محاضرات في الإلهيّات

الشيخ علي الربّاني الگلبايگاني

محاضرات في الإلهيّات

المؤلف:

الشيخ علي الربّاني الگلبايگاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١١
ISBN: 978-964-357-294-5
الصفحات: ٥٢٨

الفصل الأوّل :

لما ذا نبحث عن الإمامة؟

إنّ أوّل خلاف عظيم نجم بين المسلمين بعد ارتحال الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله هو الاختلاف في مسألة الإمامة والخلافة ، وصارت الأُمة بذلك فرقتين ، فرقة تشايع عليّاً عليه‌السلام وفرقة تشايع غيره من الخلفاء ، والبحث حول كيفية وقوع هذا الاختلاف وعلله خارج عمّا نحن بصدده هنا ، لأنّه بحث تاريخي على كاهل علم الملل والنحل ، والمقصود بالبحث في هذا المجال هو تحليل حقيقة الإمامة وشروطها عند الشيعة وأهل السنّة ، على ضوء العقل والوحي والواقعيات التاريخية.

قد يقال : إنّ البحث عن صيغة الخلافة بعد النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله يرجع لُبّه إلى أمر تاريخي قد مضى زمنه ، وهو أنّ الخليفة بعد النبيّ هل هو الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام أو أبو بكر ، وما ذا يفيد المؤمنين البحث حول هذا الأمر الّذي لا يرجع إليهم بشيء في حياتهم الحاضرة ، أو ليس من الحريّ ترك هذا البحث حفظا للوحدة؟

والجواب أنّه لا شكّ أنّ من واجب المسلم الحرّ السعي وراء الوحدة ، ولكن ليس معنى ذلك ترك البحث رأساً ، فإنّه إذا كان البحث نزيهاً موضوعياً

٣٢١

يكون مؤثّراً في توحيد الصفوف وتقريب الخطى ، إذ عندئذٍ تتعرّف كلّ طائفة على ما لدى الأُخرى من العقائد والأُصول ، وبالتالي تكون الطائفتان متقاربتين ، وهذا بخلاف ما إذا تركنا البحث مخافة الفرقة فإنّه يثير سوء الظن من كلّ طائفة بالنسبة إلى أختها في مجال العقائد فربّما تتصوّرها طائفة أجنبية عن الإسلام ، هذا أوّلاً.

وثانياً : أنّ لمسألة الخلافة بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بُعدين : أحدهما تاريخي مضى عصره ، والآخر بُعد ديني باق أثره إلى يومنا هذا ، وسيبقى بعد ذلك ، وهو أنّه إذا دلّت الأدلّة على تنصيب علي عليه‌السلام على الولاية والخلافة بالمعنى الّذي تتبنّاه الإمامية يكون الإمام وراء كونه زعيماً في ذلك العصر ، مرجعاً في رفع المشاكل الّتي خلّفتها رحلة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، كما سيوافيك بيانها ، فيجب على المسلمين الرجوع إليه في تفسير القرآن وتبيينه ، وفي مجال الموضوعات المستجدة الّتي لم يرد فيها النصّ في الكتاب والسنّة ، فليس البحث متلخّصاً في البعد السياسي حتى نشطب عليه بدعوى أنّه مضى ما مضى ، بل له مجال أو مجالات باقية.

ولو كان البحث بعنوان الإمامة والخلافة مثيراً للخلاف ولكن للبحث صورة أُخرى نزيه عنه ، وهو البحث عن المرجع العلمي للمسلمين بعد رحلة النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله في مسائلهم ومشاكلهم العلمية ، وهل قام النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله بنصب شخص أو طائفة على ذلك المقام أو لا؟ والبحث بهذه الصورة لا يثير شيئاً.

والشيعة تدّعي أنّ السنّة النبويّة أكَّدت على مرجعية أهل البيت عليهم‌السلام في

٣٢٢

العقائد والمسائل الدينية ، وراء الزعامة السياسية المحدَّدة بوقت خاصّ ومن أوضحها حديث الثقلين المتواتر عند الفريقين ولا يشكّ في صحّته إلّا الجاهل به أو المعاند ، فقد روي بطرق كثيرة عن نيّف وعشرين صحابياً. (١) روى أصحاب الصحاح والمسانيد عن النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال :

«يا أيّها الناس إنّي تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلّوا ، كتاب الله وعترتي أهل بيتي».

