محاضرات في الإلهيّات

الشيخ علي الربّاني الگلبايگاني

محاضرات في الإلهيّات

المؤلف:

الشيخ علي الربّاني الگلبايگاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١١
ISBN: 978-964-357-294-5
الصفحات: ٥٢٨

ب) التنبّؤ بانتصار الروم على الفرس :

قال سبحانه :

(الم* غُلِبَتِ الرُّومُ* فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ* فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ) (١).

ينقل التاريخ أنّ دولة الروم ـ وكانت دولة مسيحية ـ انهزمت أمام دولة الفرس ـ وهي وثنية ـ بعد حروب طاحنة بينهما سنة ٦١٤ م ، فاغتمّ المسلمون لكونها هزيمة لدولة إلهية أمام دولة وثنيّة وفرح المشركون ، وقالوا للمسلمين بشماتة : إنّ الروم يشهدون أنّهم أهل كتاب وقد غلبهم المجوس ، وأنتم تزعمون أنّكم ستغلبوننا بالكتاب الّذي أُنزل عليكم فسنغلبكم كما غلبت الفرس الروم.

فعند ذلك نزلت هذه الآيات الكريمات تُنبئ بأنّ هزيمة الروم هذه سيعقبها انتصار لهم في بضع سنين ، وهي مدّة تتراوح بين ثلاث سنوات وتسع ، تُنبّئ بذلك ، وكانت المقدّمات والأسباب على خلافه ، لأنّ الحروب الطاحنة أنهكت الدولة الرومانية حتى غزيت في عقر دارها كما يدلّ عليه قوله : (فِي أَدْنَى الْأَرْضِ) ، ولأنّ دولة الفرس كانت دولة قويّة منيعة ، وزادها الانتصار الأخير قوّة ومنعة ، ولكنّ الله تعالى أنجز وعده وحقّق تنبّؤ القرآن في بضع سنين ، فانتصر الروم سنة ٦٢٢ م.

__________________

(١) الروم : ١ ـ ٤.

٣٠١

ج) التنبّؤ بالقضاء على العدو قبل لقائه :

قال سبحانه :

(وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ) (١).

نزلت الآية قبل لقاء المسلمين العدوّ في ساحة المعركة ، فأخبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله عن هزيمة المشركين ، واستئصال شأفتهم ، ومحق قوتهم كما يدلّ عليه قوله :

(وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ.)

د) التنبّؤ بكثرة الذرية :

قال سبحانه : (إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ). الكوثر هو الخير الكثير والمراد هنا بقرينة قوله : (إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ) كثرة ذريّته صلى‌الله‌عليه‌وآله فالمعنى أنّ الله تعالى يعطى نبيّه نسلاً يبقون على مرّ الزمان.

قال الرازي :

فانظر كَمْ قتل من أهل البيت ، ثمّ العالم ممتلئ منهم ولم يبق من بني أميّة أحد يعبأ به ، ثمّ انظر كَمْ كان فيهم من الأكابر من العلماء

__________________

(١) الأنفال : ٧.

٣٠٢

كالباقر والصادق والكاظم والرضا والنفس الزكية وأمثالهم. (١)

هذه نماذج من تنبّؤات الذّكر الحكيم ، وهناك تنبّؤات أخرى لم نذكرها لرعاية الاختصار. (٢)

٣. الإخبار عن القوانين الكونية

لا شكّ أنّ الهدف الأعلى للقرآن الكريم هو الهداية ، لكنّه ربما يتوقّف على إظهار عظمة الكون والقوانين السائدة عليه ، ولأجل ذلك نرى أنّ القرآن أشار إلى بعض تلك القوانين الّتي كانت مجهولة للبشر في عصر الرسالة ، وإنّما اهتدى إليها العلماء بعد قرون متطاولة ، وهذا في الحقيقة نوع من الإخبار عن الغيب ، وإليك نماذج من ذلك :

أ) الجاذبية العامة :

