محاضرات في الإلهيّات

الشيخ علي الربّاني الگلبايگاني

محاضرات في الإلهيّات

المؤلف:

الشيخ علي الربّاني الگلبايگاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١١
ISBN: 978-964-357-294-5
الصفحات: ٥٢٨

يفعل القبيح أو لا يختاره ولا يخلّ بما هو واجب عليه ، وأنّ أفعاله كلّها حسنة». (١)

وقال الشيخ المفيد :

«العدل الحكيم هو الّذي لا يفعل قبيحا ولا يخلّ بواجب». (٢)

وقال سديد الدين الحمصى :

«الكلام في العدل ، كلام في أفعاله تعالى ، وأنّها كلّها حسنة ، وتنزيهه عن القبائح وعن الإخلال بالواجب في حكمته». (٣)

دلائل عدله تعالى وحكمته

إنّ العدل والحكمة من الأوصاف الكمالية ، والله تعالى بما أنّه واجب الوجود بالذات واجد جميع الكمالات الوجودية ، ومنزّه عن كلّ نقص وقبح. فواجب الوجود تعالى ، يعلم من ذاته كلّ شيء من الأشياء بعلله وأسبابه ، ويفعل النظام الأتم لغاية حقيقته يلزمه ، فهو حكيم في علمه وفعله ، فهو الحكيم المطلق. (٤)

ويدلّ على انتفاء القبح عن أفعاله تعالى. أنّ القبح في الفعل كالظلم ، والعبث ونحو ذلك ، إمّا ناشئ عن جهل الفاعل بجهات الحسن والإتقان.

__________________

(١) شرح الأُصول الخمسة : ٢٠٣.

(٢) النكت الاعتقادية : ٢٧.

(٣) المنقذ من التقليد : ١ / ١٥٠.

(٤) الأسفار الأربعة : ٦ / ٣٦٨.

١٦١

وإما ناشئ عن حاجته إلى ذلك. والله سبحانه عالم بكلّ شيء كما أنّه غنيّ بالذات. وإليه أشار المحقق الطوسي بقوله : «واستغناؤه وعلمه يدلّان على انتفاء القبح عن أفعاله تعالى».(١)

ونصوص الكتاب والسنّة في عدله تعالى وحكمته متضافرة. قال سبحانه :

(شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ.) (٢)

قوله «قائماً» إمّا حال من اسم الله تعالى مؤكّدة ، وإمّا حال من (هُوَ) في قوله : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) والمراد من قيامه بالقسط إمّا مطلق يشمل جميع مراتب القسط (في التكوين والتشريع والجزاء) وإمّا يختص بالقسط التكويني كما اختاره بعضهم. (٣)

وقال تعالى : (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً.) (٤)

هذا ناظر إلى عدله تعالى في مقام الحساب والجزاء.

وممّا يدلّ على عدله تعالى في التشريع قوله سبحانه : (لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها). (٥) وقوله سبحانه :

__________________

(١) كشف المراد : ٤٢٠.

(٢) آل عمران : ١٨.

(٣) انظر ، مجمع البيان : ٢ / ٤٢٠.

(٤) الأنبياء : ٤٧.

(٥) المؤمنون : ٦٢.

١٦٢

(لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ).(١)

وقال الإمام على عليه‌السلام : «العدل أن لا تتّهمه». (٢)

وفسّره الإمام الصادق عليه‌السلام بقوله : وأمّا العدل فإن لا تنسب إلى خالقك ما لامك عليه». (٣)

وقال أمير المؤمنين عليه‌السلام :

«وأرانا من ملكوت قدرته وعجائب ما نطقت به آثار حكمته ... فظهرت البدائع الّتي أحدثتها آثار صنعته وأعلام حكمته .... قدّر ما خلق فأحكم تقديره ، ... بدايا خلائق أحكم صنعها ...». (٤)

* * *

__________________

(١) الحديد : ٢٥.

(٢) نهج البلاغة : الحكمة ٤٧٠.

(٣) التوحيد للشيخ الصدوق : الباب ٥ ، الحديث ١.

(٤) نهج البلاغة : الخطبة ٩١.

