محاضرات في الإلهيّات

الشيخ علي الربّاني الگلبايگاني

محاضرات في الإلهيّات

المؤلف:

الشيخ علي الربّاني الگلبايگاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١١
ISBN: 978-964-357-294-5
الصفحات: ٥٢٨

مطلقاً وقيّد اللَّذة المنفية بالمزاجية (١) ، ومن المانعين له المحقّق البحراني حيث قال :

اتّفق المسلمون على عدم إطلاق هذين اللفظين عليه تعالى ... وأمّا الفلاسفة فإنّهم ... لمّا فسروا اللَّذة بأنّها إدراك الملائم أطلقوا عليه لفظ اللَّذة وعنوا بها علمه بكمال ذاته ، فلا نزاع معهم إذن في المعنى ، إذ لكلّ أحد أن يفسِّر لفظه بما شاء ، لكنّا ننازع في إطلاق هذا اللفظ عليه لعدم الإذن الشرعي. (٢)

* * *

__________________

(١) كشف المراد : المقصد ٣ ، الفصل ٢ ، المسألة ١٨.

(٢) قواعد المرام : القاعدة ٤ ، الركن ٢ ، البحث ٨.

١٤١
١٤٢

الفصل العاشر :

انّه تعالى ليس بمرئيّ

اتّفقت العدليّة على أنّه تعالى لا يُرى بالأبصار لا في الدنيا ولا في الآخرة ، وأمّا غيرهم فالكراميّة والمجسِّمة الّذين يصفون الله سبحانه بالجسميّة ويثبتون له الجهة ، جوَّزوا رؤيته بلا إشكال في الدارين ، وأهل الحديث والأشاعرة ـ مع تحاشيهم عن إثبات الجسميّة والجهة له سبحانه ـ قالوا برؤيته يوم القيامة وإنّ المؤمنين يرونه كما يرى القمر ليلة البدر ، وتحقيق الكلام في هذا المجال رهن دراسة تحليلية حول أمور ثلاثة :

أ. تحديد محلّ النزاع ؛

ب. أدلّة امتناع الرؤية ؛

ج. أدلّة القائلين بالجواز.

ما هو موضوع النزاع؟

الرؤية الّتي تكون في محلّ الاستحالة والمنع عند العدلية هي الرؤية البصريّة بمعناها الحقيقي ، لا ما يعبّر عنه بالرؤية القلبية كما ورد في روايات أهل البيت عليهم‌السلام والشهود العلمي التام في مصطلح العرفاء ، وهذا المعنى من

١٤٣

الرؤية هو الظاهر من كلام الشيخ الأشعري حيث قال :

وندين بأنّ الله تعالى يرى في الآخرة بالأبصار كما يرى القمر ليلة البدر ، يراه المؤمنون كما جاءت الروايات عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (١).

وقال أيضاً :

إن قال قائل : لم قلتم إنّ رؤية الله بالابصار جائزة من باب القياس؟ قيل له : قلنا ذلك لأنّ ما لا يجوز أن يوصف به الله تعالى ويستحيل عليه ، لا يلزم في القول بجواز الرؤية(٢).

لكنّ المتأخرين منهم لمّا رأوا أنّ القول بجواز الرؤية بالابصار يستحيل في حقّه تعالى ، حاولوا تصحيح مقولتهم بوجوه مختلفة ، فقال الامام الرازي :

وقبل الشروع في الدلالة لا بدّ من تلخيص محلّ النزاع ، فإنّ لقائل أن يقول : إن أردت بالرؤية الكشف التامّ ، فذلك ممّا لا نزاع في ثبوته ، وإن أردت بها الحالة الّتي نجدها من أنفسنا عند إبصارنا الأجسام فذلك ممّا لا نزاع في انتقائه ـ إلى أن قال : ـ والجواب أنّا إذا علمنا الشيء حال ما لم نره ، ثمّ رأيناه ، فإنّا ندرك تفرقة بين الحالين ، وتلك التفرقة لا تعود إلى ارتسام الشبح في

__________________

(١) الإبانة : ٢١.

(٢) اللمع : ٦١ بتلخيص.

