محاضرات في الإلهيّات

الشيخ علي الربّاني الگلبايگاني

محاضرات في الإلهيّات

المؤلف:

الشيخ علي الربّاني الگلبايگاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١١
ISBN: 978-964-357-294-5
الصفحات: ٥٢٨

الثالث : المسلَّم هو عدم إمكان وصول عموم الناس إليه في غيبته ، وأمّا عدم وصول الخواصّ إليه ، فليس بمسلَّم بل الّذي دلَّت عليه الروايات خلافه ، فالصلحاء من الأُمّة الّذين يستدرُّ بهم الغمام ، لهم التشرّف بلقائه والاستفادة من نور وجوده ، وبالتالي تستفيد الأُمّة منه بواسطتهم ، والحكايات من الأولياء في ذلك متضافرة.

الرابع : قيام الإمام بالتصرّف في الأُمور الظاهرية وشئون الحكومة لا ينحصر بالقيام به شخصاً وحضوراً ، بل له تولية غيره على التصرّف في الأُمور كما فعل الإمام المهدي أرواحنا له الفداء في غيبته ، ففي الغيبة الصغرى (٢٦٠ ـ ٣٢٩ ه‍) كان له وكلاء أربعة ، قاموا بحوائج الناس ، وكانت الصلة بينه وبين الناس مستمرّة بهم وفي الغيبة الكبرى نصب الفقهاء والعلماء العدول العالمين بالأحكام للقضاء وإجراء السياسيات وإقامة الحدود وجعلهم حجّة على الناس ، كما جاء في توقيعه الشريف : «وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا ، فإنّهم حجّتي عليكم وأنا حجّة الله عليهم». (١)

وإلى هذه الاجوبة أشار الإمام المهدي عليه‌السلام في آخر توقيع له إلى بعض نوّابه بقوله :

«وأمّا وجه الانتفاع في غيبتي ، فكالانتفاع بالشمس ، إذا غيَّبتها عن الأبصار ، السحاب».

__________________

(١) كمال الدين للصدوق : ٤٨٥ ، الباب ٤٥ ، الحديث ٤.

٣٨١

ب) لما ذا غاب المهدي عليه‌السلام؟

إنّ ظهور الإمام بين الناس ، يترتّب عليه من الفائدة ما لا يترتّب عليه في زمان الغيبة ، فلما ذا غاب عن الناس ، حتّى حرموا من الاستفادة من وجوده ، وما هي المصلحة الّتي أخفته عن أعين الناس؟

الجواب : إنّ هذا السؤال يجاب عليه بالنقض والحلّ :

أمّا النقض ، فبما ذكرناه في الإجابة عن السؤال الأوّل ، فإنّ قصور عقولنا عن إدراك أسباب غيبته ، لا يجرّنا إلى إنكار المتضافرات من الروايات ، فالاعتراف بقصور أفهامنا أولى من ردّ الروايات المتواترة ، بل هو المتعيّن.

وأمّا الحلّ ، فإنّ أسباب غيبته واضحة لمن أمعن فيما ورد حولها من الروايات ، فإنّ الإمام المهدي عليه‌السلام هو آخر الأئمة الاثني عشر الّذين وعد بهم الرسول ، وأناط عزّة الإسلام بهم ، ومن المعلوم أنّ الحكومات الإسلامية لم تقدرهم ، بل كانت لهم بالمرصاد ، تلقيهم في السّجون ، وتريق دماءهم الطاهرة ، بالسّيف أو السمّ ، فلو كان ظاهراً ، لأقدموا على قتله ، إطفاءً لنوره ، فلأجل ذلك اقتضت المصلحة أن يكون مستوراً عن أعين الناس ، يراهم ويرونه ولكن لا يعرفونه إلى أن تقتضي مشيئة الله سبحانه ظهوره ، بعد حصول استعداد خاص في العالم لقبوله ، والانضواء تحت لواء طاعته ، حتى يحقّق الله تعالى به ما وعد به الأُمم جمعاء من توريث الأرض للمستضعفين.

