محاضرات في الإلهيّات

الشيخ علي الربّاني الگلبايگاني

محاضرات في الإلهيّات

المؤلف:

الشيخ علي الربّاني الگلبايگاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١١
ISBN: 978-964-357-294-5
الصفحات: ٥٢٨

إجابة عن إشكال

قد استشكل على القول بانتهاء الممكنات إلى علّة أزليّة ليست بمعلول ، بأنّه يستلزم تخصيص القاعدة العقلية ، فإنّ العقل يحكم بأنّ الشيء لا يتحقّق بلا علّة.

والجواب : انّ القاعدة العقليّة تختص بالموجودات الإمكانية الّتي لا تقتضي في ذاتها وجوداً ولا عدماً ، إذ الحاجة إلى العلّة ، ليست من خصائص الموجود بما هو موجود ، بل هي من خصائص الموجود الممكن ، فإنّه حيث لا يقتضي في حدِّ ذاته الوجود ولا العدم ، لا بدَّ له من علّة توجده ، ويجب انتهاء أمر الإيجاد إلى ما يكون الوجود عين ذاته ولا يحتاج إلى غيره ، لما تقدّم من إقامة البرهان على امتناع التسلسل ، فالاشتباه نشأ من الغفلة عن وجه الحاجة إلى العلّة وهو الإمكان لا الوجود.

٤١
٤٢

الباب الثاني :

في التوحيد ومراحله

يحتلّ التوحيد المكانة العليا في الشرائع السماوية ، فكان أوّل كلمة في تبليغ الرسل الدعوة إلى التوحيد ورفض الثنوية والشرك ، يقول سبحانه :

(وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) (النحل : ٣٦).

ولأجل ذلك يجب على الإلهي التركيز على مسألة التوحيد أكثر من غيرها ، واستيفاء الكلام فيه موقوف على البحث حول أهمِّ مراحل التوحيد ، وهي :

١. التوحيد في الذات ؛

٢. التوحيد في الصفات ؛

٣. التوحيد في الخالقية ؛

٤. التوحيد في الربوبية ؛

٥. التوحيد في العبادة.

وإليك دراسة المواضيع المتقدّمة :

٤٣
٤٤

الفصل الأوّل :

التوحيد في الذات

يعنى بالتوحيد في الذات أمران : الأوّل أنّ ذاته سبحانه بسيط لا جزء له ، والثاني أنّ ذاته تعالى متفرِّد ليس له مثل ولا نظير ، وقد يعبَّر عن الأوّل بأحديّة الذات وعن الثاني بواحديّته. وفي سورة التوحيد إشارة إلى هذين المعنيين ، فقوله تعالى : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) إشارة إلى المعنى الأوّل وقوله تعالى : (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) إشارة إلى المعنى الثاني.

البرهان على بساطة ذاته تعالى

اعلم أنّ التركيب على أقسام :

١. التركيب من الأجزاء العقلية فقط كالجنس والفصل.

٢. التركيب منها ومن الأجزاء الخارجية كالمادّة والصورة والأجزاء العنصرية.

٣. التركيب من الأجزاء المقدارية كأجزاء الخط والسطح.

والمدّعى أنّ ذاته تعالى بسيط ليس بمركب من الأجزاء مطلقاً.

٤٥

والدليل على أنّه ليس مركّباً من الأجزاء الخارجية والمقداريّة أنّه سبحانه منزّه عن الجسم والمادّة كما سيوافيك البحث عنه في الصفات السلبية.

والبرهان على عدم كونه مركّباً من الأجزاء العقلية هو أنّ واجب الوجود بالذات لا ماهية له ، وما لا ماهية له ليس له الأجزاء العقليّة الّتي هي الجنس والفصل (١).

والوجه في انتفاء الماهيّة عنه تعالى بهذا المعنى هو أنّ الماهيّة من حيث هي هى ، مع قطع النظر عن غيرها ، متساوية النسبة إلى الوجود والعدم ، فكلّ ماهيّة من حيث هي ، تكون ممكنة ، فما ليس بممكن ، لا ماهيّة له والله تعالى بما أنّه واجب الوجود بالذات ، لا يكون ممكناً بالذات فلا ماهيّة له.

