محاضرات في الإلهيّات

الشيخ علي الربّاني الگلبايگاني

محاضرات في الإلهيّات

المؤلف:

الشيخ علي الربّاني الگلبايگاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١١
ISBN: 978-964-357-294-5
الصفحات: ٥٢٨

إنّ لله سبحانه تقديرين ، محتوماً وموقوفاً ، والمراد من المحتوم ما لا يبدّل ولا يغيّر مطلقاً ، وذلك كقضائه سبحانه للشّمس والقمر مسيرين إلى أجل معيّن ، وللنظام الشّمسي عمراً محدّداً ، وتقديره في حقِّ كلّ إنسان بأنّه يموت ، إلى غير ذلك من السنن الثابتة الحاكمة على الكون والإنسان.

والمراد من التقدير الموقوف الأُمور المقدّرة على وجه التعليق ، فقدّر أنّ المريض يموت في وقت كذا إلّا إذا تداوى ، أو أجريت له عمليّة جراحية ، أو دعي له وتصدّق عنه ، وغير ذلك من التقادير الّتي تغيّر بإيجاد الأسباب المادّية وغيرها الّتي هي أيضاً من مقدّراته سبحانه ، والله سبحانه يعلم في الأزل كلا التقديرين : المحتوم ، الموقوف ، وما يتوقف عليه الموقوف ، وإليك بعض ما ورد عن أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام حول هذين التقديرين :

١. سئل أبو جعفر الباقر عليه‌السلام عن ليلة القدر ، فقال : تنزل فيها الملائكة والكتبة إلى سماء الدنيا فيكتبون ما هو كائن في أمر السنة ... إلى أن قال ـ : وأمر موقوف لله تعالى فيه المشيئة ، يقدِّم منه ما يشاء ويؤخِّر ما يشاء ، وهو قوله :

(يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) (١)

٢. روى الفضيل : سمعت أبا جعفر عليه‌السلام يقول : «من الأُمور أمور محتومة جائية لا محالة ، ومن الأُمور أُمور موقوفة عند الله يقدِّم منها ما يشاء ويمحو منها ما يشاء : ويثبت منها ما يشاء». (٢)

__________________

(١) بحار الأنوار : ٤ / ١٠٢ ، باب البداء ، الحديث ١٤ ، نقلاً عن أمالي الطوسي.

(٢) المصدر السابق : ١١٩ ، الحديث ٥٨.

٢٤١

٣. وفي حديث قال الرضا عليه‌السلام لسليمان المروزي : «يا سليمان إنّ من الأُمور أموراً موقوفة عند الله تبارك وتعالى يقدِّم منها ما يشاء ويؤخِّر ما يشاء». (١)

ثمّ إنّ القرآن الكريم ذكر الأجل بوجهين : على وجه الإطلاق ، وبوصف كونه مسمّى فقال :

(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ) (٢).

فجعل للإنسان أجلين : مطلقاً ومسمّى.

والمقصود من الأجل المسمّى هو التقدير المحتوم ، ومن الأجل المطلق التقدير الموقوف ، قال العلّامة الطباطبائي :

إنّ الأجل أجلان : الأجل على إبهامه ، والأجل المسمّى عند الله تعالى ، وهذا هو الّذي لا يقع فيه تغيير لمكان تقييده بقوله (عنده) وقد قال تعالى : (وَما عِنْدَ اللهِ باقٍ)(٣).

وهو الأجل المحتوم الّذي لا يتغيّر ولا يتبدّل ، قال تعالى : (إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) (٤) فنسبة الأجل المسمّى إلى الأجل غير المسمّى ، نسبة المطلق المنجّز

__________________

(١) نفس المصدر : ٩٥ ، الحديث ٢.

(٢) الأنعام : ٢.

(٣) النحل : ٩٦.

(٤) يونس : ٤٩.