٣٨٢

وقد ورد في بعض الروايات إشارة إلى هذه النكتة ، روى زرارة قال : سمعت أبا جعفر (الباقر عليه‌السلام) يقول : إنّ للقائم غيبة قبل أن يقوم ، قال : قلت ولم؟ قال : يخاف ، قال زرارة : يعني القتل. وفي رواية أُخرى : يخاف على نفسه الذبح. (١)

ج) الإمام المهدي عليه‌السلام وطول عمره

إنّ من الأسئلة المطروحة حول الإمام المهدي ، طول عمره في فترة غيبته ، فإنّه ولد عام ٢٥٥ ه‍ ، فيكون عمره إلى الأعصار الحاضرة أكثر من ألف ومائة وخمسين عاماً ، فهل يمكن في منطق العلم أن يعيش إنسان هذا العمر الطويل؟

والجواب : من وجهين ، نقضاً وحلّاً.

أمّا النقض ، فقد دلّ الذكر الحكيم على أنّ شيخ الأنبياء عاش قرابة ألف سنة ، قال تعالى : (فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً) (٢)

وقد تضمّنت التوراة أسماء جماعة كثيرة من المعمَّرين ، وذكرت أحوالهم في سفر التكوين. (٣)

وقد قام المسلمون بتأليف كتب حول المعمّرين ، ككتاب «المعمّرين»

__________________

(١) لاحظ : كمال الدين : ٢٨١ ، الباب ٤٤ ، الحديث ٨ و ٩ و ١٠.

(٢) العنكبوت : ١٤.

(٣) التوراة ، سفر التكوين ، الإصحاح الخامس ، الجملة ٥ ، وذكر هناك أعمار آدم ، وشيث ونوح وغيرهم.

٣٨٣

لأبي حاتم السجستاني ، كما ذكر الصدوق أسماء عدّة منهم في كتاب «كمال الدين» (١) والعلّامة الكراجكي في رسالته الخاصّة ، باسم «البرهان على صحّة طول عمر الإمام صاحب الزمان عليه‌السلام» (٢) والعلّامة المجلسي في «البحار» (٣) وغيرهم.

وأمّا الحلّ ، فإنّ السؤال عن إمكان طول العمر ، يعرب عن عدم التعرّف على سعة قدرة الله سبحانه : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) (٤).

فإنّه إذا كانت حياته وغيبته وسائر شئونه ، برعاية الله سبحانه ، فأيّ مشكلة في أن يمدّ الله سبحانه في عمره ما شاء ، ويدفع عنه عوادي المرض ويرزقه عيش الهناء.

وبعبارة أُخرى ، إنّ الحياة الطويلة ، إمّا ممكنة في حدّ ذاتها أو ممتنعة ، والثاني لم يقل به أحد ، فتعيّن الأوّل ، فلا مانع من أن يقوم سبحانه بمدّ عمر وليّه لتحقيق غرض من أغراض التشريع.

أضف إلى ذلك ما ثبت في العلم الجديد من إمكان طول عمر الإنسان إذا كان مراعياً لقواعد حفظ الصحّة وإنّ موت الإنسان في فترة متدنّية ، ليس لقصور الاقتضاء ، بل لعوارض تمنع عن استمرار الحياة ، ولو أمكن تحصين الإنسان منها بالأدوية والمعالجات الخاصة لطال عمره ما شاء الله.

__________________

(١) كمال الدين : ٥٥٥.

(٢) البرهان على صحّة طول عمر الإمام صاحب الزمان ، ملحق ب «كنز الفوائد» له أيضاً الجزء الثاني لاحظ في ذكر المعمّرين : ١١٤ ـ ١١٥.

(٣) بحار الأنوار : ٥١ / ٢٢٥ ـ ٢٩٣.

(٤) الأنعام : ٩١.

٣٨٤

وهناك كلمات ضافية من مهرة علم الطب في إمكان إطالة العمر ، وتمديد حياة البشر ، نشرت في الكتب والمجلات العلمية المختلفة. (١)

وإذا قرأت ما تدوّنه أقلام الأطبّاء في هذا المجال ، يتّضح لك معنى قوله سبحانه : (فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ* لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) (٢)

فإذا كان عيش الإنسان في بطون الحيتان ، في أعماق المحيطات ، ممكناً إلى يوم البعث ، فكيف لا يعيش إنسان على اليابسة ، في أجواء طبيعية ، تحت رعاية الله وعنايته ، إلى ما شاء؟!

