محاضرات في الإلهيّات

الشيخ علي الربّاني الگلبايگاني

محاضرات في الإلهيّات

المؤلف:

الشيخ علي الربّاني الگلبايگاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١١
ISBN: 978-964-357-294-5
الصفحات: ٥٢٨

ولا يتحقّق الإعجاز إلّا إذا عجز الناس عن القيام بمعارضة ما أتى به مدّعي النبوّة ، ويترتّب على هذا أنّ ما يقوم به كبار الأطباء والمخترعين من الأُمور العجيبة خارج عن إطار الإعجاز ، كما أنّ ما يقوم به السّحرة والمرتاضون من الأعمال المدهشة ، لا يعدّ معجزاً لانتفاء هذا الشرط.

ومن شرائط كون الإعجاز دليلاً على صدق دعوى النبوّة أن يكون فعل المدّعي مطابقاً لدعواه ، فلو خالف ما ادّعاه لما سمّي معجزة وإن كان أمراً خارقاً للعادة ، ومن ذلك ما حصل من مسيلمة الكذّاب عند ما ادّعى أنّه نبي ، وآية نبوّته أنّه إذا تفل في بئر قليلة الماء ، يكثر ماؤها ، فتفل فغار جميع ماؤها.

دلالة المعجزة وقاعدة الحسن والقبح العقليين

إنّ دلالة المعجزة على صدق دعوى النبوّة يتوقّف على القول بالحسن والقبح العقليين ، لأنّ الإعجاز إنّما يكون دليلاً على صدق النبوّة ، إذا قبح في العقل إظهار المعجزة على يد الكاذب ، فإذا توقّف العقل عن إدراك قبحه واحتمل صحّة إمكان ظهوره على يد الكاذب ، لا يقدر على التمييز بين الصادق والكاذب ، فالّذين أنكروا حكم العقل بهما ، يلزم عليهم سدّ باب التصديق بالنبوّة من طريق الإعجاز ، قال العلّامة الحلّي :

لو كان الحسن والقبح باعتبار السمع لا غير لما قبح من الله تعالى شيء ، ولو كان كذلك لما قبح منه تعالى إظهار المعجزات على يد الكاذبين ، وتجويز ذلك يسدّ باب معرفة النبوّة ، فإنّ أيّ

٢٦١

نبي أظهر المعجزة عقيب ادّعاء النبوّة لا يمكن تصديقه مع تجويز إظهار المعجزة على يد الكاذب في دعوى النبوّة. (١)

المعجزة دليل برهاني

هناك من يتخيّل أن دلالة المعجزة على صدق دعوى النبيّ ، دلالة إقناعية لا برهانية ، بحجّة أنّ الدليل البرهاني يتوقّف على وجود رابطة منطقية بين المدّعى والدليل ، وهي غير موجودة في المقام ، ويردّه أنّ دعوى النبوّة والرسالة من كلّ نبيّ ورسول ـ على ما يقصّه القرآن ـ إنّما كانت بدعوى الوحي والتكليم الإلهي بلا واسطة أو بواسطة نزول ملك ، وهذا أمر لا يساعده الحسّ ولا تؤيّده التجربة ، فإنّ الوحي والتكليم الإلهي وما يتلوه من التشريع والتربية الدينية ممّا لا يشاهده البشر في أنفسهم ، والعادة الجارية في الأسباب والمسبّبات تنكره ، فهو أمر خارق للعادة.

فلو كان النبيّ صادقاً في دعواه النبوّة والوحي ، لكان لازمه أنّه متّصل بما وراء الطبيعة ، مؤيَّد بقوَّة إلهية تقدر على خرق العادة ، فلو كان هذا حقّاً كان من الممكن أن يصدر من النبيّ خارق آخر للعادة يصدّق النبوّة والوحي من غير مانع منه ، فإنّ حكم الأمثال واحد ، فلئن أراد الله هداية الناس بطريق خارق للعادة وهو طريق النبوّة والوحي ، فليؤيّدها وليصدّقها بخارق آخر وهو المعجزة.

