محاضرات في الإلهيّات

الشيخ علي الربّاني الگلبايگاني

محاضرات في الإلهيّات

المؤلف:

الشيخ علي الربّاني الگلبايگاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١١
ISBN: 978-964-357-294-5
الصفحات: ٥٢٨

الفصل الثامن :

الشفاعة في القيامة

المراد من الشفاعة في مصطلح المتكلّمين هو أن تصل رحمته سبحانه ومغفرته إلى عباده من طريق أوليائه وصفوة عباده ، ووزان الشفاعة في كونها سبباً لإفاضة رحمته تعالى على العباد وزان الدعاء في ذلك ، يقول سبحانه :

(وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً) (١).

وتتّضح هذه الحقيقة إذا وقفنا على أنّ الدعاء بقول مطلق ، وبخاصّة دعاء الصالحين ، من المؤثِّرات الواقعة في سلسلة نظام الأسباب والمسبّبات الكونية ، وعلى هذا ترجع الشفاعة المصطلحة إلى الشفاعة التكوينية بمعنى تأثير دعاء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في جلب المغفرة الإلهيّة إلى العباد.

الشفاعة في الكتاب والسنّة

قد ورد ذكر الشفاعة في الكتاب الحكيم في سور مختلفة لمناسبات شتّى

__________________

(١) النساء : ٤٦.

٤٤١

كما وقعت مورد اهتمام بليغ في الحديث النبويّ وأحاديث العترة الطاهرة ، والآيات القرآنية في هذا المجال على أصناف :

الصنف الأوّل : ما ينفي الشفاعة في بادئ الأمر ، كقوله سبحانه :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (١).

الصنف الثاني : ما ينفي شمول الشفاعة للكفّار ، يقول سبحانه ـ حاكياً عن الكفّار ـ :

(وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ* حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ* فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ) (٢).

الصنف الثالث : ما ينفي صلاحية الأصنام للشفاعة ، يقول سبحانه :

(وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) (٣). (٤)

الصنف الرابع : ما ينفي الشفاعة عن غيره تعالى ، يقول سبحانه : (وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) (٥). (٦)

__________________

(١) البقرة : ٢٥٤.

(٢) المدثر : ٤٦ ـ ٤٨.

(٣) الأنعام : ٩٥.

(٤) ولاحظ : يونس : ١٨ ؛ الروم : ١٣ ؛ يس : ٢٣ ؛ الزمر : ٤٣.

(٥) الأنعام : ٥١.

(٦) ولاحظ : الأنعام : ٧ ؛ السجدة : ٤ ؛ الزمر : ٤٤.

٤٤٢

الصنف الخامس : ما يثبت الشفاعة لغيره تعالى بإذنه ، يقول سبحانه : (يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً) (١). (٢)

الصنف السادس : ما يبيّن من تناله شفاعة الشافعين ، يقول سبحانه : (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ) (٣).

ويقول أيضاً : (وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى) (٤).

هذه نظرة إجماليّة إلى آيات الشفاعة ، وأما السنّة فمن لاحظ الصحاح والمسانيد والجوامع الحديثية يقف على مجموعة كبيرة من الأحاديث الواردة في الشفاعة توجب الإذعان بأنّها من الأُصول المسلّمة في الشريعة الإسلامية ، وإليك نماذج منها :

١. قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لكلّ نبيّ دعوة مستجابة ، فتعجّل كلّ نبيّ دعوته ، وإنّي اختبأت دعوتي شفاعة لأُمتي ، وهي نائلة من مات منهم لا يشرك بالله شيئاً». (٥)

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «أعطيت خمساً وأعطيت الشفاعة ، فادّخرتها لأُمتي ، فهي لمن لا يشرك بالله». (٦)

__________________

(١) طه : ١٠٩.

(٢) ولاحظ : البقرة : ٢٥٥ ؛ يونس : ٣ ؛ مريم : ٨٧ ؛ سبأ : ٢٣ ؛ الزخرف : ٨٦.

