فتوح مصر والمغرب

ابن عبد الحكم

فتوح مصر والمغرب

المؤلف:

ابن عبد الحكم


المحقق: الدكتور علي محمّد عمر
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة الثقافة الدينية
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥١٧

قال : وكان هشام بن عمرو أحد النفر الذين قاموا فى نقض الصحيفة التى كانت قريش كتبت. قال : وقد كان عمرو بن العاص ولّى السائب بن هشام بعد خارجة بن حذافة ، وكان أيضا على شرطه (١) عبد الله بن سعد بن أبى سرح. وكان اسم أبى سرح كما حدثنا محمد بن إدريس الرازىّ عويفا.

ثم عزل مسلمة بن مخلّد السائب ، وولّى عابس بن سعيد المرادى الشرط ، ثم جمع له القضاء مع الشرط (٢). وهو صاحب كوم عابس الذي بفسطاط مصر ، وفيه يقول الشاعر :

أحنّ إلى الاسكندريّة إنّ لى

بها إخوة فى الدّين أهل تنافس

أبو الحارث الماضى وأشهب منهم

إماما هدى فى سنّة ومقايس

وقد أحدثت للرّوم فيها كنيسة

لطاغية للعين حقّ الجواسس

فيا ليتها قد صيّرت بمشورة

خوى صفصفا كالقاع من كوم عابس

يريد بأبى الحارث : الليث بن سعد ، وأشهب : أشهب بن عبد العزيز القيسىّ من أصحاب مالك بن أنس.

فلم يزل عابس بن سعيد على القضاء حتى دخل مروان بن الحكم مصر ، وكان مدخله كما حدثنا يحيى بن بكير ، عن الليث بن سعد فى سنة خمس وستّين. فقال : أين قاضيكم؟ فدعى له عابس بن سعيد ، وكان أمّيا لا يكتب ، فقال له مروان بن الحكم : أجمعت (٣) كتاب الله؟ قال : لا قال : فأحكمت الفرائض؟ قال : لا. قال فبم تقضى؟ قال : أقضى بما علمت ، وأسأل عمّا جهلت ، فقال : أنت القاضى (٤).

قال وكان سبب عزل مسلمة بن مخلّد السائب بن هشام وتوليته عابس بن سعيد ، أن معاوية بن أبى سفيان كتب إلى مسلمة بن مخلّد ، ومسلمة يومئذ والى البلد ، يأمره بالبيعة ليزيد ، فأتى مسلمة الكتاب وهو بالإسكندريّة ، فكتب إلى السائب

__________________

(١) ك : «شرط».

(٢) راجع الكندى ص ٣١١.

(٣) د ، ك : «جمعت».

(٤) راجع الكندى ص ٣١٢.

٢٦١

ابن هشام وهو على شرطه يومئذ بذلك ، فبايع الناس إلّا عبد الله بن عمرو ابن العاص ، فأعاد عليه مسلمة الكتاب فلم يفعل (١) ، فقال مسلمة : من لعبد الله ابن عمرو؟ فقال عابس بن سعيد : أنا ، فقدم الفسطاط ، فبعث إلى عبد الله بن عمرو فلم يأته ، فدعا بالنار والحطب ليحرق عليه قصره ، فأتى ، فبايع ، ولم يزل عابس على القضاء والشرط إلى أن توفّى فى أيّام (٢) عبد العزيز بن مروان سنة ثمان وستّين.

ويقال إنما كتب مسلمة بن مخلّد إلى السائب بن هشام فى أخذ بيعة عبد الله ابن عمرو ليزيد بعد موت معاوية بن أبى سفيان. قال ابن بكير : فأخبرنى عبد الله ابن لهيعة ، عن أبى قبيل ، قال : لمّا توفّى معاوية واستخلف يزيد ، كره عبد الله بن عمرو أن يبايع ليزيد ومسلمة بالإسكندرية ، فبعث إليه مسلمة كريب بن أبرهة وعابس بن سعيد ، فدخلا عليه ومعهما سليم بن عتر ، وهو يومئذ قاض وقاص ، فوعظوا عبد الله بن عمرو فى بيعة يزيد ، فقال عبد الله : والله لأنا أعلم (٣) بأمر يزيد (٤) منكم ، وإنّى لأوّل الناس أخبر به معاوية أنه يستخلف (٥) ، ولكن أردت أن يلى هو بيعتى ، وقال لكريب : أتدرى ما مثلك؟ إنما مثلك مثل قصر عظيم فى صحراء غشيه ناس قد أصابهم الحرّ ، فدخلوا يستظلّون فيه ، فإذا هو ملآن من مجالس الناس ، وإنّ صوتك فى العرب كريب بن أبرهة ، وليس عندك شىء ، وأمّا أنت يا عابس بن سعيد فبعت آخرتك بدنياك ، وأمّا أنت يا سليم ابن عتر فكنت قاصا (٦) ، فكان معك ملكان يعينانك ويذكّرانك ، ثم صرت قاضيا فمعك شيطانان يزيغانك عن الحقّ ويفتنانك.

ثم ولّى عبد العزيز بن مروان بشير بن النضر المزنى القضاء.

حدثنى أخى محمد بن عبد الله ، حدثنا وهب الله بن راشد ، عن حيوة بن شريح ،

__________________

(١) ب : «يقبل».

(٢) ولم يزل عابس على القضاء والشرط إلى أن توفى فى أيام : ج «ولم يزل عابس على القضاء والشرط حتى توفى أيام ...».

(٣) والله لأنا أعلم : ج «والله إنى لأعلم».

(٤) بأمر يزيد : ب «بيزيد».

(٥) يستخلف : ج «سيتخلف».

(٦) ج : «قاضيا».

٢٦٢

عن جعفر بن ربيعه ، أن بشير بن النضر كان قاضيا قبل ابن حجيرة فى زمان عبد العزيز ابن مروان (١).

قال ثم ولى عبد الرحمن بن حجيرة الخولانى ، وهو ابن حجيرة الأكبر ، وقد لقى أبا هريرة ، وأبا سعيد الخدرىّ ، وروى عنه الناس ، وجمع له القضاء والقصص وبيت المال.

وروى عبد الرحمن بن أبى السمح ، عن أبى الليث العلاء بن عاصم القاصّ ، أن ابن حجيرة الأكبر كان مع عبد العزيز بن مروان على القضاء والقصص وبيت المال ، فكان يأخذ رزقه فى القضاء مائتى دينار ، وفى القصص (٢) مائتى دينار ، وفى بيت المال مائتى دينار ، وعطاؤه مائتا دينار ، وجائزته مائتا دينار ، فكان يأخذ فى السنة ألف دينار ، فلم يكن يحول عليه الحول وعنده ما تجب فيه الزكاة ، فلم يزل على القضاء حتى مات فى سنة ثلاث وثمانين (٣).

