقلب ، والجحود باللسان ونحوه كاشف عن عدم تحقّقه.

ومن هنا تبيّن بطلان قول من فسَّر الإيمان بالمعرفة فقط ، وقد نسب إلى جهم بن صفوان (المتوفّى ١٢٨ ه‍) وإلى أبي الحسن الأشعري في أحد قوليه (٤) ونسبه شارح المواقف إلى بعض الفقهاء. (٥)

وذهب جمهور الأشاعرة إلى أنّ الإيمان هو التصديق بالجنان ، قال صاحب المواقف :

هو عندنا وعليه أكثر الأئمّة كالقاضي والأستاذ التصديق للرسول فيما علم مجيئه به ضرورة ، فتفصيلاً فيما علم تفصيلاً ، وإجمالاً فيما علم إجمالاً. (٦)

__________________

(١) شرح المقاصد : ٥ / ١٧٨.

(٢) النمل : ١٤.

(٣) البقرة : ٨٩.

(٤) شرح المقاصد : ٥ / ١٧٦ ـ ١٧٧ ؛ إرشاد الطالبين : ٤٣٩.

(٥) شرح المواقف : ٨ / ٣٢٣.

(٦) المواقف في علم الكلام : ٣٨٤.

٤٦٧

وقال التفتازاني بعد حكاية هذا المذهب : «وهذا هو المشهور ، وعليه الجمهور».(١)

وقال الفاضل المقداد :

قال بعض أصحابنا الإمامية والأشعرية : إنّه التصديق القلبي فقط ، واختاره ابن نوبخت وكمال الدين ميثم في قواعده ، وهو الأقرب لما قلناه من أنّه لغة التصديق ، ولما ورد نسبته إلى القلب ، عرفنا أنّ المراد به التصديق القلبي ، لا أي تصديق كان ... ويكون النطق باللسان مبيّناً لظهوره ، والأعمال الصالحات ثمرات مؤكِّدة له. (٢)

وهذا القول هو الصحيح وتدلّ عليه طوائف ثلاث من الآيات :

الأُولى : ما عدّ الإيمان من صفات القلب ، والقلب محلاً له ، مثل قوله تعالى :

(أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ) (٣).

وقوله تعالى : (وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) (٤).

وقوله تعالى : (وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) (٥).

والثانية : ما عطف العمل الصالح على الإيمان ، فإنّ ظاهر العطف إنّ

__________________

(١) شرح المقاصد : ٥ / ١٧٧.

(٢) إرشاد الطالبين : ٤٤٢.

(٣) المجادلة : ٢٢.

(٤) الحجرات : ١٢.

(٥) النحل : ١٠٦.

٤٦٨

المعطوف غير المعطوف عليه ، والآيات في هذا المعنى فوق حدّ الإحصاء.

والثالثة : آيات الختم والطبع نحو قوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ)(١).

وقوله تعالى : (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ) (٢).

فالإمعان في هذه الآيات يثبت أن الإيمان هو التصديق القلبي ، يترتّب عليه أثر دنيوي وأخروي ، أمّا الدنيوي فحرمة دمه وعرضه وماله ، إلّا أن يرتكب قتلاً أو يأتي بفاحشة.

وأمّا الأُخروي فصحّة أعماله ، واستحقاق المثوبة عليها وعدم الخلود في النار ، واستحقاق العفو والشفاعة في بعض المراحل.

ثمّ إنّ السّعادة الأُخروية رهن الإيمان المشفوع بالعمل ، لا يشكّ فيه من له إلمام بالشريعة والآيات والروايات الواردة حول العمل ، ومن هنا يظهر بطلان عقيدة المرجئة الّتي كانت تزعم أنّ العمل لا قيمة له في الحياة الدينية ، وتكتفي بالإيمان فقط ، وقد تضافر عن أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام لعن المرجئة (٣) قال الصادق عليه‌السلام :

«ملعون ، ملعون من قال : الإيمان قول بلا عمل». (٤)

وممّا ذكرنا تبيّن أنّ الأحاديث المروية في أنّ الإيمان عبارة عن معرفة

__________________

(١) النحل : ١٠٨.