وقال في موضع آخر :

«إنّي تركت فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا ، كتاب الله حبل ممدود من السّماء إلى الأرض ، وعترتي أهل بيتي ، ولن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض ، فانظروا كيف تخلّفوني فيهما».

وغير ذلك من النصوص المتقاربة.

إنّ الإمعان في الحديث يعرب عن عصمة العترة الطاهرة ، حيث قورنت بالقرآن الكريم وأنّهما لا يفترقان ، ومن المعلوم أنّ القرآن الكريم كتاب لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، فكيف يمكن أن يكون قرناء القرآن وأعداله خاطئين فيما يحكمون ، أو يقولون ويحدِّثون.

__________________

(١) وكفى في ذلك أنّ دار التقريب بين المذاهب الإسلامية قامت بنشر رسالة جمعت فيها مصادر الحديث ، ونذكر من طرقه الكثيرة ما يلي ، صحيح مسلم : ٧ / ١٢٢ ؛ سنن الترمذي : ٢ / ٣٠٧ ، مسند أحمد : ٣ / ١٧ ، ٢٦ ، ٥٩ ؛ ج ٤ ، ص ٣٦٦ و ٣٧١ ؛ ج ٥ ، ص ١٨٢ ؛ ١٨٩. وقد قام المحدّث الكبير السيد حامد حسين الهندي قدس‌سره في كتابه «العبقات» بجمع طرق الحديث ونقل كلمات الأعاظم حوله ، ونشره في ستة أجزاء.

٣٢٣

أضف إلى ذلك أنّ الحديث ، يعدّ المتمسّك بالعترة غير ضالٍّ ، فلو كانوا غير معصومين من الخلاف والخطأ فكيف لا يضلُّ المتمسك بهم؟

كما أنّه يدلُّ على أنّ الاهتداء بالكتاب والوقوف على معارفه وأسراره يحتاج إلى معلّم خبير لا يخطأ في فهم حقائقه وتبيين معارفه ، وليس ذلك إلّا من جعلهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قرناء الكتاب إلى يوم القيامة وهم العترة الطاهرة ، وقد شبَّههم في حديث آخر بسفينة نوح في أنّ من لجأ إليهم في الدين وأخذ أُصوله وفروعه عنهم نجا من عذاب النار ، ومن تخلَّف عنهم كمن تخلّف يوم الطوفان عن سفينة نوح وأدركه الغرق. (١)

__________________

(١) روى المحدثون عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال ، «إنّما مثل أهل بيتى في أمّتي كمثل سفينة نوح ، من ركبها نجا ، ومن تخلّف عنها غرق» مستدرك الحاكم : ٢ / ١٥١ ؛ الخصائص الكبرى للسيوطي : ٢ / ٢٦٦. وللحديث طرق ومسانيد كثيرة من أراد الوقوف عليها ، فعليه بتعاليق إحقاق الحق : ٩ / ٢٧٠ ـ ٢٩٣.

٣٢٤

الفصل الثاني :

حقيقة الإمامة عند الشيعة وأهل السنّة

الإمام في اللّغة هو الّذي يؤتمُّ به إنساناً كان أو كتاباً أو غير ذلك ، محقّاً كان أو مبطلاً وجمعه أئمّة. (١) وقوله تعالى :

(يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ) أي بالّذي يقتدون به ، وقيل بكتابهم. (٢)

وعرّف المتكلّمون الإمامة بوجوه :

١. الإمامة رئاسة عامّة في أُمور الدين والدنيا ؛

٢. الإمامة خلافة الرسول في إقامة الدين ، بحيث يجب اتّباعه على كافّة الأمّة ؛ (٣)

٣. الإمامة خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا ؛ (٤)

__________________

(١) أصله أَءْممِة وزان أمثلة فادغمت الميم في الميم بعد نقل حركتها إلى الهمزة وبعض النّحاة يبدّلها ياء للتخفيف.

(٢) راجع : المفردات للراغب ، كتاب الألف ، مادة أُمّ.

(٣) هذان التعريفان ذكرهما عضد الدين الإيجى في كتاب المواقف. انظر : شرح المواقف : ٨ / ٣٤٥.

(٤) اختاره ابن خلدون في المقدمة : ١٩١.