(٣) الأنبياء : ٢٨.

(٤) النجم : ٢٦.

(٥) صحيح البخاري : ٨ / ٣٣ وج ٩ / ١٧٠ ؛ صحيح مسلم : ١ / ١٣٠.

(٦) صحيح البخاري : ١ / ٤٢ و ١١٩ ؛ مسند أحمد : ١ / ٣٠١.

٤٤٣

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنّما شفاعتي لأهل الكبائر من أمّتي». (١)

وقال علي عليه‌السلام : «ثلاثة يشفعون إلى الله عزوجل فيشفّعون : الأنبياء ، ثمّ العلماء ، ثمّ الشهداء». (٢)

وقال الإمام زين العابدين عليه‌السلام : «اللهم صلّ على محمّد وآل محمّد ، وشرِّف بنيانه ، وعظِّم برهانه ، وثقِّل ميزانه ، وتقبَّل شفاعته». (٣)

الشفاعة المطلقة والمحدودة

تتصوّر الشفاعة بوجهين :

١. المطلقة : بأن يستفيد العاصي من الشفاعة يوم القيامة وإن فعل ما فعل ، وهذا مرفوض في منطق العقل والوحي.

٢. المحدودة : وهي الّتي تكون مشروطة بأُمور في المشفوع له ، ومجمل تلك الشروط أن لا يقطع الإنسان جميع علاقاته العبودية مع الله ووشائجه الروحية مع الشافعين ، وهذا هو الّذي مقبول عند العقل والوحي.

وبذلك يتضح الجواب عمّا يعترض على الشفاعة من كونها توجب الجرأة وتحيي روح التمرّد في العصاة والمجرمين ، فإنّ ذلك من لوازم الشفاعة المطلقة المرفوضة ، لا المحدودة المقبولة.

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه : ٣ / ٣٧٦.

(٢) الخصال ، للصدوق ، باب الثلاثة ، الحديث ١٦٩.

(٣) الصحيفة السجادية ، الدعاء ، ٤٢. ومن أرد التبسط فليرجع إلى «مفاهيم القرآن» : ٤ / ٢٨٧ ـ ٣١١ لشيخنا الأُستاذ ـ دام ظلّه ـ.

٤٤٤

والغرض من تشريع الشفاعة هو الغرض من تشريع التوبة الّتي اتّفقت الأُمّة على صحّتها ، وهو منع المذنبين عن القنوط من رحمة الله وبعثهم نحو الابتهال والتضرّع إلى الله رجاء شمول رحمته إليهم ، فإنّ المجرم لو اعتقد بأنّ عصيانه لا يغفر قطّ ، فلا شكّ أنّه يتمادى في اقتراف السيئات باعتقاد أنّ ترك العصيان لا ينفعه في شيء ، وهذا بخلاف ما إذا أيقن بأنّ رجوعه عن المعصية يغيّر مصيره في الآخرة ، فإنّه يبعثه إلى ترك العصيان والرجوع إلى الطاعة.

وكذلك الحال في الشفاعة ، فإذا اعتقد العاصي بأنّ أولياء الله قد يشفعون في حقّه إذا لم يهتك الستر ولم يبلغ إلى الحدّ الّذي يحرم من الشفاعة ، فعند ذلك ربّما يحاول تطبيق حياته على شرائط الشفاعة حتى لا يحرمها.

شرائط شمول الشفاعة

قد تعرّفت على أنّ الشفاعة المشروعة هي الشفاعة المحدودة بشروط ، وقد عرفت مجمل تلك الشروط ، وينبغي لنا أن نذكر بعض تلك الشروط تفصيلاً على ما ورد في الروايات :

١. منها عدم الإشراك بالله تعالى :

وقد تقدّم ذلك فيما نقلناه من أحاديث الشفاعة.