يقول سبحانه : (اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها) (٣)

إنّ الآية تثبت للسماوات عمداً غير مرئية ، فإذا كانت الجاذبية العامّة عمداً تمسك السماوات ـ حسب ما اكتشفه نيوتن وهو من القوانين العلمية المسلّمة عند العلماء الطبيعيين ـ فتكون الآية ناظرة إلى تلك القوّة وإنّما جاء القرآن بتعبير عام حتّى يفهمه الإنسان في القرون الغابرة والحاضرة ،

__________________

(١) مفاتيح الغيب : ٨ / ٤٩٨.

(٢) لاحظ : مفاهيم القرآن ، لشيخنا الأستاذ السبحاني ـ مدّ ظلّه ـ : ٣ / ٣٧٧ ـ ٥٣٤.

(٣) الرعد : ٢.

٣٠٣

وقد روى الصدوق عن أبيه عن الحسين بن خالد عن أبي الحسن الرضا عليه‌السلام قال : قلت له : أخبرني عن قول الله تعالى

(رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها)؟

فقال : «سبحان الله ، أليس يقول : (بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها)؟!»

فقلت : بلى ، فقال : «ثمَّ عمد ولكن لا ترى». (١)

ب) حركة الأرض :

يشير القرآن إلى حركة الأرض بقوله تعالى : (وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ). (٢)

وقد خصّ بعض المفسّرين الآية بيوم القيامة ، لأنّ الآية السابقة عليها راجعة إليها ، غير أنّ هناك قرائن تدلّ على أنّ الآية ناظرة إلى نظام الدنيا وهي أنّ القيامة يوم كشف الحقائق وحصول الاذعان واليقين فلا يناسب قوله :

(تَحْسَبُها جامِدَةً).

وأيضاً إنّ الأرض في القيامة تبدّل غير الأرض ، والآية ناظرة إلى الوضع الموجود في الجبال ، ويشعر بذلك كلمة الصنع في قوله :

(صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ).

__________________

(١) البرهان في تفسير القرآن ، للعلّامة السيد هاشم البحراني : ٢ / ٢٧٨.

(٢) النمل : ٨٨.

٣٠٤

وأيضاً إنّ الظاهر من قوله : (إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ). هو ما يفعله الإنسان في حياته الدنيا ، فوحدة السّياق في الأفعال المستعملة في الآية أعنى «ترى» و «تحسبها» و «تمر» و «تفعلون» قرينة على أنّ المقصود حركة الجبال في هذا النظام الموجود ، وبما أنّ الجبال راسخة في الأرض فحركتها تلازم حركة الأرض ، وتخصيصها بالذكر لبيان عظمة قدرته تعالى على حركة هذه الأشياء العظيمة الثقيلة كالسحاب ، وتشبيه حركتها بالسحاب لبيان أنّ حركة الأرض دائمة أوّلاً ، وأنّها متحقّقة بهدوء وطمأنينة ثانياً.

ج) دور الجبال في ثبات الأرض :

القرآن الكريم يبحث عن أسرار الجبال وفوائدها في آيات شتّى ، منها أنّها حافظة لقطعات القشرة الأرضية ، تقيها من التفرّق والتبعثر ، كما أنّ الأوتاد والمسامير تمنع القطعات الخشبية عن الانفصال ، يقول سبحانه :

(وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (١).

إلى غير ذلك من الآيات ، هذا وأساتذة الفيزياء والتضاريس الأرضية يفسّرون كون الجبال أوتاداً للأرض بشكل علمي خاصّ ، لا يقف عليه إلّا المتخصّص في تلك العلوم والمطّلع على قواعدها. (٢)

__________________

(١) النحل : ١٥.

(٢) راجع في ذلك : تفسير سورة الرعد لشيخنا الأستاذ ـ دام ظلّه ـ «قرآن وأسرار آفرينش» (فارسي).