د) ما هي علائم ظهور المهدي (عجّل الله تعالى فرجه الشريف)؟

إذا كان للإمام الغائب ، ظهور بعد غيبة طويلة ، فلا بدّ من أن يكون لظهوره علائم وأشراط ، تخبر عن ظهوره ، فما هي هذه العلائم؟

الجواب : إنّ ما جاء في كتب الأحاديث من الحوادث الواقعة قبل ظهور المهدي المنتظر عبارة عن عدّة أمور ، منها :

١. النداء في السّماء ، ينادي مناد من السّماء باسم المهدي فيسمع من بالمشرق والمغرب ، والمنادي هو جبرائيل روح الأمين. (٣)

٢. الخسوف والكسوف في غير مواقعهما ، الكسوف في النصف من

__________________

(١) لاحظ : مجلة المقتطف ، الجزء الثالث من السنة التاسعة والخمسين.

(٢) الصافات : ١٤٣ و ١٤٤.

(٣) المهدي : ١٩٥.

٣٨٥

شهر رمضان والخسوف في آخره والقاعدة العكس. (١)

٣. الشقاق والنفاق في المجتمع.

٤. ذيوع الجور والظلم والهرج والمرج في الأُمّة.

٥. ابتلاء الإنسان بالموت الأحمر والأبيض ، أمّا الموت الأحمر فالسيف ، وأمّا الموت الأبيض فالطاعون. (٢)

٦. قتل النفس الزكية ، من أولاد النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله.

٧. خروج الدجّال.

٨. خروج السّفياني ، وهو عثمان بن عنبسة من أولاد يزيد بن معاوية.

وغير ذلك ممّا جاء في الأحاديث الإسلامية. (٣)

هذه هي علامات ظهوره ، ولكن هناك أُموراً تمهّد لظهوره ، وتسهّل تحقيق أهدافه نشير إلى أبرزها :

١. الاستعداد العالمي : والمراد منه أن المجتمع الإنسانى ـ بسبب شيوع الفساد ـ يصل إلى حدّ ، يقنط معه من تحقّق الإصلاح بيد البشر ، وعن طريق المنظّمات العالمية الّتي تحمل عناوين مختلفة ، وأنّ ضغط الظلم والجور على الإنسان يحمله على أن يذعن ويقرَّ بأنّ الإصلاح لا يتحقّق إلّا

__________________

(١) نفس المصدر : ١٩٦ ، ٣٠٥.

(٢) نفس المصدر : ١٩٨.

(٣) لاحظ : في الوقوف على هذه العلائم ، بحار الأنوار : ٥٢ / ١٨١ ـ ٣٠٨ ، الباب ٢٥ ؛ كتاب المهدي ، للسيد صدر الدين الصدر ؛ ومنتخب الأثر للطف الله الصافي : ٤٢٤ ـ ٤٦٢.

٣٨٦

بظهور إعجاز إلهي وحضور قوَّة غيبية ، تدمِّر كلّ تلك التكتّلات البشرية الفاسدة ، الّتي قيّدت بأسلاكها أعناق البشر.

٢. تكامل الصناعات : إنّ الحكومة العالمية الموحّدة لا تتحقّق إلّا بتكامل الصّناعات البشرية ، بحيث يسمع العالم كلّه صوته ونداءه ، وتعاليمه وقوانينه في يوم واحد ، وزمن واحد.

قال الإمام الصادق عليه‌السلام : «إنّ المؤمن في زمان القائم ، وهو بالمشرق ، يرى أخاه الّذي في المغرب ، وكذا الّذي في المغرب يرى أخاه الّذي بالمشرق». (١)

٣. الجيش الثوري العالمي : إنّ حكومة الإمام المهدي عليه‌السلام وإن كانت قائمة على تكامل العقول ، ولكنّ الحكومة لا تستغني عن جيش فدائي ثائر وفعّال ، يمهّد الطريق للإمام عليه‌السلام ، ويواكبه بعد الظهور إلى تحقّق أهدافه وغاياته المتوخّاة.

* * *

__________________

(١) منتخب الأثر : ٤٨٣.