٢. الإخلاص في الشهادة بالتوحيد :

٤٤٥

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «شفاعتي لمن شهد أن لا إله إلّا الله مخلصاً ، يصدِّق قلبه لسانه ، ولسانه قلبه». (١)

٣. عدم كونه ناصبياً :

قال الإمام الصادق عليه‌السلام : «إنّ المؤمن ليشفع لحميمه إلّا أن يكون ناصباً ، ولو أنّ ناصباً شفع له كلّ نبيّ مرسل وملك مقرّب ما شفعوا». (٢)

٤. عدم الاستخفاف بالصلاة :

قال الإمام الكاظم عليه‌السلام : «إنّه لا ينال شفاعتنا من استخف بالصلاة». (٣)

٥. عدم التكذيب بشفاعة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله :

قال الإمام علي بن موسى الرضا عليه‌السلام : قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : «من كذّب بشفاعة رسول الله لم تنله». (٤)

ما هو أثر الشفاعة؟

إنّ الشفاعة عند الأُمم ، مرفوضها ومقبولها يراد منها حطّ الذنوب ورفع العقاب ، وهي كذلك عند الإسلام كما يوضحه قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إدّخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أمّتي». (٥)

__________________

(١) صحيح البخارى : ١ / ٣٦ ؛ مسند أحمد : ٢ / ٣٠٧ و ٥١٨.

(٢) ثواب الأعمال للصدوق : ٢٥١.

(٣) الكافي : ٣ / ٢٧٩ ، ج ٦ / ٤٠١.

(٤) عيون أخبار الرضا : ٢ / ٦٦.

(٥) سنن أبي داود : ٢ / ٥٣٧ ؛ صحيح الترمذي : ٤ / ٤٥.

٤٤٦

ولكنّ المعتزلة ذهبت إلى أنّ أثرها ينحصر في رفع الدرجة وزيادة الثواب ، فهي تختصّ بأهل الطاعة ، وما هذا التأويل في آيات الشفاعة إلّا لأجل موقف مسبق لهم في مرتكب الكبيرة ، حيث حكموا بخلوده في النار إذا مات بلا توبة ، فلمّا رأوا أنّ القول بالشفاعة الّتي أثرها هو إسقاط العقاب ، ينافي ذلك المبنى ، أوّلوا آيات الله فقالوا إنّ أثر الشفاعة إنّما هو زيادة الثواب وخالفوا في ذلك جميع المسلمين. (١)

هل يجوز طلب الشفاعة؟

ذهب ابن تيمية ، وتبعه محمّد بن عبد الوهاب ـ مخالفَين الأُمّة الإسلاميّة جمعاء ـ إلى أنّه لا يجوز طلب الشفاعة من الأولياء في هذه النشأة ولا يجوز للمؤمن أن يقول : «يا رسول الله اشفع لي يوم القيامة».

وإنّما يجوز له أن يقول : «اللهم شفّع نبيّنا محمّداً فينا يوم القيامة».

واستدلا على ذلك بوجوه تالية :

١. إنّه من أقسام الشرك ، أي الشرك بالعبادة ، والقائل بهذا الكلام يعبد الولي. (٢)

والجواب عنه ظاهر ، بما قدّمناه في حقيقة الشّرك في العبادة ، وهي أن يكون الخضوع والتذلّل لغيره تعالى باعتقاد أنّه إله أو ربّ ، أو أنّه مفوّض إليه

__________________

(١) انظر : أوائل المقالات : ٥٤ ؛ شرح العقائد النسفية : ١٤٨ ؛ أنوار التنزيل للبيضاوي : ١ / ١٥٢ ؛ ومفاتيح الغيب للرازي : ٣ / ٥٦ ، ومجموعة الرسائل الكبرى ، لابن تيمية : ١ / ٤٠٣ ؛ وتفسير ابن كثير : ١ / ٣٠٩.

