فتوح مصر والمغرب

ابن عبد الحكم

فتوح مصر والمغرب

المؤلف:

ابن عبد الحكم


المحقق: الدكتور علي محمّد عمر
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة الثقافة الدينية
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥١٧

وكان عبد العزيز يرسله بالبزّ (١) إلى ابن عمر.

حدثنا أبو الأسود ، حدثنا ابن لهيعة عن عبيد الله بن المغيرة ، عن عبد الأعلى بن أبى عمرة ، أن عبد العزيز بن مروان أرسل معه بألف دينار إلى ابن عمر فقبلها.

قال : وأقطع عبد الملك بن مروان عمر بن علىّ الفهرىّ ، ثم أحد بنى محارب داره ذات الحمّام التى اشتراها موسى بن عيسى إلى جنب أصحاب القرط. وذلك أن عبد الملك بن مروان لما قتل عمرو بن سعيد ، كان عمر بن على ممن أبلى معه ، وكان فى أصحابه ، فدخل عليه فى خاصّته وعمرو بن سعيد مقتول ، فاستشارهم فى قتله ، فكلّهم هاب قتله ، ولم يره ، فقال عمر بن علىّ : اقتله ، قتله الله. فلا يزال فى خلاف ما عاش.

قال عبد الملك : ها هو ذا قال ، فألق رأسه إلى الناس وأنهبهم بيت المال يفترقون عنك ، ففعل ، فافترق الناس ، وأرسله عبد الملك إلى منزل عمرو يفتشه فوجد فيه كتبا فيها أسماء من بايعه فأحرقها ، وبلغ ذلك عبد الملك فقال له : ما حملك على ما فعلت؟

قال : لو قرأتها لما صحّ لك قلب شأمىّ ولا استقامت طاعته إذا علم أنك قد علمت بخلافه فصوّب رأيه وحمده ، وأقطعه داره ذات الحمّام التى اشتراها موسى بن عيسى إلى جنب أصحاب القرط.

قال عبد الملك بن مسلمة : هى قطيعة من عبد العزيز للفهرى ولم يسمّه باسمه.

إلا أن ابن عفير سمّاه وقال : عبد الملك بن مسلمة أقطعها عبد العزيز الفهرى مولى ابن رمّانة حين قدم عليه ، وبناها له يزيد بن رمّانة ، وهى الدار التى تعرف اليوم بدار السلسلة.

وآل أبى عبد الرحمن يزيد بن أنيس الفهرى ينكرون ذلك ، وهم بذلك أعلم ، ويقولون : إنها خطّة لأبى عبد الرحمن الفهرى ، اختطّها عام فتح مصر ولم يكن بنى منها شيئا غير سورها ، ثم خرج إلى الشام فاستشهد بها ، ثم قدم ابناء العلاء وعلىّ وكان العلاء أسنّهما ، وقد كان رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقدما إلى مصر فجعلا ذلك البناء مثل المريد العظيم ، ولم يجعلا فيها إلا منزلا واحدا ، وأسكنا فيه مولى لهما يقال له يحنّس ، ثم خرج العلاء إلى المدينة فقتل عام الحرّة وخلّف الحارث بن العلاء ، وخرج علىّ إلى الشام فتوفّى بها ، وخلّف عمر بن على ، فصار بمنزلة عند عبد الملك.

__________________

(١) ك : «بالبرّ».

١٦١

فبعث إلى ابن رمّانة وأرسل اليه بمال ، وسأله أن يبنى له دار جدّه بأحكم ما يقدر عليه ، ويجعل له فيها حمّاما ويجعل له خوخة فى داره إذا اراد أن يدخله دخله. وقال : إنّ ذلك ذكر لك ولشيخك ، فحرّك ذلك ابن رمّانة فبناها وجعل سورها أكثر من ذراعين بذراع البناء ، وجعلها تدوّر بعمد رخام ، وجعل قاعدتها مستديرة ، ولم يجعل فوقها بناء.

ثم قدم عمر بن علىّ مصر ، وقد فرغ منها ابن رمّانة ، فقال له عمر : لقد اتّقنت غير أنك لم تجعل لها مسجدا.

فبنى المسجد الذي يعرف اليوم بمسجد القرون ، بناه مثل الدكّان الكبير ، ونحّاه عن الدار ، وجعل بينه وبين الدار فرجة وكان يجلس فيه. ثم بناه بعده أبو عون عبد الملك ابن يزيد ، ثم زاد فيه المطّلب بن عبد الله الخزاعى ، ثم احترق فبناه السّرىّ بن الحكم هذا البناء ، ثم مات عمر بن على فورث الحارث بن العلاء ـ وهو ابن أخيه ـ كل ما ترك ، وحبس الدار على الأقعد فالأقعد بالحارث بن العلاء من الرجال دون النساء أبدا ما تناسلوا ، وتقديم كلّ طبقة على من هو أسفل منها. (فإذا انقرض الرجال فهى على النساء كلّ من رجعت بنسبها إليه من الصلب) (١) فإذا انقرض النساء فهى وحمّامها وكومها المعروف بأبى قشاش يقسم ذلك أثلاثا ، فثلث فى سبيل الله ، وثلث فى الفقراء والمساكين ، وثلث على مواليه وموالى ولده وأولادهم أبدا ما تناسلوا بعد مرمّتها ، ورزق قيّم إن كان لها. فإذا انقرض الموالى فلم يبق منهم أحد فعلى الفقراء والمساكين بفسطاط مصر ومدينة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ما يرى من وليّها (٢) من عمارتها.

واسم أبى عبد الرحمن يزيد بن أنيس بن عبد الله بن عمرو بن حبيب بن عمرو ابن شيبان بن محارب بن فهر. وعمرو بن حبيب هو آكل السّقب ، وأمّه السّوداء ابنة زهرة بن كلاب ، وهو الذي يقول فيه الشاعر :

بنو آكل السّقب الذين كأنّهم

نجوم بآفاق السماء تنور

وكان عند دار السلسلة فلا أدرى أهى هذه الدار أم (٣) غيرها حوض من رخام ،

__________________

(١) ما بين العضادتين سقط من طبعة عامر.

(٢) ك : «على ما يرى من وليها».

(٣) أ ، ك : «أو».

١٦٢

وكان يملأ فى الأعياد طلاء وتجعل عليه الآنية ويشرب الناس ، فلم يزل الأمر على ذلك حتى ولى عمر بن العزيز فقطعه.

وبالفسطاط غير دار يقال لها دار السلسلة سوى دار الفهرىّ منها دار السهمىّ التى فى الحذّائين ، والدار التى كان فيها أصبغ الفقيه فى زقاق القناديل.

قال وبنى عبد العزيز بن مروان القيساريّات قيساريّات العسل ، وقيسارية الحبال ، وقيسارية الكباش وهى فى خطّة قوم من بلّى يقال لهم الوحاوحة ، والقيسارية التى يباع فيها البزّ ، (١) وهى التى تعرف بقيسارية عبد العزيز ، وأدخل فيها من خطط الراية ، وكان فيها منزل كعب بن عدىّ العبادى فعوّضه منها داره التى فى بنى وائل.