٣٠٥

وفي الختام نؤكّد على ما أشرنا إليه في صدر البحث من أنّ المقصود الأعلى للقرآن هو الهداية والتزكية وليس من شأنه تبيين قضايا العلوم الطبيعية ونحوها وإنّما يتعرّض لذلك أحياناً لأجل الاهتداء إلى المعارف الإلهية ، وعلى ذلك فلا يصحّ لنا الإكثار في هذا النوع من الإعجاز وتطبيق الآيات القرآنية على معطيات العلوم حتى وإن لم يكن ظاهراً فيها ، بل يجب أن يعتمد في تفسيرها على نفس الكتاب أو الأثر المعتبر من صاحب الشريعة ومن جعلهم قرناء الكتاب وأعداله ـ صلوات الله عليه وعليهم أجمعين ـ.

٤. الجامعيّة في التشريع

إنّ التشريع القرآني شامل لجميع النواحي الحيويّة في حياة البشر يرفع بها حاجة الإنسان في جميع المجالات ، من الاعتقاد والأخلاق والسياسة والاقتصاد وغيرها ، إنّ نفس وجود تلك القوانين في جميع تلك الجوانب ، معجزة كبرى لا تقوم بها الطاقة البشريّة واللجان الحقوقية ، خصوصاً مع اتصافها بمرونة خاصّة تجامع كلّ الحضارات والمجتمعات البدائية والصناعية المتطورة ، يقول الإمام الباقر عليه‌السلام في هذا المجال :

«إن الله تعالى لم يدع شيئاً تحتاج إليه الأُمّة إلّا أنزله في كتابه وبيَّنه لرسوله ، وجعل لكل شيء حدّاً ، وجعل عليه دليلاً يدلّ عليه». (١)

والدليل الواضح على ذلك أنّ المسلمين عند ما بسطوا ظلال دولتهم

__________________

(١) الكافي : ١ / ٥٩.

٣٠٦

على أكثر من نصف المعمورة ، وأُمم الأرض كانت مختلفة في جانب العادات والوقائع والأحداث ، رفعوا ـ رغم ذلك ـ صرح الحضارة الإسلامية وأداروا المجتمع الإسلامي طيلة قرون في ظلّ الكتاب والسنّة من غير أن يستعينوا بتشريعات أجنبيّة ، وسنرجع إلى هذا البحث عند الكلام حول الخاتمية.

٥. أُمّيّة حامل الرسالة

إنّ صحائف تاريخ حامل الرسالة أوضح دليل على أنّه لم يدخل مدرسة ، ولم يحضر على أحد للدراسة وتعلّم الكتاب ، وقد صرّح بذلك القرآن بقوله :

(وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ). (١)

كيف وقد عاش وتربّى في بلد كان أهله محرومين من فنون العلم والحضارة آنذاك ولذلك وصفهم القرآن ب «الأميين» ، فبالرغم من مغالطة قساوسة الغرب والمستغربة وتشبثاتهم بمراسيل عن مجاهيل ، وانتحالات الملاحدة في هذا الأمر ، فإنّ أُمّيّة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وقومه تموج بالشواهد الواضحة من الكتاب والتاريخ والحديث. (٢)

نعم لمّا أحسّ فصحاء العرب وبلغاؤهم بالعجز عن معارضة القرآن

__________________

(١) العنكبوت : ٤٨.

(٢) راجع في ذلك : مفاهيم القرآن : ٣ / ٣٢١ ـ ٣٢٧.

٣٠٧

وأنّه ليس من سنخ كلام البشر ، اتّهموه بأنّه أساطير الأوّلين تملى عليه بكرة وأصيلاً يمليها عليه بشر (١) ويردّه تعالى بقوله :

(لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) (٢).