(٢) الهدية السنية : ٤٢.

٤٤٧

فعل الخالق وتدبيره وشئونه ، لا مطلق الخضوع والتذلّل.

٢. إنّ طلب الشفاعة من النبيّ يشبه عمل عبدة الأصنام في طلبهم الشفاعة من آلهتهم الكاذبة ، يقول سبحانه :

(وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ)(١).

وعلى ذلك فالاستشفاع من غيره سبحانه عبادة لهذا الغير. (٢)

ويردّه أنّ المعيار في القضاء ليس هو التشابه الصوري ، بل المعيار هو البواطن والعزائم ، وإلّا لوجب أن يكون السعي بين الصفا والمروة والطواف حول البيت شركاً ، لقيام المشركين به في الجاهلية ، وهؤلاء المشركون كانوا يطلبون الشفاعة من الأوثان باعتقاد أنّها آلهة أو أشياء فوّض إليها أفعال الله سبحانه من المغفرة والشفاعة.

وأين هذا ممّن طلب الشفاعة من الأنبياء والأولياء بما أنّهم عباد الله الصالحون ، فعطف هذا على ذلك جور في القضاء وعناد في الاستدلال.

٣. إنّ طلب الشفاعة من الغير دعاء له ودعاء غيره سبحانه حرام ، يقول سبحانه :

(فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً) (٣).

__________________

(١) يونس : ١٨.

(٢) كشف الشبهات لمحمد بن عبد الوهاب : ٦.

(٣) الجن : ١٨.

٤٤٨

ويردّه أنّ مطلق دعاء الغير ليس محرّماً وهو واضح ، وإنّما الحرام منه ما يكون عبادة له بأن يعتقد الأُلوهية والربوبيّة في المدعوّ ، والآية ناظرة إلى هذا القسم بقرينة قوله : (مَعَ اللهِ) أي بأن يكون دعاء الغير على وزان دعائه تعالى وفي مرتبته ، ويدلّ عليه قوله سبحانه ـ حاكياً قولهم يوم القيامة ـ : (تَاللهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ* إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ) (١)

٤. إنّ طلب الشفاعة من الميّت أمر باطل.

ويردّه إنّ الإشكال ناجم من عدم التعرّف على مقام الأولياء في كتاب الله الحكيم ، وقد عرفت في الفصول السابقة إنّ القرآن يصرّح بحياة جموع كثيرة من الشهداء ، وغيرهم ، ولو لم يكن للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله حياة فما معنى التسليم عليه في كلّ صباح ومساء وفي تشهّد كلّ صلاة : «السلام عليك أيّها النبيّ ورحمة الله وبركاته»؟!

والمؤمنون لا يطلبون الشفاعة من أجساد الصالحين وأبدانهم ، بل يطلبونها من أرواحهم المقدّسة الحيّة عند الله سبحانه ، بأبدان برزخية.

* * *

__________________

(١) الشعراء : ٩٧ ـ ٩٨.

٤٤٩
٤٥٠

الفصل التاسع :

الإحباط والتكفير

الإحباط في اللّغة بمعنى الإبطال ، يقال : أحبط عمل الكافر أي أبطله. والتكفير بمعنى التغطية ، يقال : للزارع كافر ، لأنّه يغطّي الحَبّ بتراب الأرض ، قال الله تعالى : (كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ) (١).

والكفر ضدّ الإيمان ، سمّي بذلك لأنّه تغطية الحقّ. (٢)

والمراد من الحبط في اصطلاح المتكلّمين هو سقوط ثواب العمل الصالح بالمعصية المتأخّرة ، كما أنّ المراد من التكفير هو سقوط الذنوب المتقدّمة بالطاعة المتأخّرة.

واختلف المتكلّمون هنا ، فقال جماعة من المعتزلة بالإحباط والتكفير ، ونفاهما المحقّقون ، ثمّ القائلون بهما اختلفوا ، فقال أبو علي الجبّائي : إنّ المتأخّر يسقط المتقدّم ويبقى على حاله ، وقال أبو هاشم : إنّه

__________________

(١) الحديد : ٢٠.