ويقال بل ولى سنة ثلاث وثمانين ومات فى سنة خمس وثمانين. وروى ابن لهيعة ، عن عبيد الله بن المغيرة ، أن رجلا سأل ابن عبّاس عن مسألة فقال : تسألنى وفيكم ابن حجيرة.

وروى الليث بن سعد ، عن ابن لهيعة ، عن موسى بن وردان ، أن سعيد بن المسيّب قال له : اقرأ على ابن حجيرة السلام ، وأمره فلينه أهل بلده عن الربا ؛ فإنه (٤) ذكر لى أنه بها كثير ، وقد سمعت عثمان بن عفّان رضى الله عنه على المنبر ، يقول : كنت أشترى التمر من سوق بنى قينقاع ، ثم أجلبه (٥) إلى المدينة ، ثم أفرغه لهم ، وأخبرهم بما فيه من المكيلة ، فيعطونى ما رضيت به من الربح ويأخذونه بخبرى ولا يكيلونه ، فبلغ ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : يا عثمان إذا ابتعت فاكتل ، وإذا بعت فكل.

ثم ولى القضاء مالك بن شراحيل الخولانى فى سنة ثلاث وثمانين ، وهو صاحب

__________________

(١) راجع الكندى ص ٣١٤.

(٢) ب ، ج : «القصاص».

(٣) قارن بالكندى ص ٣١٧.

(٤) ج : «فقد».

(٥) ب : «أحمله».

٢٦٣

مسجد مالك الذي بفسطاط مصر ، وكان الحجّاج يرسل إليه فى كل سنة بحلّة وثلاثة آلاف درهم. فلم يزل على القضاء حتى مات (١).

فولى القضاء من بعده يونس بن عطّية الحضرمىّ ، وجمع له الشرط والقضاء ، فلم يزل قاضيا حتى مات سنة ستّ وثمانين (٢).

قال : وزعم بعض مشايخ أهل البلد أن أوسا ابن أخى يونس بن عطيّة ، ولى القضاء بعد عمّه يونس بن عطية (٣).

ثم ولى عبد الرحمن بن معاوية بن حديج الكندى ، وجمع له القضاء والشرط ، فلم يزل على ذلك حتى توفّى عبد العزيز بن مروان (٤).

قال : وكان الطاعون قد وقع بالفسطاط كما حدثنا سعيد بن عيسى بن تليد وغيره ، يذكر بعضهم ما لا يذكر صاحبه ، فخرج عبد العزيز بن مروان من الفسطاط ، فنزل بحلوان داخلا فى الصحراء فى موضع منها يقال له أبو قرقور ، وهو رأس العين التى احتفرها عبد العزيز بن مروان وساقها إلى نخله التى غرسها بحلوان فكان ابن حديج يرسل إلى عبد العزيز فى كلّ يوم بخبر ما يحدث فى البلد من موت وغيره.

فأرسل إليه ذات يوم رسولا فأتاه ، فقال له عبد العزيز : ما اسمك؟ فقال : أبو طالب. فثقل ذلك على عبد العزيز وغاظه فقال له عبد العزيز : أسألك عن اسمك ، فتقول أبو طالب! ما اسمك : فقال : مدرك ، فتفاءل عبد العزيز بذلك ومرض فى مخرجه ذلك ومات هنالك فحمل فى البحر يراد به الفسطاط فاشتدّت عليهم الريح ، فلم يبلغ به الفسطاط حتى تغيّر ، فأنزل فى بعض خصوص ساحل مريس ، فغسل فيه وأخرجت من هنالك جنازته ، وخرج معه بالمجامر فيها العود لما كان من تغير (٥) ريحه وأوصى عبد العزيز أن يمرّ بجنازته إذا مات على منزل جناب وكان له صديقا ، وكان. جناب قد توفى قبل عبد العزيز ، فمّر بجنازة عبد العزيز على

__________________

(١) راجع الكندى ص ٣٢٠ ـ ٣٢١.

(٢) راجع الكندى ص ٣٢٢.

(٣) راجع الكندى ص ٣٢٤.

(٤) راجع الكندى ص ٣٢٤.

(٥) لما كان من تغير : أ ، ج «لما كان تغير من».

٢٦٤

بابه ، وقد خرج عيال جناب فلبسوا السواد ووقفن على الباب صائحات ، ثم اتّبعنه إلى المقبرة. وجناب صاحب قصرى (١) جناب اللذان (٢). بفسطاطا مصر ينسب أحدهما اليوم إلى ابن يريم.

وكان نصيب الشاعر قدم على عبد العزيز بن مروان فى مرضه ، فاستأذن عليه ، فقيل له هو مغمور ، فقال : استأذنوا لى فإن أذن فذلك ، وكان لنصيب من عبد العزيز ناحية ، فأذن له ، فلما رأى شدّة مرضه أنشأ يقول :

ونزور سيّدنا وسيّد غيرنا

ليت التّشكّي كان بالعوّاد

لو كان تقبل فدية لفديته

بالمصطفى من طارفى وتلادى (٣)

فلما سمع صوته فتح عينيه وأمر له بألف دينار ، واستبشر بذلك آل عبد العزيز وفرحوا به.

ثم مات ، وكانت وفاته كما حدثنا يحيى بن بكير ، عن الليث بن سعد ، ليلة الاثنين لاثنتى عشرة خلت من جمادى الأولى سنة ستّ وثمانين. وفى ذلك يقول الفرزدق :

يا أيّها المتمنّى أن يكون فتى

مثل ابن ليلى فقد خلّى لك السّبلا

اذكر ثلاث خصال قد عرفن له

هل سبّ من أحد أو سبّ أو بخلا

لو يضرب الناس أقصاهم وأوّلهم

فى شقّة الأرض حتّى يحرثوا الإبلا

يبغون أفضل أهل الأرض لم يجدوا

مثل الذي غيّبوا فى لحده رجلا

فلما توفّى عبد العزيز بن مروان ، أمر عبد الملك بن مروان على أهل مصر عمر بن مروان ، فأقام شهرا إلّا ليلة (٤) ثم صرف ، وولى عبد الله بن عبد الملك.

وهو صاحب مسجد عبد الله الذي بفسطاط مصر ، وإليه ينسب ، ولمّا قدم عبد الرحمن بن عبد الله العمرىّ مصر قاضيا وهّمه بعض أهل البلد أنّ

__________________

(١) ب : «قصر».

(٢) ب ، ج : «الذي».

(٣) راجع السيرطى حسن المحاضرة ١ / ٥٨٦ ـ ٥٨٧.

(٤) فأقام شهرا إلا ليلة : ج «فأقام شهرا وليلة».

٢٦٥

المسجد لعبد الله بن عمر بن الخطّاب ، فعمّره وأحسن عمارته ، وهو مسجد عبد الله ابن عبد الملك ، لا شكّ فيه.