__________________

(١) نهج الحق وكشف الصدق : ٨٤.

٢٦٢

وهذا هو الّذي بعث الأُمم إلى سؤال المعجزة على صدق دعوى النبوّة كلّما جاءهم رسول من أنفسهم. (١)

فوارق المعجزة لسائر خوارق العادة

إنّ هناك جهات من التمايز والتفارق بين المعجزة والكرامة وبين غيرهما من خوارق العادات وهي :

الجهة الأُولى من حيث طريق الحصول عليها ، فإنّ المعجزة والكرامة وليدتان لعناية إلهية خاصة ، وليس السّبب لهما ممّا تناله يد الدراسة والتعلّم ، ولكنّ السّحر ونحوه نتاج التعليم والتعلّم ولها مناهج تعليمية يجب ممارستها حتّى يصل طالبها إلى النتائج المطلوبة يقول سبحانه :

(وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ)(٢).

ولمّا كان السحر ونحوه رهن التعليم والتعلّم ، فهو متشابه في نوعه ، متّحد في جنسه ، يدور في فلك واحد ، ولا يخرج عن نطاق ما تعلّمه أهله ولذا لا يأتون إلّا بما تدرّبوا عليه ، بخلاف معجزة الأنبياء فإنّه على جانب عظيم من التنوّع في الكيفيّة إلى حدّ قد لا يجد الإنسان بين المعجزات قدراً

__________________

(١) الميزان : ١ / ٨٦.

(٢) البقرة : ١٠٢.

٢٦٣

مشتركاً وجنساً قريباً ، كما في المعجزات الّتي يخبر بها القرآن عن موسى وعيسى عليهما‌السلام بقوله تعالى :

(فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ) (١).

وقوله تعالى : (وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ) (٢).

وقوله تعالى :

(وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً) (٣).

وقوله تعالى :

(فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ)(٤).

وقوله سبحانه :

(وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (٥).

__________________

(١) الأعراف : ١٠٧.

(٢) الأعراف : ١٠٨.

(٣) البقرة : ٦٠.

(٤) الشعراء : ٦٣.

(٥) آل عمران : ٤٩.

٢٦٤

نعم ، الحكمة الإلهية اقتضت أن تكون معاجز الأنبياء مناسبة للفنون الرائجة في عصورهم حتى يتسنّى لخبراء كلّ فنٍّ تشخيص المعاجز وإدراك استنادها إلى القدرة الغيبية ، وتميّزها عن الأعمال الباهرة المستندة إلى العلوم والفنون الرائجة.

الجهة الثانية من حيث الأهداف والغايات ، فإنّ أصحاب المعاجز يتبنّون أهدافاً عالية ويتوسّلون بمعاجزهم لإثبات حقّانية تلك الأهداف ونشرها ، وهي تتمثّل في الدعوة إلى الله تعالى وحده وتخليص الإنسان عبوديّة الأصنام والحجارة والحيوانات والدعوة إلى الفضائل ونبذ الرذائل ، واستقرار نظام العدل الاجتماعي وغير ذلك ، كما أنّ أصحاب الكرامات أيضاً لا يتبنّون إلّا ما يكون موافقاً لرضى الله سبحانه لا غير.

وهذا بخلاف المرتاضين والسّحرة ، فغايتهم إمّا كسب الشهرة والسّمعة بين الناس ، أو جمع المال والثروة ، وغير ذلك ممّا يناسب متطلّبات القوى البهيميّة.

الجهة الثالثة من حيث التقيّد بالقيم الأخلاقية ، فإنّ أصحاب المعاجز والكرامات ـ باعتبار كونهم خرّيجي المدرسة الإلهيّة ـ متحلّون بأكمل الفضائل والأخلاق الإنسانيّة ، والمتصفّح لسيرتهم لا يجد فيها أيّ عمل مشين ومناف للعفّة ومكارم الأخلاق ، وأمّا أصحاب الرّياضة والسّحر ، فهم دونهم في ذلك ، بل تراهم غالباً فارغين عن المثل والفضائل والقيم.