قال : وبنى هشام بن عبد الملك قيساريّته التى تعرف بقيسارية هشام يباع فيها البزّ الفسطاطىّ فى الفضاء بين القصر وبين البحر. وبقيت بعد ذلك من الفضاء بقيّة بين بنى وائل والبحر فأقطعها بنو العبّاس الناس.

قال : وأقطع عمرو بن العاص حين ولى وردان مولاه الأرض التى خلف القنطرة التى غربيّها أبو حميد إلى كنيسة الروم التى هناك. وما كان عن يمينك من رأس الجسر القديم إلى حمّام الكبش وهو الحمام الذي يعرف اليوم بحمام السّوق ، والآخر إلى ساحل مريس ، فكل ذلك كان للوليد بن عبد الملك ، وكان للوليد أيضا ما كان على يسارك من الجزيرة وأنت خارج إلى الجيزة والحوانيت اللاصقة بجزيرة الصناعة.

وكان عمر بن الخطاب رضى الله عنه قد أقطع ابن سندر منية الأصبغ ، فحاز لنفسه منها ألف فدّان كما حدثنا يحيى بن خالد ، عن الليث بن سعد. ولم يبلغنا أن عمر بن الخطاب أقطع أحدا من الناس شيئا من أرض مصر إلا ابن سندر ، فإنه أقطعه أرض منية الأصبغ ، فلم تزل له حتى مات ؛ فاشتراها الأصبغ بن عبد العزيز من ورثته ؛ فليس بمصر قطيعة أقدم منها ولا أفضل.

وكان سبب إقطاع عمر ما أقطعه من ذلك كما حدثنا عبد الملك بن مسلمة ، عن ابن لهيعة (٢) عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جدّه ، أنه كان لزنباع الجذامىّ غلام

__________________

(١) ك : «البرّ».

(* ـ *) أخرجه صاحب الكنز برقم ٣٧١٣٢ عن ابن منده فى المعرفة. وانظر ابن سعد : الطبقات ج ٧

١٦٣

يقال له سندر ، فوجده يقبّل جارية له ، فجبّه وجدع أذنيه وأنفه ، فأتى سندر إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأرسل إلى زنباع ، فقال : لا تحملوهم ما لا تطيقون (١) ، وأطعموهم مما تأكلون ، واكسوهم مما تلبسون ؛ فإن رضيتم فأمسكوا ، وإن كرهتموهم فبيعوا ، ولا تعذّبوا خلق الله ، ومن مثل به أو أحرق بالنار فهو حر وهو مولى الله ورسوله. فأعتق سندر ، فقال : أوص بى يا رسول الله ، قال : أوصى بك كلّ مسلم ، فلما توفّى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أتى سندر إلى أبى بكر الصدّيق رضى الله عنه ، فقال : احفظ فىّ وصيّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فعاله أبو بكر حتى توفّى ، ثم أتى عمر فقال له : احفظ فىّ وصيّة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : نعم ، إن رضيت أن تقيم عندى أجريت عليك ما كان يجرى عليك أبو بكر ، والّا فانظر أىّ المواضع أكتب لك ؛ فقال سندر : مصر فإنها أرض ريف ، فكتب له إلى عمرو بن العاص : احفظ فيه وصيّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ فلما قدم على عمرو ، قطع له أرضا واسعة ودارا ، فجعل سندر يعيش فيها ، فلما مات قبضت فى مال الله*).

قال عمرو بن شعيب : ثم أقطعها عبد العزيز بن مروان الأصبغ بعد ، فهى من خير أموالهم.

وروى ابن وهب ، عن ابن لهيعة ، عن يزيد بن أبى حبيب ، عن ربيعة بن لقيط التجيبى ، عن عبد الله بن سندر ، عن أبيه إنه كان عبدا لزنباع بن سلامة الجذامى ، فعتب عليه فخصاه وجدعه ، فأتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبره ، فأغلظ لزنباع القول وأعتقه منه ، فقال : أوص بى يا رسول الله ، قال : أوصى بك كل مسلم (٢). قال يزيد : وكان سندر كافرا.

حدثنا عبد الله بن صالح ، حدثنا الليث بن سعد ، عن يزيد بن أبى حبيب ، أن غلاما لزنباع الجذامى اتّهمه فأمر بإخصائه وجدع أنفه وأذنيه ، فأتى إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأعتقه ، وقال : أيّما مملوك مثل به فهو حرّ وهو مولى الله ورسوله ، فكان بالمدينة عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يرفق به ، فلما اشتدّ مرض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال له ابن سندر : يا رسول الله ، إنّا كما ترى ، فمن لنا بعدك؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أوصى بك كل مؤمن.

فلما ولى أبو بكر رضى الله عنه فأقّر عليه نفقته حتى مات ، فلما ولى عمر بن

__________________

ق ٢ ص ١٩٦ ـ ١٩٧.

(١) ك : «ما لا يطيقون».

(٢) ابن عساكر فى كنز برقم ٤٠٢٣٠.

١٦٤

الخطّاب أتاه ابن سندر فقال : احفظ فىّ وصيّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال له : انظر أىّ أجناد المسلمين شئت فالحق به آمر لك بما يصلحك. فقال ابن سندر : ألحق بمصر ، فكتب له إلى عمرو بن العاص يأمره أن يأمر له بأرض تسعه ، فلم يزل فيما يسعه بمصر.

ويقال سندر وابن سندر والله أعلم بالصواب.

ولأهل مصر عنه حديثان مرفوعان هذا أحدهما ، والآخر حدثنا يحيى بن بكير ، وعبد الملك بن مسلمة ، قالا : حدثنا ابن لهيعة ، عن يزيد بن أبى حبيب ، عن أبى الخير ، عن ابن سندر ، قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أسلم سالمها الله ، وغفار غفر الله لها ، وتجيب أجابت الله ورسوله» (١).

قال ابن بكير فى حديثه فقلت يا أبا الأسود ، أنت سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يذكر تجيب؟ قال : نعم. قلت وأحدّث الناس عنك بذلك؟ قال : نعم.

خروج عمرو إلى الريف

(*) حدثنا عبد الله بن صالح ، عن عبد الرحمن بن شريح ، عن أبى قبيل ، قال : كان الناس يجتمعون بالفسطاط إذا قفلوا ؛ فإذا حضر مرافق الريف خطب عمرو بن العاص الناس ، فقال : قد حضر مرافق ريفكم ؛ فانصرفوا ، فإذا حمض اللبن ، واشتدّ العود ، وكثر الذباب ، فحىّ على فسطاطكم ، ولا أعلمنّ ما جاء أحدكم (٢) قد أسمن نفسه وأهزل جواده.