فأراد عبد الله بن عبد الملك عزل ابن حديج ، فاستحيا من عزله عن غير شىء ، ولم يجد عليه مقالا ولا متعلّقا ، فولّاه مرابطة الإسكندرية ، وولّى عمران ابن عبد الرحمن بن شرحبيل بن حسنة القضاء والشرط ، فلم يزل على ذلك إلى سنة تسع وثمانين. فغضب عليه عبد الله بن عبد الملك فى شىء لم يسمّ لى ، فحبسه فى بيت ، وأمر أن يقطع له ثوب من قراطيس ، ويكتب فيه (١) عيوبه ومعائبه ، ثم يلبسه ويوقف للناس حتى يرجع من مخرجه (٢).

وولّى عبد الأعلى بن خالد بن ثابت الفهمى مكانه. وخرج عبد الله بن عبد الملك إلى وسيم ، وكانت لرجل من القبط ، فسأل عبد الله أن يأتيه إلى منزله ويجعل له مائة ألف دينار ؛ فخرج إليه عبد الله بن عبد الملك.

قال ابن عفير : إنما كان مخرج عبد الله إلى أبى النمرس مع رجل من الكتّاب يقال له ابن حنظلة ، وكانت داره الدار التى يسكنها اليوم أبو صالح الحرّانى. فأتى عبد الله العزل وولاية قرّة بن شريك العبسى وهو هنالك.

قال ابن عفير : فلما بلغه ذلك قام ليلبس سراويله فلبسه (٣) منكوسا. قال وقدم قرّة ابن شريك على ثلاثة من البريد ، فدخل المسجد فركع فى المحراب ، ثم تربعّ فجلس ، وقعد أحد الرجلين إلى جنبه ، وقام الآخر على رأسه ، فأتى إلى عبد الأعلى بن خالد رجل من شرطة المسجد فقال له : قدم رجل على ثلاثة من البريد حتى نزل بباب المسجد ثم دخل المحراب فركع ، ثم تربّع فجلس ، فأتاه ابن رفاعة فسلّم عليه بغير الأمرة ، فقال له قرّة : على (٤) شىء من العمل أنت؟ قال : نعم ، على الشرط ، قال : اذهب فاختم على الديوان ، قال : إن كنت على الخراج فإنّ هذا ليس إليك ، قال : اذهب كما تؤمر ، فقال بن رفاعة : السلام عليك أيّها الأمير ورحمة الله ، فقال له قرّة : ممّن أنت؟ قال : من فهم. فقال قرة :

__________________

(١) أ : «عليه».

(٢) الكندى ص ٣٢٧ ـ ٣٢٨.

(٣) ج : «فلبسها».

(٤) أ : «أعلى».

٢٦٦

لن تجد الفهمىّ إلّا محافظا

على الخلق (١) الأعلى وبالحقّ (٢) عالما

سأثنى على فهم ثناء يسرّها

يوافى به أهل القرى والمواسما (٣)

هكذا قال ابن عفير.

ويقال بل جاء رجل من الشرط حين قدم قرّة إلى ابن رفاعة ، فقال له : قد دخل (٤) رجل على ثلاثة من البريد ثم دخل المحراب فركع ، وبعث رجلا يختم الديوان ، وآخر يختم بيت المال ، فأتاه ابن رفاعة فسلّم عليه بغير الأمرة فقال له قرّة : على شىء من العمل أنت؟ قال : نعم ، على الشرط ، قال : فالزم ما كنت عليه ، فأعاد ابن رفاعة السلام عليه بالإمرة ، وأقرّه على ما كان عليه.

قال ابن بكير : وقد كان قرّة أمر أن لا يعرض لعبد الله بن عبد الملك فى شىء خرج به معه ، وأن يمنع (٥) من شىء إن كان تركه ، فحمل عبد الله بن عبد الملك كلّ ما كان له وبرز إلى دار الخيل ، ولم يعرض له قرّة بن شريك ، وكان عبد الله قد استعمل قبّة تركيّة فى الجزيرة فنسيها ، فوجّه فى أخذها فمنعه قرّة من ذلك ، ثم سار عبد الله ابن عبد الملك بكلّ ما كان معه ، فلما كان بالأردنّ بعث الوليد فحاز ذلك كلّه.

ثم ولى عبد الله بن عبد الرحمن بن حجيرة الخولانى وهو ابن حجيرة الأصغر. ثم عزل فى سنة ثلاث وتسعين (٦).

وزعم بعض مشايخ أهل البلد أن ابن حجيرة لمّا ولى القصص بلغ ذلك أباه وهو ببيت المقدس ، فقال : الحمد لله ذكر ابنى وذكّر ، ولما بلغه أنه ولى القضاء قال : إنّا لله ، أحسبه قال : هلك ابنى وأهلك.

قال عبد الرحمن : لست أدرى أىّ ابن حجيرة أراد ، الأكبر أم الأصغر.

ثم ولى عياض بن عبيد الله الأزدى ثم السّلامى ، أتته ولاية القضاء وهو عامل

__________________

(١) ج : «الحق».

(٢) ج : «وبالخلق».

(٣) راجع الكندى ص ٦٢ ـ ٦٣.

(٤) قد دخل رجل : ب «قدم رجل».

(٥) ك : «وألا يمنع».

(٦) الكندى ص ٣٣١ ـ ٣٣٢.

٢٦٧

لأسامة بن زيد التنوخى على الهرى. فلم يزل على القضاء حتى صرف عنه فى سنة ثمان وتسعين ، وردّ ابن حجيرة على القضاء. ثم صرف عنه ، وردّ عياض بن عبيد الله ، فلم يزل قاضيا حتى صرف سنة مائة (١).

وولى عبد الله بن خذامر ، ثم صرف عن القضاء سنة ثنتين ومائة (٢).

ثم ولى يحيى بن ميمون الحضرمى (٣) ، وقد روى عنه عمرو بن الحارث وابن لهيعة ، فلم يزل قاضيا حتى صرف سنة أربع عشرة ومائة. ولم يكن بالمحمود فى ولايته.

حدثنا يحيى بن بكير ، قال : سمعت المفضّل بن فضالة ، يقول : كان بئس القاضى.

ثم ولى يزيد بن عبد الله بن خذامر ثم صرف.

ثم ولى الخيار بن خالد المدلجى ، فأقام قاضيا شبيها بسنة ، ثم مات ، وكانت وفاته فى سنة خمس عشرة ومائة ، وكان محمودا جميل المذهب.

ثم ولى توبة بن نمر الحضرمى. حدثنا سعيد بن عفير ، حدثنا المفضّل بن فضالة ، قال : لمّا ولى توبة بن نمر القضاء دعا امرأته ، فقال لها : كيف علمت صحبتى لك؟ قالت : جزاك الله من عشير خيرا ، قال : قد علمت ما بلينا به من أمر الناس فأنت الطّلاق ؛ فصاحت! فقال لها : إن كلّمتنى فى خصم أو ذكرتنى به. قال : فإن كانت لّترى دواته قد احتاجت (٤) إلى الماء فلا تأمر بها أن تمدّ ؛ خوفا من أن يدخل عليه فى يمينه شىء (٥). فولى توبة بن نمر ما شاء الله ثم استعفى ، فقيل له فأشر علينا برجل نولّيه ، فقال : كاتبى خير بن نعيم.