٢٦٥

فبهذه الضوابط يتمكّن الإنسان من تمييز المعجزة عن غيرها من الخوارق والنبيّ عن المرتاض والسّاحر.

المعجزة وقانون العلّية

إنّ المعجزات لا تعدّ نقضاً لقانون العلّية العام ، فإنّ المنفي في مورد المعجزة هو العلل المادّية المتعارفة الّتي وقف عليها العالم الطبيعي واعتاد الإنسان على مشاهدته في حياته ولكن لا يمتنع أن يكون للمعجزة علّة أُخرى لم يشاهدها النّاس من قبل ولم يعرفها العلم ولم تقف عليها التجربة.

كما أنّها لا تضعضع برهان النظم الّذي يستدل به على وجود الصانع ، وذلك لأنّ الإعجاز ليس خرقاً لجميع النظم السائدة على العالم ، وإنّما هو خرق في جزء من أجزائه غير المتناهية الخاضعة للنظام والدالّة ببرهان النظم على وجود الصانع.

* * *

٢٦٦

الفصل الرابع :

حقيقة الوحي في النبوّة

الوحي في اللّغة كما يستنبط من نصوص أهلها في معاجمهم هو الإعلام بخفاء بطريق من الطرق (١) وقد جاء استعماله في القرآن الكريم في موارد متعدّدة مختلفة يجمعها المعنى اللغوي حقيقة أو ادّعاء ، منها قوله سبحانه :

(وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها) (٢) أي أودع في كلّ سماءٍ السنن والأنظمة الكونية ، وقدّر عليها دوامها ، فإيجاد السنن والنظم في السّماوات على وجه لا يقف عليه إلّا المتدبّر في عالم الخلقة يشبه الإلقاء والإعلام بخفاء بنحو لا يقف عليه إلّا الملقى إليه ، وهو الوحي.

ومنها قوله سبحانه : (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ.) (٣) فأطلق الوحي على ما أودع في

__________________

(١) راجع في ذلك : معجم مقاييس اللغة : ٦ / ٩٣ ؛ المفردات في غريب القرآن ، مادة «وحي» ؛ لسان العرب : ١٥ / ٣٧٩.

(٢) فصّلت : ١٢.

(٣) النحل : ٦٨.

٢٦٧

صميم وجود النحل من غريزة إلهية تهديه إلى أعماله الحيويّة الخاصّة.

ومنها قوله سبحانه : (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ) (١) حيث إنّ تفهيم أُمّ موسى مصير ولدها كان بإلهام وإعلام خفي ، عبّر عنه بالوحي.

ومنها قوله تعالى في وصف زكريّا :

(فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا) (٢).

والمعنى : أشار إليهم من دون أن يتكلّم ، لأمره سبحانه إيّاه أن لا يكلّم الناس ثلاث ليال سويّاً ، فأشبه فعله ، إلقاء الكلام بخفاء لكون الإشارة أمراً مبهماً.

ومنها قوله تعالى : (وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ) (٣) ويعلم وجه استعمال الوحي هنا ممّا ذكرناه فيما سبقه.

وحي النبوّة

إنّ الغالب في استعمال كلمة الوحي في القرآن هو كلام الله المنزل على نبيّ من أنبيائه ، فكلّما أطلق الوحي وجرّد عن القرينة يراد منه ذلك ، وهذا هو الّذي نحن بصدد بيان حقيقته ، فنقول : الوحي الّذي يختصّ به الأنبياء إدراك خاصّ متميّز عن سائر الإدراكات فإنّه ليس نتاج الحسّ ولا

__________________

(١) القصص : ٧.

(٢) مريم : ١١.

(٣) الأنعام : ١٢١.