حدثنا أحمد بن عمرو ، حدثنا ابن وهب ، عن ابن لهيعة ، عن يزيد بن أبى حبيب ، قال : كان عمرو يقول للناس إذا قفلوا من غزوهم : إنه قد حضر الربيع ، فمن أحبّ منكم أن يخرج بفرسه يربعه فليفعل ؛ ولا أعلمنّ ما جاء رجل قد أسمن نفسه وأهزل فرسه ؛ فإذا حمض اللبن وكثر الذباب ، ولوى العود ، فارجعوا إلى قيروانكم (*).

حدثنا عبد الملك بن مسلمة ، حدثنا الليث بن سعد ، أن عمرو بن العاص كان

__________________

(١) الطبرانى فى كنز برقم ٣٤٠٣٢ عن عبد الرحمن بن سندر.

(* ـ *) قارن بالسيوطى ج ١ ص ١٥٣.

(٢) ج ، ك : «أحد».

١٦٥

يقول للناس إذا قفلوا : اخرجوا إلى أريافكم (١) ، فإذا غنّى الذباب وحمض اللبن ، ولوى العود ، فحىّ على فسطاطكم.

خطبة عمرو بن العاص :

(*) حدثنا سعيد بن ميسرة ، عن إسحاق بن الفرات ، عن ابن لهيعة ، عن الأسود بن مالك الحميرى ، عن بحير بن ذاخر المعافرى ، قال : رحت أنا ووالدى إلى صلاة الجمعة تهجيرا ، وذلك آخر الشتاء أظنّه بعد حميم النّصارى بأيام يسيرة. فأطلنا الركوع إذ أقبل رجال بأيديهم السياط ، يزجّرون الناس ، فذعرت ، فقلت : يا أبت ، من هؤلاء؟ قال : يا بنىّ هؤلاء الشرط ، فأقام المؤذّنون الصلاة ، فقام عمرو بن العاص على المنبر ، فرأيت رجلا ربعة قصد القامة وافر الهامة ، أدعج أبلج ، عليه ثياب موشيّة ، كأنّ به العقيان (٢) ، تأتلق عليه حلّة وعمامة وجبّة ، فحمد الله وأثنى عليه حمدا موجزا وصلّى على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ووعظ الناس ، وأمرهم ونهاهم ، فسمعته يحضّ على الزكاة ، وصلّة الأرحام ، ويأمر بالاقتصاد ، وينهى عن الفضول ، وكثرة العيال. وقال فى ذلك : يا معشر الناس ، إيّاى وخلالا أربعا ، فإنها تدعو إلى النصب بعد الراحة ، وإلى الضيق بعد السعة ، وإلى المذلّة بعد العزّة ، إيّاى وكثرة العيال ، وإخفاض الحال ، وتضييع المال ، والقيل بعد القال ، فى غير درك ولا نوال ، ثم إنه لا بدّ من فراغ يؤول إليه المرء فى توديع جسمه ، والتدبير لشأنه ، وتخليته بين نفسه وبين شهواتها ، ومن صار إلى ذلك فليأخذ بالقصد والنصيب الأقلّ ، ولا يضيع المرء فى فراغه نصيب العلم من نفسه فيحور من الخير عاطلا ، وعن حلال الله وحرامه غافلا.

يا معشر الناس ، إنه قد تدلّت الجوزاء ، وذكت (٣) الشعرى ، وأقلعت السّماء ، وارتفع الوباء ، وقلّ الندى ، وطاب المرعى ووضعت الحوامل ، ودرّجت السخائل ، وعلى الراعى بحسن رعيّته حسن النظر ، فحىّ لكم على بركة الله إلى ريفكم ، فنالوا من خيره ولبنه ،

__________________

(١) ب : «ريفكم». ج : «ريافكم».

(* ـ *) قارن بالسيوطى ج ١ ص ١٥٣ ـ ١٥٤ وهو ينقل عن ابن عبد الحكم وانظر أيضا النجوم الزاهرة ، ج ١ ص ٧٢ ـ ٧٤. وهو ينقل كذلك عن ابن عبد الحكم.

(٢) ب : «العقبان».

(٣) ج : «وبكت».

١٦٦

وخرافه وصيده ، وأربعوا خيلكم وأسمنوها وصونوها وأكرموها ، فإنّها جنّتكم من عدوّكم ، وبها مغانمكم وأثقالكم (١) ، واستوصوا بمن جاورتموه من القبط خيرا ، وإيّاى والمشمومات والمعسولات ، فإنهنّ يفسدن الدّين ويقصّرن الهمم.

حدثنى عمر أمير المؤمنين ، أنه سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يقول : إن الله سيفتح عليكم بعدى مصر ، فاستوصوا بقبطها خيرا فإن لكم منهم (٢) صهرا وذمّة.

فعفّوا أيديكم وفروجكم ، وغضّوا أبصاركم ، ولا أعلمنّ ما أتى رجل قد أسمن جسمه ، وأهزل فرسه ، واعلموا أنى معترض الخيل كاعتراض الرجال ، فمن أهزل فرسه (٣) من غير علّة حططتّه من فريضته قدر ذلك ، واعلموا أنكم فى رباط إلى يوم القيامة ، لكثرة الأعداء حوالكم (٤) وتشوّق (٥) قلوبهم إليكم وإلى داركم ، معدن الزرع والمال والخير الواسع والبركة النامية.

وحدثنى عمر أمير المؤمنين ، أنه سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يقول : «إذا فتح الله عليكم مصر ، فاتخذوا فيها جندا كثيفا ، فذلك الجند خير أجناد الأرض» فقال له أبو بكر : ولم يا رسول الله؟ قال : «لأنهم وأزواجهم فى رباط إلى يوم القيامة». فاحمدوا الله معشر (٦) الناس على ما أولاكم (٧) ، فتمتّعوا فى ريفكم ما طاب لكم ؛ فإذا يبس العود ، وسخن العمود ، وكثر الذباب ، وحمض اللبن ، وصوّح (٨) البقل ، وانقطع الورد من الشجر ، فحىّ على فسطاطكم ، على بركة الله (٩) ، ولا يقدمنّ أحد منكم ذو عيال على عياله إلا ومعه تحفة لعياله على ما أطاق من سعيه أو عسرته ، أقول قولى هذا وأستحفظ الله عليكم.

قال : فحفظت ذلك عنه ، فقال والدى بعد انصرافنا إلى المنزل لمّا حكيت له

__________________

(١) ب : «وأنفالكم». د : «وأنعالكم».

(٢) أ : «فيهم».

(٣) أ : «نفسه».

(٤) د ، ك : «حولكم».

(٥) ب ، ك : «وتشوف».

(٦) ج ، د : «معاشر».

(٧) د ، ك : «ما والاكم».

(٨) ك : «وصوج».

(٩) ب : «بركة الله وعونه».

١٦٧

خطبته : إنه يا بنىّ يحدو الناس إذا انصرفوا إليه على الرباط كما حداهم على الريف والدّعة*).