فولى خير بن نعيم الحضرمى ، فلم يزل قاضيا حتى صرف فى سنة ثمان وعشرين ومائة (٦).

__________________

(١) راجع الكندى ٣٣٢ وما بعدها.

(٢) الكندى ٣٣٧.

(٣) الكندى ص ٣٤٠.

(٤) دواته قد احتاجت : ب «دواته تحتاج».

(٥) الكندى ص ٣٤٣.

(٦) الكندى ٣٤٨ وما بعدها.

٢٦٨

وولى عبد الرحمن بن سلام بن أبى سالم الجيشانى (١) ، فلم يزل على القضاء إلى دخول المسوّدة ، فصرف عن القضاء واستعمل على الخراج. وردّ خير بن نعيم فلم يزل قاضيا حتى صرف فى سنة خمس وثلاثين ومائة.

وكان سبب صرفه كما حدثنا يحيى بن بكير ، أن رجلا من الجند قذف رجلا فخاصمه إليه وثبّت عليه شاهدا واحدا ، فأمر بحبس الجندى إلى أن يثبّت الرجل شاهدا آخر ، فأرسل أبو عون عبد الملك بن يزيد فأخرج الجندىّ من الحبس ، فاعتزل خير وجلس فى بيته وترك الحكم ، فأرسل اليه أبو عون فقال : لا ، حتى يردّ الجندىّ إلى مكانه ، فلم يردّ وتمّ على عزمه ، فقالوا له : فأشر علينا برجل نولّيه ، فقال : كاتبى غوث بن سليمان.

فولى غوث بن سليمان الحضرمى (٢) ، فلم يزل قاضيا حتى خرج مع صالح ابن على إلى الصائفة سنة أربع وأربعين ومائة.

ثم ولى أبو خزيمة إبراهيم بن يزيد الثاتىّ ـ بطن من حمير ـ (٣) وكان سبب ولايته أن أبا عون شاور فى رجل يوليه القضاء. ويقال بل هو صالح بن على. فأشير عليه بثلاثة نفر : حيوة بن شريح ، وأبو خزيمة إبراهيم بن يزيد الحميرى ، وعبد الله بن عيّاش القتبانى. وكان أبو خزيمة يومئذ بالإسكندرية فأشخص. ثم أتى بهم إليه فكان أوّل من نوظر حيوة بن شريح ، فامتنع ، فدعى له بالسيف والنطع (٤) ، فلما رأى ذلك حيوة أخرج مفتاحا (٥) كان معه فقال : هذا مفتاح بيتى ، ولقد اشتقت إلى لقاء ربّى (٦) ، فلمّا رأوا عزمه تركوه ؛ فقال لهم حيوة : لا تظهروا ما كان من إبائى لأصحابى ؛ فيفعلوا مثل ما فعلت فنجا حيوة.

قال وسمعت أبى عبد الله بن عبد الحكم ، يقول قال عبد الله بن المبارك : ما ذكر لى أحد بفضل فرأيته (٧) إلّا رأيته دون ما ذكر لى عنه ، إلّا حيوة بن شريح ، وابن عون.

__________________

(١) الكندى ٣٥٣.

(٢) كندى ص ٣٥٦.

(٣) راجع السمعانى ٣ / ١٢٤.

(٤) د : «والقطع».

(٥) د : «أخرج من كمه مفتاحا».

(٦) إلى لقاء ربى : ب «إلى أقاربى».

(٧) ج : «قرابته».

٢٦٩

قال ثم دعى بأبى خزيمة فعرض عليه القضاء فامتنع ؛ فدعى له بالسيف والنطع ، فضعف قلب الشيخ ولم يحتمل ذلك ، فأجاب إلى القبول فاستقضى.

وأجرى عليه فى كلّ شهر عشرة دنانير ، وكان لا يأخذ ليوم الجمعة رزقا ، ويقول : إنما أنا أجير المسلمين (١) ؛ فإذا لم أعمل لهم لم آخذ متاعهم. فكان يقال لحيوة بن شريح : ولى أبو خزيمة القضاء ، فيقول حيوة : أبو خزيمة خير منى ، اختبر (٢) فصحّ.

قال : وكان أبو خزيمة يعمل الأرسان ويبيعها قبل أن يلى القضاء ، فمرّ به رجل من أهل الإسكندريّة وهو فى مجلس الحكم ، فقال : لأختبرنّ أبا خزيمة ، فوقف عليه ، فقال له : يا أبا خزيمة ، احتجت إلى رسن لفرسى ، فقام أبو خزيمة إلى منزله فأخرج رسنا فباعه منه ثم جلس.

قال وسمعت أبى عبد الله بن عبد الحكم ، يقول : كان أبو خرشة المرادى صديقا لأبى خزيمة ، فمرّ به ذات يوم فسلّم عليه فلم ير منه ما كان يعرف ، وكان أبو خرشة قد خوصم إليه فى جدار ؛ فاشتدّ ذلك على أبى خرشة ؛ فشكا ذلك إلى بعض قرابته ، فقال له : إنّ اليوم يوم الخميس ـ أو قال يوم الاثنين ـ وهو صائم ، فإذا صلّى المغرب ودخل (٣) فاستأذن عليه ، ففعل أبو خرشة ، قال : فدخلت عليه وبين يديه ثريد عدس فسلّم عليه فردّ عليه كما (٤) كان يعرف ، وقال له : ما جاء بك؟ فأخبره أبو خرشة ، فقال : ما كان ذلك إلّا أنّ خصمك خفت (٥) أن يرى سلامى عليك فيكسره ذلك عن بعض حجّته ، فقال أبو خرشة : فإنى أشهدك أن الجدار له.

قال : وحدثنى بعض مشايخ البلد ، أن يزيد بن حاتم وهو يومئذ والى البلد ، جاء إلى أبى خزيمة فى منزله ، فخرج اليه أبو خزيمة إلى باب داره ، وألقيت ليزيد بن حاتم صفّة سرجه فجلس عليها حتى قضى حاجته ثم انصرف ؛ فكلّم أبو خزيمة فى ذلك فقال : لم يكن فى منزلى شىء يجلس عليه فخرجت إليه.

__________________

(١) ب ، ج : «للمسلمين».

(٢) ج : «اختير».

(٣) د : «ودخل منزله».

(٤) د ، ك : «مثل ما».

(٥) إلا أن خصمك خفت : د «إلا أن خصمك كان حاضرا فخفت».