١٤٤

العين ولا إلى خروج الشعاع منها ، بل هي عائدة إلى حالة أُخرى مسمّاة بالرؤية ، فندّعي أنّ تعلّق هذه الصفة بذات الله تعالى جائز. (١)

وحاصله ـ كما لخّصه المحقّق الطوسي ـ : أنّ الحالة الحاصلة عند ارتسام الشبح في العين أو خروج الشعاع منها ، المغايرة للحالة الحاصلة عند العلم ، يمكن أن تحصل مع عدم الارتسام وخروج الشعاع.

يلاحظ عليه : أنّ الحالة المذكورة إمّا تكون رؤية بصريّة بالحقيقة ، فذلك محال في حقّه تعالى كما اعترف به الرازى ايضا ، وإمّا لا تكون كذلك وإنّما هي مشتركة مع الرؤية البصرية في النتيجة ، أعني : المشاهدة ، فهي راجعة إلى الكشف التام والرؤية القلبية ولا نزاع فيها ، قال المحقّق الطوسي : «ويحتاج في إثبات كون تلك الحالة غير الكشف التام إلى دليل». (٢)

أدلّة امتناع رؤيته تعالى

يدلّ على امتناع الرؤية وجوه :

١. إنّ الرؤية إنّما تصحّ لمن كان مقابلاً ـ كالجسم ـ أو في حكم المقابل ـ كالصورة في المرآة ـ والمقابلة وما في حكمها إنّما تتحقّق في الأشياء ذوات الجهة ، والله منزّه عنها فلا يكون مرئياً ، وإليه أشار مؤلّف الياقوت بقوله : «ولا يصحّ رؤيته ، لاستحالة الجهة عليه».(٣)

__________________

(١) تلخيص المحصل : ٣١٦.

(٢) نفس المصدر : ٣١٨.

(٣) انوار الملكوت : ٨٢.

١٤٥

٢. إنّ الرؤية لا تتحقق إلّا بانعكاس الأشعَّة من المرئى إلى أجهزة العين ، وهو يستلزم أن يكون سبحانه جسماً ذا أبعاد.

٣. إنّ الرؤية بأجهزة العين نوع إشارة إليه بالحدقة ، وهي إشارة حسّية لا تتحقق إلّا بمشار إليه حسّي واقع في جهة ، والله تعالى منزّه عن الجسمانية والجهة.

٤. إنّ الرؤية إمّا أن تقع على الذات كلِّها أو على بعضها ، فعلى الأوّل يلزم أن يكون المرئى محدوداً متناهياً ، وعلى الثاني يلزم أن يكون مركّباً ذا أجزاء وأبعاض والجميع مستحيل في حقِّه تعالى.

أدلّة القائلين بالجواز

إنّ للقائلين بجواز رؤيته تعالى أدلّة عقلية ونقلية ، فمن أدلّتهم العقلية ما ذكره الأشعرى بقوله :

ليس في جواز الرؤية إثبات حدث ، لأنّ المرئى لم يكن مرئيا لأنّه محدث ، ولو كان مرئياً لذلك للزمه أن يرى كلّ محدث وذلك باطل عنده» (١).

يلاحظ عليه : أنّ الحدوث ليس شرطاً كافياً للرؤية حتّى تلزم رؤية كلّ محدث ، بل هو شرط لازم يتوقّف على انضمام سائر الشروط الّتي أشرنا إليها وبما أنّ بعضها غير متوفّر في الموجودات المجرّدة المحدثة ، لا تقع عليها الرؤية.

__________________

(١) اللمع : ٦١.

١٤٦

وهناك دليل عقلى استدلّ به مشايخ الأشاعرة في العصور المتأخرة ، وحاصله أنّ ملاك الرؤية والمصحّح لها أمر مشترك بين الواجب والممكن وهو الوجود ، قالوا :

إنّ الرؤية مشتركة بين الجوهر والعرض ، ولا بدّ للرؤية المشتركة من علّة واحدة ، وهي إمّا الوجود أو الحدوث ، والحدوث لا يصلح للعلّيّة لأنّه أمر عدمي ، فتعيّن الوجود ، فينتج أنّ صحّة الرؤية مشتركة بين الواجب والممكن (١).

وهذا الدليل ضعيف جدّاً ومن هنا لم يتمّ عند المفكّرين من الأشاعرة أيضاً ، إذ لقائل أن يقول : إنّ الجهة المشتركة للرؤية في الجوهر والعرض ليست هي الوجود بما هو وجود ، بل الوجود المقيّد بعدّة قيود ، وهي كونه ممكناً ، مادّيّاً ، يقع في إطار شرائط خاصّة يستحيل في حقّه تعالى ، ولو كان الوجود هو الملاك التام لصحّة الرؤية للزم صحّة رؤية الأفكار والعقائد ، والروحيات والنفسانيات كالقدرة والإرادة وغير ذلك من الأُمور الروحية الوجودية الّتي لا تقع في محل الرؤية.