٣٢٥

٤. الإمامة رئاسة عامّة دينية مشتملة على ترغيب عموم الناس في حفظ مصالحهم الدينية والدنياوية ، وزجرهم عمّا يضرّهم بحسبها. (١)

واتّفقت كلمة أهل السنّة ، أو أكثرهم ، على أنّ الإمامة من فروع الدين.

قال الغزالى : «اعلم أنّ النظر في الإمامة ليس من فنّ المعقولات ، بل من الفقهيّات». (٢)

وقال الآمدي : «واعلم أنّ الكلام في الإمامة ليس من أصول الديانات». (٣)

وقال الإيجي : «ومباحثها عندنا من الفروع ، وإنّما ذكرناها في علم الكلام تأسّياً بمن قبلنا». (٤)

وقال ابن خلدون : «وقصارى أمر الإمامة إنّها قضية مصلحية إجماعية ولا تلحق بالعقائد». (٥)

وقال التفتازاني : «لا نزاع في أن مباحث الإمامة بعلم الفروع أليق ...». (٦)

وأمّا الشيعة الإمامية ، فينظرون إلى الإمامة كمسألة أصولية كلاميّة ، وزانها وزان النبوّة ، سوى تلقّي الوحي التشريعي والإتيان بالشريعة ، فإنّها

__________________

(١) اختاره المحقق الطوسي في قواعد العقائد : ١٠٨.

(٢) الاقتصاد في الاعتقاد : ٢٣٤.

(٣) غاية المرام في علم الكلام : ٣٦٣.

(٤) شرح المواقف : ٨ / ٣٤٤.

(٥) مقدمة ابن خلدون : ٤٦٥.

(٦) شرح المقاصد : ٥ / ٢٣٢.

٣٢٦

مختومة بارتحال النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فمسألة الإمامة تكون من المسائل الجذرية الأصليّة. (١)

مؤهِّلات الإمام وصفاته

اختلفت كلمات أهل السنّة في ما يشترط في الإمام من الصفات ، فمنهم (٢) من قال إنّها أربع ، هي : العلم ، والعدالة ، والمعرفة بوجوه السّياسة وحسن التدبير ، وأن يكون نسبه من قريش ، وزاد بعضهم (٣) عليها سلامة الحواسّ والأعضاء والشجاعة ، وبعض آخر (٤) البلوغ والرجولية ، قال الإيجي :

الجمهور على أنّ أهل الإمامة : مجتهد في الأُصول والفروع ليقوم بأُمور الدين ، ذو رأي ليقوم بأمور الملك ، شجاع ليقوى على الذبّ عن الحوزة ، وقيل : لا يشترط هذه الصفات ، لأنّها لا توجد ، فيكون اشتراطها عبثاً أو تكليفاً بما لا يطاق ومستلزماً للمفاسد الّتي يمكن دفعها بنصب فاقدها ، نعم يجب أن يكون عدلاً لئلّا يجور ، عاقلاً ليصلح للتصرّفات ، بالغاً لقصور عقل

__________________

(١) أقول : الفارق بين المسألة الكلاميّة والفقهيّة هو موضوعها ، فموضوع المسألة الكلامية هو وجود الله تعالى أو صفاته وأفعاله ، وموضوع المسألة الفقهية هو أفعال المكلفين من البشر ، ونصب الإمام عند الإمامية فعل الله تعالى ، وأما عند أهل السنّة فتعيين الإمام وظيفة المسلمين.

(٢) هو أبو منصور البغدادي (المتوفّى ٤٢٩ ه‍) في أُصول الدين : ٢٧٧.

(٣) هو أبو الحسن البغدادي (المتوفّى ٤٥٠ ه‍) في الأحكام السلطانية : ٦.

(٤) هو ابن حزم الأندلسي (المتوفّى ٤٥٦ ه‍) في الفصل : ٤ / ١٨٦.

٣٢٧

الصبي ، ذكراً إذ النساء ناقصات عقل ودين ، حُرّاً لئلّا يشغله خدمة السيّد ولئلّا يحتقر فيعصى. (١)

يلاحظ على هذه الشروط

أوّلاً : أنّ اختلافهم في عددها ناش من افتقادهم لنصٍّ شرعي في مجال الإمامة ، وإنّما الموجود عندهم نصوص كلّية لا تتكفّل بتعيين هذه الشروط ، والمصدر لها عندهم هو الاستحسان والاعتبارات العقلائية في ذلك ، وهذا ممّا يقضى منه العجب ، فكيف ترك النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بيان هذا الأمر المهمّ شرطاً وصفة ، مع أنّه بيّن أبسط الأشياء وأدناها من المكروهات والمستحبات؟!