(٢) معجم المقاييس في اللغة : ٢ / ١٢٩ ، مادة «حبط» ؛ وج ٥ ، ص ١٩١ ، مادة «كفر».

٤٥١

ينتفي الأقل بالأكثر ، وينتفي من الأكثر بالأقلّ ما ساواه ، ويبقى الزائد مستحقّاً ، وهذا هو الموازنة. (١)

ويبطل القول الأوّل أنّه يستلزم الظلم ، لأنّ من أساء وأطاع وكانت إساءته أكثر ، يكون بمنزلة من لم يحسن ، وإن كان إحسانه أكثر ، يكون بمنزلة من لم يسيء ، وإن تساويا يكون مساوياً لمن لم يصدر عنه أحدهما وليس كذلك عند العقلاء. (٢)

وأيضاً ينافي قوله تعالى :

(فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ* وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) (٣).

ويردّ قول أبي هاشم ما ذكره المحقّق الطوسي بقوله : «ولعدم الأولويّة إذا كان الأخر ضعفاً ، وحصول المتناقضين مع التساوي» (٤).

توضيحه : أنّا إذا فرضنا استحقاق المكلّف خمسة أجزاء من الثواب وعشرة أجزاء من العقاب ، وليس إسقاط إحدى الخمستين من العقاب بالخمسة من الثواب أولى من الأخرى ، فإمّا أن يسقطا معاً وهو خلاف مذهبه ، أو لا يسقط شيء منهما وهو المطلوب. ولو فرضنا أنّه فعل خمسة أجزاء من الثواب وخمسة أجزاء من العقاب ، فإن تقدّم إسقاط أحدهما

__________________

(١) كشف المراد ، المقصد السادس ، المسألة ٧.

(٢) نفس المصدر.

(٣) الزلزلة : ٧ ـ ٨.

(٤) كشف المراد : المقصد السادس ، المسألة ٧.

٤٥٢

للآخر لم يسقط الباقي بالمعدوم لاستحالة صيرورة المعدوم والمغلوب غالباً ومؤثّراً ، وإن تقارنا لزم وجودهما معاً ، لأنّ وجود كلّ منهما ينفي وجود الآخر فيلزم وجودهما حال عدمهما ، وذلك جمع بين النقيضين. (١)

فإن قلت : لو كان الإحباط باطلاً فما هو المخلص فيما يدلّ على حبط العمل في غير مورد من الآيات الّتي ورد فيها أنّ الكفر والارتداد والشرك والإساءة إلى النبيّ وغيرها ممّا يحبط الحسنات؟

قلت : إنّ القائلين ببطلان الإحباط يفسّرون الآيات بأنّ استحقاق الثواب في مواردها كان مشروطاً بعدم لحوق العصيان بالطاعات. ويمكن أن يقال إنّ الاستحقاق في بدء صدور الطاعات لم يكن مشروطاً بعدم لحوق العصيان ، بل كان استقراره وبقاؤه هو المشروط بعدم لحوق المعصية.

قال الطبرسي في تفسير قوله تعالى : (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ) (٢) وفي قوله : (فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ) هنا دلالة على أنّ حبوط الأعمال لا يترتّب على ثبوت الثواب ، فإنّ الكافر لا يكون له عمل قد ثبت عليه ثواب ، وإنّما يكون له عمل في الظاهر لو لا كفره لكان يستحقّ الثواب عليه ، فعبّر سبحانه عن هذا العمل بأنّه حبط ، فهو حقيقة معناه». (٣)

__________________

(١) توضيح الدليل للعلّامة الحلي ، لاحظ : المصدر المتقدّم.

(٢) المائدة : ٥.