استدلال المجوّزين بالكتاب العزيز

استدلّ القائلون بالجواز بآيات من الكتاب العزيز :

__________________

(١) شرح المواقف : ٨ / ١١٥ ؛ شرح التجريد للقوشجي : ٣٢٩ ـ ٣٣٠ ؛ تلخيص المحصل : ٣١٧ ؛ كشف المراد : ٢٣١ ؛ قواعد المرام : ٧٨.

١٤٧

١. قوله تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ* إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ.) (١)

وتوضيح الاستدلال : أنّ النظر في اللّغة جاء بمعنى الانتظار ويستعمل بغير صلة ، وجاء بمعنى التفكّر ويستعمل ب (في) وجاء بمعنى الرأفة ويستعمل ب (اللام) وجاء بمعنى الرؤية ويستعمل ب (إلى) والنظر في الآية موصول ب (إلى) فوجب حمله على الرؤية. (٢)

يلاحظ عليه : أنّ النظر المتعدّي ب «إلى» كما يجيء بمعنى الرؤية ، كذلك يجيء كناية عن التوقّع والانتظار كما قال الشاعر :

وجوه ناظرات يوم بدر

إلى الرحمن يأتي بالفلاح

وكقول آخر :

إنّي إليك لما وعدت لناظر

نظر الفقير إلى الغني الموسر

وقد شاع في المحاورات : «فلان ينظر إلى يد فلان» يراد أنّه رجل معدم محتاج يتوقّع عطاء الآخر.

والتأمّل في الآيتين بمقارنتهما بالآيتين الواقعتين في تلوهما يهدينا إلى أنّ المراد من النظر في الآية ، هو التوقّع والانتظار ، لا الرؤية ، وإليك تنظيم الآيات حسب المقابلة :

(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ) ويقابلها قوله تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ).

__________________

(١) القيامة : ٢٢ ـ ٢٣.

(٢) شرح التجريد للفاضل القوشجي : ٣٣١.

١٤٨

(إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ). ويقابلها قوله تعالى : (تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ.)

فالفقرتان الأوليتان تصفان الناس يوم القيامة وأنّهم على طائفتين : طائفة مطيعة وهم ذات وجوه ناضرة ، وطائفة عاصية وهم ذات وجوه باسرة ، ثمّ ذكر لكلّ منهما وصفاً آخر ، فللأُولى أنّهم ناظرة إلى ربّها ، وللثانية أنّهم يظنّون أن يفعل بهم فاقرة ، أي يتوقّعون أن ينزل عليهم عذاب يكسر فقارهم ويقصم ظهورهم.

فالمقابلة بين الفقرة الثالثة والرابعة تشهد على المراد من الفقرة الثالثة الّتي مضادّة للرابعة. وبما انّ الفقرة الرابعة ظاهرة في أنّ المراد توقُّع العصاة العذاب الفاقر ، يكون المراد من الفقرة الثالثة توقع الرحمة والكرم من الله تعالى ، لا رؤيته تعالى.

٢. قوله تعالى حكاية عن موسى عليه‌السلام : (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ.) (١)

وجه الاستدلال : أنّ الرؤية لو لم تكن جائزة لكان سؤال موسى جهلاً أو عبثاً. (٢)

والجواب عنه : أنّ التدبّر في مجموع ما ورد من الآيات في القصّة يدلّنا على أنّ موسى عليه‌السلام ما كان طلب الرؤية إلّا لتبكيت قومه عند ما طلبوا منه أن يسأل الرؤية لنفسه ، حتى تحلّ رؤيته لله مكان رؤيتهم ، وذلك بعد ما سألوه أن يريهم الله جهرة لكي يؤمنوا بأنّ الله كلّمه ، فأخذتهم الصاعقة ، فطلب

__________________

(١) الأعراف : ١٤٣.

(٢) تلخيص المحصل : ٣٢٠.