٢٤٢

إلى المشروط المعلّق ، فمن الممكن أن يتخلّف المشروط المعلّق عن التحقّق لعدم تحقّق شرطه الّذي علّق عليه ، بخلاف المطلق المنجّز ، فإنّه لا سبيل إلى عدم تحقّقه البتّة.

والتدبّر في الآيات يفيد أنّ الأجل المسمّى هو الّذي وضع في أُمّ الكتاب ، وغير المسمّى من الأجل هو المكتوب فيما نسمّيه ب (لوح المحو والإثبات). (١)

__________________

(١) الميزان : ٧ / ٨ ـ ٩.

٢٤٣
٢٤٤

الباب الخامس

في النبوّة العامّة

وفيه خمسة فصول :

١. أدلّة لزوم البعثة.

٢. أدلّة منكري النبوّة.

٣. طرق التعرّف على صدق مدّعى النبوَّة.

٤. حقيقة الوحي في النبوَّة.

٥. عصمة أنبياء الله تعالى.

٢٤٥
٢٤٦

مقدمة :

النبوَّة سفارة بين الله وبين ذوي العقول من عباده ، لتدبير حياتهم في أمر معاشهم ومعادهم ، والنبيّ هو الإنسان المخبر عن الله تعالى بطريق الوحي الإلهي.

والبحث في النبوَّة يقع على صورتين :

الأُولى : البحث عن مطلق النبوَّة ويسمّى النبوّة العامّة ؛

الثاني : البحث عن نبوَّة نبيّ خاص ، كنبوَّة سيّدنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ويسمّى النبوّة الخاصّة.

والأبحاث الّتي طرحها المتكلّمون حول النبوَّة العامّة تتمحور في أربعة أُمور وهي :

١. حسن البعثة ولزومها ، أو تحليل أدلّة مثبتي البعثة ومنكريها ؛

٢. الطريق الّذي يعرف به النبيّ الصادق من المتنبّئ الكاذب ؛

٣. الطريق أو الوسيلة الّتي يتلقّى بها النبيّ تعاليمه من الله سبحانه ؛

٤. الصفات المميّزة للنبيّ عن غيره.

٢٤٧
٢٤٨

الفصل الأوّل :

أدلّة لزوم البعثة :

١. حاجة المجتمع إلى القانون الكامل

لا يشكّ أحد من الفلاسفة والباحثين في الحياة الإنسانية ، في أنّ للإنسان ميلاً إلى الاجتماع والتمدّن ، كما أنّ حاجة المجتمع إلى القانون ممّا لا يرتاب فيه ، وذلك لأنّ الإنسان مجبول على حبِّ الذات ، وهذا يجرّه إلى تخصيص كلّ شيء بنفسه من دون أن يراعي لغيره حقّاً ، ويؤدّي ذلك إلى التنافس والتشاجر بين أبناء المجتمع وبالتالي إلى عقم الحياة وتلاشي أركان المجتمع ، فلا يقوم للحياة الاجتماعية أساس إلّا بوضع قانون جامع يقوم بتحديد وظائف كلّ فرد وحقوقه ، فيمكن لكلّ فرد أن يعيش في ظلّ العدالة الاجتماعية ويسلك سبيل الفلاح والنجاح.

شرائط المقنِّن

لا ريب في أنّ جعل قانون جامع بالوصف المذكور يحتاج إلى توفّر شروط أهمّها شرطان تاليان :

الأوّل : معرفة المقنِّن بالإنسان ؛ إنّ أوّل وأهمّ خطوة في وضع القانون ،

٢٤٩

أن يكون المقنِّن عارفاً بالإنسان : جسمه وروحه ، غرائزه وفطريّاته ، وما يصلح لهذه الأُمور أو يضرّ بها ، وكلّما تكاملت هذه المعرفة بالإنسان كان القانون ناجحاً وناجعاً في علاج مشاكله وإبلاغه إلى السعادة المتوخّاة من خلقه.