(٣) مجمع البيان : ٣ ـ ٤ / ١٦٣ ، لاحظ أيضاً ص ٢٠٧ ، تفسير الآية ٥٠ المائدة.

٤٥٣

وبما ذكره الطبرسي يظهر جواب سؤال آخر ، وهو أنّه إذا كان الاستحقاق مشروطاً بعدم صدور العصيان فكيف يطلق عليه الإحباط ، إذ الإحباط إبطال وإسقاط ولم يكن هناك شيء يبطل أو يسقط؟

وذلك لأنّ نفس العمل في الظاهر سبب ومقتضٍ ، فالإبطال والإسقاط كما يصدقان مع وجود العلّة التامّة ، فهكذا يصدقان مع وجود المقتضي الّذي هو جزء العلّة.

هذا كلّه في الإحباط ، وأمّا التكفير فهو لا يعدّ ظلماً لأنّ العقاب حقّ للمولى وإسقاط الحقّ ليس ظلماً بل إحسان ، وخلف الوعيد ليس بقبيح عقلاً ، وإنّما القبيح خلف الوعد ، فلأجل ذلك لا حاجة إلى تقييد استحقاق العقاب أو استمراره بعدم تعقّب الطاعات ، بل هو ثابت غير أنّ المولى سبحانه عفي عبده لما فعله من الطاعات.

قال سبحانه :

(إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً)(١).(٢)

هذا ولا يصحّ القول بالإحباط والتكفير في كلّ الأعمال ، بل يجب تتّبع النصوص والاقتصار بها في ذلك.

__________________

(١) النساء : ٣١.

(٢) وفي معناها الآية ٢٩ / الأنفال ؛ والآية ٢ / محمّد.

٤٥٤

الفصل العاشر :

الإجابة عن أسئلة حول المعاد

نختم مباحث المعاد بالإجابة عن أسئلة طرحت في هذا المجال :

١. كيف يخلّد الإنسان في الآخرة مع أنّ المادّة تفنى؟

دلّت الآيات والروايات على خلود الإنسان في الآخرة ، إمّا في جنّتها ونعيمها ، أو في جحيمها وعذابها مع أنّ القوانين العلمية دلّت على أنّ المادّة حسب تفجُّر طاقاتها ، على مدى أزمنة طويلة ، تبلغ إلى حدّ تنفد طاقتها ، فلا يمكن أن يكون للجنّة والنار بقاء ، وللإنسان خلود.

والجواب ، أنّ السؤال ناش من مقايسة الآخرة بالدنيا وهو خطأ فادح ، لأنّ التجارب العلمية لا تتجاوز نتائجها المادّة الدنيوية ، وإسراء حكم هذا العالم إلى العالم الآخر ، وإن كان ماديّاً ، قياس بلا دليل ، فللآخرة أحكام تخصّها لا يقاس بها أحكام هذه النشأة يقول سبحانه : (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ) (١).

__________________

(١) إبراهيم : ٤٨.

٤٥٥

قال العلّامة الطباطبائي :

المسلم من التبدّل أنّ حقيقة الأرض والسماء وما فيهما يومئذ هي هي ، غير أنّ النظام الجاري فيهما يومئذ غير النظام الجاري فيهما في الدنيا. (١)

وقد تعلّقت مشيئته تعالى بإخلاد الجنّة والنار والحياة الأُخروية ، وله إفاضة الطاقة ، إفاضة بعد إفاضة على العالم الأُخروي ويعرب عن ذلك قوله سبحانه :

(كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ إِنَّ اللهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً) (٢).

٢. ما هو الغرض من عقاب المجرم؟

إنّ الحكيم لا يعاقب إلّا لغاية ، وغاية العقوبة إمّا التشفّي كما في قصاص المجرم ، وهو محال على الله ، أو تأديب المجرم ، أو اعتبار الآخرين ، وهما يختصّان بالنشأة الدنيوية ، فتعذيب المجرم في الآخرة عبث.