١٦٣
١٦٤

الفصل الثاني :

التحسين والتقبيح العقليان

قد تقدّم أنّ العدل الحكيم هو الّذي لا يفعل القبيح ولا يُخلُّ بالحسن ، والتصديق بثبوت هذه الصفة للباري تعالى مبنيٌّ على القول بالتحسين والتقبيح العقليين ، فإنّ مفاد تلك المسألة : أنّ هناك أفعالاً يدرك العقل كونها حسنة أو قبيحة ، ويدرك أنّ الغنيّ بالذّات منزّه عن الاتصاف بالقبيح وفعل ما لا ينبغي ، ومن هنا يلزمنا البحث عن تلك المسألة على ضوء العقل والكتاب العزيز فنقول :

ذهبت العدلية إلى أنّ هناك أفعالاً يدرك العقل من صميم ذاته ومن دون استعانة من الشرع أنّها حسنة وأفعالاً أخرى يدرك أنّها قبيحة كذلك ؛ وقالت الأشاعرة : لا حكم للعقل في حسن الأشياء وقبحها ، فلا حسن إلّا ما حسّنه الشارع ولا قبيح إلّا ما قبّحه ؛ والنزاع بين الفريقين دائر بين الإيجاب الجزئي والسلب الكلّي ، فالعدلية يقولون بالأوّل والأشاعرة بالثاني.

١٦٥

ملاكات الحسن والقبح

لا شكّ أنّ للحسن والقبح معنى واحداً ، وإنّما الكلام في ملاك كون الشيء حسناً أو قبيحاً ، وهو يختلف بإختلاف الموارد ، فقد ذكر للحَسَن والقبيح ملاكات وهي :

١. ملائمة الطبع ومنافرته : فالمشهد الجميل بما أنّه يلائم الطبع حسن ، كما أنّ المشهد المخوف بما أنّه منافر للطبع قبيح ، ومثله الطعام اللّذيذ والصوت الناعم ، فإنّهما حسنان ، كما أنّ الدواء المرّ ونهيق الحمار قبيحان.

٢. موافقة الغرض والمصلحة ومخالفتهما : والغرض والمصلحة إمّا شخصيان وإمّا نوعيان ، فقتل عدوّ الإنسان يعدّ حسناً عنده لأنّه موافق لغرضه ، ولكنّه قبيح لأصدقاء المقتول وأهله ، لمخالفته لأغراضهم ومصالحهم الشخصية ، هذا في المجال الشخصي ، وأمّا في المجال النوعي ، فإنّ العدل بما أنّه حافظ لنظام المجتمع ومصالح النوع فهو حسن وبما أنّ الظلم هادم للنظام ومخالف لمصلحة النوع فهو قبيح.

٣. كون الشيء كمالاً للنفس أو نقصاناً لها : كالعلم والجهل ، فالأوّل زين لها والثاني شين ، ومثلهما الشجاعة والجبن ، وغيرهما من كمالات النفس ونقائصها.

٤. ما يوجب مدح الفاعل وذمّه عند العقل : وذلك بملاحظة الفعل من حيث إنّه مناسب لكمال وجودي للموجود العاقل المختار أو نقصان له ،

١٦٦

فيستقلّ العقل بحسنه ووجوب فعله ، أو قبحه ووجوب تركه وهذا كما إذا لاحظ العقل جزاء الإحسان بالإحسان ، فيحكم بحسنه وجزاء الإحسان بالإساءة فيحكم بقبحه ، فالعقل في حكمه هذا لا يلاحظ سوى أنّ بعض الأفعال كمال للموجود الحيّ المختار وبعضها الآخر نقص له ، فيحكم بحسن الأوّل وقبح الثاني.

تعيين محلّ النزاع

لا نزاع في الحسن والقبح بالملاك الأوّل والثالث ، وهو واضح ، وكذلك في الحسن والقبح بملاك الغرض والمصلحة الشخصيين ، وأمّا الغرض والمصلحة النوعيان فإنّ كثيراً من الباحثين عن التحسين والتقبيح العقليين يعلّلون حسن العدل والإحسان ، وقبح الظلم والعدوان ، باشتمال الأوّل على مصلحة عامّة والثاني على مفسدة كذلك. وهذا الملاك في الحقيقة من مصاديق الملاك الرابع كما لا يخفى. إذ ربما يكون مدح الفاعل على فعل وذمّه على فعل لغاية المصالح والمفاسد النوعية. والإتيان بالفعل وتركه بهذه الغاية يعدّ كمالاً ونقصاناً للفاعل. وهذا المعنى الأخير هو محلّ النزاع بين المثبتين والنافين.