٢٧٠

حدثنا أحمد بن عمرو بن سرح أبو الطاهر ، قال : رفع بعض بنى مسكين إلى أبى خزيمة فى شىء من أمر حبسهم ، وقد كان بعض القضاة نظر فيه فكأنّ أبا خزيمة لم ير إنفاذ ذلك ، فكتب إليه : إذا نحن لم ننتفع بقول القضاة قبلك عندك كذلك لا ننتفع (١) بقولك عند القضاة بعدك ، فأنفذ ذلك.

قال : وخرج يوما من المجلس فلم يواف دابّته ، فعرض عليه رجل من أهل البلد ـ أحسبه ابن أبى الجويرية ـ أن يركب دابّته فأبى ، وعرض عليه رجل آخر دابّته فركبها ، فكلّمه الرجل فى ذلك ؛ فقال : ما منعنى من ركوبها إلا أنى رأيت فى اللجام صدغين من فضّة.

قال : وولى عبد الله بن عيّاش القصص. وقد كان (٢) عقبة بن مسلم على القصص فنحّى عنه ؛ فقال عقبة بن مسلم ، كما حدثنا يحيى بن بكير : ما لى أعزل؟ والله ما أنا بصاحب خراج ولا حرب ؛ إنما أنا قاص (٣) أصلّى بالناس ، فإن كنت أطوّل فأحبّوا أن أقصّر قصّرت ، وإن كنت أقصرّ فأحبّوا أن أطوّل طوّلت.

قال : ثم استعفى أبو خزيمة فأعفى ، وجعل مكانه عبد الله بن بلال الحضرمى.

ويقال : إنما هو غوث الذي كان استخلفه حين شخص غوث إلى أمير المؤمنين أبى جعفر ، وذلك فى سنة أربع وأربعين ومائة ، وكان يجلس للناس فى المسجد الأبيض ، ثم قدم غوث فأقّره خليفة له يحكم بين الناس حتى مات عبد الله بن بلال ، فلما مات ركب غوث إلى منزله ؛ فضمّ الديوان والودائع التى كانت قبله وغير ذلك ، فزعموا أن ابنة عبد الله بن بلال صاحت يومئذ : وا ذلّاه.

حدثنا يحيى بن بكير ، قال : لم يزل أبو خزيمة على القضاء حتى قدم غوث من الصائفة ؛ فعزل أبو خزيمة وردّ غوث على القضاء.

ويقال : إن غوث بن سليمان حين شخص إلى العراق جعل على القضاء أبو خزيمة إبراهيم بن يزيد ، فلم يزل على القضاء حتى توفّى سنة أربع وخمسين ومائة.

وكان ابن حديج يومئذ بالعراق قال : فدخلت على أمير المؤمنين أبى جعفر ، فقال

__________________

(١) ب : «ينتفع».

(٢) وقد كان : أ«وكان».

(٣) ب ، ج : «قاضى».

٢٧١

لى : يا ابن حديج ، لقد توفّى ببلدك رجل أصيبت (١) به العامّة ، قال قلت : يا أمير المؤمنين ذاك إذا أبو خزيمة ، فقال : نعم ، فمن ترى أن نولّى القضاء بعده؟ قلت : أبو معدان اليحصبى يا أمير المؤمنين ، قال : ذاك رجل أصمّ ولا يصلح للقاضى أن يكون أصمّ ، قال قلت : فابن لهيعة يا أمير المؤمنين. قال : ابن لهيعة على ضعف فيه. فأمر بتوليته (٢) وأجرى عليه فى كل شهر ثلاثين دينارا ، وهو أول قضاة مصر أجرى عليه ذلك ، وأول (٣) قاض بها استقضاه خليفة ، وإنما كان ولاة البلد هم الذين يولّون القضاة ، فلم يزل قاضيا حتى صرف فى سنة أربع وستّين ومائة (٤).

وولى إسماعيل بن اليسع الكوفىّ وعزل فى سنة سبع وستّين ومائة. وكان محمودا عند أهل البلد ، إلّا أنه كان يذهب إلى قول أبى حنيفة ، ولم يكن أهل البلد يومئذ يعرفونه (٥).

حدثنا أبى عبد الله ، قال : كتب فيه الليث بن سعد إلى أمير المؤمنين ، يا أمير المؤمنين ، إنك ولّيتنا رجلا يكيد سنّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين أظهرنا ، مع أنّا ما علمنا [عليه](٦) فى الدينار والدرهم إلّا خيرا. ، فكتب بعزله.

وردّ غوث بن سليمان على القضاء ، فلم يزل حتى توفّى فى جمادى الآخرة سنة ثمان وستّين ومائة.

حدثنا حمّاد بن مسور أبو رجاء ، قال : قدمت امرأة من الريف وغوث قاض فى محفّة ، فوافت غوث بن سليمان عند السرّاجين رائحا إلى المسجد ، فشكت إليه أمرها وأخبرته بحاجتها ؛ فنزل عن دابّته فى حوانيت السرّاجين ولم يبلغ المسجد ، وكتب لها بحاجتها وركب إلى المسجد ، فانصرفت المرأة وهى تقول : أصابت والله أمّك حين سمّتك غوثا ، أنت غوث عند اسمك.

__________________

(١) ب : «أصيب».

(٢) فأمر بتوليته : د «فولاه القضاء».

(٣) د : «وكان أول».

(٤) الكندى ص ٣٦٨ وما بعدها.

(٥) الكندى ص ٣٧٤.

(٦) ما بين المعقوفتين مكمل من ابن حجر فى رفع الإصر وهو ينقل عن ابن عبد الحكم.

٢٧٢

قال : فلما مات غوث ولى على القضاء المفضّل بن فضالة بن عبيد القتبانى (١) ، ثم عزل فى سنة تسع وستّين ومائة ، وهو أوّل القضاة بمصر طوّل الكتب ، وكان أحد فضلاء الناس وخيارهم.

قال : أخبرنى بعض مشايخ البلد أن رجلا لقيه بعد أن عزل فقال : حسيبك الله ، قضيت (٢) علىّ بالباطل وفعلت وفعلت ؛ فقال له المفضّل : لكن الذي قضينا له يطيّب الثناء.

قال : ثم ولى أبو الطاهر الأعرج عبد الملك بن محمد بن أبى بكر بن حزم الأنصارىّ ، وكان محمودا فى ولايته.

وأخبرنا أبى عبد الله بن عبد الحكم ، قال : كتب إليه صاحب البربد يومئذ : إنك تبطّئ بالجلوس للناس (٣) ؛ فكتب إليه أبو الطاهر : إن كان أمير المؤمنين أمرك بشىء وإلّا فإنّ فى أكفك وبراذعك ودبر دوابّك ما يشغلك عن أمر العامّة (٤).

ثم استعفى فأعفى فى سنة أربع وسبعين ومائة. قالوا : فأشر علينا برجل ، فأشار عليهم بالمفضّل بن فضالة ، فولى المفضّل بن فضالة ، ثم شخص أبو الطاهر إلى العراق فقال : أنا ظننت أنى أعفى عن العمل ، ولو لا ذلك ما استعفيت عن مصر كانت زاوية صالحة. فلم يزل المفضّل على القضاء إلى صفر سنة سبع وسبعين ومائة.