فمن لاحظ ذاك المعهد البسيط يذعن بأنّ من الممتنع أن يخرج منه شخصيّة فذَّة كشخصيّة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وكتاب مثل كتابه إلّا أن يكون له صلة بقدرة عظيمة مهيمنة على الكون ، كما أنّه لو قارن القرآن فيما يبيّنه في مجال المعارف ويقصّه من قصص الأنبياء الإلهيّين بالعهدين ، يتجلّى له أنّ القرآن لم يتأثّر في ذلك بالعهدين ، بل ويتّضح له أنّ ما في العهدين ليس وحياً إلهياً وإنّما هي من منشئات الأحبار والرهبان خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيّئاً فموّهوا الكتب السماوية بخرافاتهم. (٣)

وفي ذلك يقول العلّامة الطباطبائي قدس‌سره :

إنّ من قرأ العهدين وتأمّل ما فيهما ثمّ رجع إلى ما قصّه القرآن من تواريخ الأنبياء السالفين وأُممهم رأى أنّ التاريخ غير التاريخ

__________________

(١) يقول سبحانه : («وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) (الفرقان : ٥). ويقول : (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ») (النحل : ١٠٣) وقالوا فيه وجوهاً فعن ابن عباس : قالت قريش إنّما يعلّمه بلعام ، وكان قيناً بمكّة رومياً نصرانياً ، وقال الضحاك : أراد به سلمان الفارسي ، قالوا : إنّه يتعلّم القصص منه ، وقيل غير ذلك. راجع : مجمع البيان : ٣ / ٣٨٦. والكشّاف : ٣ / ٢١٨.

(٢) النحل : ١٠٣.

(٣) للوقوف على نماذج من هذه الخرافات والأباطيل في بيان قصص الأنبياء ، راجع : الإلهيات : ٢ / ٣٦١ ـ ٣٧٦.

٣٠٨

والقصّة غير القصّة ، ففيهما عثرات وخطايا لأنبياء الله الصالحين تنبو الفطرة وتنفر من أن تنسبها إلى المتعارف من صلحاء الناس وعقلائهم ، والقرآن يبرّئهم منها. (١)

__________________

(١) الميزان : ج ١ ، ص ٦٤.

٣٠٩
٣١٠

الفصل الثالث :

الخاتمية في ضوء العقل والوحي

اتّفقت الأُمّة الإسلامية على أنّ نبيّها محمّداً صلى‌الله‌عليه‌وآله خاتم النبيّين ، وشريعته خاتمة الشرائع ، وكتابه خاتم الكتب السماوية ، ويدلّ على ذلك نصوص من الكتاب والسنّة نشير إليها ، ثمّ نجيب عن أسئلة حول الخاتمية.

نصّ القرآن الكريم على أنّه خاتم النبيين بقوله : (ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ) (١).

والختم هو بلوغ آخر الشيء ، يقال : ختمت العمل وختم القارئ السورة ، والختم وهو الطبع على الشيء فذلك من هذا الباب أيضاً ، لأنّ الطبع على الشيء لا يكون إلّا بعد بلوغ آخره. (٢) ثمّ إنّ ختم باب النبوّة يستلزم ختم باب الرسالة ، وذلك لأنّ الرسالة هي إبلاغ ما تحمّله الرسول عن طريق الوحي ، فإذا انقطع الوحي والاتصال بالمبدإ الأعلى فلا يبقى للرسالة موضوع. وهناك آيات أخرى تدلّ على خاتمية الرسالة المحمّدية تصريحاً أو تلويحاً يطول المقام بذكرها.

__________________

(١) الأحزاب : ٤٠.

(٢) معجم المقاييس في اللُّغة : كلمة ختم.

٣١١

وممّا ينصّ على الخاتمية من الأحاديث ، حديث المنزلة المتّفق عليه بين الأُمة فقد نزّل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله نفسه مكان موسى ، ونزّل عليّاً عليه‌السلام مكان هارون ، وقال مخاطباً عليّاً عليه‌السلام : «أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبيّ بعدي». (١)

ودلالة الحديث على الخاتمية واضحة ، كدلالته على خلافة علي عليه‌السلام للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد رحلته كما سيوافيك بيانه في باب الإمامة.