والجواب عنه : أنّ وقوع المعاد من ضروريات العقل ومن غاياته تحقّق العدل الإلهي بوجه كامل في مورد المكلّفين ، ويتوقّف ذلك على عقوبة المجرمين وإثابة المطيعين. (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ* ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) (٣).

__________________

(١) الميزان : ١٢ / ٩٣.

(٢) النساء : ٥٦.

(٣) القلم : ٣٥ ـ ٣٦.

٤٥٦

٣. هل يجوز العفو عن المسيء؟

والجواب مثبت ، لأنّ التعذيب حقّ للمولى سبحانه وله إسقاط حقّه ، فيجوز ذلك إذا اقتضته الحكمة الإلهيّة ولم يكن هناك مانع عنه.

وقد خالف معتزلة بغداد في ذلك ، فلم يجوّزوا العفو عن العصاة عقلاً ، واستدلّوا عليه بوجهين :

الأوّل : «إنّ المكلّف متى علم أنّه يفعل به ما يستحقّه من العقوبة على كلّ وجه ، كان أقرب إلى أداء الواجبات واجتناب الكبائر». (١)

يلاحظ عليه : أنّه لو تمّ لوجب سدّ باب التوبة ، لإمكان أن يقال إنّ المكلّف متى علم أنّه لا تقبل توبته كان أقرب إلى الطاعة وأبعد من المعصية.

أضف إلى ذلك أنّ للرجاء آثاراً بنّاءة في حياة الإنسان ، ولليأس آثاراً سلبية في الإدامة على الموبقات ، ولأجل ذلك جاء الذكر الحكيم بالترغيب والترهيب معاً.

ثمّ إنّ الكلام في جواز العفو لا في حتميته ، والأثر السّلبي ـ لو سلّمناه ـ يترتّب على الثاني دون الأوّل.

الثاني : إنّ الله أوعد مرتكب الكبيرة بالعقاب ، فلو لم يعاقب ، للزم الخلف في وعيده والكذب في خبره وهما محالان. (٢)

__________________

(١) شرح الأُصول الخمسة : ٦٤٦.

(٢) شرح العقائد العضدية ، لجلال الدين الدواني : ٢ / ١٩٤.

٤٥٧

والجواب : أنّ الخلف في الوعد قبيح دون الوعيد ، والدليل على ذلك أنّ كلّ عاقل يستحسن العفو بعد الوعيد في ظروف خاصّة ، والوجه فيه أنّ الوعيد ليس جعل حقّ للغير بخلاف الوعد ، بل الوعيد حق لمن يَعِد فقط ، وله إسقاط حقّه ، والصدق والكذب من أحكام الإخبار دون الإنشاء ، والوعيد إنشاء ليس بإخبار فلا يعرضه الكذب.

٤. هل الجنّة والنار مخلوقتان؟

اختلف المتكلّمون في ذلك ، فذهب الجمهور إلى أنّهما مخلوقتان ، وأكثر المعتزلة والخوارج وطائفة من الزيدية ذهبوا إلى خلاف ذلك ، قال الشيخ المفيد :

إنّ الجنة والنار في هذا الوقت مخلوقتان ، وبذلك جاءت الأخبار ، وعليه إجماع أهل الشرع والآثار ، وقد خالف في هذا القول المعتزلة والخوارج وطائفة من الزيدية ، فزعم أكثر من سمّيناه أنّ ما ذكرناه من خلقهما من قسم الجائز دون الواجب ، ووقفوا في الوارد به من الآثار ، وقال من بقي منهم بإحالة خلقهما. (١)

واستدلّ القائلون بكونهما مخلوقتين بالآيات الدالّة على أنّ الجنة أعدَّت للمتّقين والنار أُعدَّت للكافرين. (٢)

__________________

(١) أوائل المقالات : ١٤١ ـ ١٤٢ ، الطبعة الثانية ؛ ولاحظ : شرح المقاصد : ٥ / ١٠٨ ، وشرح التجريد للقوشجي : ٥٠٧.