ذكر مرتبع الجند

قال : وكان إذا جاء وقت الربيع واللبن ، كتب لكل قوم بربيعهم ولبنهم إلى حيث أحبّوا ، وكانت القرى التى يأخذ فيها عظمهم (١) ، منوف ، ودسبندس (٢) ، وأهناس ، وطلحا.

وكان أهل الراية متفرّقين ، فكان آل عمرو بن العاص وآل عبد الله بن سعد ، يأخذون فى منف ووسيم. وكانت هذيل تأخذ فى بنا وبوصير. وكانت عدوان تأخذ فى بوصير. وقرى عكّ التى يأخذ فيها عظمهم بوصير ومنوف ودسبندس وأتريب. وكانت بلىّ تأخذ فى منف وطرابية ، وكانت فهم تأخذ فى أتريب وعين شمس ومنوف. وكانت مهرة تأخذ فى تتا وتمىّ. وكانت الصدف تأخذ فى الفيّوم. وكانت تجيب تأخذ فى تمىّ وبسطة ووسيم. وكانت لخم تأخذ فى الفيّوم وطرابية وقربيط. وكانت جذام تأخذ فى طرابية وقربيط. وكانت حضر موت تأخذ فى ببا وعين شمس وأتريب. وكانت مراد تأخذ فى منف والفيّوم ومعهم عبس بن زوف. وكانت حمير تأخذ فى بوصير وقرى أهناس. وكانت خولان تأخذ فى قرى أهناس والبهنسى والقيس. وآل وعلة يأخذون فى سفط من بوصير. وآل أبرهة يأخذون فى منف. وغفار وأسلم يأخذون مع وائل من جذام وسعد فى بسطة وقربيط وطرابية. وآل يسار بن ضنّة فى أتريب. وكانت المعافر تأخذ فى أتريب وسخا ومنوف. وكانت طائفة من تجيب ومراد يأخذون باليدقون.

وكان بعض هذه القبائل ربّما جاوز بعضا فى الربيع ولا يوقع من معرفة ذلك على أحد إلّا أن عظم (٣) القبائل. كانوا يأخذون حيث وصفنا (٤) ، وكان يكتب لهم بالربيع فيربعون وباللّبن ما أقاموا.

__________________

(١) ك : «التى فيها عظيمهم».

(٢) وكذا ذكرها ياقوت ، وقال : من قرى مصر القديمة ، لها ذكر فى الفتوح. وفى ك : «سندبيس».

(٣) ج : «أعظم».

(٤) ك : «وضعنا».

١٦٨

وكان لغفار وليث أيضا مرتبع بأتريب.

قال : وأقامت مدلج بخربتا فاتخذوها منزلا ، وكان معهم نفر من حمير من ذبحان وغيرهم حالفوهم فيها فهى منازلهم.

ورجعت خشين وطائفة من لخم وجذام فنزلوا أكناف صان وإبليل وطرابية ولم يحفظوا.

ولم تكن قيس بالحوف الشرقىّ قديما ، وإنما الذي أنزلهم به ابن الحبحاب ، وذلك أنه وفد إلى هشام بن عبد الملك فأمر له بفريضة خمسة آلاف رجل ـ أو ثلاثة آلاف رجل ـ شكّ عبد الرحمن (١) ، فجعل ابن الحبحاب الفريضة فى قيس وقدم بهم فأنزلهم بمصر الحوف الشرقىّ.

ذكر خيل مصر

قال عبد الرحمن (٢) فلما نزل الناس واطمأنّت بهم منازلهم كانوا يخرجون فيؤدّبون خيلهم فى المضمار.

حدثنا أحمد بن عمرو ، حدثنا ابن وهب ، عن عمرو بن الحارث ، عن يزيد بن أبى حبيب ، عن عبد الرحمن بن شماسة المهرى ، عن معاوية بن حديج ، أنه مرّ على رجل بالمضمار معه فرس ممسك برسنه على كثيب ، فأرسل غلامه لينظر من الرجل ، فإذا هو بأبى ذرّ ، فأقبل ابن حديج إليه ، فقال له : يا أبا ذرّ ، إنى أرى هذه الفرس قد عنّاك وما أرى عنده شيئا. قال أبو ذرّ : هذا فرس قد استجيب له ، قال ابن حديج : وما دعوة بهيمة من البهائم؟ فقال : أبو ذرّ : إنه ليس من فرس إلا أنه يدعو الله كلّ سحريّة ، اللهمّ أنت خولتنى عبدا من عبيدك وجعلت رزقى بيده ، اللهم اجعلنى أحبّ إليه من ولده وأهله وماله.

حدثنا أبى عبد الله بن عبد الحكم ، وشعيب بن الليث ، قالا : حدثنا الليث بن سعد ، عن يزيد بن أبى حبيب ، عن ابن شماسة ، أن معاوية بن حديج حدثه ، أنه مرّ على

__________________

(١) شك عبد الرحمن ، ب : «قال عبد الرحمن : أنا أشك».

(٢) عبد الرحمن : زيادة من ك.

١٦٩

أبى ذرّ وهو قائم عند (١) فرس له ، فسأله ما تعالج من فرسك؟ فقال : إنى أظنّ هذا الفرس قد استجيبت دعوته ، ثم ذكر مثل حديث ابن وهب.

حدثنا سعيد بن عفير ، حدثنا ابن لهيعة ، عن قيس بن الحجّاج ، قال : مرّ بنا عبد الرحمن بن معاوية بن حديج ونحن جلوس مع حنش بن عبد الله نحو صفا مهرة فغفل عن السّلام فناداه حنش يا بن معاوية تمرّ ولا تسلّم ، والله لقد رأيتنى أشفع لك عند أبيك أن يجعل لسرجك ركابا تضع فيه رجلك.

قال : عبد الرحمن (٢) وكان ولد معاوية بن حديج ليست لسروجهم ركب ، إنما يثبون على الخيل وثبا.

قال عبد الرحمن (٢) وكانت أصول خيل مصر من خيل سمّى ابن عفير بعضها ، منها أشقر صدف ، وكان لأبى ناعمة مالك بن ناعمة الصدفى ، وبه سمّيت خوخة الأشقر التى بفسطاط مصر ، وكان السبب فى ذلك أنّ الاشقر نفق فكره صاحبه أن يطرحه فى الأكوام كما تطرح جيف الدوابّ ، فحفر له ودفنه هنالك فنسب الموضع اليه.

حدثنا أبى عبد الله بن عبد الحكم ، قال : لما افتتح المسلمون القصر كان رجل من الروم يقبل من ناحية القصير على برذون له أشهب ، والمسلمون فى صلاة الصبح ، فيقتل ويطعن ، فتطلبه خيل المسلمين فلا تقدر عليه ، وكان صاحب الأشقر غائبا ، فلما قدم أخبر بذلك ، فكمن له فى موضع وأقبل العلج ففعل كما كان يفعل ، فطلبه صاحب الأشقر فأدركه ، قال : فاشتغلت (٣) بقتل العلج ، وشدّ الأشقر على الهجين فقتله.