٣٨٧
٣٨٨

الفصل التاسع :

الرجعة

الرجعة في اللّغة ترادف العودة ، وتطلق اصطلاحاً على عودة الحياة إلى مجموعة من الأموات بعد النهضة العالمية للإمام المهدي عليه‌السلام وهي ممّا تعتقد به الشيعة الإمامية بمقتضى الأحاديث المتضافرة ـ بل المتواترة ـ المروية عن أئمة أهل البيت عليهم‌السلام في ذلك. وفي ذلك يقول الشيخ المفيد :

«إنّ الله تعالى يحيى قوماً من أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد موتهم قبل يوم القيامة ، وهذا مذهب تختص به آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله». (١)

وقال السيد المرتضى :

اعلم انّ الّذي يذهب الشيعة الإمامية إليه أنّ الله تعالى بعيد عن ظهور إمام الزمان المهدي عليه‌السلام قوماً ممّن كان قد تقدّم موته من شيعته ليفوزوا بثواب نصرته ومعونته ومشاهدة دولته ، ويعيد أيضاً قوماً من أعدائه لينتقم منهم ، فيلتذّوا بما يشاهدون من ظهور الحقّ وعلوّ كلمة أهله. (٢)

__________________

(١) مصنّفات الشيخ المفيد : ٧ / ٣٢ ، المسائل السروية.

(٢) رسائل الشريف المرتضى : ١ / ١٢٥.

٣٨٩

والرجعة تختصّ بمن محض الإيمان ومحض الكفر والنفاق من أهل الملّة ، دون من سلف من الأمم الخالية ودون ما سوى الفريقين من ملّة الإسلام. (١)

ويقع الكلام في الرجعة في مقامين :

١. إمكانها.

٢. الدليل على وقوعها.

ويكفي في إمكانها ، إمكان بعث الحياة من جديد يوم القيامة ، مضافاً إلى وقوع نظيرها في الأُمم السالفة ، كإحياء جماعة من بني إسرائيل (البقرة ، ٥٥ ـ ٦٥) وإحياء قتيل منهم (البقرة ، ٧٢ ـ ٧٣) وبعث عُزَير بعد مائة عام من موته (البقرة ، ٢٥٩) وإحياء الموتى على يد عيسى عليه‌السلام (آل عمران ، ٤٩).

وسيأتي (٢) أنّ تصوّر الرجعة من قبيل التناسخ المحال عقلاً ، تصور باطل.

ومن الآيات الدالّة على وقوع الرجعة قوله تعالى :

(وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ) (٣).

إنّ الآية تركّز على حشر فوج من كلّ جماعة لا حشر جميعهم ، ومن

__________________

(١) المسائل السروية : ٣٥.

(٢) ص ٣٧٤.

(٣) النمل : ٨٣.

٣٩٠

المعلوم أنّ الحشر ليوم القيامة يتعلّق بالجميع لا بالبعض ، يقول سبحانه : (وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً) (١) فأخبر سبحانه أنّ الحشر حشران : عامّ وخاصّ.

وأمّا كيفيّة وقوع الرجعة وخصوصياتها فلم يتحدّث عنها القرآن ، كما هو الحال في تحدّثه عن البرزخ والحياة البرزخية.

ويؤيّد وقوع الرجعة في هذه الأُمّة وقوعها في الأُمم السابقة كما عرفت ، وقد روى الفريقان أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «تقع في هذه الأُمّة السنن الواقعة في الأُمم السابقة».(٢)

وبما أنّ الرجعة من الحوادث المهمّة في الأُمم السابقة ، فيجب أن يقع نظيرها في هذه الأُمّة. وقد سأل المأمون العباسي الإمام الرضا عليه‌السلام عن الرجعة فأجابه بقوله :

«إنّها حقّ ، قد كانت في الأُمم السابقة ، ونطق بها القرآن وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : يكون في هذه الأُمّة كلّ ما كان في الأُمم السالفة حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة». (٣)

هذا محصّل الكلام في حقيقة الرجعة ودلائلها ، ولا يدّعي المعتقدون بها أنّ الاعتقاد بها في مرتبة الاعتقاد بالله وتوحيده ، والنبوّة والمعاد ، بل أنّها

__________________

(١) الكهف : ٤٧.