الثاني : عدم انتفاع المقنِّن بالقانون ؛ وهذا الشرط بديهي ، فإنَّ المقنِّن إذا كان منتفعاً من القانون الّذي يضعه ، سواء كان النفع عائداً إليه أو إلى من يمت إليه بصلة خاصّة ، فهذا القانون سيتمّ لصالح المقنِّن لا لصالح المجتمع ، ونتيجته الحتميّة الظلم والإجحاف.

فالقانون الكامل لا يتحقّق إلّا إذا كان واضعه مجرّداً عن حبّ الذّات وهوى الانتفاع الشّخصي.

أمّا الشرط الأوّل : فإنّا لن نجد في صفحة الوجود موجوداً أعرف بالإنسان من خالقه ، فإنّ صانع المصنوع أعرف به من غيره ، يقول سبحانه :

(أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (١).

إنّ عظمة الإنسان في روحه ومعنوياته ، وغرائزه وفطرياته ، أشبه ببحر كبير لا يرى ساحله ولا يضاء محيطه ، وقد خفيت كثير من جوانب حياته ورموز وجوده حتى لقِّب ب «الموجود المجهول».

وأمّا الشرط الثاني : فلن نجد أيضاً موجوداً مجرداً عن أيّ فقر وحاجة وانتفاع سواه سبحانه.

__________________

(١) الملك : ١٤.

٢٥٠

وممّا يدلّ على عدم صلاحيّة البشر نفسه لوضع قانون كامل ، ما نرى من التبدّل الدائم في القوانين والنقض المستمرّ الّذي يورد عليها بحيث تحتاج في كلّ يوم إلى استثناء بعض التشريعات وزيادة أُخرى ، إضافة إلى تناقض القوانين المطروحة في العالم من قبل البشر ، وما ذلك إلّا لقصورهم عن معرفة الإنسان حقيقة المعرفة وانتفاء سائر الشروط في واضعيها.

فإذا كان استقرار الحياة الاجتماعية للبشر متوقّفاً على التقنين الإلهي ، فواجب في حكمته تعالى إبلاغ تلك القوانين إليهم عبر واحد منهم يرسله إليهم ، والحامل لرسالة الله سبحانه هو النبيّ المنبئ عنه والرسول المبلّغ إلى الناس ، فبعث الأنبياء واجب في حكمته تعالى حفظاً للنظام المتوقّف على التقنين الكامل. وإلى هذا الدليل يشير قوله تعالى :

(لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ)(١)

٢. حاجة الانسان إلى المعارف العالية

إنّ أهمّ ما يحتاج الإنسان إلى التعرّف عليه ليكون ناجحاً في الوصول إلى السعادة المطلوبة من حياته أمران : المعرفة بالله سبحانه ، والتعرّف على مصالح الحياة ومفاسدها ، والمعرفة الكاملة في هذين المجالين لا تحصل للإنسان إلّا في ضوء الوحي وتعاليم الأنبياء ، وأمّا العلوم الإنسانية فهي غير كافية فيهما.

__________________

(١) الحديد : ٢٥.

٢٥١

وممّا يوضح قصور العلم البشري في العلوم الإلهية أنّ هناك الملايين من البشر يقطنون بلدان جنوب شرق آسيا على مستوى راق في الصناعات والعلوم الطبيعية ، ومع ذلك فهم في الدرجة السّفلى في المعارف الإلهية ، فجلّهم ـ إن لم يكن كلّهم ـ عبّاد للأصنام والأوثان ، وببابك بلاد الهند الشاسعة وما يعتقده مئات الملايين من أهلها من قداسة في «البقر».

نعم هناك نوابغ من البشر عرفوا الحقّ عن طريق التفكّر والتعقّل كسقراط وأفلاطون وأرسطو ، ولكنّهم أُناس استثنائيون ، لا يعدّون معياراً في البحث ، وكونهم عارفين بالتوحيد لا يكون دليلاً على مقدرة الآخرين عليه.

