محاضرات في الإلهيّات

الشيخ علي الربّاني الگلبايگاني

محاضرات في الإلهيّات

المؤلف:

الشيخ علي الربّاني الگلبايگاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١١
ISBN: 978-964-357-294-5
الصفحات: ٥٢٨

الثالث : الغفلة عن القيم الإنسانية العليا

ليست الحياة الإنسانية حياة ماديّة فقط ، بل للإنسان حياة روحية معنوية ، ولا شكّ أنّ الفلاح والسّعادة في هذه الحياة ، هي الغاية القصوى من خلق الإنسان ، ومفتاح الوصول إلى تلك الغاية هو العبادة والخضوع لله سبحانه ، وعلى هذا الأساس فالحوادث الّتي توجب اختلالاً ما في بعض شئون الحياة الماديّة ربما تكون عاملاً أساسياً لاتّجاه الإنسان إلى الله سبحانه كما قال سبحانه :

(فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً). (١)

كما سيوافيك بيان ذلك.

الرابع : المصائب وليدة الذنوب والمعاصي

القرآن الكريم يعدّ الإنسان مسئولاً عن كثير من الحوادث المؤلمة والوقائع الموجعة في عالم الكون ، قال سبحانه :

(ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ). (٢)

وقال سبحانه :

(وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ). (٣)

__________________

(١) النساء : ١٩.

(٢) الروم : ٤١.

(٣) الأعراف : ٩٦.

١٨١

وقال سبحانه :

(وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ). (١)

إلى غير ذلك من الآيات الدالّة على أنّ لأعمال الإنسان دوراً واقعياً في البلايا والشرور الطبيعية والاجتماعية ، ولكنّ الإنسان إذا أصابته مصيبة وكارثة يعجل من فوره ، وبدل أن يرجع إلى نفسه ويتفحّص عن العوامل البشرية لتلك الحوادث ويقوم بإصلاح نفسه ، يعدّها مخالفة لحكمة الصانع أو عدله ورحمته.

الفوائد التربويّة للمصائب

إذا عرفت هذه الأُصول فلنرجع إلى تحليل فوائد المصائب والشرور ، فنقول :

١. المصائب وسيلة لتفجير الطاقات

إنّ البلايا والمصائب خير وسيلة لتفجير الطاقات وتقدّم العلوم ورقى الحياة البشرية ، فإنّ الإنسان إذا لم يواجه المشاكل في حياته لا تنفتح طاقاته ولا تنمو ، بل نموّها وخروجها من القوّة إلى الفعل رهن وقوع الإنسان في مهبّ المصائب والشدائد. وإلى هذه الحقيقة يشير قوله تعالى :

(فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً* إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً* فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ* وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ). (٢)

__________________

(١) الشورى : ٣٠.

(٢) الإنشراح : ٥ ـ ٨.

١٨٢

٢. البلايا جرس إنذار وسبب للعودة إلى الحقّ

إنّ التمتع بالمواهب المادّية والاستغراق في اللذائذ والشهوات يوجب غفلة كبرى عن القيم الأخلاقية وكلّما ازداد الإنسان توغّلاً في اللذائذ والنعم ، ازداد ابتعاداً عن الجوانب المعنوية. وهذه حقيقة يلمسها كلّ إنسان في حياته وحياة غيره ، ويقف عليها في صفحات التاريخ ، ونحن نجد في الكتاب العزيز التصريح بصلة الطغيان بإحساس الغني ، إذ يقولعزوجل: (إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى). (١)

فإذاً لا بدّ لانتباه الإنسان من هذه الغفلة من هزّة وجرس إنذار يذكّره ويرجعه إلى الطريق الوسطى ، وليس هناك ما هو أنفع في هذا المجال من بعض الحوادث الّتي تقطع نظام الحياة الناعمة بشيء من المزعجات حتّى يدرك عجزه ويتنبّه من نوم الغفلة. ولأجل هذا يعلّل القرآن الكريم بعض النوازل والمصائب بأنّها تنزل لأجل الذكرى والرجوع إلى الله ، يقول سبحانه :

(وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ).(٢)

ويقول أيضاً :

__________________

(١) العلق : ٦ ـ ٧.

(٢) الأعراف : ٩٤.