٢٦٨

العقل ولا الغريزة ، وإنّما هو شعور خاص يوجده الله سبحانه في الأنبياء لا يغلط معه النبيّ في إدراكه ولا يشتبه ولا يختلجه شكّ ولا يعترضه ريب في أنّ الّذي يوحي إليه هو الله سبحانه ، من غير أن يحتاج إلى إعمال نظر أو التماس دليل ، أو إقامة حجّة. قال سبحانه : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ* عَلى قَلْبِكَ) (١) فهذه الآية تشير إلى أنّ الّذي يتلقّى الوحي من الروح الأمين هو نفس النبيّ الشريفة ، من غير مشاركة الحواس الظاهرة الّتي هي الأدوات المستعملة في إدراك الأُمور الجزئية.

وعلى هذا ، فالوحي حصيلة الاتّصال بعالم الغيب ، ولا يصحّ تحليله بأدوات المعرفة المعتادة ولا بالأُصول الّتي تجهّز بها العلم الحديث.

ومن لم يذعن بعالم الغيب يشكل عليه الإذعان بهذا الإدراك الّذي لا صلة له بعالم المادّة وأصوله.

فرضيّة النبوغ

قد فسّر بعض المتجددين النبوّة بالنبوغ والوحي بلمعات ذاك النبوغ. وحاصل مذهبهم : أنّه يتميّز بين أفراد الإنسان المتحضّر ، أشخاص يملكون فطرة سليمة وعقولاً مشرقة تهديهم إلى ما فيه صلاح الاجتماع وسعادة الإنسان ، فيضعون قوانين فيها مصلحة المجتمع وعمران الدنيا ، والإنسان الصالح الّذي يتميّز بهذا النوع من النبوغ هو النبيّ ، والفكر الصالح المترشّح من مكامن عقله وومضات نبوغه هو الوحي ، والقوانين الّتي يسنّها لصلاح

__________________

(١) الشعراء : ١٩٣ ـ ١٩٤.

٢٦٩

الاجتماع هو الدّين ، والروح الأمين هو نفسه الطاهرة الّتي تفيض هذه الأفكار إلى مراكز إدراكه ، والكتاب السّماوي هو كتابه الّذي يتضمّن سننه وقوانينه.

يلاحظ عليه أوّلاً : لو صحّت هذه النظريّة لم يبق من الاعتقاد بالغيب إلّا الإعتقاد بوجود الخالق البارئ ، أمّا ما سوى ذلك فكلّه نتاج الفكر الإنساني الخاطئ ، وهذا في الواقع نوع إنكار للدين.

وثانياً : أنّ قسماً ممّا يقع به الوحي الإنباء عن الحوادث المستقبلة ، إنباءً لا يخطئ تحقّقه أبداً ، مع أنّ النوابغ وإن سموا في الذكاء والفطنة لا يخبرون عن الحوادث المستقبلة إلّا مع الاحتياط والتردّد ، لا بالقطع واليقين ، وعلى فرض إخبارهم كذلك لا يكون مصوناً عن الخطأ والكذب.

وثالثاً : أنّ حملة الوحي ومدّعي النبوّة ـ من أوّلهم إلى آخرهم ـ إنّما ينسبون تعاليمهم وسننهم إلى الله سبحانه ولا يدّعون لأنفسهم شيئاً ، ولا يشكّ أحد في أنّ الأنبياء عباد صالحون ، صادقون لا يكذبون ، فلو كانت السّنن الّتي أتوا بها من وحي أفكارهم ، فلما ذا يغرّون المجتمع بنسبتها إلى الله تعالى؟

هل الوحي نتيجة تجلّي الأحوال الروحيّة؟

زعم بعض المستشرقين (١) أنّ الوحي إلهام يفيض من نفس النبيّ لا

__________________

(١) هذه النظريّة مأثورة عن المستشرق «مونتيه» وفصّلها «إميل درمنغام» ، لاحظ : «الوحي المحمدي» ، السيد محمّد رشيد رضا ، ص ٦٦.