وثانياً : أنّ اعتبار العدالة لا ينسجم مع ما ذهبوا إليه من أنّ الإمام لا ينخلع بفسقه وظلمه ، قال الباقلاني :

لا ينخلع الإمام بفسقه وظلمه بغصب الأموال وتضييع الحقوق وتعطيل الحدود ، ولا يجب الخروج عليه ، بل يجب وعظه وتخويفه وترك طاعته في شيء ممّا يدعو إليه من معاصى الله. (٢)

وثالثاً : أنّ التاريخ الإسلامي يشهد بأنّ الخلفاء بعد علي عليه‌السلام كانوا يفقدون أكثر هذه الصلاحيات ومع ذلك مارسوا الخلافة.

__________________

(١) شرح المواقف : ٨ / ٣٤٩ ـ ٣٥٠.

(٢) التمهيد : ١٨١. راجع في ذلك أيضاً : شرح العقيدة الطحاوية : ٣٧٩ ؛ وشرح العقائد النسفية : ١٨٥.

٣٢٨

وأمّا الشيعة الإمامية فبما أنّهم ينظرون إلى الإمامة بأنّها استمرار لوظائف الرسالة ـ كما تقدّم ـ يعتبرون في الإمام توفّر صلاحيات عالية لا ينالها الفرد إلّا إذا وقع تحت عناية إلهيّة خاصّة ، فهو يخلف النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في العلم والعصمة والقيادة الحكمية وغير ذلك من الشئون ، قال المحقّق البحراني :

إنّا لمّا بيَّنّا أنّه يجب أن يكون الإمام معصوماً وجب أن يكون مستجمعاً لأصول الكمالات النفسانية ، وهي العلم والعفّة والشجاعة والعدالة ... ويجب أن يكون أفضل الأُمة في كلّ ما يعدّ كمالاً نفسانياً ، لأنّه مقدَّم عليهم ، والمقدَّم يجب أن يكون أفضل ، لأنّ تقديم الناقص على من هو أكمل منه قبيح عقلاً ، ويجب أن يكون متبرئاً من جميع العيوب المنفِّرة في خلقته من الأمراض كالجذام والبرص ونحوهما ، وفي نسبه وأصله كالزنا والدناءة ، لأنّ الطهارة من ذلك تجري مجرى الألطاف المقرِّبة للخلق إلى قبول قوله وتمكّنه ، فيجب كونه كذلك. (١)

__________________

(١) قواعد المرام : ١٧٩ ـ ١٨٠.

٣٢٩
٣٣٠

الفصل الثالث :

طرق إثبات الإمامة عند أهل السنّة

الطريق لإثبات الإمامة عند الشيعة الإمامية منحصرة في النصّ من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله والإمام السابق ، وسيوافيك الكلام فيه في الفصل القادم.

وأمّا عند أهل السنّة فلا ينحصر بذلك ، بل يثبت أيضاً ببيعة أهل الحلّ والعقد ، قال الإيجي :

المقصد الثالث فيما تثبت به الإمامة ، وإنّها تثبت بالنصّ من الرسول ومن الإمام السابق بالإجماع وتثبت ببيعة أهل الحلّ والعقد خلافاً للشيعة ، لنا ثبوت إمامة أبي بكر بالبيعة. (١)

ثمّ إنّهم اختلفوا في عدد من تنعقد به الإمامة على أقوال ، قال الماوردي (المتوفّي ٤٥٠ ه‍) :

اختلف العلماء في عدد من تنعقد به الإمامة منهم على مذاهب شتّى : فقالت طائفة : لا تنعقد إلّا بجمهور أهل الحلّ والعقد من كلّ بلد ليكون الرضا به عامّاً ، والتسليم لإمامته إجماعاً ، وهذا

__________________

(١) شرح المواقف : ٨ / ٣٥١.

٣٣١

مذهب مدفوع ببيعة أبي بكر على الخلافة باختيار من حضرها ، ولم ينتظر ببيعته قدوم غائب عنها.