١٨٣

(وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ). (١)

ويقول أيضاً :

(ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ). (٢)

ويقول تعالى : (وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ). (٣)

٣. حكمة البلايا في حياة الأولياء

يظهر من القرآن الكريم والأحاديث المتضافرة أنّ البلايا والمحن ألطاف إلهيّة في حياة الأولياء والصالحين من عباد الله وشرط لوصولهم إلى المقامات العالية في الآخرة.

قال سبحانه :

(أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ).(٤)

وقال أيضاً :

__________________

(١) الأعراف : ١٣٠.

(٢) الروم : ٤١.

(٣) الأعراف : ١٦٨.

(٤) البقرة : ٢١٤.

١٨٤

(وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ* الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ* أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ). (١)

وروى هشام بن سالم عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنّه قال : «إنّ أشدّ الناس بلاءً الأنبياء ، ثمّ الّذين يلونهم ، ثمّ الأمثل فالأمثل». (٢)

وروى سليمان بن خالد عنه عليه‌السلام أنّه قال : «وإنّه ليكون للعبد منزلة عند الله فما ينالها إلّا بإحدى خصلتين ، إمّا بذهاب ماله أو ببليّة في جسده». (٣)

وقد شكا عبد الله بن أبي يعفور إلى أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام ممّا أصابته من الأوجاع ـ وكان مسقاماً ـ فقال عليه‌السلام : «يا عبد الله لو يعلم المؤمن ما له من الأجر في المصائب لتمنّى أنّه قرّض بالمقاريض». (٤)

حاصل المقال :

إنّ المصائب على قسمين : فردية ونوعية ، وإن شئت فقل : محدودة ومطلقة ، ولأعمال الإنسان دور في وقوع المصائب والبلايا ، وهي جميعاً موافقة للحكمة وغاية الخلقة ، فإنّ الغرض من خلقة الإنسان وصوله إلى

__________________

(١) البقرة : ١٥٥ ـ ١٥٧.

(٢) الكافي : ج ٢ ، باب شدّة ابتلاء المؤمن ، الحديث ١.

(٣) نفس المصدر : الحديث ٢٣.

(٤) نفس المصدر : الحديث ١٥.

١٨٥

الكمالات المعنوية الخالدة ، وتلك المصائب جرس الإنذار للغافلين وكفّارة لذنوب المذنبين وأسباب الارتقاء والتعالي للصالحين.

هذا في جانب الغرض الأُخروي ، وأمّا في ناحية الحياة الدنيوية فيجب إلفات النظر إلى أمرين :

١. ملاحظة منافع نوع البشر المتوطّنين في نواحي العالم ، بلا قصر النظر إلى منافع الفرد أو طائفة من الناس.

٢. ملاحظة ما يتوصّل إليه الإنسان عند مواجهته للمشاكل والشدائد من الاختراعات والاكتشافات الجديدة المؤدّية إلى صلاح الإنسان في حياته المادية.

١٨٦

الفصل الخامس :

التكليف بما لا يطاق قبيح

إنّ التكليف بما هو خارج عن قدرة المكلّف ظلم ، وقبح الظلم من البديهيات الأوّلية عند العقل العملي ، فيستحيل على الحكيم أن يكلّف العبد بما لا قدرة له عليه ، من غير فرق بين كون نفس الفعل المكلّف به ممكناً بالذات ، ولكن كان خارجاً عن إطار قدرة المكلّف ، كالطيران إلى السّماء بلا وسيلة ، أو كان نفس الفعل بما هو هو محالاً ، كدخول الجسم الكبير في الجسم الصغير من دون أن يتوسّع الصغير أو يتصغّر الكبير ، هذا هو قضاء العقل في المسألة.

والآيات القرآنية أيضاً صريحة في أنّه سبحانه لا يكلّف الإنسان إلّا وسعه ، وقدر طاقته ولا يظلمه مطلقاً.

قال سبحانه : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها). (١)

وقال تعالى : (وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ). (٢)

__________________

(١) البقرة : ٢٨٦.

(٢) فصلت : ٤٦.

١٨٧

الأشاعرة وتجويز التكليف بما لا يطاق

مع هذه البراهين المشرقة نرى أنّ الأشاعرة جوّزوا التكليف بما لا يطاق ، وبذلك أظهروا العقيدة الإسلامية ، عقيدة مخالفة للوجدان والعقل السليم ، ومن المأسوف عليه أنّ المستشرقين أخذوا عقائد الإسلام عن المتكلّمين الأشعريين ، فإذا بهم يصفونها بكونها على خلاف العقل والفطرة لأنّهم يجوّزون التكليف بما لا يطاق.