٢٧٠

من الخارج ، وذاك أنّ منازع نفسه العالية ، وسريرته الطاهرة ، وقوّة إيمانه بالله وبوجوب عبادته ، وترك ما سواها من عبادة وثنية وتقاليد وراثية رديئة يكون لها من التأثير ما يتجلّى في ذهنه ، ويحدث في عقله الباطن الرؤى والأحوال الروحية فيتصوّر ما يعتقد وجوبه ، إرشاداً إلهياً نازلاً عليه من السّماء بدون وساطة ، أو يتمثّل له رجل يلقّنه ذلك ، يعتقد أنّه ملك من عالم الغيب ، وقد يسمعه يقول ذلك ولكنّه إنّما يرى ويسمع ما يعتقده في اليقظة كما يرى ويسمع مثل ذلك في المنام الّذي هو مظهر من مظاهر الوحي عند جميع الأنبياء.

يقول أصحاب هذه النظريّة : لا نشكّ في صدق الأنبياء في إخبارهم عمّا رأوا وسمعوا ، وإنّما نقول : إنّ منبع ذلك من نفسه وليس فيه شيء جاء من عالم الغيب الّذي يقال إنّه وراء عالم المادّة والطبيعة.

نقد هذه النظريّة

هذه النظريّة الّتي جاء بها بعض الغربيين وإن كانت تنطلي على السّذّج من الناس وتأخذ بينهم رونقاً إلّا أنّ رجال التحقيق يدركون تماماً أنّها ليست بشيء جديد قابل للذكر ، وإنّما هي تكرار لمقالات العرب الجاهليين في النبوّة والوحي ، فمن جملة افتراءاتهم على النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وصم شريعته بأنّها نتاج الأحلام العذبة الّتي كانت تراود خاطره ، ثمّ تتجلّى على لسانه وبصره ، قال تعالى : (بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ) (١).

__________________

(١) الأنبياء : ٥.

٢٧١

والقرآن يردّ مقالتهم ويركّز على أنّ الوحي أمر واقعي مفاض من الله سبحانه ، ويقول:

(وَالنَّجْمِ إِذا هَوى * ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى * وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى) (١).

وكذلك يقول : (ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى) (٢) أي لم يكذّب فؤاد محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ما أدركه بصره ، أي كانت رؤيته صحيحة غير كاذبة وإدراكا حقيقياً.

وكذلك يقول : (ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى) (٣) كناية عن صحّة رؤيته وإنّه لم يبصر ما أبصره على غير صفته الحقيقية ولا أبصر ما لا حقيقة له.

والحاصل : أنّ الأنبياء كانوا يعرّفون أنفسهم بأنّهم مبعوثون من جانب الله تعالى ولا شأن لهم إلّا إبلاغ الرسالات الإلهيّة إلى الناس.

ولا ريب في أنّهم كانوا صادقين في أقوالهم ـ كما اعترف به صاحب النظريّة ـ وعندئذ لو قلنا بأنّ ما ذكروه غير مطابق للواقع وأنّ ما أتوا به من المعارف والشرائع لم يكن رسالات إلهية وذكراً من جانبه سبحانه ، بل كان نابعاً من باطن ضميرهم وتجلّيات نفوسهم ، لكان الأنبياء قاصرين في مجال المعرفة ، ما زالوا في جهل مركب ، وهذا ما لا يتفوّه به من له أدنى معرفة

__________________

(١) النجم : ١ ـ ٥.

(٢) النجم : ١١.

(٣) النجم : ١٧.

٢٧٢

بمقالات الأنبياء وشخصياتهم الجليلة في مجال العلم والعمل ، بل يأبى العقل والفطرة من اتّسام من دونهم بمراتب من رجالات العلم والدّين بمثل هذا الجهل والخبط.

الوحي والشخصية الباطنة

إنّ جماعة من الغربيّين فسّروا الوحي بما أثبتوه في أبحاثهم النفسية من الشخصيّة الباطنة لكلّ إنسان ، وقد جرّبوا ذلك على المنوَّمين تنويماً مغناطيسياً ، فوجدوا أنّ النائم يظهر بمظهر من الحياة الروحية لا يكون له وهو يقظان ، فيعلم الغيب ويخبر عن البعيدين ، يبصر ويسمع ويحسّ بغير حواسه الظاهرة ويكون على جانب كبير من التعقّل والإدراك.