١٤٩

الكليم منه سبحانه أن يحييهم الله تعالى ، حتى يدفع اعتراض قومه عن نفسه إذا رجع اليهم ، فلربما قالوا : «إنّك لم تكن صادقاً في قولك إنّ الله يكلّمك ، ذهبت بهم فقتلتهم» ، فعند ذلك أحياهم الله وبعثهم معه ، وإليك الآيات الواردة في القصّة :

الف) (وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ.) (١)

ب) (يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ) (٢).

ج) (وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا) (٣).

د) (وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) (٤).

فالآيتان الأُولى والثانية تدلّان على أنّ أهل الكتاب طلبوا من موسى أن يسأل من الله تعالى أن يريهم ذاته ، فاستحقّوا بسؤالهم هذا العذاب والدمار فأخذتهم الصاعقة ، والآية الثالثة تدلّ على أنّ الّذين اختارهم موسى لميقات

__________________

(١) البقرة : ٥٥.

(٢) النساء : ١٥٣.

(٣) الأعراف : ١٥٥.

(٤) الأعراف : ١٤٣.

١٥٠

ربّه أخذتهم الرجفة ، ولم تأخذهم إلّا بما فعلوه من السفاهة ، والظاهر أنّ المراد منها هو سؤال الرؤية المذكور في الآيتين المتقدّمتين ، والمقصود من الرجفة ، هي رجفة الصاعقة ، كما عبّر عن هلاكة قوم صالح تارة بالرّجفة (١) وأُخرى بالصّاعقة. (٢)

وبما أنّه لم يكن لموسى مع قومه إلّا ميقات واحد ، كان الميقات في الآية الثالثة نفس الميقات الوارد في الآية الرابعة ، ففي هذا الميقات وقع السؤالان ، غير إنّ سؤال الرؤية عن جانب القوم كان قبل سؤال موسى الرؤية لنفسه ، والقوم سألوا الرؤية حقيقة وموسى سألها تبكيتاً لقومه وإسكاتاً لهم ، يدلّ على ذلك أنّه لم يوجّه إلى الكليم من جانبه سبحانه أيّ لوم وعتاب أو مؤاخذة وعذاب بل اكتفى تعالى بقوله :

(لَنْ تَرانِي).

٣. قوله تعالى ـ فيما أجاب موسى عند سؤال الرؤية لنفسه ـ :

(وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي). (٣)

وجه الاستدلال : «انّه تعالى علّق الرؤية على استقرار الجبل وهو ممكن والمعلّق على الممكن ممكن ، فالرؤية ممكنة». (٤)

يلاحظ عليه : أنّ المعلَّق عليه ليس هو إمكان الاستقرار ، بل وجوده

__________________

(١) لاحظ : الأعراف : ٧٨.

(٢) لاحظ : حم السجدة : ١٧.

(٣) الأعراف : ١٤٣.

(٤) تلخيص المحصل : ٣١٩ ؛ شرح التجريد للقوشجي : ٣٢٩.

١٥١

وتحقّقه بعد تجلّيه تعالى على الجبل ، والمفروض انّه لم يستقرّ بعد التجلّي ، كما قال تعالى :

(فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً). (١)

أضف إلى ذلك أنّ المذكور في الآية هو استقرار الجبل في حال النظر إليه بعد تجلّيه تعالى عليه ، ومن المعلوم استحالة استقراره في تلك الحالة ، وإليه اشار المحقّق الطوسي بقوله : «وتعليق الرؤية باستقرار المتحرّك لا يدلّ على الإمكان». (٢)

الرؤية في روايات اهل البيت عليهم‌السلام

إنّ المراجع إلى خطب الإمام علي عليه‌السلام في التوحيد وما أُثر عن أئمة العترة الطاهرة عليهم‌السلام يقف على أنّ مذهبهم في ذلك امتناع الرؤية ، فعلى من أراد الوقوف على كلمات الإمام علي عليه‌السلام أن يراجع نهج البلاغة ، وعلى كلمات سائر أئمة اهل البيت عليهم‌السلام أن يراجع الكافي لثقة الإسلام الكليني والتوحيد للشيخ الصدوق. (٣)

ثمّ إنّهم عليهم‌السلام رغم تأكيدهم على إبطال الرؤية الحسّية البصريّة صرّحوا على إمكان الرؤية القلبيّة ، فهذا هو الإمام علي عليه‌السلام حينما سأله ذعلب اليماني

__________________

(١) الأعراف : ١٤٣.

(٢) كشف المراد : ٢٣١ ؛ تلخيص المحصل : ٣١٩.

