رحلة فريزر

جيمس بيلي فريزر

رحلة فريزر

المؤلف:

جيمس بيلي فريزر


المترجم: جعفر الخياط
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: الدار العربيّة للموسوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٣٢

١
٢

٣
٤

مقدمة المترجم

«.. ولم يهتم بالبلاد الواقعة في القسم الشرقي من البحر الأبيض المتوسط سوى حكومات أوربة الجنوبية البحرية ، لأن هذه البلاد كانت مصدرا مباشرا أو طريقا لمصادر الحرير والتوابل والأبازير التي كانوا يحصلون عليها بمبادلة البضائع من سورية ومصر. ومن جراء هذه الحاجات كانت السفرات البحرية لدياز ودوغاما قد عجلت الاهتمام بالبلاد الهندية وما جاورها. فمخرت أساطيل البرتغال عباب البحار الهندية قبل انتهاء القرن الخامس عشر ، وشيدت في الخليج العربي قلعة هرمز العظيمة في (٩١٣ ه‍) ١٥٩٧ م. وكان تجار البندقية وجنوة يسلكون باستمرار الطريق البري الذي هو بمقام جسر أرضي يربط البحر الأبيض المتوسط بالسواحل الإيرانية. وكانوا في طريقهم هذه ينزلون في خانات بغداد أو «بابل» ويشاهدون النجف أو يتلبثون أيام مرورهم في الزبير.

وهكذا بقي ذكر العراق خاملا في العالم من قبل أن يعود به ، فيجعله قبلة الأنظار من جديد ، ظهور الصفويين الذين كانت شهرتهم آخذة بالنمو ، ومن قبل فتوحات سلطان الترك الشرقية ، وتوسع تجارة الأمم الغربية ومغامراتها».

هذا ما كتبه المستر لونگريك في (أربعة قرون من تاريخ العراق الحديث) ليأتي به على وصف علاقة العراق بالعالم الخارجي في تلك الأيام التي وقع فيها فريسة في أيدي الفاتحين من المغول والتركمان. وقد تطورت تلك العلاقة بعد ذلك فازداد اتصال البرتغاليين بالبصرة وخليجها بعد أن ثبتوا أقدامهم في هرمز. وكانت النهضة الحديثة في أوربة يومذاك قد دب فيها دبيب الحياة ، وراحت أساطيل الأمم الكبيرة تتجه في إبحارها نحو الهند والبلاد

٥

المجاورة لها. فظهر الهولانديون والإنكليز في موانىء الخليج العربي ، وأسس الإنكليز شركة الهند الشرقية ، وحمي وطيس المنافسة بين هذه الدول الثلاث حتى وصل إلى الاشتباك والتصادم. فاحتل الإنكليز حصن قشم البرتغالي المنيع في كانون الثاني ١٦٢٢ م ، وساعدوا الإيرانيين بأسطولهم في الاستيلاء على هرمز بعد عدة أشهر.

ومع أن هذا الحدث كان يعتبر ضربة قاصمة للنفوذ البرتغالي في تلك الجهات فقد ظلت المنافسة قائمة على قدم وساق حتى استطاع البريطانيون القضاء على قوة البرتغاليين البحرية في ١٦٨٩ م. وعند ذاك ظلت المنافسة منحصرة بين الإنكليز والهولانديين ، فأظهر الهولانديون مهارة في التجارة بأساليب غير محمودة ، ولكنها غير عنيفة. إذ أخذوا يهاجمون الأسواق بكل سلاح الرشوة والدعاية الزائفة أو المضاربة المغرية. ومع هذا فقد صمد الإنكليز لكل ذلك فكان التوفيق حليفهم في النهاية. وخلالهم الجو فأصبحت لهم سيطرة مطلقة على المنطقة الممتدة من الهند إلى الخليج ، ثم إلى داخل

٦

العراق. وقد تعاظم نفوذهم في أيام الباشوات المتأخرين من المماليك في العراق ومن أتى بعدهم بحيث راحوا يتدخلون في كثير من شؤون العراق الداخلية ، ويسخرون نفوذهم السياسي في إبقاء هذا الباشا أو ذاك متربعا على دست الحكم فيه.