قالوا : هذه الشخصيّة هي الّتي تهدي الإنسان بالخواطر الجيّدة من خلال حجبه الجسمية الكثيفة ، وهي الّتي تعطيه الإلهامات الطيّبة الفجائية في الظروف الحرجة ، وهي الّتي تنفث في روع الأنبياء ما يعتبرونه وحياً من الله ، وقد تظهر له متجسّدة فيحسبونها من ملائكة الله هبطت عليهم من السماء. (١)

يلاحظ عليه أوّلاً : أنّ هذه النظريّة على فرض صحتها لا دلالة لها على أنّ خصوص الوحي عند الأنبياء من سنخ إفاضة الشخصية الباطنية وتجلّيها عند تعطّل القوى الظاهرية.

وثانياً : أنّ الشخصيّة الباطنية للإنسان إنّما تتجلّى وتجد مجالاً للظهور

__________________

(١) لاحظ : دائرة المعارف لفريد وجدي : ١٠ / ٧١٢ ـ ٧١٦.

٢٧٣

بآثارها المختلفة ، عند تعطّل القوى الظاهرية ، فلذا يقوى ظهورها في المرضى والسكارى والنائمين ، وتبقى مندثرة ومغمورة في طوايا النفس عند ما تكون القوى الظاهرية والحواس البشرية في حالة الفعّالية والسعي ، مع أنّ المعلوم من حالات الأنبياء أنّ الوحي الإلهي كان ينزل عليهم في أقصى حالات تنبّههم واشتغالهم بالأُمور السياسية والدفاعية والتبليغية ، فكيف يكون ما تجلّى للنبي وهو يخوض غمار الحرب ، تجلّياً للشخصيّة الباطنة والضمير المخفي؟ وأين الأنبياء من الخمول والانعزال عن المجتمع؟

٢٧٤

الفصل الخامس :

عصمة أنبياء الله تعالى

إنّ للعصمة مراتب أو أبعاداً وهي :

١. العصمة في تلقّي الوحي وإبلاغه ؛

٢. العصمة في العمل بالشريعة الإلهيّة ؛

٣. العصمة عن الخطأ في تطبيق الشريعة ؛

٤. العصمة عن الخطأ في تشخيص مصالح الأُمور ومفاسدها ؛

٥. العصمة عن الخطأ في الأُمور العادية ؛

٦. التنزّه عن المنفِّرات.

والبحث عنها وعن مسائل أُخرى متعلّقة بها هو الغرض من هذا الفصل.

العصمة في اللّغة والاصطلاح

العصمة في اللّغة بمعنى الإمساك والمنع (١) وأمّا في اصطلاح

__________________

(١) معجم مقاييس اللغة : ٤ / ٣٣١ ؛ المفردات في غريب القرآن ؛ كتاب العين ، مادة عصم.

٢٧٥

المتكلّمين فالمشهور عند العدلية أنّها لطف من الله لا داعي معه إلى ترك الطاعة ولا إلى ارتكاب المعصية مع القدرة عليهما (١) وعند الأشاعرة «أن لا يخلق الله فيهم ذنباً». (٢) وقال المحقّق الجرجاني : «العصمة ملكة اجتناب المعاصى مع التمكن منها». (٣)

أقول : ما ذكره الشريف هو الصحيح وما ذكره المشهور سبب إلهيّ لتحقّق العصمة ، فالحقّ أنّ العصمة ملكة نفسانية راسخة في النفس ، تمنع الإنسان عن المعصية مطلقاً ، فهي من سنخ التقوى لكنّها درجة قصوى منها ، فالتقوى في العاديين من الناس ، كيفية نفسانية تعصم صاحبها عن اقتراف كثير من القبائح والمعاصي ، فهي إذا ترقّت في مدارجها وعلت في مراتبها ، تبلغ بصاحبها درجة العصمة الكاملة والامتناع المطلق عن ارتكاب أيّ قبيح من الأعمال ، بل يمنعه حتى التفكير في خلاف أو معصية (٤).