وقال علي عليه‌السلام : «أرسله على حين فترة من الرسل ، وتنازع من الألسن ، فقفّى به الرسل وختم به الوحي». (٢)

إلى غير ذلك من النصوص المتضافرة في ذلك. (٣)

شبهة واهية

أُورد على الخاتمية شبهات واهية غنية عن الإجابة يقف عليها كلّ من له إلمام بالكتاب والسنّة والأدب العربي ، ولأجل إراءة وهن هذه الشبهات (٤) نأتي بما تعدّ من أقواها ، ثمّ نرجع إلى البحث حول سؤال مهمّ حول الخاتمية ، وهي قابلة للبحث والنقاش ، أمّا الشبهة فهي :

__________________

(١) أخرجه البخاري في صحيحه : ٣ / ٥٨ ؛ ومسلم في صحيحه : ٢ / ٣٢٣ ؛ وابن ماجة في سننه : ١ / ٢٨ ؛ والحاكم في مستدركه : ٣ / ١٠٩ ؛ وأحمد بن حنبل في مسنده : ١ / ٣٣١ وج ٢ / ٣٦٩ ، ٤٣٧. وأمّا الإماميّة فقد أصفقوا على نقله في مجامعهم الحديثية.

(٢) نهج البلاغة : الخطبة ١٣٣.

(٣) راجع في ذلك : مفاهيم القرآن : ٣ / ١٤٨ ـ ١٧٩.

(٤) للوقوف عليها وعلى أجوبتها ، لاحظ : المصدر السابق : ١٨٥ ـ ٢١٦.

٣١٢

كيف يدّعي المسلمون انغلاق باب النبوّة والرسالة ، مع أنّ صريح كتابهم ناصّ بانفتاح بابهما إلى يوم القيامة حيث يقول :

(يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (١).

والجواب : أنّ الآية تحكي خطاباً خاطب سبحانه به بني آدم في بدء الخلقة ، وفي الظرف الّذي هبط فيه آدم إلى الأرض ، فالخطاب ليس من الخطابات المنشأة في عصر الرّسالة حتى ينافي ختمها ، بل حكاية للخطاب الصادر بعد هبوط أبينا آدم إلى الأرض ، والشاهد على ذلك أمران :

الأوّل : سياق الآيات المتقدّمة على هذه الآية.

الثاني : قوله سبحانه في موضع آخر : (قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى) (٢).

فقوله : (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً). يتّحد مضموناً مع قوله : (إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي).

الخاتمية وخلود التشريع الإسلامي

إنّ هاهنا سؤالاً يجب علينا الإجابة عنه ، وهو أنّ توسّع الحضارة يلزم المجتمع بتنظيم قوانين جديدة تفوق ما كان يحتاج إليها فيما مضى ، وبما أنّ

__________________

(١) الأعراف : ٣٥.

(٢) طه : ١٢٣.

٣١٣

الحضارة والحاجات في حال تزايد وتكامل ، فكيف تعالج القوانين المحدودة الواردة في الكتاب والسنّة ، الحاجات المستحدثة غير المحدودة؟

والجواب : أنّ خلود التشريع الإسلامي وغناه عن كلّ تشريع مبنيّ على أُمور تالية :

١. حجيّة العقل في مجالات خاصّة

اعترف القرآن والسنّة بحجيّة العقل في مجالات خاصّة ، ممّا يرجع إليه القضاء فيها ، وقد بيّن مواضع ذلك في كتب أُصول الفقه ، فهناك موارد من الأحكام العقلية الكاشفة عن أحكام شرعية ، كاستقلال العقل بقبح العقاب بلا بيان ، الملازم لعدم ثبوت الحرمة والوجوب إلّا بالبيان ، واستقلاله بلزوم الاجتناب عن أطراف العلم الإجمالي في الشبهات التحريمية ، ولزوم الموافقة القطعية في الشبهات الوجوبية ، واستقلاله بإطاعة الأوامر الظاهرية.