دلائل المثبتين والنافين

أ. دلائل المثبتين : استدلّ القائلون بالتحسين والتقبيح العقليين بوجوه عديدة نكتفى بذكر وجهين منها :

١٦٧

الدليل الاوّل : وهو ما أشار إليه المحقّق الطوسي بقوله : «ولانتفائهما مطلقاً لو ثبتا شرعاً». (١)

توضيحه : أنّ الحسن والقبح لو كانا بحكم العقل ، بحيث كان العقل مستقلاً في إدراك حسن الصدق وقبح الكذب فلا اشكال في أنّ ما أخبر الشارع عن حسنه حسن ، وما أخبر عن قبحه قبيح ، لحكم العقل بأنّ الكذب قبيح والشارع منزّه عن ارتكاب القبيح.

وأمّا لو لم يستقلّ العقل بذلك ، فلو أخبر الشارع بحسن فعل أو قبحه فلا يمكن لنا الجزم بكونه صادقاً في كلامه حتى نعتقد بمضمون أخباره ونستكشف منه حسن الفعل أو قبحه ، وذلك لاحتمال عدم صدق الشارع في أخباره ، فإنّ الكذب حسب الفرض لم يثبت قبحه بعدُ وإثبات قبح الكذب بإخبار الشارع عن قبحه مستلزم للدور.

الدليل الثاني : وهو ما ذكره العلّامة الحلّي بقوله :

لو كان الحسن والقبح باعتبار السمع لا غير لما قبح من الله تعالى شيء (٢) ولو كان كذلك لما قبح منه تعالى إظهار المعجزات على يد الكاذبين ، وتجويز ذلك يسدّ باب معرفة النبوّة ، فإنّ أيّ نبيّ أظهر المعجزة عقيب إدّعاء النبوّة لا يمكن تصديقه مع تجويز إظهار المعجزة على يد الكاذب في دعوى النبوّة (٣).

__________________

(١) كشف المراد : ٤١٨.

(٢) لما تقدّم في الدليل الأوّل من عدم إثبات حسن فعل أو قبحه مطلقاً.

(٣) نهج الحق وكشف الصدق : ٨٤.

١٦٨

والعجب أنّ الفضل بن روزبهان الأشعري حاول الإجابة عن هذا الدليل بقوله :

عدم إظهار المعجزة على يد الكذّابين ليس لكونه قبيحاً عقلاً بل لعدم جريان عادة الله الجاري مجرى المحال العادي بذلك (١).

فعند ذلك لا ينسدّ باب معرفة النبوة لأنّ العلم العادي حاكم باستحالة هذا الإظهار.

يلاحظ عليه : أنّه من أين وقف على تلك العادة وأنّ الله لا يجرى الإعجاز على يد الكاذب؟ ولو كان التصديق متوقّفاً على إحرازها لزم أن يكون المكذّبون بنبوّة نوح أو من قبله ومن بعده معذورين في إنكارهم لنبوّة الأنبياء ، إذ لم تثبت عندهم تلك العادة ، لأنّ العلم بها إنّما يحصل من تكرّر رؤية المعجزة على يد الصادقين دون الكاذبين.

ب. أدلّة النافين

الدليل الأوّل : قالوا : لو كان العلم بحسن الإحسان وقبح العدوان ضرورياً لما وقع التفاوت بينه وبين العلم بأنّ الواحد نصف الاثنين ، لكنّ التالي باطل بالوجدان.

ويلاحظ عليه اوّلاً : أنّه يجوز التفاوت في الادراكات البديهية ،

__________________

(١) دلائل الصدق : ١ / ٣٦٩ ، ثمّ إنّ هناك أدلّة أخرى لإثبات عقلية الحسن والقبح طوينا الكلام عنها لرعاية الاختصار ، للطالب أن يراجع الإلهيات : ١ / ٢٤٦.

١٦٩

فالأوّليات متقدمة على المشاهدات وهي على الفطريات وهكذا ، فوجود التفاوت بين البديهيات لا ينافي بداهتها ، وإليه أشار المحقق الطوسي بقوله :

«ويجوز التفاوت في العلوم لتفاوت التصور». (١)

وثانياً : نفي كون الحكم بحسن فعل أو قبحه بديهيّاً لا يدلّ على نفي كونه عقلياً ، فانّ نفي الأخصّ لا يدلّ على نفي الأعم ، فمن الجائز أن يكون العقل مستقلّاً بحسن فعل أو قبحه لكن بالتأمل والنظر ، فعلى فرض قبول ما ادّعى من التفاوت لا يجدي المنكر شيئاً.