(٢) صحيح البخاري : ٩ / ١٠٢ و ١١٢ ؛ كنز العمال : ١١ / ١٣٣ ؛ كمال الدين : ٥٧٦.

(٣) بحار الأنوار : ٥٣ / ٥٩ ، الحديث ٤٥.

٣٩١

تعدّ من المسلّمات القطعية ، ولا ينكرها إلّا من لم يمعن النظر في أدلّتها.

أسئلة وأجوبتها

١. إنّ الاعتقاد بالرجعة يعارض قوله تعالى : (وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ) (١) فإنّ الآية تنفي رجوعهم بتاتاً.

والجواب : أنّ الآية مختصة بالظالمين من الأُمم السّابقة الّذين أهلكوا بعذابات إلهيّة ولا تنافي الرجعة لطائفة من الأمّة الإسلامية.

٢. إنّ القول بالرجعة ينافي ظاهر قوله تعالى :

(حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ* لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) (٢).

والجواب : أنّ الآية تحكى عن قانون كلّي قابل للتخصيص بدليل منفصل ، والدليل على ذلك ما عرفت من إحياء الموتى في الأُمم السّالفة ، ومفاد الآية أنّ الموت بطبعه ليس بعده رجوع ، وهذا لا ينافي الرجوع في مورد أو موارد لمصالح عُليا.

٣. لم لا يجوز أن يكون قوله تعالى : (وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً) الآية.

__________________

(١) الأنبياء : ٩٥.

(٢) المؤمنون : ٩٩ ـ ١٠٠.

٣٩٢

ناظراً إلى يوم القيامة ، والمراد من الفوج من كلّ أمّة هو الملأ الظالمين ورؤسائهم؟

والجواب : أنّ ظاهر الآيات أنّ هناك يومين : يوم حشر فوج من كلّ أمّة ، ويوم ينفخ في الصور ، وجعل الأوّل من متمّمات القيامة ، يستلزم وحدة اليومين وهو على خلاف الظاهر.

وبما ذكرناه يظهر سقوط كثير ممّا ذكره الآلوسي في تفسيره عند البحث عن الآية. (١)

* * *

__________________

(١) لاحظ : روح المعاني : ٢٠ / ٢٦.

٣٩٣
٣٩٤

الباب الثامن :

في المعاد

وفيه عشرة فصول :

١. براهين إثبات المعاد ؛

٢. براهين تجرد النفس الناطقة ؛

٣. المعاد الجسمانى والروحانى ؛

٤. براهين بطلان التناسخ ؛

٥. القبر والبرزخ ؛

٦. الحساب والشهود ؛

٧. الميزان والصراط ؛

٨. الشفاعة في القيامة ؛

٩. الإحباط والتكفير ؛

١٠. الإجابة عن أسئلة حول المعاد ؛

٣٩٥
٣٩٦

الفصل الأوّل :

براهين إثبات المعاد

الاعتقاد بالمعاد عنصر أساسيّ في كلّ شريعة لها صلة بالسّماء بحيث تصبح الشرائع بدونه مسالك بشرية مادّية لا تمتُّ إلى الله بصلة ، وقد بيَّن الذكر الحكيم وجود تلك العقيدة في الشرائع السّماوية من لدن آدم إلى المسيح. (١) وقد اهتمّ به القرآن الكريم اهتماماً بالغاً يكشف عنه كثرة الآيات الواردة في مجال المعاد ، وقد قام بعضهم بإحصاء ما يرجع إليه في القرآن فبلغ زهاء ألف وأربعمائة آية ، وكان السيّد العلّامة الطباطبائي قدس‌سره يقول بأنّه ورد البحث عن المعاد في القرآن في آيات تربو على الألفين ، ولعلّه ضمّ الإشارة إليه إلى التصريح به ، وعلى كلّ تقدير فهذه الآيات الهائلة تعرب عن شدّة اهتمام القرآن به.

لا شكّ أنّ المعاد أمر ممكن في ذاته وإنّما الكلام في وجوب وقوعه ، وهناك وجوه عقلية تدلّ على ضرورة وجود نشأة الآخرة هدانا إليها القرآن الكريم.