ومن مصاديق هذا الأصل قاعدة الأهمّ والمهمّ.

توضيح ذلك : يستفاد من القرآن الكريم بجلاء أنّ الأحكام الشرعية تابعة للمصالح والمفاسد ، وبما أنّ للمصالح والمفاسد درجات ومراتب ، عقد الفقهاء باباً لتزاحم الأحكام وتصادمها ، فيقدّمون الأهم على المهمّ ، والأكثر مصلحة على الأقلّ منه ، وقد أعان فتح هذا الباب على حلّ كثير من المشاكل الاجتماعية الّتي ربّما يتوهّم الجاهل أنّها تعرقل خُطى المسلمين في معترك الحياة.

٣١٤

وبما أنّ هذا البحث ، يرجع إلى علم أُصول الفقه نقتصر على هذا القدر ، ونختم الكلام بحديث عن الإمام موسى بن جعفر عليه‌السلام وهو يخاطب تلميذه هشام بن الحكم بقوله : «إنّ لله على الناس حجّتين : حجَّة ظاهرة ، وحجَّة باطنة. فأمّا الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمّة ، وأمّا الباطنة فالعقول». (١)

٢. تشريع الاجتهاد

إنّ من مواهب الله تعالى العظيمة على الأُمة الإسلامية ، تشريع الاجتهاد ، وقد كان الاجتهاد مفتوحاً بصورته البسيطة بين الصحابة والتابعين ، كما أنّه لم يزل مفتوحاً بين أصحاب الائمّة الطاهرين عليهم‌السلام.

وقد جنت بعض الحكومات في المجتمعات الإسلامية حيث أقفلت باب الاجتهاد في أواسط القرن السابع وحرمت الأُمة الإسلاميّة من هذه الموهبة العظيمة ، يقول المقريزي :

استمرّت ولاية القضاة الأربعة من سنة ٦٦٥ ، حتّى لم يبق في مجموع أمصار الإسلام مذهب يعرف من مذاهب الإسلام ، غير هذه الأربعة وعودي من تمذهب بغيرها وأنكر عليه ، ولم يولَّ قاض ، ولا قبلت شهادة أحد ما لم يكن مقلِّداً لأحد هذه المذاهب ... (٢)

__________________

(١) الكافي : ١ / ١٦.

(٢) الخطط المقريزية : ٢ / ٣٤٤.

٣١٥

ومن بوادر الخير أن وقف غير واحد من أهل النظر من علماء أهل السنّة وقفة موضوعية ، وأحسُّوا بلزوم فتح هذا الباب بعد غلقه قروناً. (١)

٣. صلاحيات الحاكم الإسلامي وشئونه

من الأسباب الباعثة على كون التشريع الإسلامي صالحاً لحلّ المشاكل أنّه منح للحاكم الإسلامي كافَّة الصلاحيات المؤدِّية إلى حقّ التصرّف المطلق في كلّ ما يراه ذا صلاحية للأمَّة ، ويتمتّع بمثل ما يتمتّع به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله والإمام المعصوم عليه‌السلام من النفوذ المطلق ، إلّا ما يُعدّ من خصائصهما.

قال المحقّق النائيني قدس‌سره :

فوِّض إلى الحاكم الإسلامي وضع ما يراه لازماً من المقرّرات ، لمصلحة الجماعة وسدّ حاجاتها في إطار القوانين الإسلامية. (٢)

وهناك كلمة قيّمة للإمام الخميني قدس‌سره نأتي بنصّها :

إنّ الحاكم الإسلامي إذا نجح في تأسيس حكومة إسلامية في قطر من أقطار الإسلام ، أو في مناطقه كلِّها ، وتوفّرت فيه الشرائط والصلاحيات اللازمة ، وأخصّ بالذكر : العلم الوسيع ، والعدل ، يجب على المسلمين إطاعته ، وله من الحقوق

__________________

(١) لاحظ : تاريخ حصر الاجتهاد ، للعلّامة الطهراني ، ودائرة المعارف لفريد وجدي ، مادة «جهد» و «ذهب».