(٣) الكافي ، ج ١ ، باب إبطال الرؤية ؛ التوحيد ، الباب الثامن. ويراجع أيضاً بحار الأنوار ، ج ٤ ، باب نفي الرؤية وتأويل الآيات فيها.

١٥٢

هل رأيت ربّك يا أمير المؤمنين؟ فقال عليه‌السلام : «أفأعبد ما لا أرى؟! فقال : وكيف تراه؟ فقال : «لا تدركه العيون بمشاهدة العيان ولكن تدركه القلوب بحقائق الإيمان». (١)

وهكذا أجاب عليه‌السلام سؤال حبر من اليهود حينما سأله بنفس ذلك السؤال. (٢)

وروى الصدوق بسنده عن عبد الله بن سنان عن أبيه ، قال :

حضرت أبا جعفر عليه‌السلام فدخل عليه رجل من الخوارج ، فقال له : يا أبا جعفر أي شيء تعبد؟ قال : «الله» ، قال : رأيته؟ قال : «لم تراه العيون بمشاهدة العيان ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان». (٣)

إلى غير ذلك من الروايات ، وأمّا البحث عن حقيقة تلك الرؤية القلبية الّتي هي غير الرؤية البصريّة الحسّية ، فليطلب من مظانّه.

__________________

(١) نهج البلاغة : الخطبة ١٧٩.

(٢) لاحظ : التوحيد للصدوق : الباب ٨ ، الحديث ٦.

(٣) المصدر السابق : الحديث ٥.

١٥٣
١٥٤

الباب الرابع :

في

مباحث العدل والحكمة

وفيه اثنا عشر فصلاً :

١. تعريف العدل والحكمة ودلائلهما ؛

٢. التحسين والتقبيح العقليّان ؛

٣. أفعال الله سبحانه معلّلة بالغايات ؛

٤. المصائب والشرور وحكمته تعالى ؛

٥. التكليف بما لا يطاق قبيح ؛

٦. وجوب اللطف عند المتكلّمين ؛

٧. الجبر والكسب ؛

٨. نظرية التفويض ؛

٩. أمر بين الأمرين ؛

١٠. شبهات وردود ؛

١١. القضاء والقدر ؛

١٢. حقيقة البداء.

١٥٥
١٥٦

الفصل الأوّل :

تعريف الحكمة والعدل ودلائلهما :

تعريف الحكمة

أصل الحكمة الحكم وهو المنع ، قال ابن فارس :

الحاء والكاف والميم اصل واحد وهو المنع واوّل ذلك الحكم وهو المنع من الظّلم وسمّيت حكمة الدابّة لأنّها تمنعها ، يقال : حكمت الدابّة وأحكمتها ، ويقال : حكمت السّفيه وأحكمته ، إذا أخذت على يديه والحكمة هذا قياسها ، لأنّها تمنع من الجهل وتقول : حكّمت فلاناً تحكيماً : منعته عمّا يريد. (١)

وقد أطلقت الحكمة على العدل ، والعلم والحلم ، والنبوّة وما يمنع من الجهل ، وكل كلام موافق للحقّ ، ووضع الشيء في موضعه وصواب الأمر وسداده. (٢)

وقد عرّف الراغب الأصفهانى الحكمة ب «إصابة الحقّ بالعلم والعقل» ثمّ قال :

__________________

(١) معجم المقاييس في اللغة : ٢٧٧.

(٢) اقرب الموارد : ١ / ٢١٩.

١٥٧

فالحكمة من الله تعالى معرفة الأشياء وإيجادها على غاية الإحكام ، ومن الإنسان معرفة الموجودات وفعل الخيرات. (١)

ثمّ إنّ الحكمة في اصطلاح المتكلّمين قد تكون وصفاً للعلم وقد تكون وصفاً للفعل ، ويفسّر الأوّل بأفضل العلم وأكمله ، ويفسّر الثاني بإتقان الفعل وتنزّهه عمّا لا ينبغي. قال الرازي (٢) :

في الحكيم وجوه : الأوّل : إنّه فعيل بمعنى مفعل كأليم بمعنى مؤلم. ومعنى الإحكام في حقّ الله تعالى في خلق الأشياء هو إتقان التدبير فيها ، وحسن التقدير لها ، قال تعالى : (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ). (٣)

ليس المراد الحسن الرائق في المنظر وإنما المراد منه حسن التدبير في وضع كلّ شيء موضعه بحسب المصلحة ، وهو المراد بقوله :

(وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) (٤).