دلائل وحدانيّته :

أ. التعدّد يستلزم التركيب

لو كان هناك واجب وجود آخر لتشارك الواجبان في كونهما واجبي الوجود ، فلا بدّ من تميّز أحدهما عن الآخر بشيء وراء ذلك الأمر المشترك ، وذلك يستلزم تركب كلّ منهما من شيئين : أحدهما يرجع إلى ما به الاشتراك ،

__________________

(١) انّ الماهية تطلق على معنيين : أحدهما ما يقال في جواب «ما» الحقيقية ويعبَّر عنها بالذات والحقيقة أيضاً ، وثانيهما ما يكون به الشيء هو هو بالفعل ، أي الهويّة ، والمراد من نفي الماهية عنه سبحانه هو المعنى الأوّل.

٤٦

والآخر إلى ما به الامتياز ، وقد عرفت انّ واجب الوجود بالذات بسيط ليس مركّباً لا من الأجزاء العقلية ولا الخارجية.

ب. صرف الوجود لا يتثنّى ولا يتكرّر

قد تبيّن أنّ واجب الوجود بالذات لا ماهيّة له ، فهو صرف الوجود ، ولا يخلط وجوده نقص وفقدان ، ومن الواضح أنّ كلّ حقيقة من الحقائق إذا تجرّدت عن أيّ خليط وصارت صرف الشيء ، لا يمكن أن تتثنّى وتتعدّد.

وعلى هذا ، فإذا كان سبحانه ـ بحكم أنّه لا ماهيّة له ـ وجوداً صرفاً ، لا يتطرّق إليه التعدّد ، ينتج أنّه تعالى واحد لا ثاني له ولا نظير وهو المطلوب.

التوحيد الذاتي في القرآن والحديث

إنّ القرآن الكريم عند ما يصف الله تعالى بالوحدانية ، يصفه ب «القهّاريّة» ويقول:

(هُوَ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) (١)

وبهذا المضمون آيات متعدّدة أُخرى في الكتاب المجيد ، وما ذلك إلّا لأنّ الموجود المحدود المتناهي مقهور للحدود والقيود الحاكمة عليه ، فإذا كان قاهراً من كل الجهات لم تتحكّم فيه الحدود ، فاللّامحدودية تلازم وصف القاهرية.

__________________

(١) الزمر : ٤.

٤٧

ومن هنا يتضح أنّ وحدته تعالى ليست وحدة عددية ولا مفهومية ، قال العلّامة الطباطبائى قدس‌سره :

إنّ كلاً من الوحدة العددية كالفرد الواحد من النوع ، والوحدة النوعية كالإنسان الّذي هو نوع واحد في مقابل الانواع الكثيرة ، مقهور بالحدّ الّذي يميّز الفرد عن الآخر والنوع عن مثله ، فإذا كان تعالى لا يقهره شيء وهو القاهر فوق كل شيء ، فليس بمحدود في شيء ، فهو موجود لا يشوبه عدم ، وحقّ لا يعرضه باطل ، فلله من كلّ كمال محضه (١).

ثمّ إنّ إمام الموحّدين عليّاً عليه‌السلام عند ما سئل عن وحدانيّته تعالى ، ذكر للوحدة أربعة معان ، اثنان منها لا يليقان بساحته تعالى واثنان منها ثابتان له.

أمّا اللّذان لا يليقان بساحته تعالى ، فهما : الوحدة العددية والوحدة المفهومية حيث قال :

«فأمّا اللّذان لا يجوزان عليه ، فقول القائل واحد يقصد به باب الأعداد ، فهذا ما لا يجوز ، لأنّ ما لا ثاني له لا يدخل في باب الاعداد ، أما ترى انّه كفر من قال إنّه ثالث ثلاثة ، وقول القائل هو واحد من الناس يريد به النوع من الجنس ، فهذا ما لا يجوز ، لأنّه تشبيه وجلّ ربُّنا وتعالى عن ذلك».

__________________

(١) الميزان : ٦ / ٨٨ ـ ٨٩ بتلخيص.

٤٨

وأمّا اللذان ثابتان له تعالى ، فهما : بساطة ذاته ، وعدم المثل والنظير له ، حيث قال:

«وأمّا الوجهان اللّذان يثبتان فيه ، فقول القائل : هو واحد ليس له في الأشياء شبه ... وأنّه عزوجل أحديّ المعنى .... لا ينقسم في وجود ولا عقل ولا وهم ...» (١).