(٢) تنبيه الأمة وتنزيه الملَّة : ٩٧.

٣١٦

والمناصب والولاية ، ما للنبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله من إعداد القوّات العسكرية ، ودعمها بالتجنيد ، وتعيين الولاة وأخذ الضرائب ، وصرفها في محالّها ، إلى غير ذلك ....

وليس معنى ذلك أنّ الفقهاء والحكّام الإسلاميين ، مثل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمة عليهم‌السلام في جميع الشئون والمقامات ، حتّى الفضائل النفسانية ، والدرجات المعنوية ، فإنّ ذلك رأي تافه لا يركن إليه ، إذ أنّ البحث إنّما هو في الوظائف المحوّلة إلى الحاكم الإسلامي ، والموضوعة على عاتقه ، لا في المقامات المعنوية والفضائل النفسانية ، فإنّهم ـ صلوات الله عليهم ـ في هذا المضمار في درجة لا يدرك شأوهم ولا يشقّ لهم غبار حسب روائع نصوصهم وكلماتهم.(١)

٤. الأحكام الّتي لها دور التحديد

من الأسباب الموجبة لانطباق التشريع القرآني على جميع الحضارات ، تشريعه لقوانين خاصّة ، لها دور التحديد والرقابة بالنسبة إلى عامّة تشريعاته ، فهذه القوانين الحاكمة ، تعطي لهذا الدين مرونة يماشي بها كلّ الأجيال والقرون.

يقول سبحانه : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (٢).

__________________

(١) ولاية الفقيه : ٦٣ ـ ٦٦.

(٢) الحج : ٧٨.

٣١٧

ويقول سبحانه : (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(١).

ويقول سبحانه : (إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ.) (٢)

ويقول سبحانه : (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) (٣).

وما ورد حول النهي عن الضرر من الآيات ، كلّها تحدّد التشريعات القرآنية بحدود الحرج والعسر والضرر ، فلولا هذه التحديدات الحاكمة لما كانت الشريعة الإسلامية مماشية لجميع الحضارات البشرية.

٥. الاعتدال في التشريع

من الأسباب الموجبة لصلاح الإسلام للبقاء والخلود كون تشريعاته مبتنية على أساس الاعتدال موافقة للفطرة الإنسانية ، فأخذت من الدنيا ما هو لصالح العباد ، ومن الآخرة مثله ، فكما ندب إلى العبادة ، ندب إلى طلب الرزق أيضاً ، بل ندب إلى ترويح النفس ، والتخلية بينها وبين لذّاتها بوجه مشروع.

وقال الإمام علي عليه‌السلام : «للمؤمن ثلاث ساعات : ساعة يناجي ربّه ، وساعة يرمُّ فيها معاشه ، وساعة يخلّي بين نفسه ولذاتها». (٤)

__________________

(١) البقرة : ١٧٣.

(٢) الأنعام : ١١٩.

(٣) النحل : ١٠٦.

(٤) نهج البلاغة : باب الحكم ، رقم ٣٩٠.

٣١٨

الباب السابع :

في

الإمامة والخلافة

وفيه ثمانية فصول :

١. لما ذا نبحث عن الإمامة؟

٢. حقيقة الإمامة عند الشيعة وأهل السنّة ؛

٣. طرق إثبات الإمامة عند أهل السنّة ؛

٤. أدلّة وجوب تنصيب الإمام عند الشيعة ؛

٥. وجوب العصمة في الإمام ؛

٦. النصوص الدينية وتنصيب علي ٧ للامامة ؛

٧. السنّة النبوية والأئمّة الاثنا عشر ؛

٨. الإمام الثاني عشر في الكتاب والسنّة.

٣١٩
٣٢٠