(٢) البقرة : ٧.

(٣) لاحظ : الوافي ، للفيض الكاشاني : ٣ / ٤٦ ، أبواب الكفر والشرك ، باب أصناف الناس.

(٤) البحار : ٦٦ / ١٩.

٤٦٩

بالقلب ، وقول باللسان ، وعمل بالأركان (١) ، لا تهدف تفسير حقيقة الإيمان ، بل هي ناظرة إلى أن الإيمان بلا عمل لا يكفي لوصول الإنسان إلى السعادة ، وإنّ مزعمة المرجئة لا أساس لها ، هذا هو مقتضى الجمع بينها وبين ما تقدم من الآيات.

نسأل الله سبحانه أن يجعلنا من الصالحين من عباده المؤمنين الّذين قال في حقّهم :

(مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ). (٢)

٢. الشيعة والاتّهامات الواهية

هناك بعض المسائل الّتي لم تزل الشيعة الإمامية تزدري بها أو تتّهم بالاعتقاد بها ، وهي الاعتقاد بالبداء ، والرجعة والمتعة ، وعدم الاعتقاد بعدالة جميع الصحابة ، والتقيّة واتّهام القول بتحريف القرآن.

وقد تقدّم الكلام حول البداء في مبحث العدل ، والرجعة في مبحث المعاد ، والبحث حول المتعة يحال إلى علم الفقه (٣) فلنبحث هنا عن بقية تلك المسائل وهي ثلاث :

__________________

(١) سنن ابن ماجة : ج ١ ، باب الإيمان ، الحديث ٦٥ ؛ خصال الصدوق : باب الثلاثة ، الحديث ٢٠٧ ؛ نهج البلاغة : الحكم ٢٢٧ ؛ بحار الأنوار : ٦٩ / ١٨ ، الباب ٣٠.

(٢) المؤمن : ٤٠.

(٣) راجع في ذلك كتاب «الاعتصام بالكتاب والسنّة» لشيخنا الأُستاذ السبحاني (مدّ ظلّه).

٤٧٠

أ) موقف الشيعة من القرآن الكريم

اتّهمت الشيعة من جانب بعض المخالفين بالقول بتحريف القرآن ونقصانه ، ولكنّ المراجعة إلى أقوال أكابر الطائفة وأقطابهم يثبت خلاف ذلك ، وإليك فيما يلي نصوص بعض أعلامهم ؛ (١)

قال الصدوق (المتوفّى ٣٨١ ه‍) :

اعتقادنا أنّ القرآن الّذي أنزله الله تعالى على نبيه محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله هو ما بين الدفّتين ، وهو ما في أيدي الناس ليس بأكثر من ذلك ، ومن نسب إلينا إنّا نقول إنّه أكثر من ذلك فهو كاذب. (٢)

وقال السيد المرتضى (المتوفّى ٤٣٦ ه‍) :

إنّ القرآن معجزة النبوّة ومأخذ العلوم الشرعية والأحكام الدينية ، وعلماء المسلمين قد بلغوا في حفظه وحمايته الغاية حتى عرفوا كلّ شيء اختلف فيه من إعرابه وقراءته وحروفه وآياته ، فكيف يجوز أن يكون مغيّراً ومنقوصاً مع العناية الصادقة والضبط الشديد. (٣)

__________________

(١) ولهم على إبطال مزعمة التحريف وجوه عديدة يطول المقام بذكرها ، راجع في ذلك ، مقدمة تفسير آلاء الرحمن للعلّامة البلاغي ؛ وتفسير الميزان للعلّامة الطباطبائي : ١٢ / ١٠٦ ـ ١٣٧ ؛ وتفسير البيان للمحقّق الخوئي : ٢١٥ ـ ٢٥٤ ؛ وإظهار الحق للعلّامة الهندي : ٢ / ١٢٨ ؛ وصيانة القرآن عن التحريف للأُستاذ محمد هادي معرفة ، فإنّ فيها غنى وكفاية لطالب الحق.