ويقول لونگريك في هذا الشأن ، «أما في داخل العراق فإن انتقال البلاد من حالة القرون الوسطى إلى حالة دولية حديثة قد زاد في اتصاله وتعاونه مع الممثلين الأجانب. فقد كانت المشاريع البريطانية من جهة تقوم بخدمات جليلة للعراق من دون أن تطلب شيئا في مقابل ذلك سوى تأمين توسع التجارة البريطانية. وكان حكام العراق المتعصبون من جهة أخرى مستائين من وجود هؤلاء الأجانب وامتيازاتهم ، وصداقاتهم للقبائل ، لكنهم لم يقووا على منع كل ذلك. فإن كبيرهم «المقيم» كان بوسعه أن يحطم كل شخص بكلمة واحدة تصدر منه إلى استانبول .. وبينما كان القنصل ـ التاجر في القرن الثامن عشر غير قادر على شيء سوى دوام «الامتيازات» وتركه حرا دون تعرّض له أصبح مقيم القرن التاسع عشر وهو المتكلم نيابة عن شركات البواخر ، وهيئات إنشاء التلغراف ، والأثريين ، ومؤسسات الهبات الخيرية. ولم تفتأ بعض استنجادات القبائل بالحماية البريطانية تزعج الباشا أشد الإزعاج ..».

على أن نشأة التغلغل البريطاني هنا في بداية القرن التاسع عشر كان يتأثر إلى حد كبير بالمنافسة التي كانت موجودة بين بريطانية وفرنسة النابوليونية في الشرق الأوسط جميعه. وقد ظلت بريطانية على وضعها هذا حتى استطاعت القضاء على نابوليون أيضا ، وتخلصت من شر الخطط التي وضعها لتهديد مركزها في الهند وما جاورها. وفي حوالي ١٨٣٠ م تبدأ المنافسة البريطانية الروسية في هذه الجهات من العالم ، وتمتد إلى نهاية القرن تقريبا ، لتحل محلها بعد ذلك المنافسة الإنكليزية الألمانية.

وفي خلال هذه المراحل والأدوار كلها كثر اتصال العراق بالعالم الخارجي وتعدّدت أوجهه ، وصار الكثيرون من الأوربيين يقصدون هذه البلاد أو يمرّون بها. ويتجوّلون في أرجائها. أو يقيمون فيها مدة تقل أو تزيد تبعا

٧

لنوع العمل الذي يأتون من أجله أو المهمة التي يندبون لها. وقد عمد الكثيرون من هؤلاء إلى كتابة مذكرات أو يوميات عن رحلاتهم وسفاراتهم هذه ، فكان بعضها مهما وبعض الآخر تافها لا قيمة له. فتوفرت من ذلك كله ثروة تاريخية غير يسيرة ، لها قيمتها في توضيح الحوادث التي كانت تقع في شتى الأدوار التي مرت بها هذه البلاد ولا سيما في «عصورها المظلمة» ، على ما فيها من تحيّز وتحامل في بعض الأحيان.

ولو أردنا أن نحصر الغايات والأغراض التي كان أولئك السياح المسافرون يقصدون هذه البلاد من أجلها في تلك الأيام نجد أنها لا تخرج عن النقاط التالية : «التبشير ، التنقيبات الأثرية ، السياحة والمغامرة ، الأغراض التجارية ، التمثيل السياحي ، والانتداب لأغراض فنية أو عسكرية أو طبية ، هذا فضلا عن المرور من هذه البلاد الواقعة بين القارات وخاصة في الطريق إلى الهند وإيران. ولذلك فقد أورد لونگريك وحده في قائمة مراجعه عن العراق للفترة ما بين ١٥٥٣ م و ١٩١٤ م أسماء لثماني وتسعين رحلة وتقرير ومقالة مسهبة ، وكلها تصف العراق وأوجه الحياة فيه بطريقة أو بأخرى. أما أصحاب هذه الرحلات فهم بين برتغالي وفرنسي ، وهولاندي وألماني ، وإيطالي وإنكليزي ، وأرمني وهندي ، بالإضافة إلى أربعة من الأتراك. غير أن قسما كبيرا من أولئك هم من الإنكليز بلا شك.