وقالت طائفة أُخرى : أقلّ ما تنعقد به منهم الإمامة خمسة يجتمعون على عقدها أو يعقدها أحدهم برضا الأربعة ، استدلالاً بأمرين :

أحدهما : أنّ بيعة أبي بكر انعقدت بخمسة اجتمعوا عليها ثمَّ تابعهم الناس فيها ، وهم : عمر بن الخطاب ، وأبو عبيدة بن الجراح ، وأسيد بن خضير ، وبشر بن سعد ، وسالم مولى أبي حذيفة.

والثاني : أنّ عمر جعل الشورى في ستّة ليعقد لأحدهم برضا الخمسة ، وهذا قول أكثر الفقهاء ، والمتكلّمين من أهل البصرة.

وقال آخرون من علماء الكوفة : تنعقد بثلاثة يتولّاها أحدهم برضا الاثنين ليكونوا حاكماً وشاهدين ، كما يصحّ عقد النكاح بولي وشاهدين.

وقالت طائفة أخرى : تنعقد بواحد ، لأنّ العباس قال لعلي : امدد يدك أبايعك ، فيقول الناس عمّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بايع ابن عمِّه فلا يختلف عليك اثنان ، ولأنّه حكم وحكم واحد نافذ». (١)

__________________

(١) الأحكام السلطانية : ٦ ـ ٧.

٣٣٢

يلاحظ على هذه الأقوال والنظريات

أوّلاً : أنّ موقف أصحابها موقف من اعتقد بصحّة خلافة الخلفاء ، فاستدلّ به على ما يرتئيه من الرأي ، وهذا ، استدلال على المدّعى بنفسها ، وهو دور واضح.

وثانياً : أنّ هذا الاختلاف الفاحش في كيفية عقد الإمامة ، يعرب عن بطلان نفس الأصل ، لأنّه إذا كانت الإمامة مفوَّضة إلى الأُمّة ، كان على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بيان تفاصيلها وطريق انعقادها ، وليس عقد الإمام لرجل أقلّ من عقد النكاح بين الزوجين الّذي اهتمّ القرآن والسنّة ببيانه وتحديده ، والعجب أنّ عقد الإمامة الّذي تتوقّف عليه حياة الأُمّة ، لم يطرح في النصوص ـ على زعم القوم ـ ولم يتبيّن حدوده وشرائطه.

والعجب من هؤلاء الأعلام كيف سكتوا عن الاعتراضات الهائلة الّتي توجّهت من نفس الصحابة من الأنصار والمهاجرين على خلافة الخلفاء الّذين تمَّت بيعتهم ببيعة الخمسة في السقيفة ، أو بيعة أبي بكر لعمر ، أو بشورى الستّة ، فإنّ من كان ملِمّاً بالتاريخ ، يرى كيف كانت عقيرة كثير من الصحابة مرتفعة بالاعتراض ، حتى أنّ الزبير وقف في السقيفة أمام المبايعين وقد اخترط سيفه وهو يقول :

«لا أغمده حتى يبايع عليّ ، فقال عمر : عليكم الكلب فأخذ سيفه من يده ، وضرب به الحجر وكسر». (١)

__________________

(١) الإمامة والسياسة : ١ / ١١.

٣٣٣

هل الشورى أساس الحكم والخلافة؟

قد حاول المتجدّدون من متكلّمي أهل السنّة ، صبَّ صيغة الحكومة الإسلامية على أساس المشورة بجعله بمنزلة الاستفتاء الشعبي واستدلّوا على ذلك بآيتين :

الآية الأُولى : قوله سبحانه : (وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ)(١).

فالله سبحانه أمر نبيّه بالمشاورة تعليماً للأُمّة حتى يشاوروا في مهامّ الأُمور ومنها الخلافة.

يلاحظ عليه : أوّلاً : أنّ الخطاب في الآية متوجّه إلى الحاكم الّذي استقرّت حكومته ، فيأمره سبحانه أن ينتفع من آراء رعيته ، فأقصى ما يمكن التجاوز به عن الآية هو أنّ من وظائف كلّ الحكام التشاور مع الأُمّة ، وأمّا أنّ الخلافة بنفس الشورى ، فلا يمكن الاستدلال عليه بها.

وثانياً : أنّ المتبادر من الآية هو أنّ التشاور لا يوجب حكماً للحاكم ، ولا يلزمه بشيء ، بل هو يقلّب وجوه الرأي ويستعرض الأفكار المختلفة ، ثمّ يأخذ بما هو المفيد في نظره ، حيث قال تعالى : (فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ).