نظريّة التثليث عند النصارى

إنّ كلمات المسيحيين في كتبهم الكلاميّة تحكي عن أنّ الاعتقاد بالتثليث من المسائل الأساسية الّتي تبتني عليها عقيدتهم ، ولا مناص لأيّ مسيحي من الاعتقاد به ، وفي عين الوقت يعتبرون أنفسهم موحّدين غير مشركين ، وأنّ الإله في عين كونه واحداً ثلاثة ومع كونه ثلاثة واحد أيضاً.

وأقصى ما عندهم في تفسير الجمع بين هذين النقيضين هو أنّ عقيدة التثليث عقيدة تعبّديّة محضة ولا سبيل إلى نفيها وإثباتها إلّا الوحي ، فإنّها فوق التجربيات الحسيّة والإدراكات العقليّة المحدودة للإنسان.

نقد هذه النظريّة

ويلاحظ عليه أنّ عقيدة التثليث بالتفسير المتقدّم مشتملة على التناقض الصريح ، إذ من جانب يعرّفون كلّ واحد من الآلهة الثلاثة بأنّه متشخّص ومتميّز عن البقية ، وفي الوقت نفسه يعتبرون الجميع واحداً

__________________

(١) التوحيد للصدوق : الباب ٣ ، الحديث ٣.

٤٩

حقيقة لا مجازاً ، أفيمكن الاعتقاد بشيء يضادّ بداهة العقل ، ثمّ إسناده إلى ساحة الوحي الإلهي؟

وأيضاً نقول : ما هو مقصودكم من الآلهة الثلاثة الّتي تتشكّل منها الطبيعة الإلهية الواحدة ، فإنّ لها صورتين لا تناسب واحدة منهما ساحته سبحانه :

١. أن يكون لكلّ واحد من هذه الآلهة الثلاثة وجوداً مستقلاً عن الآخر بحيث يظهر كلّ واحد منها في تشخّص ووجود خاص ، ويكون لكلّ واحد من هذه الأقانيم أصل مستقلّ وشخصيّة خاصّة مميّزة عمّا سواها.

لكن هذا هو الاعتقاد بتعدّد الإله الواجب بذاته ، وقد وافتك أدلّة وحدانيته تعالى.

٢. أن تكون الأقانيم الثلاثة موجودة بوجود واحد ، فيكون الإله هو المركّب من هذه الأُمور الثلاثة ، وهذا هو القول بتركّب ذات الواجب ، وقد عرفت بساطة ذاته تعالى. (١)

__________________

(١) فإن قلت : إنّ هاهنا تفسيراً آخر للتثليث وهو أنّ الحقيقة الواحدة الإلهية تتجلّى في أقانيم ثلاثة.

قلت : تجلّي تلك الحقيقة فيها لا يخلو عن وجهين : الأوّل ، أن تصير بذلك ثلاث ذوات كلّ منها واجدة لكمال الحقيقة الإلهية ، وهذا ينافي التوحيد الذاتي. والثاني أن تكون الذات الواجدة لكمال الأُلوهية واحدة ولها تجلّيات صفاتية وأفعالية ومنها المسيح وروح القدس ، وهذا وإن كان صحيحاً إلّا أنّه ليس من التثليث الّذي يتبنّاه المسيحيون في شيء.

٥٠

تسرّب خرافة التثليث إلى النصرانية

إنّ التاريخ البشري يرينا أنّه طالما عمد بعض أتباع الأنبياء ـ بعد وفاة الأنبياء أو خلال غيابهم ـ إلى الشرك والوثنية ، تحت تأثير المضلّين ؛ إنّ عبادة بني اسرائيل للعجل في غياب موسى عليه‌السلام أظهر نموذج لما ذكرناه وهو ممّا أثبته القرآن والتاريخ ، وعلى هذا فلا عجب إذا رأينا تسرُّب خرافة التثليث إلى العقيدة النصرانية بعد ذهاب السيد المسيح عليه‌السلام وغيابه عن أتباعه.

إنّ القرآن الكريم يصرّح بأنّ التثليث دخل النصرانية بعد رفع المسيح ، من العقائد الخرافية السابقة عليها ، حيث يقول تعالى :

(وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) (١)

لقد أثبتت الأبحاث التاريخية انّ هذا التثليث كان في الديانة البرهمانية والهندوكيّة قبل ميلاد السيّد المسيح بمئات السنين ، فقد تجلّى الربّ الأزلي الأبدي لديهم في ثلاثة مظاهر وآلهة :

١. براهما (الخالق).