ومن جملة السياح الإنكليز هؤلاء ، أو الرحالين ، صاحب هذه الرحلة المستر جيمس بيلي فريزر ، الذي كتبها بجز أين وسماها «رحلات في كردستان وبين النهرين» (١). وهو رجل مهنته الكتابة ، وقد قام برحلته في عام ١٨٣٤ م ، فسافر من استانبول إلى إيران بمهمة ديبلوماسية وقطع المسافة على ظهور الخيل ثم تجول فيها حتى حط الرحال في تبريز. وأخذ يكتب منها إلى زوجته على ما يظهر رسائل متتالية فيها شيء غير يسير من التفصيل عن كل ما يرى في

__________________

(١)(Richard bentley ,New ، Mesopotamia Travels in Koordistan ، J.Baillie Fraser. (١٨٤٠Burlington st ,London

٨

طريقه أو يفكر فيه. وتبدأ الرحلة المطبوعة هذه بالرسالة الأولى من تبريز ، التي أرّخها في ٤ تشرين الأول ١٨٣٤ م. فيتطرّق في رسائله الخمس الأولى إلى وصف الحالة في تبريز وكردستان الإيرانية كلها وخاصة منطقة أردلان. وبالنظر لأن هذه المناطق تقع في إيران فقد ضربت صفحا عنها ولم أقم بترجمتها لأنها لا تمت بصلة قوية إلى تاريخ هذه البلاد. لكنني وجدت من المناسب ، بل من الضروري ، أن أقوم بترجمة قسم كبير من رسالته الثالثة (المؤرّخة في ١٧ تشرين الأول ١٨٣٤ م) لأنه يتطرّق فيها عرضا إلى شؤون راوندوز من تاريخ الأصقاع الشمالية من العراق نفسه. وقد أهملت كذلك قسما غير يسير من الرسالة الخامسة عشرة (الأخيرة) المطبوعة في الجزء الأول لأنها تتطرّق في بحثها إلى عشائر عربية تدخل في داخل الحدود التركية أولا ، ولأن البحث المتروك يعدّ شيئا تافها لا قيمة تاريخية له.

أما الرسائل الأخرى التي يحويها الجزء الأول من الرحلة ، أي الرسالة السادسة إلى الخامسة عشرة ، فهي التي تؤلف مجموع هذا الكتاب الذي أطلقت عليه تجاوزا اسم (رحلة فريزر إلى بغداد في ١٨٣٤ م). ولهذه الرسائل ، عدا ما فيها من طرافة ، أهمية تاريخية غير يسيرة. لأنها تجلو لنا كثيرا من مراحل التاريخ العراقي في أواخر أيام داود باشا أو أوائل العهد الجديد الذي دخل فيه العراق ، بعد أن تعاونت الأقدار وجيوش السلطان في القضاء على باشوات المماليك وعهدهم ووضعت حدا لاستقلالهم في الحكم عن الباب العالي في استانبول.

فهي تصف مير راوندوز كور محمد باشا وصفا طريفا وتتطرّق إلى فتوحاته وطريقة حكمه ، وتصف ما آلت إليه الحالة في السليمانية من فقر وخراب بسبب الخلافات العائلية والطاعون ، كما تصف مؤامرات داود باشا ، والطاعون الكبير الذي أتى على ثلثي سكان بغداد في أيامه ، والغرق ، والخراب الذي حل بالبلاد في أثر ذلك. ثم تتطرّق إلى استيلاء علي رضا باشا على بغداد وقضائه على بقايا المماليك ، وطريقته في الحكم مع سياسته العشائرية. وفي الرسائل معلومات مفيدة عن عشائر الجربا وعنزة وعقيل وزبيد واستفحال أمرها مع تهديدها لبغداد نفسها ، ووصف طريف لبغداد بعد خرابها ،

٩

ولمجتمع بغداد ومحلاتها وطبقات السكان فيها ، مع العادات والأزياء والملابس. هذا وقد علّقت على كل ذلك ما أمكن التعليق توضيحا للحقائق وربطا لها بالحوادث التاريخية العامة على قدر الإمكان.