على أنّه من المحتمل جدّاً أن يكون وقوفهم على هذه المعارف في ظلّ ما وصل إليهم من التعاليم السماوية عن طريق رسله سبحانه وأنبيائه ، قال صدر المتألّهين :

أساطين الحكمة المعتبرة عند اليونانيين خمسة : أنباذقلس وفيثاغورس وسقراط وأفلاطون وأرسطاطاليس قدس‌سره ، وقد لقى فيثاغورس تلاميذ سليمان بن داود عليهما‌السلام بمصر واستفاد منهم وتلمّذ للحكيم المعظم الربّاني أنباذقلس وهو أخذ عن لقمان الآخذ عن داود عليه‌السلام ، ثمّ سقراط أخذ عن فيثاغورس وأفلاطون عن سقراط والآخذ أرسطاطاليس عن أفلاطون وصحبه نيِّفاً وعشرين سنة ... (١).

__________________

(١) الرسائل : ٦٨ ـ ٦٩.

٢٥٢

وممّا يدلّ على قصور العلم الإنساني عن تشخيص منافع البشر والمجتمعات ومضارّها ، أنّ المجتمع الإنساني ـ مع ما بلغه من الغرور العلمي ـ لم يقف بعدُ على النظام الاقتصادي النافع له ، فطائفة تزعم أنّ سعادة البشر في نظام الرأسمالية والاقتصاد الحرّ المطلق ، والأُخرى تدّعي أنّ سعادة البشر في النظام الاشتراكي وسلب المالكية عن أدوات الانتاج وتفويضها إلى الدولة الحاكمة.

كما أنّه لم يصل بعدُ إلى وفاق في مجال الأخلاق وقد تعدّدت المناهج الأخلاقيّة في العصر الأخير إلى حدّ التضادّ فيها.

وأيضاً نرى أنّ الإنسان ـ مع ما يدّعيه من العلم والمعرفة ـ لم يدرك بعدُ عوامل السّعادة والشّقاء له ، بشهادة أنّه يشرب المسكرات ، ويستعمل المخدّرات ، ويتناول اللحوم الضارّة ، كما يقيم اقتصاده على الرِّبا الّذي هو عامل إيجاد التفاوت الطبقي بين أبناء المجتمع.

وفيما روي عن أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام إشارات إلى هذا البرهان نأتي بنموذجين منها : قال الإمام الكاظم عليه‌السلام :

«يا هشام : ما بعث الله أنبياءه ورسله إلى عباده إلّا ليعقلوا عن الله ، فأحسنهم استجابة أحسنهم معرفة ، وأعلمهم بأمر الله أحسنهم عقلاً ، وأكملهم عقلاً أرفعهم درجة في الدنيا والآخرة» (١).

وقال الإمام الرضا عليه‌السلام :

__________________

(١) الكافي : ج ١ ، كتاب العقل والجهل ، الحديث ١٢.

٢٥٣

«لم يكن بدّ من رسول بينه وبينهم معصوم يؤدّي إليهم أمره ونهيه وأدبه ، ويوقفهم على ما يكون به إحراز منافعهم ودفع مضارّهم إذ لم يكن في خلقهم ما يعرفون به ما يحتاجون إليه». (١)

__________________

(١) بحار الأنوار : ١١ / ٤٠.

٢٥٤

الفصل الثاني :

أدلّة منكري بعثة الأنبياء

استدلّ المنكرون لبعثة الأنبياء على مدّعاهم بوجوه أهمّها ما يلي :

الدليل الأوّل

إنّ الرسول إمّا أن يأتي بما يوافق العقول أو بما يخالفها ، فإن جاء بما يوافق العقول ، لم يكن إليه حاجة ، ولا فائدة فيه ، وإن جاء بما يخالف العقول ، وجب ردّ قوله.