إنّ الأشاعرة استدلّوا بآيات تخيّلوا دلالتها على ما يرتئونه ، مع أنّها بمنأى عمّا يتبنّونه في المقام ، وأظهر ما استدلوا به آيتان :

الآية الأُولى : قوله تعالى : (ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ) (١).

وجه الاستدلال : إنّ الآية صريحة على أنّ المفترين على الله سبحانه في الدّنيا ، المنكرين للحقّ لم يكونوا مستطيعين من أن يسمعوا كلام الله ويصغوا إلى دعوة النبيّ إلى الحقّ مع أنّهم كانوا مكلّفين باستماع الحقّ وقبوله ، فكلّفهم الله تعالى بما لا يطيقون عليه.

يلاحظ عليه : أنّ عدم استطاعتهم ليس بمعنى عدم وجودها فيهم ابتداءً ، بل لأنّهم حرّموا أنفسهم من هذه النعم بالذنوب ، فصارت الذنوب سبباً لكونهم غير مستطيعين لسمع الحقّ وقبوله ، وقد تواترت النصوص من

__________________

(١) هود : ٢٠.

١٨٨

الآيات والأحاديث على أنّ العصيان والطغيان يجعل القلوب عمياء والأسماع صمّاء.

قال سبحانه : (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ). (١)

وقال سبحانه حاكياً عن المجرمين :

(وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ). (٢)

فقولهم : (لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ) مع اعترافهم بكونهم مذنبين يدلّ على أنّهم كانوا قادرين على ذلك ، لأنّه لو لم يكونوا قادرين كان المناسب في مقام الاعتذار أن يقولوا : «ما كنّا قادرين على أن نسمع أو نعقل فلا نعترف بالذنوب». ولقد أجاد الزمخشري في تفسير الآية بقوله :

أراد أنّهم لفرط تصامّهم عن استماع الحقّ وكراهتهم له ، كأنّهم لا يستطيعون السمع ، و ... الناس يقولون في كلّ لسان : هذا كلام لا استطيع أن أسمعه. (٣)

الآية الثانية : قوله تعالى :

(يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ). (٤)

وجه الاستدلال : إنّه تعالى يدعوا الضالّين والطاغين إلى السجود يوم

__________________

(١) الصف : ٥.

(٢) الملك : ١٠ ـ ١١.

(٣) الكشاف : ٢ / ٣٨٦.

(٤) القلم : ٤٢.

١٨٩

القيامة مع أنّهم لا يستطيعون الإجابة ، والإتيان بالسجود ، فإذا جاز التكليف بما لا يطاق عليه في الآخرة ، جاز ذلك في الدنيا.

يلاحظ عليه : أنّ يوم القيامة دار الحساب والجزاء ، وليس دار التكليف والعمل ، فدعوته تعالى في ذلك اليوم ليس بداعي التكليف وغاية العمل ، بل المقصود توبيخ الطاغين وإيجاد الحسرة فيهم لتركهم السجود في الدنيا مع كونهم مستطيعين عليه كما قال سبحانه : (وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ). (١)

ونظير الآية قوله سبحانه :

(فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ). (٢)

__________________

(١) القلم : ٤٣.

(٢) البقرة : ٢٣.

١٩٠

الفصل السادس :

وجوب اللطف عند المتكلّمين

ممّا يترتب على حكمته تعالى وجوب اللّطف عليه سبحانه. واللّطف عند المتكلّمين عبارة عمّا يقرّب المكلّف إلى الطاعة ، ويبعّده عن المعصية ، ثمّ إن اتّصل اللطف بوقوع التكليف يسمّى لطفاً محصِّلاً ، وإلّا يسمّى لطفاً مقرِّباً ، قال السيّد المرتضى :

إنّ اللطف ما دعا إلى فعل الطاعة ، وينقسم إلى ما يختار المكلّف عنده فعل الطاعة ولولاه لم يختره ، وإلى ما يكون أقرب إلى اختيارها ، وكلا القسمين يشمله كونه داعياً. (١)

برهان وجوب اللطف

استدلّوا على وجوب اللطف عليه سبحانه بأنّ ترك اللطف يناقض غرضه تعالى من خلقه العباد وتكليفهم ، وهو قبيح لا يصدر من الحكيم ، قال المحقّق البحراني :

__________________

(١) الذخيرة في علم الكلام : ١٨٦.