(٢) الاعتقادات في دين الإمامية : ٥٩ ، الباب ٣٣ ، باب الاعتقاد في مبلغ القرآن.

(٣) المسائل الطرابلسيات.

٤٧١

وقال شيخ الطائفة محمّد بن الحسن الطوسي (المتوفّى ٤٦٠ ه‍) :

إنّ الزيادة فيه مجمع على بطلانها ، وأمّا النقصان منه ، فالظاهر أيضاً من مذهب المسلمين خلافه ، وهو الأليق بالصحيح من مذهبنا ، وهو الّذي نصره المرتضى ، وهو الظاهر من الروايات. (١)

وقال أمين الإسلام الطبرسي (المتوفّى ٥٤٨ ه‍) :

أمّا الزيادة فمجمع على بطلانها ، وأمّا النقصان منه فقد روى جماعة من أصحابنا وقوم من حشوية أهل السنّة إنّ في القرآن نقصاناً والصحيح من مذهبنا خلافه. (٢)

وقال العلّامة الحلّي (المتوفّى ٧٢٦ ه‍) :

الحقّ أنّه لا تبديل ولا تأخير ولا تقديم ، وأنّه لم يزد ولم ينقص ، ونعوذ بالله من أن يعتقد مثل ذلك ، فإنّه يوجب تطرق الشك إلى معجزة الرسول المنقولة بالتواتر. (٣)

هؤلاء ثُلّة من أعلام الشيعة في القرون السابقة من رابعها إلى ثامنها ، ويكفي ذلك في إثبات أنّ نسبة التحريف إلى الشيعة ظلم وعدوان ، وأمّا المتأخّرون فحدِّث عنه ولا حرج ، ونكتفي منهم بنقل كلمة للأُستاذ الأكبر الإمام الخميني قدس‌سره في هذا المجال ، حيث قال :

__________________

(١) تفسير التبيان : ١ / ٣.

(٢) مجمع البيان ، المقدمة.

(٣) أجوبة المسائل المهنّائية : المسألة ١٣.

٤٧٢

إنّ الواقف على عناية المسلمين بجمع الكتاب وحفظه وضبطه ، قراءة وكتابة ، يقف على بطلان تلك المزعمة (التحريف) وأنّه لا ينبغي أن يركن إليها ذو مسكة ، وما ورد فيه من الأخبار بين ضعيف لا يستدلّ به ، إلى مجعول تلوح منه أمارات الجعل ، إلى غريب يقضى منه العجب ، إلى صحيح يدلّ على أنّ مضمونه ، تأويل الكتاب وتفسيره. (١)

أجل ، الغفلة عن ذلك وعدم التفرقة بين تأويل القرآن وتنزيله دعا بعضهم إلى القول بالتحريف ، قال المفيد (المتوفّى ٤١٣ ه‍) :

قد قال جماعة من أهل الإمامة إنّه لم ينقص من كلمة ولا من آية ولا من سورة ، ولكن حذف ما كان مثبتاً في مصحف أمير المؤمنين عليه‌السلام من تأويله وتفسير معانيه على حقيقة تنزيله ، وذلك كان ثابتاً منزلاً وإن لم يكن من جملة كلام الله تعالى الّذي هو القرآن المعجز وقد يسمّى تأويل القرآن قرآناً ـ إلى أن قال : ـ

وعندي أنّ هذا القول أشبه من مقال من ادّعى نقصان كلم من نفس القرآن على الحقيقة دون التأويل ، وإليه أميل والله أسأل توفيقه للصواب. (٢)

__________________

(١) تهذيب الأُصول : ٢ / ١٦٥.

(٢) أوائل المقالات : الباب ٨١ ، ٥٩.