والجواب عنه : أنّ ما يأتي به الرّسول موافق للعقل في نفس الأمر ، لكن لا يستلزم ذلك أن يكون العقل عارفاً بجميع ما يأتي به النبيّ. فهاهنا فرض ثالث وهو إتيان الرّسول بما لا يصل إليه العقل بالطاقات الميسورة له ، فإنّك قد عرفت فيما أقمنا من الأدلّة على لزوم البعثة ، أنّ عقل الإنسان وتفكّره قاصر عن نيل الكثير من المسائل.

الدليل الثاني :

قد دلّت الدلائل العقلية على أنّ للعالم صانعاً عالماً قادراً حكيماً ، وأنّه

٢٥٥

أنعم على عباده نعماً توجب الشكر ، فننظر في آيات خلقه بعقولنا ، ونشكره بآلائه علينا ، وإذا عرفناه وشكرنا له ، استوجبنا ثوابه ، وإذا أنكرناه وكفرنا به ، استوجبنا عقابه ، فما بالنا نتّبع بشراً مثلنا؟!

والجواب عنه : أنّ كثيراً من الناس لا يعرفون كيفية الشكر ، فربما يتصوّرون أنّ عبادة المقرَّبين نوع شكر لله سبحانه ، فلأجل ذلك ترى عبدة الأصنام والأوثان يعتقدون أنّ عبادتهم للمخلوق شيء موجب للتقرّب. (١) أضف الى ذلك أنّ تخصيص برامج الأنبياء بالأمر بالشكر والنهي عن كفران النعمة ، غفلة عن أهدافهم السامية ، فإنّهم جاءوا لإسعاد البشر في حياتهم الفردية والاجتماعية ، ولا تختصّ رسالتهم بالأوراد والأذكار الجافّة ، كتلك الّتي يردّدها أصحاب بعض الديانات أيّام السّبت والأحد في البيع والكنائس ، وإنّك لتقف على عظيم أهداف رسالة النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله إذا وقفت على كلمته المأثورة : «إنّي قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة». (٢)

الدليل الثالث : إنّ أكبر الكبائر في الرسالة ، اتّباع رجل هو مثلك في الصورة والنفس والعقل ، يأكل ممّا تأكل ، ويشرب ممّا تشرب ... فأي مزيّة له عليك؟ وأيّ فضيلة أوجبت استخدامك؟ وما دليله على صدق دعواه؟ (٣)

__________________

(١) قال تعالى حكاية عن المشركين : (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) (الزمر : ٣).

(٢) تاريخ الطبري : ٢ / ٦٣ ، قاله النبي عند دعوة أقاربه إلى الإسلام.

(٣) للوقوف على مدارك أدلّة البراهمة ، أُنظر : الملل والنحل للشهرستاني : ٢ / ٢٥٠ ـ ٢٥٢ ؛ كشف المراد : ٢١٧ ؛ شرح التجريد للفاضل القوشجي : ٣٥٨.

٢٥٦

والجواب عنه : أنّ هذه شبهة أشير إليها في القرآن الكريم مع الجواب عنها ، فقد أشير الى الشّبهة في قوله تعالى :

(.... وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) (١)

وفي قوله تعالى :

(وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ* وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ). (٢)

وقد أجيب عنها في قوله سبحانه :

(قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ). (٣)

وفي قوله سبحانه : (قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ). (٤)

فالجملة الأُولى ، وهي الاتحاد في البشرية ، إشارة إلى أحد ركني

__________________

(١) الأنبياء : ٣.

(٢) المؤمنون : ٣٣ ـ ٣٤.

(٣) إبراهيم : ١١.

(٤) فصّلت : ٦.

٢٥٧

الرسالة ، وهو لزوم المسانخة التامّة بين المرسل ـ بالفتح ـ والمُرسَل إليه. وقوله : (يُوحى إِلَيَّ) ، إشارة إلى وجه الفرق بينهما ، وأنّه لأجل نزول الوحي عليه يجب اتّباعه وإطاعته. وبذلك يظهر مزيّة الأنبياء وفضيلتهم وتقدّمهم على غيرهم.