١٩١

إنّه لو جاز الإخلال به في الحكمة فبتقدير أن لا يفعله الحكيم ، كان مناقضاً لغرضه ، لكن اللازم باطل فالملزوم مثله.

بيان الملازمة : إنّه تعالى أراد من المكلّف الطاعة ، فإذا علم أنه لا يختار الطاعة ، أو لا يكون أقرب إليها إلّا عند فعل يفعله به لا مشقّة عليه فيه ولا غضاضة ، وجب في الحكمة أن يفعله ، إذ لو أخلّ به لكشف ذلك عن عدم إرادته له ، وجرى ذلك مجرى من أراد من غيره حضور طعامه وعلم أو غلب ظنّه أنّه لا يحضر بدون رسول ، فمتى لم يرسل عدَّ مناقضاً لغرضه.

وبيان بطلان اللازم : إنّ العقلاء يعدّون المناقضة للغرض سفهاً ، وهو ضدّ الحكمة ونقص ، والنقص عليه تعالى محال. (١)

شروط اللطف

إنّ القائلين بوجوب اللطف ذكروا له شرطين :

الأوّل : أن لا يكون له حظّ في التمكين وحصول القدرة ، إذ العاجز غير مكلّف فلا يتصوّر اللطف في مورده.

الثاني : أن لا يبلغ حدّ الإلجاء ولا يسلب عن المكلّف الاختيار ، لئلّا ينافي الحكمة في جعل التكليف من ابتلاء العباد وامتحانهم.

وباعتبار الشرط الأخير يتبيّن وهن ما استشكل على وجوب اللطف بأنّه لو وجب اللطف على الله تعالى لكان لا يوجد في العالم عاص ، لأنّه ما

__________________

(١) قواعد المرام : ١١٧ ـ ١١٨.

١٩٢

من مكلّف إلّا وفي مقدور الله تعالى من الألطاف ما لو فعله به لاختار عنده الواجب واجتنب القبيح وذلك لأنّ قدرة الله تعالى وإن كانت مطلقة في نفسها ، لكن إعمالها مقيّدة بما لا ينافي مقتضى حكمته تعالى من كون الإنسان مختاراً ومكلّفاً. (١)

أقسام اللطف

اللّطف إمّا من فعل الله تعالى ، ويجب في حكمته فعله كالبعثة ، وإلّا عدّ تركه نقضاً لغرضه كما مرّ ، أو من فعل المكلّف ، وحينئذٍ فإمّا أن يكون لطفاً في تكليف نفسه ، ويجب في حكمته تعالى أن يعرِّفه إيّاه ويوجبه عليه ، وذلك كمتابعة الرسل والاقتداء بهم ، أو في تكليف غيره ، وذلك كتبليغ الرسول الوحي ، ويجب أن يشتمل على مصلحة تعود إلى فاعله ، إذ إيجابه عليه لمصلحة غيره مع خلوِّه عن مصلحة تعود إليه ظلم وهو عليه تعالى محال. (٢)

__________________

(١) لاحظ : شرح الأُصول الخمسة ، ص ٥٢٣.

(٢) قواعد المرام : ١١٨ ؛ إرشاد الطالبين إلى نهج المسترشدين : ٢٧٨.

١٩٣
١٩٤

الفصل السابع :

الجبر والكسب

من الأبحاث الكلامية الهامّة ، البحث عن كيفية صدور أفعال العباد ، وأنّهم مختارون في أفعالهم أو مجبورون ، مضطرّون عليها؟ والمسألة ذات صلة وثيقة بمسألة العدل الإلهي ، فإنّ العقل البديهي حاكم على قبح تكليف المجبور ومؤاخذته عليه ، وأنّ الله سبحانه منزَّه عن كلّ فعل قبيح.