٤٧٣

روايات النقيصة في كتب أهل السنّة

ثمّ إنّ روايات النقيصة لا تختصّ بأحاديث الشيعة ـ وقد عرفت الرأي الصحيح فيها ـ بل هناك مجموعة من الروايات في كتب التفسير والحديث عند أهل السنّة تدلّ على نقصان طائفة من الآيات والسّور ، وهذا القرطبي يقول في تفسير سورة الأحزاب :

أخرج أبو عبيد في الفضائل وابن مردويه ، وابن الأنباري عن عائشة قالت : كانت سورة الأحزاب تقرأ في زمان النبيّ مائتي آية ، فلمّا كتب عثمان المصاحف لم يقدر منها إلّا على ما هو الآن. (١)

وهذا هو البخاري يروي عن عمر قوله : «لو لا أن يقول الناس إنّ عمر زاد في كتاب الله ، لكتبت آية الرجم بيدي» (٢) إلى غير ذلك من الروايات الّتي نقل قسما منها السيوطي في الإتقان. (٣)

ومع ذلك فنحن نُجِلُّ علماء السنّة ومحقّقيهم عن نسبة التحريف إليهم ، ولا يصح الاستدلال بالرواية على العقيدة ، ونقول مثل هذا في حق الشيعة ، وقد عرفت أنّ الشيخ المفيد يحمل هذه الروايات على أنّها تفسير للقرآن ، وللسيد محمّد رشيد رضا أيضاً كلام في توجيه ما ورد حول نسخ

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١٤ / ١١٣ ؛ ولاحظ : الدر المنثور : ٥ / ١٨٠.

(٢) صحيح البخاري : ٩ / ٦٩ ، باب الشهادة تكون عند الحاكم في ولاية القضاء.

(٣) الإتقان : ٢ / ٣٠.

٤٧٤

التلاوة في روايات أهل السنّة نأتي بنصِّه ، قال :

ليس كلّ وحي قرآناً ، فإنّ للقرآن أحكاماً ومزايا مخصوصة وقد ورد في السنّة كثير من الأحكام مسندة إلى الوحي ولم يكن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ولا أصحابه يعدّونها قرآناً ، بل جميع ما قاله عليه‌السلام على أنّه دين فهو وحي عند الجمهور ، واستدلّوا عليه بقوله : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) وأظهره الأحاديث القدسية.

ومن لم يفقه هذه التفرقة من العلماء وقعت لهم أوهام في بعض الأحاديث رواية ودراية وزعموا أنّها كانت قرآناً ونسخت». (١)

ب) موقف الشيعة من عدالة الصحابة

عدالة الصحابة كلّهم ونزاهتهم من كلّ سوء هي أحد الأُصول الّتي يتديّن بها أهل السنّة ، قال ابن حجر :

«اتّفق أهل السنّة على أن الجميع عدول ولم يخالف في ذلك إلّا شذوذ من المبتدعة». (٢)

وقال الإيجي :

يجب تعظيم الصحابة كلّهم ، والكف عن القدح فيهم ، لأنّ الله

__________________

(١) تفسير المنار : ١ / ٤١٤ ، التعليقة.

(٢) الإصابة : ١ / ١٧.

٤٧٥

عظّمهم وأثنى عليهم في غير موضع من كتابه والرسول قد أحبّهم وأثنى عليهم في أحاديث كثيرة. (١)

وقال التفتازاني :

اتّفق أهل الحقّ على وجوب تعظيم الصحابة والكفّ عن الطعن فيهم ، سيّما المهاجرين والأنصار ، لما ورد في الكتاب والسنّة من الثناء عليهم. (٢)

غير أنّ الشيعة الإمامية عن بكرة أبيهم على أنّ الصحابة كسائر الرواة فيهم العدول وغير العدول ، وإنّ كون الرجل صحابيّاً لا يكفي في الحكم بالعدالة ، بل يجب تتّبع أحواله حتى يقف على وثاقته ، وذلك لأنّ القول بعدالة جميع الصحابة ونزاهتهم من كلّ شيء ممّا لا يلائم القرآن والسنّة ويكذبه التاريخ ، وإليك البيان :

الصحابة في الذكر الحكيم

إنّ الذكر الحكيم يصنِّف الصحابة إلى أصناف يمدح بعضها ويذمّ بعضاً آخر ، فالممدوحون هم السّابقون الأوّلون (٣) والمبايعون تحت الشجرة (٤) والمهاجرون والأنصار (٥) وأمّا المذمومون فهم أصناف نشير إلى بعضها :

__________________

(١) شرح المواقف : ٨ / ٣٧٣.