أما الجزء الثاني من الرحلة ففيه تسع عشرة رسالة أيضا ، وهي تتناول سفرات أجريت إلى سلوقية وطاق كسرى ، ثم إلى آثار بابل والحلة وما جاورهما ، وإلى مخيم زبيد وبعض العشائر الأخرى ، وإلى منتفك وسوق الشيوخ وما حوله. ويلاحظ من هذه الرسائل أن صاحب الرحلة يعود إلى بغداد ثم يغادرها متوجها إلى إيران ثانية عن طريق ديالى التي يكتب عنها شيئا أيضا. ولم يسمح لي المجال مع الأسف أن أقوم بترجمتها.

ولا بد من الإشارة هنا إلى أن صاحب الرحلة يجنح في رسائله هذه إلى التحامل على العرب والأكراد معا بعض التحامل ، ويصمهم بوصمات ونعوت قد لا تكون مناسبة ، وخاصة العشائر منهم. وذلك في معرض التكلّم عن أخطار الطريق وتعرّض السياح والمسافرين إلى السلب والنهب وفرض الإتاوة عليهم. وإني أعتقد أن هذا شيء لا يمكن أن يكون غير منتظر بالنسبة لأوضاع البلاد وأحوال سكانها في تلك الأيام من جهة ، ولعقلية الأوربيين واستغرابهم مما يصادفونه في البلاد الغريبة عنهم من جهة أخرى. على أنني مع كل ذلك أؤاخذه فيما يصدره فيها من أحكام عامة في بعض الأحيان من دون أن تستند إلا إلى حوادث فردية أو وقائع شاذة لا يمكن أن تتخذ مقياسا تقاس به الأمور بصورة عامة. ولا شك أن القارىء الكريم سيلتفت إلى ذلك.

وقبل أن أختم هذه الكلمة أود أن أشير إلى أن صاحب الرحلة المستر فريزر ملم باللغة الفارسية على ما يبدو من كتاباته ، وله كتب عن إيران منها «القزلباش» و «رحلة شتوية إلى إيران» (١) عدا كتابه الآخر عن آثار العراق الموسوم «ما بين النهرين وآشور» (٢). كما أود أن أسجل إعجابي بأسلوبه

__________________

(١) A Winter Joumey to Persia.

(٢) Mesopotamia ,and Assyria (N.Y.٢٤٨١)

١٠

الكتابي وسعة اطلاعه وثقافته بوجه عام.

وكان جيمس بيلي فريزر هذا قد ولد في أنفرنيس باسكوتلاندا في ١٧٨٣ م وتوفي في ريليك في كانون الثاني سنة ١٨٥٦ م. مما عرف عنه في أيامه أنه كان سائحا ومؤلفا ، وقد ذهب إلى الهند في أول أدوار حياته ، وفي ١٨١٥ م ارتاد جبال الهيمالايا ودرس الكثير من أحوالها. وحينما عاد إلى لندن بعد ذلك عيّن (١) لمرافقة الأميرين الإيرانيين اللذين كانا منفيين في إنكلترا ، رضا قلي مرزا ونجف قلي مرزا ، وعاد معهما حتى أوصلهما إلى استانبول.

وفي ١٨٢٣ م تزوج ابنة اللورد ووهاوسلي ، وهي زوجته التي ظل يبعث إليها برسائله التي يؤلف قسم منها قوام هذه الرحلة. وكانت بعض الملاحظات الفلكية والجغرافية التي دوّنها في رحلاته وأسفاره ذات فائدة جلى في رسم خرائط البلاد الآسيوية.

جعفر الخياط

__________________

(١) دائرة المعارف البريطانية.

١١
١٢

(١)

.. الوصول إلى أرومية ـ العشائر الكردية وعبثها ـ البلباس ـ مير راوندوز ـ رحلة الدكتور روص إلى المير ـ مقارنة بين القرى التركية والكردية ـ دمدم مقر المير الكبير (الأب) ـ أخلاق الناس ـ لباسهم وأزياؤهم ـ عاداتهم ـ عمى المير الكبير ـ إخوان المير ـ الخرافات ـ عدم إقراء الضيف ـ الوحشية والشجاعة ـ قوانين المير وعدالته ـ العقوبات الصارمة ـ الجيش في الميدان ـ الاستيلاء على عقرة ـ إخضاع العمادية ـ ذهاب الدكتور روص إلى معسكر المير ـ مواجهته للمير والتحدث معه ـ معسكر المير ـ عودة الدكتور روص ـ شخصية المير وأخلاقه ـ محاولاتي للاتصال به ـ عدم توفقي في ذلك ـ توجهي إلى بغداد عن طريق السليمانية.