ومنها ذو الريش فرس العوّام بن حبيب اليحصبىّ. والخطّار فرس لبيد بن عقبة السّومىّ. والذعلوق فرس حمير بن وائل السّومى ، وعجلى فرس كانت لعكّ ، ولها يقول الشاعر :

سبق الأقوام عجلى

سبقتهمّ وهى حبلى

__________________

(١) أ : «على».

(٢) عبد الرحمن ، زيدت من ك.

(٣) ج : «فما اشتغلت».

١٧٠

حدثنا عبد الواحد بن إسحاق ، حدثنا مروان بن معاوية ، عن أبى حيّان التيمى ، عن أبى زرعة ، عن أبى هريرة ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، سمّى الأنثى من الخيل فرسا.

قال : وعجلى التى قال عبد الرحمن بن معاوية بن حديج ، لنمر بن أيفع العكّىّ : ما فعلت عجلى؟ على وجه الاستهزاء به ، فقال : أما إنّ لها فى أمّك سهمين.

قال : وكان للخم أيضا فرس يقال له أبلق لخم. وكان الجون لعقبة بن كليب الحضرمى.

وكان عبد العزيز بن مروان قد طلب الخطّار من لبيد بن عقبة فامتنع عليه ، فأغزاه إفريقيّة فمات بها ، فلما كان موسى بن نصير ، أهدى إلى عبد العزيز بن مروان خيلا فيها الخطّار ، قال : وقد طالت معرفته وذنبه ، فلما صارت إليهم الخيل لم يجدوا من يعرف الخطّار ، فقالوا : ابنة لبيد ، فبعث به عبد العزيز إليها فقالت لمن أتاها : إنى امرأة فاخرجوا عنّى حتى أنظر اليه ، ففعلوا ، فخرجت فنظرت إليه فعرفته ، فقالت : والله لا يركبك أحد بعد أبى سويّا ، ثم قطعت أذنى الفرس وهلبت ذنبه ثم قالت : هو هذا خذوه لا بارك الله لكم فيه ، فصار لعبد (١) العزيز بن مروان ، فاتّخذه للفحلة (٢) فكان منه الذائد ، ثم كان من الذائد الفرقد فهو أبو الخيل الفرقديّة ، ولم يعرق الفرقد فى شىء من خيل مصر إلّا جاء سابقا.

وكان أهل مصر لمّا بلغ مروان بن الحكم القاصرة وجّهوا إليه عقبة بن شريح بن كليب المعافرى ومطير بن يزيد التجيبى ، طليعة لهم ، ومطير يومئذ على الخطّار فرس لبيد ابن عقبة السومىّ ، فدخلا فى عسكر مروان وجوّلا فيه ، ثم إنّ شيخا من أهل العسكر نذر بهما واستنكر هيئتهما ، فقال : والله إنى لأنكر سحنة (٣) هذين الفرسين وما أرى على صاحبيهما شحوب السفر ، فكرّا راجعين إلى الفسطاط فمرّا بناقة صرصرانيّة فى ناحية العسكر لبشر بن مروان ، فطرداها ، فلما لحقتهما (٤) الخيل قال مطير لعقبة : اطرد الناقة وأنا أكفيك وكرّ مطير فقاتلهم حتى ولّوا عنه ، ثم لحق صاحبه ، ثم لحقته الخيل أيضا ففعل

__________________

(١) ب ، ج ، ك : «إلى عبد».

(٢) ج : «للعجلة».

(٣) ك : «سجيّة».

(٤) ب ، ج ، ك : «لحقتهم».

١٧١

مثل ذلك ، حتى وصلا (١) إلى الفسطاط ، فسألوهما عن الخبر فقالا : حتى تنحروا الناقة وتأكلوا لحمها وهى أوّل غنيمة فنحرت الناقة وأكل لحمها ثم أخبراهم الخبر وأنّهم أقوى من الرجل.

ثم كتب عمر بن الخطّاب كما حدثنا شعيب بن الليث ، وعبد الله بن صالح ، ويحيى بن عبد الله بن بكير ، وعبد الملك بن مسلمة ، عن الليث بن سعد ، عن يزيد بن أبى حبيب إلى عمرو بن العاص : انظر من (٢) قبلك ممّن بايع (٣) تحت الشجرة فأتمّ لهم (٤) العطاء مائتين ، وأتمّها لنفسك لأمرتك ، وأتمّها لخارجة بن حذافة لشجاعته ، ولعثمان بن أبى العاص لضيافته.

ذكر مقاسمة عمر بن الخطاب العمّال

قال عبد الرحمن (٥) ثم بعث عمر بن الخطاب محمد بن مسلمة ، كما حدثنا معاوية بن صالح ، عن محمد بن سماعة الرّملىّ ، قال : حدثنى عبد الله بن عبد العزيز شيخ ثقة إلى عمرو بن العاص وكتب إليه : أمّا بعد ، فإنكم معشر العمّال قعدتم على عيون الأموال فجبيتم الحرام وأكلتم الحرام وأورثتم الحرام ، وقد بعثت إليك محمد بن مسلمة الأنصارى ليقاسمك مالك فأحضره مالك ، والسلام.

فلما قدم محمد بن مسلمة مصر أهدى له عمرو بن العاص هديّة فردّها عليه ، فغضب عمرو وقال : يا محمد ، لم رددت إلى (٦) هديّتى وقد أهديت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مقدمى من غزوة ذات السّلاسل فقبل؟ فقال له محمد : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقبل بالوحى ما شاء ويمتنع مما شاء ، ولو كانت هديّة الأخ إلى أخيه قبلتها (٧) ؛ ولكنّها هديّة إمام شر خلفها ، فقال عمرو : قبح الله يوما صرت فيه لعمر بن الخطاب واليا ، فلقد رأيت

__________________

(١) ب ، ج : «وصلوا».

(٢) د : «فيمن».

(٣) ج : «بلغ».

(٤) ج : «له».

(٥) عبد الرحمن : زيدت من ك.

(٦) ب : «على».

(٧) ب : «قبلها».

١٧٢

العاص بن وائل يلبس الديباج المزرّر بالذهب ، وإنّ الخطّاب بن نفيل ليحمل الحطب على حمار بمكّة ، فقال له محمد بن مسلمة : أبوك وأبوه فى النار ، وعمر خير منك ، ولو لا اليوم الذي أصبحت تذمّ لألفيت (١) معتقلا عنزا يسرّك غزرها ويسوءك بكؤها : فقال عمرو : هى فلتة المغضب وهى عندك بأمانة ، ثم أحضره ماله فقاسمه إيّاه ثم رجع.