(٢) شرح المقاصد : ٥ / ٣٠٣.

(٣) راجع : التوبة : ١٠٠.

(٤) راجع : الفتح : ١٨.

(٥) راجع : الحشر : ٨.

٤٧٦

١. المنافقون : لقد أعطى القرآن الكريم عناية خاصّة بعصبة المنافقين ، وأعرب عن نواياهم وندَّد بهم في السور التالية : البقرة ، آل عمران ، المائدة ، التوبة ، العنكبوت ، الأحزاب ، محمّد ، الفتح ، الحديد ، المجادلة ، الحشر والمنافقين ، وهذا يدلّ على أنّهم كانوا جماعة هائلة في المجتمع الإسلامي.

٢. المرتابون والسمّاعون : يحكي سبحانه عن طائفة من أصحاب النبيّ أنّهم كانوا يستأذنونه في ترك الخروج إلى الجهاد ، ويصفهم بأنّ في قلوبهم ارتياب ، وأنّ خروجهم إلى الجهاد لا يزيد المسلمين إلّا خبالاً ، وإنّهم يقومون بالسماع للكفّار. (١)

٣. الظانون بالله غير الحقّ : يحكي سبحانه عن طائفة من أصحاب النبيّ أنّهم كانوا يظنون بالله غير الحقّ ظنّ الجاهليّة ، إذ يشكّون في كون المسلمين على صراط الحق ويقولون : (لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا) (٢)

٤. المولُّون أمام الكفّار : يستفاد من بعض الآيات ويشهد التاريخ على أنّ جماعة من صحابة النبيّ انهزموا عن القتال مع الكفّار يوم أحد وحنين ؛ قال ابن هشام في تفسير الآيات النازلة في أُحُد :

ثمّ أنّبهم على الفرار عن نبيّهم وهم يدعون ، لا يعطفون عليه لدعائه إياهم ، فقال :

__________________

(١) لاحظ : التوبة : ٤٥ ـ ٤٧.

(٢) آل عمران : ١٥٤.

٤٧٧

(إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ) (١).

وقال في انهزام الناس يوم حنين :

فلمّا انهزم الناس ورأى من كان مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من جفاة أهل مكّة ، الهزيمة تكلّم رجال منهم بما في أنفسهم من الضغن ، فقال أبو سفيان بن حرب لا تنتهي هزيمتهم دون البحر ، وصرخ جبلة بن حنبل : ألا بطل السحر اليوم. (٢)

هذه صنوف من الصحابة ندَّد بهم القرآن الكريم وعيَّرهم بذمائم أفعالهم وقبائح أوصافهم ، أفبعد هذا يصحّ أن يعدّ جميع الصحابة عدولاً أتقياء ، ويرمي من يقدح في هؤلاء بالزندقة والبدعة؟ مع أنّ الله سبحانه وصف طائفة منهم (وهم السمّاعون) بالظلم.

الصحابة في السنّة النبوية

روى أبو حازم عن سهل بن سعد قال ، قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنّي فرطكم على الحوض من ورد شرب ، ومن شرب لم يظمأ أبداً ، وليردنَّ عليَّ أقوام أعرفهم ويعرفوني ، ثمّ يحال بيني وبينهم ...» قال أبو حازم : فسمع النعمان بن أبي عياش ، وأنا أُحدّثهم بهذا الحديث فقال : هكذا سمعت سهلاً يقول؟ فقلت : نعم ، قال : وأنا أشهد على أبي سعيد الخدري لسمعته يزيد فيقول : إنّهم منّي ، فقال :

__________________

(١) آل عمران : ١٥٣.