وولى محمد بن مسروق الكندىّ من أهل الكوفة (٥). ولم يكن بالمحمود فى ولايته ، وكان فيه عتوّ وتجبّر. فلم يزل على القضاء إلى سنة أربع وثمانين ومائة ، فخرج إلى العراق.

واستخلف إسحاق بن الفرات (٦) التجيبى فحميرى ، فلم يزل على القضاء إلى صفر سنة خمس وثمانين ومائة فعزل.

__________________

(١) الكندى ص ٣٧٧ وما بعدها.

(٢) د : «حكمت».

(٣) ك : «على الناس».

(٤) الكندى ص ٣٨٤.

(٥) الكندى ص ٣٨٨.

(٦) الكندى ص ٣٩٣.

٢٧٣

وولى عبد الرحمن (١) بن عبد الله بن المجبّر بن عبد الرحمن بن عمر بن الخطّاب على القضاء ، حتى عزل فى جمادى الأولى سنة أربع وتسعين ومائة. وقد كان قوم تظلّموا منه ورفعوا فيه إلى أمير المؤمنين هارون فقال : انظروا فى الديوان ، كم لى من وال من آل عمر بن الخطاب ، فنظروا فلم يجدوا غيره ، فقال : والله لا أعز له ابدا.

ثم ولى بعده هاشم بن أبى بكر البكرى (٢) من ولد أبى بكر الصدّيق ، فآذى أصحاب العمرى وبلغ مكروههم ، وكان يذهب مذهب أصحاب أبى حنيفة ، فلم يزل على القضاء حتى توفى فى المحرّم فى أوّل يوم منه سنة ستّ وتسعين ومائة.

ثم ولى إبراهيم بن البكّاء (٣) ولّاه جابر بن الأشعث ، وجابر يومئذ والى البلد ، فلم يزل على ذلك حتى وثب بجابر بن الأشعث فنحّى ، وولى مكانه عبّاد بن محمد فعزل ابن البكّاء.

وولّى لهيعة بن عيسى الحضرمى (٤). فلم يزل قاضيا حتى قدم المطّلب بن عبد الله ابن مالك فى أوّل سنة ثمان وتسعين فعزل لهيعة.

وولى الفضل بن غانم (٥) ، وكان المطّلب قدم به معه من العراق فأقام سنة أو نحوها ، ثم غضب عليه المطّلب فعزله.

وولّى لهيعة بن عيسى (٦) ، فلم يزل قاضيا حتى توفّى فى ذى القعدة أوّل يوم منه سنة أربع ومائتين.

فولّى السّرىّ بن الحكم بعد مشاورة أهل البلد إبراهيم بن إسحاق (٧) القارىّ حليف بنى زهرة ، وجمع له القضاء والقصص. وكان رجل صدق. ثم استعفى لشىء أنكره فأعفى.

__________________

(١) الكندى ص ٣٩٤ وما بعدها.

(٢) الكندى ص ٤١١ وما بعدها.

(٣) الكندى ص ٤١٧.

(٤) الكندى ص ٤١٧.

(٥) الكندى ص ٤٢٠.

(٦) الكندى ص ٤٢١.

(٧) الكندى ٤٢٧.

٢٧٤

وولى مكانه إبراهيم بن الجرّاح (١) ، وكان يذهب إلى قول أصحاب أبى حنيفة ولم يكن بالمذموم أوّل ولايته حتى قدم عليه ابنه من العراق ؛ فتغيّرت حاله وفسدت أحكامه. فلم يزل قاضيا إلى سنة إحدى عشرة ومائتين ، فدخل عبد الله بن طاهر البلد فعزله.

وولّى عيسى بن المنكدر بن محمد بن المنكدر (٢) ، وخرج إبراهيم بن الجرّاح إلى العراق ومات هنالك. وأجرى عبد الله بن طاهر على عيسى بن المنكدر أربعة آلاف درهم فى الشهر ، وهو أول قاض أجرى عليه ذلك وأجازه بألف دينار. فلما قدم المعتصم مصر فى سنة أربع عشرة ومائتين كلّمه فيه ابن ابى دواد ؛ فأمره فوقف عن الحكم ، ثم أشخص بعد ذلك إلى العراق فمات هناك.

وبقيت مصر بلا قاض حتى ولّى المأمون هارون بن عبد الله الزهرىّ القضاء (٣) ؛ فقدم البلد لعشر ليال بقين من شهر رمضان سنة سبع عشرة ومائتين. وكان محمودا عفيفا محبّبا فى أهل البلد ، فلم يزل قاضيا إلى شهر ربيع الأول من سنة ستّ وعشرين ومائتين فكتب إليه أن يمسك عن الحكم وقد كان (٤) ثقل مكانه على ابن أبى دواد.

وقدم أبو الوزير واليا على خراج مصر ، وقدم معه بكتاب ولاية ابن أبى الليث على القضاء. فلم يزل قاضيا إلى يوم الخميس لثلاث عشرة ليلة خلت من شعبان سنة خمس وثلاثين ومائتين فعزل وحبس.

وبقيت مصر بلا قاض حتى ولى الحارث بن مسكين (٥) فى جمادى الأولى سنة سبع وثلاثين ومائتين ، جاءته ولاية القضاء وهو بالإسكندرية. فلم يزل قاضيا حتى صرف يوم الجمعة لسبع ليال بقين من شهر ربيع الآخر سنة خمس وأربعين ومائتين.

وولى دحيم بن اليتيم عبد الرحمن بن إبراهيم بن اليتيم الدمشقى ، جاءته ولايته بالرملة فتوفّى قبل أن يصل إلى مصر (٦) ، وكانت وفاته سنة خمس وأربعين ومائتين.

__________________

(١) الكندى ٤٢٧.

(٢) الكندى ٤٣٣.

(٣) الكندى ٤٤٣.

(٤) ب ، ج : «وكان قد».

(٥) الكندى ص ٤٦٧.

(٦) قبل أن يصل إلى مصر : ج «قبل دخوله إلى مصر».

٢٧٥

وولى بعده بكّار بن قتيبة أبو بكرة الثقفى (١) ، من أهل البصرة ، وهو من ولد أبى بكرة صاحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.* ودخل البلد يوم الجمعة لثمان ليال خلون من جمادى الآخرة سنة ستّ وأربعين ومائتين.

قال أبو القاسم ابن قديد : وأقامت مصر بعد بكّار بلا قاض حتى ولّى خمارويه بنّ أحمد محمد بن عبدة القضاء سنة سبع وسبعين ومائتين ، فلم يزل قاضيا إلى سنة ثلاث وثمانين ومائتين فى جمادى الآخرة. وبقيت مصر بلا قاض حتى ولى أبو زرعة محمد ابن عثمان الدمشقى (٢).