الدليل الثاني : لو كان الحسن والقبح عقليين لما اختلفا ، أي لما حسن القبيح ولما قبح الحسن ، والتالي باطل ، فإنّ الكذب قد يحسن والصدق قد يقبح ، وذلك فيما إذا تضمّن الكذب إنقاذ نبيّ من الهلاك والصدق إهلاكه.

فلو كان الكذب قبيحاً لذاته لما كان واجباً ولا حسناً عند ما استفيد به عصمة دم نبيّ عن ظالم يقصد قتله. (٢)

والجواب عنه : أنّ كلاً من الكذب في الصورة الأُولى والصدق في الصورة الثانية على حكمه من القبح والحسن ، إلّا أنّ ترك إنقاذ النبيّ أقبح من الكذب ، وإنقاذه أحسن من الصدق ، فيحكم العقل بترك الصدق وارتكاب الكذب قضاءً لتقديم الأرجح على الراجح ، فإنّ تقديم الراجح على الأرجح قبيح عند العقل.

__________________

(١) كشف المراد : ٢٣٦.

(٢) شرح التجريد للقوشجي : ٣٣٩.

١٧٠

الدليل الثالث : إنّ القول بالتحسين والتقبيح العقليين دخالة في شئون ربّ العالمين الّذي هو مالك كل شيء حتى العقل ، فله أن يتصرّف في ملكه كيف يشاء ، ولازم القول بأنّ العقل حاكم بحسن بعض الأفعال وقبحه تحديد لملكه وقدرته سبحانه.

ويردّه أنّ العقل ليس فارضاً على الله تعالى شيئاً وإنّما هو كاشف عن القوانين السائدة على أفعاله تعالى ، فالعقل يطالع اوّلاً صفات الله الكمالية كالغني الذاتي ، والعلم والقدرة الذاتيين ، ثمّ يستنتج منها تنزّهه عن ارتكاب القبائح ، وهذا كما أنّ العقل النظري يكشف عن القوانين السائدة على نظام الكون وعالم الطبيعة.

وبالتأمل فيما ذكرنا يظهر ضعف سائر ما استدلّ به القائلون بنفي التحسين والتقبيح العقليين ولا نرى حاجة في ذكرها وبيان وجوه الخلل فيها. (١)

التحسين والتقبيح في الكتاب العزيز

إنّ التدبُّر في آيات الذّكر الحكيم يعطي أنّه يسلّم استقلال العقل بالتحسين والتقبيح خارج إطار الوحي ثمّ يأمر بالحسن وينهى عن القبيح ، وإليك فيما يلي نماذج من الآيات في هذا المجال :

١. (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ

__________________

(١) إن شئت الوقوف التّام على مجموع دلائل الأشاعرة راجع القواعد الكلاميّة ، بقلم المؤلّف : ٧٠ ـ ٨٣.

١٧١

الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ.) (١)

٢. (قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ.) (٢)

٣. (يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ). (٣)

فهذه الآيات تعرب بوضوح عن أنّ هناك أُموراً توصف بالعدل والإحسان والمعروف والفحشاء والمنكر والبغي قبل تعلّق الأمر والنهى بها ، وأنّ الإنسان يجد اتّصاف بعض الأفعال بأحدها ناشئاً من صميم ذاته وليس عرفان الإنسان بها موقوفاً على تعلّق الشرع ، وإنّما دور الشرع هو تأكيد إدراك العقل بالأمر بالحسن والنهي عن القبيح وبيان ما لا يستقلّ العقل في إدراك حسنه وقبحه ، وتدلّ على ما تقدّم بأوضح دلالة الآية التالية :

٤. (وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ). (٤)

فإنّ الظاهر من الآية أنّ المشركين كانوا عارفين بقبح أفعالهم وأنّها من الفحشاء ولكنّهم حاولوا توجيه تلك الأفعال الشنيعة إمّا بكونها إبقاءً لسيرة آبائهم وهم كانوا يحسِّنون ذلك ، وإمّا بكونها ممّا أمر بها الله سبحانه ولكنّ الله تعالى يخطّئهم في ذلك ويقول إنّ الله لا يأمر بالفحشاء كما يخطّئهم في اتّباعهم سيرة آبائهم بقوله :

__________________

(١) النحل : ٩٠.