٢. فيشنو (الواقي).

٣. سيفا (الهادم).

__________________

(١) التوبة : ٣٠.

٥١

وبذلك يظهر قوّة ما ذكره الفيلسوف الفرنسي «غستاف لوبون» قال :

لقد واصلت المسيحية تطوّرها في القرون الخمسة الأولى من حياتها ، مع أخذ ما تيسّر من المفاهيم الفلسفية والدينية اليونانية والشرقية ، وهكذا أصبحت خليطاً من المعتقدات المصرية والإيرانية الّتي انتشرت في المناطق الأُوروبيّة حوالي القرن الأوّل الميلادي فاعتنق الناس تثليثاً جديداً مكوّناً من الأب والابن وروح القدس ، مكان التثليث القديم المكوّن من «نروبى تر» و «وزنون» و «نرو». (١)

__________________

(١) قصة الحضارة ، ويل دورانت : ٣ / ٧٧٠.

٥٢

الفصل الثاني :

التوحيد في الصفات

اختلف الإلهيون في كيفية إجراء صفات الله الذاتية عليه سبحانه على قولين :

الأوّل : عينية الصفات مع الذات ، وهذا ما تبنّته أئمة أهل البيت عليهم‌السلام واختاره الحكماء الإلهيون وعليه جمهور المتكلّمين من الإمامية والمعتزلة وغيرهما.

والثاني : زيادتها على الذات وهو مختار المشبِّهة من أصحاب الصفات والأشاعرة ، قال الشيح المفيد في هذا المجال :

إنّ الله عزوجل اسمه حيّ لنفسه لا بحياة ، وانّه قادر لنفسه وعالم لنفسه لا بمعنى كما ذهب إليه المشبِّهة من اصحاب الصفات ... وهذا مذهب الإمامية كافّة والمعتزلة إلّا من سمّيناه (١) وأكثر المرجئة وجمهور الزيدية وجماعة من اصحاب الحديث والمحكِّمة. (٢)

__________________

(١) المراد أبو هاشم الجبّائي.

(٢) أوائل المقالات : ٥٦.

٥٣

قوله : «لا بحياة» يعني حياة زائدة على الذات ، وقوله : «لا بمعنى» أي صفة زائدة كالعلم والقدرة.

إذا عرفت ذلك فاعلم : أنّ الصحيح هو القول بالعينية ، فإنّ القول بالزيادة يستلزم افتقاره سبحانه في العلم بالأشياء وخلقه إيّاها إلى أمور خارجة عن ذاته ، فهو يعلم بعلم هو سوى ذاته ، ويخلق بقدرة هي خارجة عن حقيقته وهكذا ، والواجب بالذات منزّه عن الاحتياج إلى غير ذاته ، والأشاعرة وإن كانوا قائلين بأزليّة الصفات مع زيادتها على الذات ، لكنّ الأزلية لا ترفع الفقر والحاجة عنه ، لأنّ الملازمة غير العينية. ثمّ إن زيادة الصفات على الذات تستلزم الاثنينية والتركيب ، قال الامام علي عليه‌السلام :

«وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه ، لشهادة كلّ صفة انّها غير الموصوف ، وشهادة كلّ موصوف انّه غير الصفة ، فمن وصف الله سبحانه فقد قرنه ومن قرنه فقد ثنّاه ، ومن ثنّاه فقد جزّأه ، ومن جزّأه فقد جهله». (١)

فإن قلت : لا شكّ أنّ لله تعالى صفات وأسماء مختلفة أُنهيت في الحديث النبوي المعروف إلى تسع وتسعين (٢) ، فكيف يجتمع ذلك مع القول بالعينيّة ووحدة الذات والصفات؟

قلت : كثرة الأسماء والصفات راجعة إلى عالم المفهوم ، مع أنّ العينية

__________________

(١) نهج البلاغة : الخطبة الأولى.

(٢) التوحيد للصدوق : الباب ٢٩ ، الحديث ٨.