قال : وكان سبب مقاسمة عمر بن الخطاب العمّال كما حدثنا أبو الأسود النضر ابن عبد الجبّار ، وعبد الملك بن مسلمة ، عن ابن لهيعة ، عن يزيد بن أبى حبيب عن خالد بن الصعق (٢) قال شعرا كتب به إلى عمر بن الخطّاب :

أبلغ أمير المؤمنين رسالة

فأنت ولىّ الله فى المال والأمر

فلا تدعن أهل الرّساتيق والجزى

يسيغون (٣) مال الله فى الأدم الوفر(٤)

فأرسل إلى النعمان فاعلم حسابه

وأرسل إلى جزء وأرسل إلى بشر

ولا تنسينّ النّافعين (٥) كليهما

وصهر بنى غزوان عندك ذا وفر

ولا تدعونّى للشّهادة (٦) إنّنى

أغيب ولكنّى أرى عجب الدّهر

من الخيل كالغزلان والبيض كالدّمى

وما ليس ينسى من قرام ومن ستر (٧)

ومن ريطة مطويّة فى صيانها

ومن طىّ أستار (٨) معصفرة حمر

إذا التاجر الهندىّ جاء بفارة

من المسك راحت فى (٩) مفارقهم تجرى

__________________

(١) ب : «لألقيت».

(٢) الأبيات التالية ليست لخالد بن الصعق. وإنما هى لأبى المختار يزيد بن قيس. وانظر ياقوت ج ٣ ص ٤٢٣. وطبعة تورى من فتوح مصر ص ١٤٧ هامش ١.

(٣) ب ، ك : «يشيعون».

(٤) د ، ك : «والوفر».

(٥) ب : «اليافعين».

(٦) ب : «فى الشهادة».

(٧) ب : «شهر»

(٨) ج : «بستان».

(٩) ج : «من».

١٧٣

نبيع إذا باعوا ونغزوا إذا غزوا

فأنّى لهم مال ولسنا بذى وفر

فقاسمهم نفسى فداؤك إنّهم

سيرضون إن قاسمتهم منك بالشّطر

فقاسمهم عمر نصف أموالهم. والنعمان : النعمان بن بشير ، وكان على حمص وصهر بنى غزوان ، أبو هريرة ، وكان على البحرين.

قال عبد الرحمن (١) : ويقال إن قائل هذه الأبيات كما حدثنا معاوية بن صالح ، عن يحيى بن معين ، عن وهب بن جرير ، عن أبيه ، عن الزبير بن الخرّيت أبو المختار النميرىّ قال :

أبلغ أمير المؤمنين رسالة

فأنت أمين (٢) الله فى البرّ والبحر

فأرسل إلى النعمان فاعلم حسابه

وأرسل إلى جزء وأرسل إلى بشر

ولا تدعنّ النافعين كليهما

وذاك الّذى فى السّوق مولى بنى بدر

وما عاصم منها بصفر عيابه (٣)

ولا ابن غلاب من سراة بنى نصر

نبيع إذا باعوا ونغزوا إذا غزوا

فأنّى لهم مال ولسنا بذى وفر

ترى الجرد كالخزّان والبيض كالدّمى

وما لا يعدّ من قرام ومن ستر

ومن ريطة مطويّة فى صوانها

ومن طىّ أستار محدرجة حمر

إذا التاجر الهندىّ جاء بفارة

من المسك راحت فى مفارقهم تجرى

فدونك مال الله لا تتركنّه

سيرضون إن قاسمتهم منك بالشّطر

ولا تدعونّى للشّهادة إنّنى

أغيب ولكنّى أرى عجب الدّهر

قال عمر : فإنا قد أعفيناه من الشهادة ونأخذ منهم نصف أموالهم ، فأخذ النصف وكان عمر قد استعمل هؤلاء الرهط.

حدثنا عبد الملك بن مسلمة ، حدثنا ابن لهيعة ، عن جعفر بن ربيعة ، عن أبيه ،

__________________

(١) عبد الرحمن : زيدت من ك.

(٢) ب : «أمير».

(٣) ب : «عنانه». ك : «إيابه».

١٧٤

أن (١) جدّه أوصى أن يدفع إلى عمر بن الخطاب نصف ماله ، وكان عمر استعمله على بعض أعماله.

حدثنا أسد بن موسى ، حدثنا سليمان بن أبى سليمان ، عن محمد بن سيرين قال قال : أبو هريرة لمّا قدمت من البحرين قال لى عمر : يا عدو الله ، وعدو الإسلام ، خنت مال الله. قال قلت : لست بعدوّ الله ولا عدوّ الإسلام ، ولكنى عدوّ من عاداهما ، ولم أخن مال الله ولكنها أثمان خيل لى تناتجت وسهام اجتمعت (٢) قال يا عدوّ الله وعدوّ الإسلام خنت مال الله ، قال قلت : لست بعدوّ الله ولا عدوّ الإسلام ، ولكنى عدوّ من عاداهما ولم أخن مال الله ، ولكنها أثمان خيل لى تناتجت وسهام اجتمعت ، قال ذلك ثلاث مرّات ، يقول ذلك عمر ويردّ عليه أبو هريرة هذا القول. قال : فغرّمنى اثنى عشر ألفا ، فقمت فى صلاة الغداة فقلت : اللهمّ اغفر لأمير المؤمنين ، فأرادنى على العمل بعد فقلت : لا. قال : أوليس يوسف خيرا منك وقد سأل العمل؟ قلت : إنّ يوسف نبىّ ابن نبىّ ، وأنا ابن أميمة ، وأنا أخاف ثلاثا واثنتين ، قال : ألا تقول خمسا؟ قلت : لا ، قال : مه ، قلت : أخاف أن أقول بغير حلم وأقضى بغير علم ، وأن يضرب ظهرى ، ويشتم عرضى ، ويؤخذ مالى.

ذكر النيل

(*) حدثنا عثمان بن صالح ، حدثنا ابن لهيعة ، عن واهب بن عبد الله المعافرى ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، أنه قال : نيل مصر سيّد الأنهار ، سخر الله له كلّ نهر بين المشرق والمغرب ، فإذا أراد الله أن يجرى نيل مصر أمر كل نهر أن يمدّه فأمدّته الأنهار بمائها ، وفجر الله له الأرض عيونا ، فإذا انتهت جريته إلى ما أراد الله ، أوحى الله إلى كل ماء أن يرجع إلى عنصره.

حدثنا عثمان بن صالح ، حدثنا ابن لهيعة ، عن يزيد بن أبى حبيب ، أن معاوية بن أبى سفيان سأل كعب الأحبار ، هل تجد لهذا النيل فى كتاب الله خبرا؟ قال : أى والذي

__________________

(١) ب ، ج : «عن».

(٢) فى نسخة د : «واجتمعت ، فأعاد القول الأول ثلاث مرات ، وأقول له كالجواب الأول ، فلما عاين الجد والانصراف قال فغرّمنى .... الخ».

(* ـ *) قارن بالسيوطى ج ٢ ص ٣٤٠ ـ ٣٤١ وهو ينقل عن ابن عبد الحكم.