__________________

(١) آل عمران : ١٥٩.

٣٣٤

كلّ ذلك يعرب عن أنّ الآية ترجع إلى غير مسألة الخلافة والحكومة ، ولأجل ذلك لم نر أحداً من الحاضرين في السقيفة احتجّ بهذه الآية.

الآية الثانية : قوله سبحانه :

(وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ)(١).

ببيان أنّ كلمة «أمر» أضيفت إلى ضمير «هم» وهو يفيد العموم لكلّ أمر ومنه الخلافة ، فيعود معنى الآية : إنّ شأن المؤمنين في كلّ مورد شورى بينهم.

يلاحظ عليه : أنّ الآية حثَّت على الشورى فيما يمت إلى شئون المؤمنين بصلة ، لا فيما هو خارج عن حوزة أمورهم ، وكون تعيين الإمام داخلاً في أُمورهم فهو أوّل الكلام ، إذ لا ندري ـ على الفرض ـ هل هو من شئونهم أو من شئون الله سبحانه؟ ولا ندري ، هل هي إمرة وولاية إلهيّة تتمّ بنصبه سبحانه وتعيينه ، أو إمرة وولاية شعبيّة يجوز للناس التدخّل فيها؟

فإن قلت : لو لم تكن الشورى أساس الحكم ، فلما ذا استدلّ بها الإمام علي عليه‌السلام على المخالف ، وقال مخاطباً لمعاوية : «إنّه بايعني القوم الّذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان على ما بايعوهم عليه»؟ (٢)

قلت : الاستدلال بالشورى كان من باب الجدل حيث بدأ رسالته بقوله :

__________________

(١) الشورى : ٣٨.

(٢) نهج البلاغة : الرسائل ، الرقم ٦.

٣٣٥

«أمّا بعد ، فإنّ بيعتي بالمدينة لزمتك وأنت بالشام ، لأنّه بايعني الّذين بايعوا أبا بكر وعمر ...».

ثمّ ختمها بقوله : «فادخل فيما دخل فيه المسلمون». (١)

فالابتداء بالكلام بخلافة الشيخين يعرب عن أنّه في مقام إلزام معاوية الّذي يعتبر البيعة وجهاً شرعياً للخلافة ، ولو لا ذلك لما كان وجه لذكر خلافة الشيخين ، بل لاستدلّ بنفس الشورى. ولو كان الإمام عليّ عليه‌السلام يرى أنّ الشورى أساس ومصدر شرعي للخلافة لم يطعن في خلافة الخلفاء الثلاثة قبله وكلماته عليه‌السلام في الخطبة الشقشقيّة وغيرها تدلّ على أنّ خلافتهم لم تكن مشروعة. وأنّه عليه‌السلام إنّما لم يقم بالمعارضة أو وافقهم في شئون الحكومة في الجملة قياماً بمصالح الإسلام والمسلمين.

تصوّر النبيّ الأكرم للقيادة بعده

إنّ الكلمات المأثورة عن الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، تدلّ على أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يعتبر أمر القيادة بعده مسألة إلهيّة وحقّاً خاصّاً لله جلّ جلاله ، فإنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله لمّا دعا بني عامر إلى الإسلام وقد جاءوا في موسم الحج إلى مكّة ، قال رئيسهم : أرأيت أنّ نحن بايعناك على أمرك ، ثمّ أظهرك الله على من خالفك ، أيكون لنا الأمر من بعدك؟

__________________

(١) لاحظ : وقعة صفّين لنصر بن مزاحم (المتوفّى ٢١٢ ه‍) : ٢٩ ، وقد حذف الرضي في نهج البلاغة من الرسالة ما لا يهمّه ، فإنّ عنايته كانت بالبلاغة فحسب.

٣٣٦

فأجابه صلى‌الله‌عليه‌وآله بقوله : «الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء». (١)

فلو كان أمر الخلافة بيد الأُمة لكان عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يقول الأمر إلى الأُمّة ، أو إلى أهل الحلّ والعقد ، أو ما يشابه ذلك ، فتفويض أمر الخلافة إلى الله سبحانه ظاهر في كونها كالنبوّة يضعها سبحانه حيث يشاء ، قال تعالى : (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) (٢) فاللسان في موردين واحد.