عصمة الأنبياء في تلقّي الوحي وإبلاغه

ذهب جمهور المتكلّمين من السنّة والشيعة إلى عصمة الأنبياء في تلقّي الوحي وإبلاغه. والعصمة في هذه المرحلة على وجهين : أحدهما : العصمة عن الكذب ، والثاني : العصمة عن الخطأ سهواً في تلقّي الوحي

__________________

(١) شرح المقاصد : ٤ / ٣١٢ ؛ ارشاد الطالبين : ١٣٠.

(٢) شرح المواقف : ٨ / ٢٨٠.

(٣) التعريفات : ٦٥.

(٤) التعاريف المذكورة للعصمة غير شاملة للعصمة عن السّهو والجهل ، وإن شئت قلت العصمة العلميّة ، وحقيقتها ترجع الى معرفة كاملة وجامعة بالمعارف والأحكام الإلهية وما يتعلّق بشئون هداية العباد في مصالحهم الدينية والدنيوية.

٢٧٦

ووعيه وأدائه ، وما سيجيء من الدليل الأوّل على إثبات العصمة عن المعصية ، يثبت عصمتهم في هذا المجال أيضاً ، فإنّ الوثوق التام بالأنبياء لا يحصل إلّا بالإذعان البات بمصونيتهم عن الخطأ في تلقّي الوحي وتحمّله وأدائه ، عمداً وسهواً.

أضف إلى ذلك أنّ تجويز الخطأ في التبليغ ولو سهواً ينافي الغرض من الرسالة ، أعني : إبلاغ أحكام الله تعالى إلى الناس.

ويدلّ على عصمة الأنبياء في هذا المجال قوله تعالى : (عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً* إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً* لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً) (١).

إنّ الآيات تصف طريق بلوغ الوحي إلى الرسل ، ومنهم إلى الناس بأنّه محروس بالحفظة يمنعون تطرّق أيّ خلل وانحراف فيه ، حتى يبلغ الناس كما أُنزل من الله تعالى ، ويعلم هذا بوضوح ممّا تذكره الآية من أن الله سبحانه يجعل بين الرسول ومن أرسل إليهم (مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ) وبينه ومصدر الوحي (وَمِنْ خَلْفِهِ) رصداً مراقبين هم الملائكة.

لزوم عصمة الأنبياء عن المعاصي

إنّ الأدلّة العقليّة على وجوب عصمة الأنبياء كثيرة نكتفي بتقرير دليلين منها :

__________________

(١) الجن : ٢٦ ـ ٢٨.

٢٧٧

١. الوثوق فرع العصمة

قال المحقق الطوسي :

«ويجب في النبيّ العصمة ليحصل الوثوق ، فيحصل الغرض». تقريره ـ كما قال العلّامة الحلّي ـ :

إنّ المبعوث إليهم لو جوَّزوا الكذب على الأنبياء والمعصية ، جوّزوا في أمرهم ونهيهم وأفعالهم الّتي أمروهم باتّباعهم فيها ذلك ، وحينئذٍ لا ينقادون إلى امتثال أوامرهم ، وذلك نقض الغرض من البعثة. (١)

وبعبارة أخرى ـ كما قال العلّامة الطباطبائي ـ : «التبليغ يعمّ القول والفعل ، فإنّ في الفعل تبليغاً ، كما في القول ، فالرسول معصوم عن المعصية باقتراف المحرّمات وترك الواجبات الدينيّة ، لأنّ في ذلك تبليغاً لما يناقض الدين فهو معصوم من فعل المعصية». (٢)

فإن قلت : إنّ هذا الدليل لا يثبت أزيد من عصمة الأنبياء بعد البعثة.