١٧٥

فلق البحر لموسى ، إنى لأجده فى كتاب الله أن الله يوحى إليه فى كل عام مرّتين يوحى إليه عند جريه : إن الله يأمرك أن تجرى فيجرى ما كتب الله له ، ثم يوحى إليه بعد ذلك : يا نيل غر (١) حميدا.

حدثنا عبد الله بن يوسف ، حدثنا عبد الله بن عمر ، عن حبيب بن عبد الرحمن ، عن حفص بن عاصم ، عن أبى هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : النيل وسيحان وجيحان والفرات من أنهار الجنّة.

حدثنا عبد الله بن صالح ، حدثنا الليث ، عن يزيد بن أبى حبيب ، عن أبى الخير ، عن كعب الأحبار ، أنه كان يقول : أربعة أنهار من الجنّة وضعها الله فى الدنيا ، فالنيل نهر العسل فى الجنّة ، والفرات نهر الخمر فى الجنة ، وسيحان نهر الماء فى الجنة ، وجيحان نهر اللّبن فى الجنة*).

حدثنا سعيد بن أبى مريم ، حدثنا الليث بن سعد ، وعبد الله بن لهيعة ، قالا : حدثنا يزيد بن أبى حبيب ، عن أبى الخير ، عن أبى جنادة الكنانى ، أنه سمع كعبا يقول : النيل فى الآخرة عسل أغزر ما يكون من الأنهار التى سمّاها الله ، ودجلة فى الآخرة لبن أغزر ما يكون من الأنهار التى سمّى الله ، والفرات خمر أغزر ما يكون من الأنهار التى سمى الله ، وجيحان ماء أغزر ما يكون من الأنهار التى سمى الله.

(*) قال فلما فتح عمرو بن العاص مصر كما حدثنا عثمان بن صالح ، عن ابن لهيعة ، عن قيس بن الحجّاج ، عمّن حدّثه ، أتى أهلها إلى عمرو بن العاص حين دخل بؤونة من أشهر العجم ، فقالوا له : أيّها الأمير إنّ لنيلنا هذا سنّة لا يجرى إلا بها ، فقال لهم : وما ذاك؟ قالوا : إنه إذا كان لثنتى عشرة ليلة تخلو من هذا الشهر ، عمدنا إلى جارية بكر بين أبويها فأرضينا أبويها وجعلنا عليها من الحلىّ والثياب أفضل ما يكون ، ثم ألقيناها فى هذا النيل ، فقال لهم عمرو : إن هذا لا يكون فى الإسلام ، وإن الإسلام يهدم ما قبله ، فأقاموا بؤونة وأبيب ومسرى لا يجرى قليلا ولا كثيرا حتى همّوا بالجلاء ، فلما رأى ذلك عمرو كتب إلى عمر بن الخطاب بذلك. فكتب إليه عمر : قد أصبت ، إن

__________________

(١) غر : كذا فى طبعة تورى. وعند السيوطى وأبى المحاسن والمقريزى «عد» وهم ينقلون عن ابن عبد الحكم.

(* ـ *) قارن بالمقريزى ج ١ ص ٥٨ وهو ينقل عن ابن عبد الحكم.

١٧٦

الإسلام يهدم ما كان قبله ، وقد بعثت إليك ببطاقة فألقها فى داخل النيل إذا أتاك كتابى (١) ، فلما قدم الكتاب على عمرو فتح البطاقة فإذا فيها : من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى نيل أهل مصر ، أمّا بعد ، فإن كنت تجرى من قبلك فلا تجر ، وإن كان الله الواحد القهّار الذي يجريك فنسأل الله الواحد القهّار أن يجريك.

فألقى عمرو البطاقة فى النيل قبل يوم الصليب بيوم ، وقد تهيّأ أهل مصر للجلاء والخروج منها لأنه لا يقوم بمصلحتهم فيها إلا النيل ، فأصبحوا يوم الصليب وقد أجراه الله ستّة عشر ذراعا فى ليلة ، وقطع تلك السنّة السّوء عن أهل مصر.

حدثنا عثمان بن صالح ، حدثنا ابن لهيعة ، عن يزيد بن أبى حبيب ، أن موسى عليه‌السلام دعا على آل فرعون ، فحبس الله عنهم النيل حتى أرادوا الجلاء حتى طلبوا إلى موسى أن يدعو الله فدعا الله رجاء أن يؤمنوا ، فأصبحوا وقد أجراه الله فى تلك الليلة ستّة عشر ذراعا ، فاستجاب الله بتطوّله (٢) لعمر بن الخطاب كما استجاب لنبيّه موسى عليه‌السلام*).

ذكر الجزية

قال عبد الرحمن (٣) : وكان عمرو يبعث إلى عمر بن الخطّاب بالجزية بعد حبس ما كان يحتاج إليه ، وكانت فريضة مصر كما حدثنا عثمان بن صالح ، عن ابن لهيعة ، عن يزيد بن أبى حبيب لحفر خلجها (٤) ، وإقامة جسورها ، وبناء قناطرها ، وقطع جزائرها مائة ألف وعشرين ألفا (٥) ، معهم الطّور والمساحى والأداة ؛ يعتقبون ذلك ، لا يدعون ذلك شتاء ولا صيفا.

ثم كتب عمر بن الخطاب كما حدثنا عبد الملك بن مسلمة عن القاسم بن عبد الله ، عن عبد الله بن دينار ، عن عبد الله بن عمر أن يختم فى رقاب أهل الذمّة

__________________

(١) ب : «كتابى هذا».

(٢) ب «بطوله» وكذا المقريزى وهو ينقل عن ابن عبد الحكم.

(٣) عبد الرحمن : زيدت من ك.

(٤) ب ، د ، ك : «خليجها».

(٥) د : «وعشرين ألفا من الفعلة».

١٧٧

بالرّصاص ، ويظهروا مناطقهم ويجزوا نواصيهم ، ويركبوا على الأكف عرضا ، ولا يضربوا الجزية إلا على من جرت عليه المواسى (١) ، ولا يضربوا على النساء ولا على الولدان (٢) ، ولا يدعوهم يتشبّهون بالمسلمين فى لبوسهم.

حدثنا شعيب بن الليث ، حدثنا أبى ، عن محمد بن عبد الرحمن بن عنج (٣) ، أن نافعا حدثهم. وحدثنا عبد الملك بن مسلمة ، حدثنا ابن وهب ، حدثنى عبد الله بن عمر ، وعمر بن محمد ، أن نافعا حدثهم عن أسلم مولى عمر ، أنه حدثه أن عمر كتب إلى أمراء الأجناد ألّا يضربوا (٤) الجزية إلا على من جرت عليه المواسى.

وجزيتهم أربعون درهما على أهل الورق منهم ، وأربعة دنانير على أهل الذهب ، وعليهم من أرزاق المسلمين من الحنطة والزيت مديان (٥) من حنطة ، وثلاثة أقساط من زيت فى كل شهر لكل إنسان كان من أهل الشام والجزيرة ، وودك وعسل لا أدرى كم هو.