أضف إلى ذلك أنّ هناك نصوصاً تشير إلى ما في مرتكز العقل ، من أنّ ترك الأُمّة بلا قائد وإمام قبيح على من بيده زمام الأمر ، هذه عائشة تقول لعبد الله بن عمر : «يا بُنيّ أبلغ عمر سلامي وقل له ، لا تدع أُمّة محمّد بلا راع». (٣)

وإنّما قالت ذلك عند ما اغتيل عمر وأحسّ بالموت ، وأرسل ابنه إلى عائشة ليستأذن منها أن يدفن في بيتها مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ومع أبي بكر.

وهذا عبد الله بن عمر يقول لأبيه : «إنّي سمعت الناس يقولون مقالة ، فآليت أن أقولها لك ، وزعموا أنّك غير مستخلف ، وأنّه لو كان لك راعي إبل أو غنم ثمّ جاءك وتركها ، لرأيت أن قد ضيّع ، فرعاية الناس أشدّ». (٤)

وبذلك استصوب معاوية أخذه البيعة من الناس لابنه يزيد وقال : «إنّي كرهت أن أدع أمّة محمّد بعدي كالضأن لا راعي لها». (٥)

__________________

(١) السيرة النبوية لابن هشام : ٢ / ٤٢٤.

(٢) الأنعام : ١٢٤.

(٣) الإمامة والسياسة : ١ / ٣٢.

(٤) حلية الأولياء : ١ / ٤٤.

(٥) الإمامة والسياسة : ١ / ١٦٨.

٣٣٧

فإذا كان ترك الأُمّة بلا راع ، أمراً غير صحيح في منطق العقل ، فكيف يجوز لهؤلاء أن ينسبوا إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه ترك الأُمة بلا راع؟! فكأنَّ هؤلاء كانوا أعطف على الأُمّة من النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، إنّ هذا ممّا يقضى منه العجب.

٣٣٨

الفصل الرابع :

أدلة وجوب النصّ في الإمامة

عند الشيعة الإمامية

إنّ الإمامة عند الشيعة تختلف في حقيقتها عما لدى أهل السنّة ، فهي إمرة إلهية واستمرار لوظائف النبوّة كلّها سوى تحمّل الوحي الإلهى ، ومقتضى هذا اتّصاف الإمام بالشروط المشترطة في النبيّ ، سوى كونه طرفاً للوحي التشريعي ، وبناءً على هذا ينحصر طريق ثبوت الإمامة بتنصيص من الله وتنصيب من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أو الإمام السابق ، وإليك فيما يلي براهين هذا الأصل :

أ) الفراغات الهائلة بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في مجالات أربعة

إنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لم تكن مسئوليّاته وأعماله مقتصرة على تلقّي الوحي الإلهي وتبليغه إلى الناس ، بل كان يقوم بالأُمور التالية أيضاً :

١. يفسّر الكتاب العزيز ويشرح مقاصده ويكشف أسراره ، يقول سبحانه :

٣٣٩

(وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ)؛ (١)

٢. يحكم بين الناس فيما يحدث بينهم من الاختلافات والمنازعات. قال سبحانه : (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً)؛(٢)

٣. يبيّن أحكام الموضوعات الّتي كانت تحدث في زمن دعوته ؛

٤. يدفع الشبهات ويجيب عن التساؤلات العويصة المريبة الّتي كان يثيرها أعداء الإسلام من يهود ونصارى ؛

٥. يصون الدّين من التحريف والدسِّ ويراقب ما أخذه عنه المسلمون من أصول وفروع حتى لا تزلّ فيه أقدامهم.

هذه هي الأُمور الّتي مارسها النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله أيّام حياته ، ومن المعلوم أنّ رحلته تخلّف فراغاً هائلاً في هذه المجالات الخمسة ، فيكون التشريع الإسلامي حينئذٍ أمام محتملات ثلاثة :

الأوّل : أن لا يبدي الشارع اهتماماً بسدِّ هذه الفراغات الهائلة الّتي ستحدث بعد الرسول. وهذا الاحتمال ساقط جدّاً ، لا يحتاج إلى البحث ، فإنّه لا ينسجم مع غرض البعثة ، فإنّ في ترك هذه الفراغات ضياعاً للدّين والشريعة.

الثاني : أن تكون الأُمة قد بلغت بفضل جهود صاحب الدعوة في

__________________

(١) النحل : ٤٤.

(٢) النساء : ١٠٥.

٣٤٠