ثمّ إنّ هذه المسألة من المسائل الفكرية الّتي يتطلّع كلّ إنسان إلى حلّها ، سواء أقدر عليه أم لا ، ولأجل هذه الخصيصة لا يمكن تحديد زمن تكوّنها في البيئات البشرية ، ومع ذلك فهي كانت مطروحة في الفلسفة الإغريقية ، ثمّ انطرحت في الأوساط الإسلامية وبحث عنها المتكلّمون والفلاسفة الإسلاميون ، كما وقع البحث حولها في المجتمعات الغربية الحديثة ، والمذاهب والآراء المطروحة في هذا المجال في الكلام الإسلامي أربعة :

١. مذهب الجبر المحض ؛

٢. مذهب الكسب ؛

١٩٥

٣. مذهب التفويض ؛

٤. مذهب الأمر بين الأمرين.

فلنبحث عنها واحداً تلو الآخر.

أالجبر المحض

وهو المنسوب إلى جهم بن صفوان (المتوفّى ١٢٨ ه‍) ، قال الأشعري :

تفرّد جهم بأمور ، منها : أنّه لا فعل لأحد في الحقيقة إلّا الله وحده ، وأنّ الناس إنّما تنسب إليهم أفعالهم على المجاز ، كما يقال : تحرّكت الشجرة ، ودار الفلك ، وزالت الشمس (١).

وعرّفهم الشهرستاني بأنّهم يقولون :

إنّ الإنسان لا يقدر على شيء ولا يوصف بالاستطاعة وإنّما هو مجبور في أفعاله لا قدرة له ولا إرادة ولا اختيار ، وإنّما يخلق الله تعالى الأفعال فيه على حسب ما يخلق في سائر الجمادات ... وإذا ثبت الجبر فالتكليف أيضاً كان جبراً. (٢)

ولا ريب في بطلان هذا المذهب ، إذ لو كان كذلك لبطل التكليف والوعد والوعيد والثواب والعقاب. ولصار بعث الأنبياء وإنزال الكتب والشرائع السماوية لغواً. تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.

__________________

(١) مقالات الإسلاميين : ١ / ٣١٢.

(٢) الملل والنحل : ١ / ٨٧.

١٩٦

نظرية الكسب

قد انطرحت نظرية الكسب في معترك الأبحاث الكلامية قبل ظهور الشيخ الأشعري بأكثر من قرن ، فهذه هي الطائفة الضرارية (١) قالت : «إنّ أفعال العباد مخلوقة لله تعالى حقيقة والعبد مكتسبها» (٢).

وتبعتهم في ذلك الطائفة النجّارية (٣) فعرّفهم الشهرستانى بأنّهم يقولون :

إنّ الباري تعالى هو خالق أعمال العباد خيرها وشرّها ، حسنها وقبيحها ، والعبد مكتسب لها ، ويثبتون تأثيراً للقدرة الحادثة ، ويسمّون ذلك كسباً. (٤)

ومع ذلك فقد اشتهرت نسبة النظريّة إلى الأشاعرة وعدّت من مميّزات منهجهم ، وما ذلك إلّا لأنّ الشيخ الأشعري وتلامذة مدرسته قاموا بتحكيم هذه النظريّة وتبيينها بالأدلّة العقلية والنقلية وقد اختلفت عبارات القوم في تفسيرها ، ومرجعها إلى أمرين :

١. إنّ للقدرة المحدثة (قدرة العبد) نحو تأثير في اكتساب الفعل لكن لا في وجوده وحدوثه بل في العناوين الطارئة عليه.

__________________

(١) هم أصحاب ضرار بن عمرو ، وقد ظهر في أيّام واصل بن عطاء (المتوفّى سنة ١٣١ ه‍).

(٢) الملل والنحل للشهرستاني : ١ / ٩٠ ـ ٩١.

(٣) هم أصحاب الحسين بن محمد بن عبد الله النجّار ، وله مناظرات مع النّظام ، توفّي عام ٢٣٠ ه‍.

(٤) الملل والنحل : ١ / ٨٩ ، نقل بالمعنى.

١٩٧

٢. ليس للقدرة المحدثة تأثير في الفعل سوى مقارنتها لتحقق الفعل من جانبه سبحانه.