قلت : لو كانت سيرة النبيّ مخالفة لما هو عليه بعد البعثة لا يحصل الوثوق الكامل به وإن صار إنساناً مثاليّاً ، فتحقّق الغرض الكامل من البعثة رهن عصمته في جميع فترات عمره ، يقول السيد المرتضى في الإجابة عن هذا السؤال :

__________________

(١) كشف المراد : ٢٧٤.

(٢) الميزان : ٢٠ / ٥٧.

٢٧٨

إنّا نعلم أنّ من نجوّز عليه الكفر والكبائر في حال من الأحوال ، وإن تاب منهما ... لا نسكن إلى قبول قوله كسكوننا إلى من لا نجوّز عليه ذلك في حال من الأحوال ولا على وجه من الوجوه ... فليس إذاً تجويز الكبائر قبل النبوّة منخفضاً عن تجويزها في حال النبوّة وناقصاً عن رتبته في باب التنفير. (١)

٢. التربية رهن عمل المربّي

إنّ الهدف العامّ الّذي بعث لأجله الأنبياء هو تزكية الناس وتربيتهم ، ولا شكّ أنّ تأثير التربية بالعمل أشدّ وأعمق وآكد منها عن طريق الوعظ والإرشاد ، وذلك أنّ التطابق بين مرحلتي القول والعمل هو العامل الرئيسي في إذعان الآخرين بأحقّيّة تعاليم المصلح والمربّي ، وهذا الأصل التربويّ يجرّنا إلى القول بأنّ التربية الكاملة المتوخّاة من بعثة الأنبياء لا تحصل إلّا بمطابقة أعمالهم لأقوالهم ، وهذا كما يوجب العصمة بعد البعثة ، يقتضيها قبلها أيضاً ، لأنّ لسوابق الأشخاص وصحائف أعمالهم الماضية تأثيراً في قبول الناس كلامهم وإرشاداتهم.(٢)

__________________

(١) تنزيه الأنبياء : ٥ بتصرّف قليل.

(٢) وقد أقام المتكلّمون على عصمة الأنبياء دلائل كثيرة ، فذكر المحقق الطوسي ثلاثة ، وأضاف إليها القوشجي دليلين آخرين ، وذكر الإيجي تسعة أدلة ، غير أنّ بعضها ليس دليلاً عاماً ، بل يختص بعصمتهم بعد البعثة ، راجع في ذلك : كشف المراد : ٢٧٤ ؛ شرح التجريد : ٣٥٨ ؛ المواقف : ٢ / ٣٥٩ ـ ٣٦٠.

٢٧٩

عصمة الأنبياء في الكتاب العزيز

إذا ثبتت عصمة الأنبياء في التبليغ ، يجوز الاستناد بكلامهم في العصمة عن المعاصي ، وعلى ضوء ذلك نقول : يصف القرآن الكريم الأنبياء بالعصمة بلطائف البيان ودقائقه ، نكتفي بالإشارة إلى نموذج منها ، قال عزوجل ـ بعد ذكره عدّة من الأنبياء ـ : (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) (١).

وقال في موضع آخر : (وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ) (٢).

ثمّ بيّن أنّ المعصية ضلالة بقوله : (وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيراً) (٣)

فإذا كان الأنبياء مهديّين بهداية الله ، ومن هداه الله لا تتطرّق إليه الضلالة ، وكانت المعصية نفس الضلالة ، فينتج أنّ المعصية لا سبيل لها إلى الأنبياء.

العصمة عن الخطأ في تطبيق الشريعة والأُمور العادية

إنّ صيانة النبيّ عن الخطأ والاشتباه في مجال تطبيق الشريعة (مثل أن يسهو في صلاته ، أو يغلط في إجراء الحدود) والأُمور العادية المرتبطة بحياته الشخصية (مثل خطائه في مقدار دينه للناس) ممّا طرح في علم الكلام ، وطال البحث فيه بين المتكلّمين ، فالظاهر من الأشاعرة والمعتزلة

__________________

(١) الأنعام : ٩٠.

(٢) الزمر : ٣٧.

(٣) يس : ٦٢.

٢٨٠