٥٤

ناظرة إلى مقام الواقع العيني ، ولا يمتنع كون الشيء على درجة من الكمال يكون فيها كلّه علماً وقدرة وحياة ومع ذلك فينتزع منه باعتبارات مختلفة صفات متعدّدة متكثّرة ، وهذا كما أنّ الإنسان الخارجي مثلا بتمام وجوده مخلوق لله سبحانه ، ومعلوم له ومقدور له ، من دون أن يخصّ جزء منه بكونه معلوماً وجزء آخر بكونه مخلوقاً أو مقدوراً ، بل كلّه معلوم وكلّه مخلوق ، وكلّه مقدور.

ثمّ إنّ الشيخ الأشعري استدلّ على نظرية الزيادة بأنّه يستحيل أن يكون العلم عالماً ، أو العالم علماً ، ومن المعلوم انّ الله عالم ، ومن قال : إنّ علمه نفس ذاته لا يصحّ له أن يقول إنّه عالم ، فتعيّن أن يكون عالماً بعلم يستحيل أن يكون هو نفسه. (١)

يلاحظ عليه : أنّ الحكم باستحالة اتحاد العلم والعالم وعينيتهما مأخوذ عمّا نعرفه في الإنسان ونحوه من الموجودات الممكنة في ذاتها ولا شكّ في مغايرة الذات والصفة في هذا المجال ، ولكن لا تصحّ تسريته إلى الواجب الوجود بالذات ، فإذا قام البرهان على العينية هنا ، فلا استحالة في كون العلم عالماً وبالعكس.

وهناك ادلّة أخرى للأشاعرة على إثبات نظريّتهم ، والكلّ مخدوشة كما اعترف بذلك صاحب المواقف. (٢)

ثمّ إنّ المشهور أنّ المعتزلة نافون للصفات مطلقاً وقائلون بنيابة الذات

__________________

(١) اللمع : ٣٠ ، باختصار.

(٢) راجع : شرح المواقف : ٨ / ٤٥ ـ ٤٧.

٥٥

عن الصفات ، ولكنّه لا أصل له ، فالمنفي عندهم هو الصفات الزائدة الأزلية ، لا أصل الصفات فهم قائلون بالعينية كالإمامية ، ويدلّ على ذلك كلام الشيخ المفيد الآنف الذكر ، نعم يظهر القول بالنيابة من عبّاد بن سليمان وأبي علي الجبّائي. (١)

__________________

(١) للوقوف على آرائهم في هذا المجال راجع «بحوث في الملل والنحل» لشيخنا الأُستاذ السبحاني ـ دام ظلّه ـ : ٣ / ٢٧١ ـ ٢٧٩.

٥٦

الفصل الثالث :

التوحيد في الخالقية

إنّ العقل يدلّ بوضوح على أنّه ليس في الكون خالق أصيل إلّا الله سبحانه ، وأنّ الموجودات الإمكانية مخلوقة لله تعالى ، وما يتبعها من الأفعال والآثار ، حتى الإنسان وما يصدر منه ، مستندة إليه سبحانه بلا مجاز وشائبة عناية ، غاية الأمر أنّ ما في الكون مخلوق له إمّا بالمباشرة أو بالتسبيب.

وذلك لما عرفت من أنّه سبحانه هو الواجب الغني ، وغيره ممكن بالذات ، ولا يعقل أن يكون الممكن غنياً في ذاته وفعله عن الواجب ، فكما أنّ ذاته قائمة بالله سبحانه ، فهكذا فعله ، وهذا ما يعبّر عنه بالتوحيد في الخالقية. ومن عرف الممكن حقّ المعرفة وانّه الفقير الفاقد لكلّ شيء في حدّ ذاته ، يعد المسألة بديهيّة.

هذا ما لدى العقل ، وأمّا النقل فقد تضافرت النصوص القرآنية على أنّ الله سبحانه هو الخالق ، ولا خالق سواه. وإليك نماذج من الآيات الواردة في هذا المجال :

(قُلِ اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) (١).

__________________

(١) الرعد : ١٦.

٥٧

(اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) (١).

(ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) (٢).

(أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ) (٣).

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ) (٤).

إلى غير ذلك من الآيات القرآنيّة الدالّة على ذلك.