__________________

(١) راجع في ذلك الآيات : آل عمران : ٥٥ ـ ٥٧ ؛ الأعراف : ٢٤ ، ٣٥ ، ٣٦ ؛ إبراهيم : ٤١ ؛ الشعراء : ٨٧ ؛ العنكبوت : ١٧ ؛ غافر : ٥ ، ٣٢ ، ٤٠ ، ٤٣ ؛ نوح : ١٧ ، ١٨.

٣٩٧

الأوّل : صيانة الخلقة عن العبث

يستدلّ الذكر الحكيم على لزوم المعاد بأنّ الحياة الأُخروية هي الغاية من خلق الإنسان وأنّه لولاها لصارت حياته منحصرة في إطار الدنيا ، ولأصبح إيجاده وخلقه عبثاً وباطلاً ، والله سبحانه منزَّه عن فعل العبث ، يقول سبحانه :

(أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ) (١).

ومن لطيف البيان في هذا المجال قوله سبحانه :

(وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ* ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ* إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ) (٢) ترى أنّه يذكر يوم الفصل بعد نفي كون الخلقة لعباً ، وذلك يعرب عن أنّ النشأة الأُخروية تصون الخلقة عن اللّغو واللّعب.

ويقرب من ذلك الآيات الّتي تصفه تعالى بأنّه الحقّ ، ثمّ يرتّب عليه إحياء الموتى والنشأة الآخرة ، يقول سبحانه : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى) (٣) إلى غير ذلك من الآيات. (٤)

__________________

(١) المؤمنون : ١١٥.

(٢) الدخان : ٣٨ ـ ٤٠.

(٣) الحج : ٦.

(٤) لاحظ : الحج : ٦٢ ـ ٦٦ ؛ لقمان : ٣٠ ـ ٣٣.

٣٩٨

الثاني : المعاد مقتضى العدل الإلهي

إنّ العباد فريقان : مطيع وعاص ، والتسوية بينهما بصورها (١) المختلفة خلاف العدل ، فهنا يستقلّ العقل بأنّه يجب التفريق بينهما من حيث الثواب والعقاب ، وبما أنّ هذا غير متحقّق في النشأة الدنيوية ، فيجب أن يكون هناك نشأة أخرى يتحقّق فيها ذلك التفريق ، وإلى هذا البيان يشير المحقّق البحراني بقوله :

إنّا نرى المطيع والعاصي يدركهما الموت من غير أن يصل إلى أحد منهما ما يستحقّه من ثواب أو عقاب ، فإن لم يحشروا ليوصل إليهما ذلك المستحق لزم بطلانه أصلاً. (٢)

وإلى هذا الدليل العقلي يشير قوله تعالى : (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ* أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) (٣).

وقوله تعالى : (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ* ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) (٤).

وقوله سبحانه :

__________________

(١) وهي : إثابة الجميع ، وعقوبة الجميع ، وتركهم سدى من دون أن يحشروا.

(٢) قواعد المرام : ١٤٦.

(٣) ص : ٢٨.

(٤) القلم : ٣٥ ـ ٣٦.

٣٩٩

(إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى) (١)

فقوله : (لِتُجْزى) إشارة إلى أنّ قيام القيامة تحقيق لمسألة الثّواب والعقاب اللّذين هما مقتضى العدل الإلهي.

الثالث : المعاد مجلى لتحقّق مواعيده تعالى

أنّه سبحانه قد وعد المطيعين بالثواب في آيات متضافرة ، ولا شكّ أنّ إنجاز الوعد حسن والتخلّف عنه قبيح ، فالوفاء بالوعد يقتضي وقوع المعاد ، قال المحقّق الطوسي : «ووجوب إيفاء الوعد والحكمة يقتضي وجوب البعث». (٢)

وإلى هذا البرهان يشير قوله سبحانه :

(رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ) (٣).

تنبيه

إنّ القرآن الكريم أكَّد بوجه بليغ على قدرة الخالق وعلمه فيما أجاب عن شبهات المخالفين ، والوجه في ذلك واضح ، لأنّ جلّ شبهاتهم ناشئة عن الغفلة أو الجهل بالقدرة المطلقة والعلم الوسيع لله تعالى ، فإنّ إحياء

__________________

(١) طه : ١٥.

(٢) كشف المراد ، المقصد السادس ، المسألة الرابعة.

(٣) آل عمران : ٩.

٤٠٠