أرومية ١٧ تشرين الأول ١٨٣٤ م

إن سفرة ثلاثة أيام يا عزيزتي ـ من القرية التي حرّرت فيها رسالتي السابقة إليك قد أوصلتني إلى هذه المكان الجميل ، العريق في القدم ، الذي يعتبر مسقط رأس زرادشت المشهور. إذ يقع طريقنا من طسوج إلى هنا في منطقة سلماس وسهلها ، وهي من أجمل المناطق في أذربيجان.

... وتسيطر على هذه البلاد في الحقيقة عشائر متوحشة خارجة عن الطوق ، لا يضع حدّا لتصرفاتها سوى ضعفها النسبي. فالبلباس ، وهم عشيرة كانت قوية الشكيمة كثيرة العدد في يوم من الأيام ، يسكنون الجبال والسهول المحيطة بباليك ولا هيجان التي لا تبعد كثيرا عن أرومية نفسها. وهم بين حين وآخر يسلّون أنفسهم بالانقضاض (١) على جهات سولدوز وسرادشت

__________________

(١) جاء في كتاب دوحة الوزراء لمؤلفه رسول حاوي الكركوكي ، عن وقائع عام ١٢١٧ ـ

١٣

المجاورة ، وحتى على سوج بولاق في بعض الأحيان. وهناك كذلك الروان والهركية والنوجية ، وعشائر كثيرة أخرى ميالة هي ايضا إلى أن تسلّي نفسها على هذه الشاكلة. ومن حسن الحظ أن تنشأ إلى الغرب من هذه المنطقة قوة مرهوبة الجانب تستطيع ، على ما فيها من خشونة ، أن تمارس تأثيرا مطوعا على هؤلاء النهابين الشرسين وتجبرهم على الخضوع التام الضروري ، برغم ما فيه من تعسف ، فتجعل بذلك قسما من البلاد آمنة سالمة يمكن التجوّل فيها في حالات معيّنة.

فلم يكن محمد باشا ، الذي يعرف بمير راوندوز (١) ، قبل سنوات قليلة سوى رئيس مثل سائر الرؤساء الأكراد وقائد يقود محاربي عشيرته التي لم تعرف بغير اسم راوندوز. وقد بدأ سيرته بتنحية والده عن رئاسة القبيلة بحجة عدم اقتداره في تدبير شؤونها خلال الأيام العصيبة. على أن البعض يقول إن الوالد المتقدم في السن كان ميّالا بطبيعته إلى الهدوء والتعبّد فطلق العالم ومغرياته ، ووضع ابنه في منصبه. وبالطريقة نفسها تخلّص من بعض إخوته ، فثبّت أقدامه بحزم وقوة وأصبحت له السلطة المطلقة في موطنه راوندوز. وأخذ بعد ذلك يعمل على تعزيز سطوته وجمع الأتباع استعدادا لمعاركه المقبلة. لكن نهضته الحقيقية تبدأ بالحرب التي نشبت بين إيران وروسية حين اضطر الأمير المالك إلى سحب قواته وتحشيدها تجاه عدو أشد خطرا على

__________________

ـ للهجرة ما يلي : «ان عشيرة البلباس القاطنة بين الحدودين في لاهيجان وأشنو وكوهية كانت تقوم بالاعتداء باستمرار على سوج بولاق ومراغة وأرومية الإيرانية ، الأمر الذي كان يضر بمصالح الدولتين. وبناء على الشكوى الواردة عن هذه التعديات فقد أرسل والي بغداد المرحوم علي باشا متصرف السليمانية إبراهيم باشا لتأديب هذه العشيرة. وقد قام بمهاجمة قسم من العشائر الموجودة في أربيل وردهم».