الثاني : إنّ الحكمة عبارة عن معرفة أفضل المعلومات بأفضل العلوم ، فالحكيم بمعنى العليم.

__________________

(١) المفردات في غريب القرآن : ١٢٧.

(٢) شرح أسماء الله الحسنى : ٢٧٩ ـ ٢٨٠.

(٣) السجدة : ٧.

(٤) الفرقان : ٢.

١٥٨

الثالث : الحكمة عبارة عن كونه مقدّساً عن فعل ما لا ينبغي.

قال تعالى : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً) (١).

والحاصل : أنّ الحكمة إما وصف للعلم وإمّا وصف للفعل. فالأوّل هو الحكمة العلمية ، والثاني الحكمة العملية أو الفعلية ، والحكمة العلمية راجعة إلى علمه تعالى بذاته وبفعله وهي من الصفات الثبوتية الذاتية ، وقد تقدّم الكلام فيها من الباب الأوّل. والّذي يراد بالبحث في هذا الباب الحكمة الفعلية بمعنييه وهما : الإحكام في خلق العالم وتدبيره وتنزّه أفعاله تعالى عمّا لا ينبغي من الجهالة والسفاهة.

تعريف العدل :

للعدل في معاجم اللّغة إطلاقات أو معانٍ كالقصد في الأمور ، والتعادل والتساوي ، والاستواء والاستقامة ، والتوسط بين طرفي الإفراط والتفريط (٢). والمعنى الجامع بينها هو وضع كل شيء في موضعه المناسب له. وإليه أشار الإمام علي عليه‌السلام بقوله : «العدل يضع الامور موضعها». (٣)

توضيح ذلك : أنّ لكلّ شيء وضعاً خاصّاً يقتضيه إمّا بحكم العقل ، أو بنصّ الوحي وباعتبار المصالح الكلية والجزئية في نظام الكون ، فالعدل هو رعاية ذلك الوضع وعدم الانحراف إلى جانب الإفراط والتفريط.

__________________

(١) المؤمنون : ١١٥ ؛ لاحظ : شرح أسماء الله الحسنى : ٢٧٩ ـ ٢٨٠.

(٢) انظر ، المصباح المنير : ١ / ٥١ ـ ٥٢ ؛ اقرب الموارد : ٢ / ٧٥٣ ؛ المفردات في غريب القرآن : ٣٢٥.

(٣) نهج البلاغة : الحكمة ٤٣٧.

١٥٩

نعم موضع كل شيء بحسبه ، ففي نظام الطبيعة بوجه ، وفي المجتمع البشري بوجه آخر ، وبلحاظ اختلاف موارده تحصل له أقسام ليس هنا مقام بيانها ، إلّا أنّ موارد العدل بالنسبة إلى الله تعالى يجمعها أقسام ثلاثة :

١. العدل التكويني : وهو إعطاؤه تعالى كلّ موجود ما يستحقه ويليق به من الوجود ، فلا يهمل قابلية ، ولا يعطّل استعداداً في مجال الإفاضة والإيجاد.

٢. العدل التشريعي : وهو أنّه تعالى لا يهمل تكليفاً فيه كمال الإنسان وسعادته ، وبه قوام حياته الماديّة والمعنوية ، والدنيوية والاخروية ، كما انّه لا يكلّف نفساً فوق طاقتها.

٣. العدل الجزائي : وهو أنّه تعالى لا يساوي بين المصلح والمفسد ، والمؤمن والكافر في مقام الجزاء بل يجزي كلَّ إنسان بما كسب ، فيجزي المحسن بالإحسان والثواب ، والمسيء بالعقاب. كما أنّه تعالى لا يعاقب عبداً على مخالفة التكاليف إلّا بعد البيان والإبلاغ.

الملازمة بين الحكمة والعدل

إنّ الحكمة الفعلية والعدل متلازمان ، فإنّ لازم إتقان الفعل وإحكامه كونه واقعاً في موضعه اللائق به ، كما أنّ لازم كون الفعل واقعا في موضعه المناسب كونه محكماً ومتقناً. ومن هنا نرى أنّ المتكلّمين يردفون العدل بالحكمة في أبحاثهم. قال عبد الجبّار المعتزلي :

«نحن إذا وصفنا القديم تعالى بأنّه عدل حكيم ، فالمراد به أنّه لا

١٦٠