ومن كان من أهل مصر فإردب كلّ (٦) شهر لكل إنسان ، لا (٧) أدرى كم من الودك والعسل ، وعليهم من البزّ والكسوة (٨) التى يكسوها أمير المؤمنين الناس ، ويضيفون من نزل بهم من أهل الإسلام ثلاث ليال (٩).

وعلى أهل العراق خمسة عشر صاعا لكل إنسان ، لا أدرى كم لهم من الودك.

وكان لا يضرب الجزية على النساء والصبيان ، وكان يختم فى أعناق رجال أهل الجزية.

__________________

(١) د : «الموسى».

(٢) فى نسخة د ، زيادة : «ولا على الرهبان».

(٣) عنج : بالعين المهملة ، كذا فى طبعة تورى : نقلا عن نسخة أ ، وعضدت بما فى القاموس : عنج. وفى : ك ، والخلاصة ص ٣٤٨ : غنج : بمعجمة مفتوحة ونون.

(٤) ب : «تضربوا».

(٥) ب ، د : «مدان».

(٦) ب ، ج : «لكل».

(٧) د ، ك : «ولا».

(٨) ج : «الكسوة».

(٩) فى نسخة د ، زيادة «وكتب إلى أمراء الأجناد بذلك».

١٧٨

قال : وكانت ويبة عمر بن الخطاب كما حدثنا عبد الملك (١) ، عن الليث بن سعد فى ولاية عمرو بن العاص ، ستّة أمداد.

حدثنا أسد بن موسى ، قال : حدثنا سفيان بن عيينة ، عن أبى (٢) إسحاق ، عن حارثة ابن مضرّب ، أن عمر قال : جعلت على أهل السواد ضيافة يوم وليلة ، فمن حبسه مطر فلينفق من ماله.

(*) قال : وكان عمرو بن العاص لما استوسق له الأمر أقرّ قبطها على جباية (٣) الروم ؛ وكانت جبايتهم بالتعديل : إذا عمرت القرية ، وكثر أهلها زيد عليهم ، وإن (٤) قلّ أهلها وخربت نقصوا ، فيجتمع عرفاء كلّ قرية وماروتها ورؤساء أهلها ، فيتناظرون فى العمارة والخراب ؛ حتى إذا أقرّوا من القسم بالزيادة انصرفوا بتلك القسمة إلى الكور ، ثم اجتمعوا هم ورؤساء القرى ، فوزّعوا ذلك على احتمال القرى وسعة (٥) المزارع ، ثم ترجع كل قرية بقسمهم فيجمعون قسمهم وخراج كلّ قرية وما فيها من الأرض العامرة فيبدرون (٦) فيخرجون من الأرض فدادين لكنائسهم وحمّاماتهم ومعدياتهم من جملة الأرض ، ثم يخرج منها عدد الضيافة للمسلمين ونزول السلطان ، فإذا فرغوا نظروا إلى ما فى كل قرية من الصنّاع والأجراء ، فقسموا عليهم بقدر احتمالهم ؛ فإن كانت فيها جالية قسّموا عليها بقدر احتمالهم ، وقلّ ما كانت تكون إلا الرجل المنتاب أو المتزوّج ، ثم ينظرون ما بقى من الخراج فيقسمونه بينهم على عدد الأرض ، ثم يقسمون ذلك بين من يريد الزرع منهم على قدر طاقتهم ؛ فإن عجز أحد وشكا ضعفا عن زرع أرضه وزعوا ما عجز عنه على الاحتمال ، وإن كان منهم من يريد الزيادة أعطى ما عجز عنه أهل الضعف ؛ فإن تشاحّوا قسموا (٧) ذلك على عدّتهم. وكانت قسمتهم على قراريط : الدينار أربعة

__________________

(١) ج ، ك : «عبد الملك بن مسلمة».

(٢) ج «ابن».

(* ـ *) قارن بالسيوطى ج ١ ص ١٤٥ ـ ١٤٦ وهو ينقل عن ابن عبد الحكم.

(٣) د : «على جباية أموالها من الروم».

(٤) ج ، د ، ك : «وإذا».

(٥) ك : «وسعة».

(٦) ك : «فيبدءون».

(٧) د ، ك : «قسم».

١٧٩

وعشرين قيراطا ، يقسمون الأرض على ذلك. وكذلك روى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنكم ستفتحون أرضا يذكر فيها القيراط فاستوصوا بأهلها خيرا» (١). وجعل عليهم لكل فدّان نصف اردبّ قمح وويبتين من شعير إلا القراط ، فلم يكن عليه ضريبة ، والويبة يومئذ ستّة أمداد*).

وكان عمر بن الخطاب ، كما حدثنا عبد الملك بن مسلمة ، عن ابن وهب ، عن يونس ، عن ابن شهاب ، يأخذ ممن صالحه من المعاهدين ما سمّى (٢) على نفسه ، لا يضع (٣) من ذلك شيئا ولا يزيد عليه ، ومن نزل منهم على الجزية ولم يسمّ شيئا يؤدّيه نظر عمر فى أمره ؛ فإذا احتاجوا خفّف عنهم ، وإن (٤) استغنوا زاد عليهم بقدر استغنائهم.

قال : وروى حيوة بن شريح ، حدثنى الحسن بن ثوبان ، أن هشام بن أبى رقيّة اللخمى ، حدثه أن صاحب إخنا قدم على عمرو بن العاص ، فقال له : أخبرنا ما على أحدنا من الجزية فيصبر لها ، فقال عمرو وهو يشير إلى ركن كنيسة : لو أعطيتنى من الأرض إلى السّقف ما أخبرتك ما عليك ، إنما أنتم خزانة لنا ، إن كثر علينا كثّرنا عليكم ، وإن خفف عنّا خفّفنا عنكم ، ومن ذهب إلى هذا الحديث ذهب إلى أن مصر فتحت عنوة.

حدثنا عبد الملك بن مسلمة ، حدثنا ابن لهيعة ، عن يزيد بن أبى حبيب ، قال : قال عمر بن عبد العزيز : أيّما ذمّي أسلم فإن إسلامه يحرز له نفسه وماله ، وما كان من أرض فإنها من فىء الله على المسلمين.

حدثنا عبد الملك بن مسلمة ، حدثنا الليث بن سعد ، أن عمر بن عبد العزيز قال : أيّما قوم صالحوا على جزية يعطونها ، فمن أسلم منهم كان أرضه وداره لبقيّتهم.

قال الليث : وكتب إلىّ يحيى بن سعيد أن ما باع القبط فى جزيتهم وما يؤخذون به من الحقّ الذي عليهم من عبد أو وليدة أو بعير أو بقرة أو دابّة ، فإن ذلك جائز عليهم

__________________

(١) مسند أحمد ومسلم فى كنز برقم ٣١٧٦٧.

(٢) د «ما سماه».

(٣) د «لا يضيع».

(٤) ب ، ج «وإذا».

١٨٠