(٢) قواعد المرام : ١٦٧.

٤٥٨

وقد احتمل السيّد الرضي في «حقائق التأويل» أن يكون التعبير بالماضي لقطعية وقوعه ، فكأنّه قد كان (١) وله نظائر في القرآن الكريم.

أقول : ممّا يدلّ على أنّ الجنة مخلوقة قوله تعالى : (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى * عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى) (٢).

ولم ير التعبير عن الشيء الّذي سيتحقّق غداً بالجملة الاسمية.

ثمّ إنّ هناك روايات متضافرة مصرّحة بأنّ الجنّة والنار مخلوقتان ، فلا يمكن العدول عنها. (٣)

واستدلّ النافون لخلقهما بوجوه :

١. إنّ خلق الجنة والنار قبل يوم الجزاء عبث.

وفيه أن الحكم بالعبثية يتوقّف على العلم القطعي بعدم ترتّب غرض عليه ، ومن أين لنا العلم بهذا؟ ويمكن عدّ ذلك من مصاديق لطفه تعالى كما أشار إليه المحقّق اللاهيجي. (٤)

٢. إنّهما لو خلقتا لهلكتا لقوله تعالى : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) (٥).

واللازم باطل للإجماع على دوامهما ، وللنصوص الشاهدة بدوام أُكُل الجنّة وظِلِّها.

__________________

(١) حقائق التأويل : ٢٤٧.

(٢) النجم : ١٣ ـ ١٥.

(٣) لاحظ بحار الأنوار : ٨ / ١١٩ و ١٩٦ ، باب الجنة ، الأحاديث ٣٤ ، ١٢٩ ، ١٣٠.

(٤) گوهر مراد : ٦٦١ (فارسي).

(٥) القصص : ٨٨.

٤٥٩

يلاحظ عليه : أنّه ليس المراد من «هالك» هو تحقّق انعدام كلّ شيء وبطلان وجوده ، بل المراد أنّ كلّ شيء هالك في نفسه باطل في ذاته ، هذا بناء على كون المراد بالهالك في الآية ، الهالك بالفعل ، وأمّا إذا أُريد منه الاستقبال ـ بناءً على ما قيل من أنّ اسم الفاعل ظاهر في الاستقبال ـ فهلاك الأشياء ليس بمعنى البطلان المطلق بعد الوجود بأن لا يبقى منها أثر ، فإنّ آيات القرآن ناصّة على أنّ كلّ شيء مرجعه إلى الله وإنّما المراد بالهلاك على هذا الوجه ، تبدّل نشأة الوجود والانتقال من الدنيا إلى الآخرة ، وهذا يختصّ بما يكون وجوده وجوداً دنيوياً محكوماً بأحكامها ، فالجنّة والنّار الأخرويان خارجان من مدلول الآية تخصّصاً.

وقد أجيب عن الإشكال بمنع الملازمة ، وحمل دوام أُكُلِها وظلّها على دوامها بعد وجودها ودخول المكلّفين فيها. (١)

٥. أين مكان الجنّة والنّار؟

المشهور عند المتكلّمين أنّ الجنّة فوق السماوات ، تحت العرش ، وأنّ النار تحت الأرضين (٢) والالتزام بذلك مشكل لعدم ورود دليل صريح أو ظاهر في ذلك ، قال المحقّق الطوسي :

والحقّ إنّا لا نعلم مكانهما ويمكن أن يستدلّ على موضع الجنة بقوله تعالى : (عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى) (٣) يعني عند سدرة المنتهى. (٤)

__________________

(١) قواعد المرام : ١٦٨.

(٢) شرح المقاصد : ٥ / ١١١.

(٣) النجم : ١٥.

(٤) تلخيص المحصل : ٣٩٥.

٤٦٠