(٢) الأعراف : ٣٣.

(٣) الأعراف : ١٥٧.

(٤) الأعراف : ٢٨.

١٧٢

(أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ). (١)

٥. (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ). (٢)

٦. (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ* ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) (٣).

٧. (هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ) (٤).

وهذه الآيات تدلّ على أنّه سبحانه اتّخذ وجدان الإنسان سنداً لقضائه فيما تستقلّ به عقليته ، فالإنسان يجد من تلقاء نفسه قبح التسوية عند الجزاء بين المفسد والمصلح والفاجر والمؤمن والمسلم والمجرم ، كما أنّه يدرك كذلك حسن جزاء الإحسان بالإحسان ، وهذا الإدراك الفطري هو السند في حكم العقل بوجوب يوم البعث والحساب كي يفصل بين الفريقين ويجزي كلّ منهما بما يقتضيه العدل والإحسان الإلهي.

__________________

(١) البقرة : ١٧٠.

(٢) ص : ٢٨.

(٣) القلم : ٣٦ ـ ٣٧.

(٤) الرحمن : ٦٠.

١٧٣
١٧٤

الفصل الثالث :

أفعال الله سبحانه معلَّلة بالغايات

من مظاهر عدله تعالى وحكمته تنزيه أفعاله سبحانه عن العبث ولزوم اقترانها بالغايات والأغراض ، وهذه المسألة من المسائل الّتي تشاجرت فيها العدلية والأشاعرة ، فالأُولى على الإيجاب والثانية على السلب.

واستدلّت العدلية على مدّعاهم بأنّ خلوَّ الفعل عن الغاية والغرض يعدّ لغواً وعبثاً وهو من القبائح العقلية ، والله تعالى منزَّه عن القبائح فلا بدّ أن تكون أفعاله مقترنة بأغراض ومعلَّلة بغايات.

والمهمّ في هذا المجال ، التحقيق حول دلائل الأشاعرة على إنكار كون أفعاله تعالى معلّلة بالغايات ، وأمّا دليل نظرية العدلية فهو واضح ، لأنّ هذه المسألة ـ كما تقدّم ـ من فروع مسألة التحسين والتقبيح العقليّين فنقول :

استدلّت الأشاعرة على مذهبهم بأنّه لو كان فعله لغرض لكان ناقصاً لذاته مستكملاً بتحصيل ذلك الغرض لأنّه لا يصلح غرضاً للفاعل الّا ما هو أصلح له من عدمه وهو معنى الكمال. (١)

__________________

(١) شرح المواقف : ٨ / ٢٠٢ ـ ٢٠٣.

١٧٥

يلاحظ عليه : أنّ الأشاعرة خلطوا بين الغرض الراجع إلى الفاعل ، والغرض الراجع إلى فعله ، فالاستكمال لازم في الأوّل دون الثاني ، والقائل بكون أفعاله معلّلة بالأغراض والغايات والدواعي والمصالح ، إنّما يعني بها الثاني دون الأوّل.

توضيح ذلك : أنّ العلّة الغائية في أفعال الفواعل البشرية هي السّبب لخروج الفاعل عن كونه فاعلاً بالقوّة إلى كونه فاعلاً بالفعل ، فهي متقدّمة على الفعل صورة وذهناً ومؤخّرة عنه وجوداً وتحقّقاً ، ولا تتصوّر العلّة الغائية بهذا المعنى في ساحته تعالى ، لغناه المطلق في مقام الذات والوصف والفعل ، فلا يحتاج في الإيجاد إلى شيء وراء ذاته ، وإلّا لكان ناقصاً في مقام الفاعلية مستكملاً بشيء وراء ذاته وهو لا يجتمع مع غناه المطلق ، ولكن نفي العلّة الغائية بهذا المعنى لا يستلزم أن لا يترتّب على فعله مصالح وحِكَم ينتفع بها العباد وينتظم بها النظام ، وذلك لأنّه سبحانه فاعل حكيم ، والفاعل الحكيم لا يختار من الأفعال الممكنة إلّا ما يناسب ذلك ، ولا يصدر منه ما يضادّه ويخالفه. (١)

القرآن وأفعاله سبحانه الحكيمة

والعجب من غفلة الأشاعرة من النصوص الصريحة في هذا المجال ، يقول سبحانه : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ). (٢)

__________________

(١) وإلى ذلك أشار المحقّق الطوسي بقوله : «ونفي الغرض يستلزم العبث ولا يلزم عوده إليه» كشف المراد ، المقصد ٣ ، الفصل ٣ ، المسألة ٤.