ذكر الأحاديث

قال : هذه تسمية من روى عنه أهل مصر من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ممّن دخلها فعرف أهل مصر بالرواية عنهم. ومن شركهم فى الرواية عنهم من أهل البلدان ، وما تفرّدوا به دون غيرهم. ومن عرف دخوله مصر منهم برواية غيرهم عنه. وتركت قوما يذكر بعض الناس أن لهم صحبة ، وأنهم قد دخلوا مصر لم أر أحدا من أهل العلم من مشايخهم يثبت ذلك لهم. وتركت كثيرا من حديث بعض من ذكرت منهم كراهية للإكثار ، واقتصرت على بعضه.

عمرو بن العاص بن وائل السهمىّ

وهو أوّل أمير أمّر على أهل مصر فى الإسلام. ولهم عنه أكثر من عشرين حديثا ، منها أن عمرو بن العاص ، قال : أقرأنى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى القرآن خمس عشرة سجدة ، منها فى المفصّل ثلاث ، وفى سورة الحجّ سجدتان ، حدثناه سعيد بن أبى مريم ، عن نافع ابن يزيد ، عن الحارث بن سعيد العتقى ، عن عبد الله بن منين ـ من بنى عبد كلال ـ عن عمرو بن العاص.

__________________

(١) الكندى ص ٤٧٧.

(٢) فى حاشية ج «ثم ولى أبو زعة قضاء الشام وحكم بمذهب الشافعى بعد ما كانوا يحكمون بمذهب الأوزاعى وتوفى سنة اثنتين وثلاثمائة». وجاء فى متن أ«ثم ولى بعده أبو عبيد على بن الحسين بن حرب وأقام عشرين سنة ثم عزل فى سنة عشر وثلاثمائة. ثم ولى بعده الكريزى فأقام ثم عزل. ثم ولى بعده ابن قتيبة ثم عزل. ثم ولى بعده الكشى وأقام شهورا ثم عزل. ثم ولى بعده على بن إسحاق الجوهرى ثم عزل. ثم ولى بعده ابنه أبو محمد. ثم ولى بعده ابن زبر ثم عزل. ثم ولى بعده ابن حماد ثم عزل. آخر الجزء السادس من كتاب فتوح مصر».

٢٧٦

ومنها أن عمرو بن العاص ، قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يقول : «ما من قوم يظهر فيهم الربا إلّا أخذوا بالفناء ، وما من قوم يظهر فيهم الزنا إلا أخذوا بالسنة ، وما من قوم يظهر فيهم الرشا إلا أخذوا بالرعب ، (١). حدثناه عبد الملك بن مسلمة عن ابن لهيعة عن عبد الله بن سليمان أن محمد بن راشد المرادى حدثه أن (٢) عمرو بن العاص طلع يوما المنبر فلم يسلّم ، فقال رجل إنّ أبا عبد الله لمغضب ، فقال : أما والله إنّكم لتعلمون (٣) أنى من أقلّ أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رواية عنه ، وأنه لم يمنعنى من (٤) الحديث عنه إلّا أنى كنت رجلا غزّاء ، وإنى سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يقول : ما من قوم يظهر فيهم .. ثم ذكر الحديث.

ومنها حديث ابن لهيعة ، عن يزيد بن أبى حبيب ، عن عمران بن أبى أنس ، عن عبد الرحمن بن جبير ، عن عمرو بن العاص ، قال : بعثنى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى سريّة وأمرنى عليها وفيهم (٥) عمر بن الخطّاب ، فأصابتنى جنابة فى ليلة باردة شديدة البرد ؛ فتيمّمت وصلّيت بهم ، فلما قدمنا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم شكانى عمر إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى كان من كلامه أن (٦) قال : صلّى بنا (٧) وهو جنب ، فبعث إلىّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسألنى ، فقلت : يا رسول الله ، أجنبت فى ليلة باردة لم يمرّ علّى مثلها قطّ ، فخيّرت (٨) نفسى بين أن أغتسل فأموت ، أو أصلّى بهم وأنا جنب ، فتيممّت وصلّيت بهم ؛ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لو كنت مكانك فعلت مثل الذي فعلت.

هكذا حدثناه أبى عبد الله بن عبد الحكم ، عن ابن لهيعة. وحدثناه محمد بن عبد الجبّار المخزومىّ ، حدثنا زيد بن الحباب ، عن ابن لهيعة ، عن يزيد بن أبى حبيب ، عن عمران بن أبى أنس ، عن عبد الرحمن بن جبير ، عن أبى فراس يزيد بن رباح ـ مولى عمرو ـ عن عمرو.

__________________

(١) مسند أحمد فى كنز العمال ٤ / ١٠٨.

(٢) ب ، ج : «عن».

(٣) أ ، ج : «تعلمون».

(٤) ب ، ج : «عن».

(٥) د : «فيها».

(٦) ب : «أنه».

(٧) أ ، ج ، د : «لنا».

(٨) ج : «فتحيرت».

٢٧٧

ومنها حديث موسى بن علىّ ، عن أبيه ، عن أبى قيس ـ مولى عمرو ـ عن عمرو ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قال : «فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السّحر» (١).

حدثناه عبد الله بن صالح ، حدثنا موسى بن علىّ ، عن أبيه. وحدثناه أبى عبد الله ابن عبد الحكم قال : حدثنا الليث بن سعد عن موسى بن على.

ومنها حديث موسى بن علىّ ، عن أبيه ، عن عمرو بن العاص ، أنه قال : بعث إلىّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : خذ عليك ثيابك وسلاحك ؛ فأخذت علىّ ثيابى وسلاحى ، ثم أقبلت إلى رسول الله فوجدته يتوضّأ ، فصوّب فىّ النظر (٢) ثم طأطأه ، ثم قال : «يا عمرو ، إنى أريد أن أبعثك على جيش يغنمك الله ويسلّمك ، وأرغب لك رغبة من المال صالحة ، فقلت : والله يا رسول الله ما أسلمت للمال ، ولكن أسلمت رغبة فى الإسلام وأن أكون معك ، فقال : يا عمرو ، نعم المال الصالح للرجل الصالح» (٣) حدثناه عبد الله بن صالح.

ومنها حديث موسى بن علىّ ، عن أبيه ، قال : سمعت عمرو بن العاص يقول : ما أبعد هديكم من هدى نبيّكم ، أمّا هو فكان أزهد الناس فى الدنيا ، وأنتم أرغب الناس فيها. حدثناه عبد الله بن صالح ، عن موسى بن علىّ.

حدثنا عبد الله بن صالح ، حدثنا الليث بن سعد ، عن يزيد بن أبى حبيب ، أن علىّ ابن رباح أخبره أنه سمع عمرو بن العاص على المنبر ، يقول : والله ما رأى قوما أرغب فيما كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يزهد فيه منكم ، أصبحتم ترغبون فى الدنيا ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يزهد فيها ، وما مرّ برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثلاث من الدهر إلا والذي عليه أكثر من الذي له.