وإليك فيما يلي نصوصهم في هذا المقام :

كلام القاضي الباقلاني

إنّ للباقلاني تفسيراً لكسب الأشعري وهو يرجع إلى الوجه الأوّل حيث قال :

الدليل قد قام على أنّ القدرة الحادثة لا تصلح للإيجاد ، لكن ليست صفات الأفعال أو وجوهها واعتباراتها تقتصر على جهة الحدوث فقط ، بل هاهنا وجوه أخرى هي وراء الحدوث.

ثمّ ذكر عدّة من الجهات والاعتبارات ، كالصلاة والصيام والقيام والقعود ، وقال :

إنّ الإنسان يفرِّق فرقاً ضرورياً بين قولنا : «أوجد» وقولنا : «صلّى» و «صام» و «قعد» و «قام» وكما لا يجوز أن تضاف إلى الباري جهة ما يضاف إلى العبد ، فكذلك لا يجوز أن تضاف إلى العبد جهة ما يضاف إلى الباري تعالى. (١)

ثمّ استنتج أنّ الجهات الّتي لا يصحّ إسنادها إلى الله تعالى فهي

__________________

(١) الملل والنحل : ١ / ٩٧ ـ ٩٨.

١٩٨

متعلّقة للقدرة الحادثة ومكتسبة للإنسان ، وهي الّتي تكون ملاك الثواب والعقاب.

يلاحظ عليه : أنّ هذه العناوين والجهات لا تخلو من صورتين :

إمّا أن تكون من الأُمور العدمية ، فعندئذٍ لا يكون للكسب واقعية خارجية ، بل يكون أمراً ذهنياً اعتبارياً خارجاً عن إطار الفعل والتأثير ، فكيف تؤثّر القدرة الحادثة فيه ، حتى يعدّ كسباً للعبد ، ويكون ملاكاً للثواب والعقاب؟

وإمّا تكون من الأُمور الوجودية ، فعندئذٍ تكون مخلوقة لله سبحانه حسب الأصل المسلَّم (خلق الأفعال) عندكم.

الغزالي وتفسير الكسب

فسَّر الغزالي الكسب بما يرجع إلى الوجه الثاني حيث قال :

إنّما الحقّ إثبات القدرتين على فعل واحد والقول بمقدور منسوب إلى قادرين ، فلا يبقى إلّا استبعاد توارد القدرتين على فعل واحد ، وهذا إنّما يبعد إذا كان تعلّق القدرتين على وجه واحد ، فإن اختلفت القدرتان واختلف وجه تعلّقهما فتوارد القدرتين المتعلّقتين على شيء واحد غير محال.

وحاصل ما ذكره في تغاير وجه تعلّق القدرتين هو :

١٩٩

إنّ تعلق قدرته سبحانه بفعل العبد ، تعلّق تأثيري ، وتعلّق قدرة العبد نفسه تعلّق تقارني ، وهذا القدر من التعلّق كاف في إسناد الفعل إليه وكونه كسباً له. (١)

وقد تبعه في ذلك عدّة من مشايخهم المتأخرين كالتفتازاني والجرجاني والقوشجي. (٢)

يلاحظ عليه : أنّ دور العبد في أفعاله على هذا التفسير ليس إلّا دور المقارنة ، فعند حدوث القدرة والإرادة في العبد يقوم سبحانه بخلق الفعل ، ومن المعلوم أنّ تحقق الفعل من الله مقارناً لقدرة العبد ، لا يصحّح نسبة الفعل في تحقّقه إليه ، ومعه كيف يتحمّل مسئوليته ، إذا لم يكن لقدرة العبد تأثير في وقوعه؟

إنكار الكسب من محقّقي الأشاعرة

إنّ هناك رجالاً من الأشاعرة أدركوا جفاف النظريّة وعدم كونها طريقاً صحيحاً لحلّ معضلة الجبر ، فنقضوا ما أبرموه وأجهروا بالحقيقة ، نخصّ بالذكر منهم رجالاً ثلاثة :

الأوّل : إمام الحرمين ، فقد اعترف بنظام الأسباب والمسبّبات الكونية أوّلاً ، وانتهائها إلى الله سبحانه وأنّه خالق للأسباب ومسبباتها المستغني على

__________________

(١) لاحظ : الاقتصاد في الاعتقاد : ٤٧.

(٢) لاحظ : شرح العقائد النسفية : ١١٧ ؛ شرح المواقف : ٨ / ١٤٦ وشرح التجريد للقوشجي : ٣٤٥.

٢٠٠