موقف القرآن الكريم تجاه قانون العلّيّة

إنّ الامعان في الآيات الكريمة يدفع الإنسان إلى القول بأنّ الكتاب العزيز يعترف بأنّ النظام الإمكاني نظام الأسباب والمسبّبات ، فإنّ المتأمّل في الذكر الحكيم لا يشكّ في أنّه كثيراً ما يسند آثاراً إلى الموضوعات الخارجية والأشياء الواقعة في دار المادة ، كالسماء وكواكبها ونجومها ، والأرض وجبالها وبحارها وبراريها وعناصرها ومعادنها ، والسحاب والرعد والبرق والصواعق والماء والأعشاب والأشجار والحيوان والإنسان ، إلى غير ذلك من الموضوعات الواردة في القرآن الكريم ، فمن أنكر إسناد القرآن آثار تلك الأشياء إلى أنفسها فإنّما أنكره بلسانه وقلبه مطمئن بخلافه ، وإليك ذكر نماذج من الآيات الواردة في هذا المجال:

١. (وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ.) (٥)

__________________

(١) الزمر : ٦٢.

(٢) المؤمن : ٦٢.

(٣) الأنعام : ١٠١.

(٤) فاطر : ٣.

(٥) البقرة : ٢٢.

٥٨

فقد صرّح في هذه الآية بتأثير الماء في تكوّن الثمرات والنباتات ، فإنّ الباء في قوله : (بِهِ) بمعنى السببية ، ونظيرها الآية : ٢٧ من سورة السجدة والآية : ٤ من سورة الرعد ، وغيرها من الآيات.

٢. (اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ.) (١)

فقوله سبحانه : (فَتُثِيرُ سَحاباً) صريح في أنّ الرياح تحرّك السحاب وتسوقها من جانب إلى جانب ، فالرياح اسباب وعلل تكوينية لحركة السحاب وبسطها في السماء.

٣. (وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) (٢).

فالآية تصرّح بتأثير الماء في اهتزاز الأرض وربوتها ، ثمّ تصرّح بإنبات الأرض من كلّ زوج بهيج.

٤. (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ) (٣).

فالآية تسند إنبات السنابل السبع إلى الحبَّة.

ثمّ إنّ هناك أفعالاً أسندها القرآن إلى الإنسان لا تقوم إلّا به ، ولا يصحّ إسنادها إلى الله سبحانه بحدودها وبلا واسطة كأكله وشربه ومشيه وقعوده

__________________

(١) الروم : ٤٨.

(٢) الحج : ٥.

(٣) البقرة : ٢٦١.

٥٩

ونكاحه ونموّه وفهمه وشعوره وسروره وصلاته وصيامه ، فهذه أفعال قائمة بالإنسان مستندة إليه ، فهو الّذي يأكل ويشرب وينمو ويفهم.

فالقرآن يعدّ الإنسان فاعلا لهذه الأفعال وعلّة لها.

كما أنّ في القرآن آيات مشتملة على الأوامر والنواهي الإلهية ، وتدلّ على مجازاته على تلك الأوامر والنواهي ، فلو لم يكن للإنسان دور في ذلك المجال وتأثير في الطاعة والعصيان فما هي الغاية من الأمر والنهي وما معنى الجزاء والعقوبة؟

التفسير الصحيح للتوحيد في الخالقية

إنّ المقصود من حصر الخالقية بالله تعالى هو الخالقية على سبيل الاستقلال وبالذات ، وأمّا الخالقية المأذونة من جانبه تعالى فهي لا تنافي التوحيد في الخالقية. كما انّ المراد من السببية الإمكانية (اعم من الطبيعية وغيرها) ليست في عرض السببية الإلهية ، بل المقصود انّ هناك نظاماً ثابتاً في عالم الكون تجرى عليه الآثار الطبيعية والأفعال البشرية ، فلكلّ شيء أثر تكويني خاصّ ، كما أنّ لكلّ أثر وفعل مبدأً فاعلياً خاصّاً ، فليس كلّ فاعل مبدأً لكل فعل ، كما ليس كلّ فعل وأثر صادراً من كل مبدأ فاعلي ، كل ذلك بإذن منه سبحانه ، فهو الّذي أعطى السببيّة للنار كما أعطى لها الوجود ، فهي تؤثّر بإذن وتقدير منه سبحانه ، هذا هو قانون العليّة العامّ الجاري في النظام الكوني الّذي يؤيّده الحسّ والتجربة وتبتني عليه حياة الإنسان في ناحية العلم والعمل.

وبهذا البيان يرتفع التنافي البدئي بين طائفتين من الآيات القرآنية ؛

٦٠