(٢) المؤمنون : ١١٥.

١٧٦

وقال : (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ). (١)

وقال : (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ). (٢)

وقال : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ). (٣)

مذهب الحكماء في أفعاله تعالى

ربّما يتوهّم اتّفاق رأي الحكماء مع الأشاعرة في نفي الغاية والغرض عن أفعاله تعالى ، ولكنّه خطأ محض ، قال صدر المتألهين :

إنّ الحكماء ما نفوا الغاية والغرض عن شيء من أفعاله مطلقاً ، بل إنّما نفوا في فعله المطلق (٤) وفي فعله الأوّل غرضاً زائداً على ذاته تعالى ، وأمّا ثواني الأفعال والأفعال المخصوصة والمقيّدة فأثبتوا لكلّ منها غاية مخصوصة كيف وكتبهم مشحونة بالبحث عن غايات الموجودات ومنافعها .... (٥)

__________________

(١) الدخان : ٣٨.

(٢) ص : ٣٧.

(٣) الذاريات : ٥٦.

(٤) المراد من فعله المطلق العالم الإمكاني إذا لوحظ جملة واحدة ، والمراد من فعله الأوّل الصّادر الأول.

(٥) الأسفار : ٧ / ٨٤.

١٧٧
١٧٨

الفصل الرابع :

المصائب والشرور وحكمته تعالى

إنّ الله سبحانه خلق السّماوات والأرض وما بينهما لمصلحة الإنسان وانتفاعه بها في معيشته ، مع انّ المصائب والبلايا تنافي هذه الغاية وتضادّها ، والفاعل الحكيم لا يصنع ما يضادّ غرضه. أضف إلى ذلك أنّ مقتضى رحمة الله الواسعة رفع المصائب ودفع الشرور الواقعة في عالم الطبيعة كي لا تصعب المعيشة على الإنسان وتكون له هنيئة مريئة بلا جزع ومصيبة.

والإجابة عن هذه الشبهة تبتني على بيان أُمور :

الأوّل : المصالح النوعيّة راجحة على المصالح الفردية

لا شكّ أنّ الحياة الإنسانية حياة اجتماعية ، فهناك مصالح ومنافع فردية ، وأخرى نوعية اجتماعية ، والعقل الصريح يرجّح المصالح النوعية على المنافع الفردية ، وعلى هذا فما يتجلّى من الظواهر الطبيعية لبعض الأفراد في صورة المصيبة والشرّ ، هو في عين الوقت تكون متضمّنة لمصلحة النوع والاجتماع ، فالحكم بأنّ هذه الظواهر شرور ، تنافي مصلحة

١٧٩

الإنسان ، ينشأ من التفات الإنسان إليها من منظار خاص والتجاهل عن غير نفسه في العالم ، من غير فرق بين من مضى في غابر الزمان ومن يعيش في الحاضر في مناطق العالم أو سوف يأتي ويعيش فيها.

الثاني : ضآلة علم الإنسان ومحدوديته

إنّ علم الإنسان المحدود هو الّذي يدفعه إلى أن يقضى في الحوادث بتلك الأقضية الشاذّة ، ولو وقف على علمه الضئيل ونسبة علمه إلى ما لا يعلمه لرجع القهقرى قائلاً : (رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً). (١)

ولأذعن بقوله تعالى : (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً). (٢)

وما أشبه الإنسان في حكمه بأنّ المصائب شرور محضة للإنسان ليس لها دور في مصالحه بعابر سبيل يرى جرّافة تحفر الأرض ، أو تهدم بناء مثيرة الغبار والتراب في الهواء ، فيقضى من فوره بأنّه عمل ضارّ وشرّ ، وهو لا يدري بأنّ ذلك يتمّ تمهيداً لبناء مستشفى كبير يستقبل المرضى ويعالج المصابين ويهيّئ للمحتاجين إلى العلاج وسائل المعالجة والتمريض. ولو وقف على تلك الأهداف النبيلة لقضى بغير ما قضى ، ولوصف ذلك التهديم بأنّه خير وأنّه لا ضير فيما يحصل من ضوضاء الجرّافة وتصاعد الغبار.

__________________

(١) آل عمران : ١٩١.

(٢) الإسراء : ٨٥.

١٨٠