(٢) السيرة النبوية : ٣ / ١١٤ وج ٤ / ٤٤٤.

٤٧٨

إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك ، فأقول : سحقاً سحقاً لمن بدّل بعدي ، أخرجه البخاري ومسلم». (١)

وروى البخاري ومسلم أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال :

يرد عليَّ يوم القيامة رهط من أصحابي (أو قال من أمّتي) فيحلئون عن الحوض ، فأقول يا ربّ أصحابي ، فيقول :

إنّه لا علم لك بما أحدثوا بعدك ، إنّهم ارتدوا على أدبارهم القهقري. (٢)

وقد اكتفينا من الكثير بالقليل ، ومن أراد الوقوف على ما لم نذكره فليراجع جامع الأُصول لابن الأثير.

التاريخ وعدالة الصحابة

كيف يمكن عدّ الصحابة جميعاً عدولاً والتاريخ بين أيدينا ، نرى أنّ بعضهم كوليد بن عقبة ظهر عليه الفسق في حياة النبيّ وبعده ، أما الأوّل فمن المجمع عليه بين أهل العلم أنّ قوله تعالى : (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) (٣).

نزلت في شأنه ، كما نزل في حقّه قوله تعالى :

(أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ) (٤).

__________________

(١) جامع الأصول : ١١ / ١٢٠ ، رقم الحديث ٧٩٧٢.

(٢) نفس المصدر : الحديث ٧٩٧٣.

(٣) الحجرات : ٦.

(٤) السجدة : ١٨. لاحظ : تفسير الطبري : ٢١ / ٦٢ ؛ وتفسير ابن كثير : ٣ / ٤٥٢.

٤٧٩

وأمّا الثاني فروى أصحاب السِّيَر والتاريخ أنّ الوليد سكر وصلّى الصبح بأهل الكوفة أربعاً ثمّ التفت إليهم وقال : هل أزيدكم .... (١)

وهذا قدّامة بن مظعون صحابي بدري ، روي أنّه شرب الخمر ، وأقام عليه عمر الحدّ (٢) ولا درأ عنه الحدّ بحجّة أنّه بدري ، ولا قال : قد نهي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن ذكر مساوئ الصحابة ، كما أنّ المشهور (٣) أنّ عبد الرحمن الأصغر بن عمر بن الخطاب ، قد شرب الخمر وضربه عمر حدّاً فمات ، وكان ممّن عاصر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

إنّ بعض الصحابة خضب وجه الأرض بالدماء ، فاقرأ تاريخ بسر بن أرطاة ، حتى أنّه قتل طفلين لعبيد الله بن عباس ، وكم وكم بين الصحابة لدَّة هؤلاء من رجال العيث والفساد ، قد حفل التاريخ بضبط مساوئهم ، أفبعد هذه البيّنات يصحّ التقوّل بعدالة الصحابة مطلقاً؟!

إنّ النظرة العابرة لتاريخ الصحابة تقضي بأنّ بعضهم كان يتّهم الآخر بالنفاق والكذب (٤) ، كما أنّ بعضهم كان يقاتل بعضاً ويقود جيشاً لمحاربته ، فقتل بين ذلك جماعة كثيرة ، أفهل يمكن تبرير أعمالهم من الشاتم والمشتوم ، والقاتل والمقتول ، وعدّهم عدولاً ومثلاً للفضل والفضيلة؟!

__________________

(١) راجع : الكامل لابن الأثير : ٣ / ١٠٥ ـ ١٠٧ ؛ أُسد الغابة : ٥ / ٩١.

(٢) أُسد الغابة : ٤ / ١٩٩ ؛ وسائر الكتب الرجالية.

(٣) نفس المصدر : ٣ / ٣١٢.

(٤) راجع في ذلك : صحيح البخاري : ٥ / ١٨٨ ، في تفسير سورة النور ، مشاجرة سعد بن معاذ مع سعد بن عبادة في قضية الإفك.

٤٨٠