فقال رجال من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : قد رأينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتسلّف.

حدثناه أبو الأسود النضر بن عبد الجبّار ، عن ابن لهيعة ، عن يزيد بن أبى حبيب ، عن علىّ بن رباح أنه سمع عمرو بن العاص.

ومنها حديث ابن لهيعة ، عن الحارث بن يزيد ، أن مولى لعمرو بن العاص حدثه ، أن عمرو بن العاص قال : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : لعمل شعيرة اليوم خير من مثقال قيراط بعد اليوم. حدثناه أبو الأسود النضر بن عبد الجبّار.

__________________

(١) مسند أحمد ومسلم فى كنز ٨ / ٥٢٤.

(٢) ج : «البصر».

(٣) أخرجه صاحب الكنز برقم ١٩١١٢ ، ٣٣٥٧٧ عن أبى داود ، وأحمد والحاكم والبيهقى.

٢٧٨

ومنها حديث الليث بن سعد ، عن يزيد بن أبى حبيب ، أن ابن شماسة أخبره أن عمرا حين حضرته الوفاة دمعت عيناه ، فقال له عبد الله : يا أبا عبد الله ، أجزع من الموت يحملك على هذا؟ قال : لا. ولكن ما بعد الموت ، فذكر له عبد الله مواطنه مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والفتوح التى كانت (١) بالشام ، فلما فرغ عبد الله من ذلك قال : لقد (٢) كنت على أطباق ثلاثة ، لو متّ على بعضها علمت ما يقول الناس ، بعث الله محمدا فكنت أكره الناس لما جاء به ، أتمنّى لو أنّى قتلته ، حتى بلغ كراهيتى لدين الله أنى ركبت البحر إلى صاحب الحبشة أطلب دم أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلو متّ على ذلك قال الناس : مات عمرو مشركا ، عدوّا لله ولرسوله ، من أهل النار. ثم قذف الله الإسلام فى قلبى فأتيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فبسط إلىّ يده ليبايعنى فقبضت يدى ، ثم قلت : أبايعك على أن يغفر الله لى ما تقدّم من ذنبى ، وأنا أظنّ حينئذ أنى لا آتى ذنبا فى الإسلام ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يا عمرو : «إن الإسلام يجبّ ما قبله ، وإن الهجرة تجبّ ما بينها وبين الإسلام» (٣) فلو متّ على هذا الطبق قال الناس : أسلم عمرو وهاجر مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، نرجو لعمرو عند الله خيرا كثيرا. ثم كانت إمارات وفتن وأنا مشفق من هذا الطبق.

فإذا أخرجتمونى فأسرعوا بى ، ولا تتبعنّى نائحة ولا نار ، وشدّوا علىّ إزارى ؛ فإنى مخاصم ، وسنّو (٤) علىّ التراب سنّا ، فإنّ يمينى ليست بأحق (٥) بالتراب من يسارى ، ولا تدخلن (٦) القبر خشبة ولا طوبة ، ثم إذا قبرتمونى فامكثوا عندى قدر نحر جزور وتفصيلها أستأنس بكم. حدثناه أبو صالح عبد الله بن صالح وأسد بن موسى ، عن الليث ابن سعد ، حدثنا يزيد بن أبى حبيب ، أن ابن شماسة أخبره أن عمرو بن العاص لما حضرته الوفاة ، ثم ذكر الحديث.

قال : وحدثنا عمرو بن سوّاد ، حدثنا ابن وهب ، أخبرنا ابن لهيعة ، عن يزيد بن أبى حبيب ، عن ابن شماسة ، عن عبد الله بن عمرو ، عن عمرو. وزاد فيها فقال له عمرو تركت أفضل من ذلك ، شهادة أن لا إله إلا الله.

__________________

(١) ك : «كانت له بالشام».

(٢) ب : «له».

(٣) أخرجه صاحب الكنز برقم ٢٩٧

(٤) ب : «ثم سنوا». ج : «وشنوا».

(٥) ج : «أحق».

(٦) ج : «يدخلنّ».

٢٧٩

حدثنا أسد بن موسى ، حدثنا ابن لهيعة ، حدثنى يزيد بن أبى حبيب ، أخبرنى سويد بن قيس ، عن قيس بن سمىّ ، أن عمرا قال قلت : يا رسول الله ، أبايعك على أن يغفر (١) لى ما تقدّم من ذنبى ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن الإسلام يجبّ ما كان قبله ، وإن الهجرة تجبّ ما كان قبلها. قال (٢) عمرو فو الله إن كنت لأشدّ الناس حياء (٣) من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فما ملأت عينى (٤) منه ولا راجعته بما أريد حتى لحق بالله ، حياء منه ، ثم ذكر الحديث.

(*) ومنها حديث محمد بن إسحاق ، عن يزيد بن أبى حبيب ، عن راشد مولى حبيب بن أوس الثقفى ، أن حبيبا حدّثه ، وأن عمرو بن العاص حدثه ، قال : لمّا انصرفنا من الخندق جمعت نفرا من قريش بينى وبينهم خاصّة ، فقلت لهم : تعلّموا والله أنى أرى أمر محمد يعلو ما خالفه من الأمور علوّا منكرا ، فهل لكم فى رأى قد رأيته؟ قالوا : وما هو؟ قال قلت : نلحق بالنجاشىّ فنكون عنده حتى ينقضى ما بيننا وبين محمد. فإن ظفرت قريش رجعنا إليهم ، وإن ظفر محمد أقمنا عنده ، فلأن أكون تحت يدى النجاشىّ أحبّ إلىّ من أن أكون تحت يدى محمد. قالوا : أصبت.

قال قلت : اجمعوا له أدما فإنه أحبّ ما يهدى إليه من بلادنا ، قال : ففعلنا ، ثم خرجنا ، فبينا نحن قد دنونا منه إذ نظرت إلى عمرو بن أميّة قد بعثه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى النجاشىّ ، قال فقلت : هذا والله عمرو بن أميّة قد بعثه محمد ، ولو قد قدمت (٥) بهداياى إلى النجاشى ثم سألته إيّاه ؛ فأعطانيه ؛ فقتلته ، فرأت قريش أنى قد أجزأت (٦) حين يقتل رسول محمد.

قال فلما دخل عليه عمرو بن أميّة وفرغ من حاجته ، دخلت عليه فحيّيته بما كنّا

__________________

(١) ب : «تغفر».

(٢) أ : «فقال».

(٣) ب : «حبا».

(٤) ج : «عيناى».

(* ـ *) انظر ابن هشام ق ٢ ص ٢٧٦ ـ ٢٧٨.

(٥) ج : «تقدمت».

(٦) ب : «اجترأت».

٢٨٠