وأمّا دليلهم على صدق ادّعاءاتهم ، فسيوافيك في البحث التالي أنّ المعجزة طريق برهاني لتمييز النبيّ الصادق عن المتنبّئ الكاذب.

٢٥٨

الفصل الثالث :

المعجزة وإثبات صدق دعوى النبوّة

يجب أن تقترن دعوى النبوَّة بدليل يثبت صحّتها وإلّا كانت دعوى فارغة غير قابلة للإذعان والقبول وهذا ما تقتضيه الفطرة الإنسانية ، يقول الشيخ الرئيس في كلمته المشهورة : «مَن قَبِل دعوى المدّعي بلا بيِّنة وبرهان ، فقد خرج عن الفطرة الإنسانية».

ثمّ إنّ هنا طرقاً ثلاثة للوقوف على صدق مدّعي النبوَّة في دعواه وهي :

أ. المعجزة ؛

ب. تصديق النبيّ السّابق نبوّة النبيّ اللاحق ؛

ج. جمع القرائن والشّواهد من حالات المدّعي وتلامذة منهجه.

ونحن نكتفى هنا بتبيين طريق المعجزة الّتي هي الأهمّ منها.

تعريف المعجزة

المشهور في تعريف المعجزة أنّها : «أمر خارق للعادة ، مقرون بالتحدّي ، مع عدم المعارضة». (١) وإليك توضيحه :

__________________

(١) شرح التجريد للفاضل القوشجي : ٤٦٥.

٢٥٩

إن هناك أُموراً تعدّ مضادّة للعقل ، كاجتماع النقيضين وارتفاعهما ، ووجود المعلول بلا علّة ونحو ذلك ، وأُموراً أُخرى تخالف القواعد العادية ، بمعنى أنّها تعدّ محالات حسب الأدوات والأجهزة العادية ، والمجاري الطبيعية ، ولكنّها ليست مستحيلة عقلاً لو كان هناك أدوات أُخرى خارجة عن نطاق العادة ، وهي المسمّاة بالمعاجز ، وذلك كحركة جسم كبير من مكان إلى مكان آخر بعيد عنه ، في فترة زمانية لا تزيد على طرفة العين بلا تلك الوسائط العادية ، فإنّه غير ممتنع عقلاً ولكنّه محال عادة ، ومن هذا القبيل ما يحكيه القرآن من قيام من أوتي علماً من الكتاب بإحضار عرش بلقيس ملكة سبأ ، من بلاد اليمن إلى بلاد الشام في طرفة عين بلا توسط شيء من تلك الأجهزة المادّية المتعارفة. (١) فتحصّل أنّ المعجزة أمر خارق للعادة لا مضادّ للعقل.

ثمّ إنّ الإتيان بما هو خارق للعادة لا يسمّى معجزة إلّا إذا كان مقترناً بدعوى النبوّة ، وإذا تجرّد عنها وصدر من بعض أولياء الله تعالى يسمّى «كرامة» وذلك كحضور الرزق لمريم عليها‌السلام بلا سعي طبيعي. (٢) ولأجل ذلك كان الأُولى أن يضيفوا إلى التعريف قيد : «مع دعوى النبوّة». (٣)

__________________

(١) لاحظ : النمل : ٤٠.

(٢) لاحظ : آل عمران : ٣٧.

(٣) لا تختصّ المعجزة بدعوى النبوّة ، بل يعمّها ودعوى الإمامة وغيرها من الدعاوى الإلهية ، كدعوى المسلم أنّ شريعة الإسلام هي الحق دون غيرها من الشرائع ، ويقوم بالمباهلة ، فذلك معجزة البتة ، فالصحيح في تعريف المعجزة أن يقال : «هو الفعل الخارق للعادة الّذي يأتي به من يدّعي منصباً أو مقاما إلهياً شاهداً على صدق دعواه» ؛ راجع : البيان في تفسير القرآن : ٣٣.

٢٦٠