(١) جاء في الجزء الثاني من كتاب (عشائر العراق الكردية) أن محمد باشا الراوندوزي هو ابن مصطفى بك بن أحمد بك بن أوغوز بك بن أحمد الثاني بن مصطفى بك بن علي بك بن سليمان بك بن الشاه قولي بك مؤسس شقلاوة.

١٤

البلاد بعد أن كان يهم بسحق المير وتأديبه. فاستغلّ المير هذه الفرصة ، ولم يسترجع جميع المناطق التي كان الأمير الإيراني قد حرمه منها فحسب بل مدّ يده أيضا إلى الغرب والشمال وتوفق في ذلك بحيث أصبح الآن مسيطرا على قسم كبير من شمالي ما بين النهرين ، إلى جانب الأصقاع الممتدة من أربيل إلى كركوك في الجانب الشرقي من دجلة.

والمقول بصورة أكيدة أن ما يقرب من خمسين ألف رجل يقفون الآن تحت تصرّفه ، وتدفع للنصف الأحسن من هؤلاء أجورهم بانتظام وهم يعملون بصورة مستديمة لأنه لا يزال يستخدمهم في إخضاع المناطق العاصية عليه ، وهكذا تتسع ممتلكاته بسرعة. لكن الجزء المهم من القصة كلها هو التغيّر الأخلاقي الكبير الذي حصل في البلاد التي أخضعها لحكمه. فإن البلاد بعد أن كانت تحتلها أمة من اللصوص الذين ما إن يجدوا مسافرا يمر إلّا ويحاولون إيقافه وسلبه ، أو الذين يقدمون على ذبح المرء إذا وجدوا بيضة في يده كما يقولون هم أنفسهم ، قد أصبحت خالية من أية سرقة أو سارق. فقد قضى على صنعة اللصوصية من أصلها بعملية بتارة : إذ صار الذي تكتشف بحوزته أشياء تعود للغير يعاقب في نفس المكان الذي يكتشف أمره فيه ، أو يقتل من دون رحمة. وتتوقف العقوبة في هذا الشأن على ظروف الجريمة ، فيعاقب المذنب لأول مرة بسمل واحدة من عينيه أو قطع إحدى يديه أو بجدع الأنف أحيانا. ثم يعاقب للمرة الثانية بتشويه أشد من هذا القبيل ، أما في المرة الثالثة فإنه يعاقب بالموت على الدوام.

ولا شك أن صرامة هذا القانون تستدعيها الظروف السائدة في البلاد التي يراد ضبطها ، والحالة فيها. فهو قانون رئيس من رؤساء اللصوص ينفذه من دون خوف أو وجل ، ومن دون أن يعفى منه أحد ، لأجل أن يسيطر به على رجال عصابته. وحينما يعلم الجميع بأن أحكام هذا القانون لا استئناف لها ولا تمييز ، وليس هناك رحمة في عدالته ، فإنهم لا بد أن يرتجفوا ويطيعوا. ولا شك أن أي شيء يقل عن ذلك في صرامته وقسوته لا يمكن أن يكون مؤثرا في هذه الظروف. فكان لذلك وقع شديد بين الناس بحيث صار كل من في البلاد

١٥

الخاضعة لحكم المير وسيطرته لا يمس حتى كيس الذهب إذا وجده في الطريق ، وإنما يخبر مختار القرية القريبة من الموقع ، وهذا بدوره يكون من واجبه أن يبعث من يحضره له فيحفظه عنده حتى يتم تسليمه إلى صاحبه الشرعي ، على أن يخبر المير نفسه بذلك في الوقت نفسه.

ويروى عن المير أنه تناهى إليه ذات يوم أن أحد إخوته المقرّبين إليه مرّ راكبا ببستان يعود لرجل فقير واقتطف رمانة منه ، دون أن يترخّص من صاحبه.

فبعث عليه وواجهه بالتهمة التي لم ينكرها ، ثم سأله عن اليد التي اقتطف بها الرمانة والأصبع الذي قطعها به ، فأمر بقطعه. وتروى عنه قصة أخرى فتذكرنا بقصة مماثلة تؤثر عن نادر شاه الذي لا يقل عنه المير صرامة وقسوة. فقد وجدت جثة رجل على قارعة الطريق بالقرب من إحدى القرى ، وقد شوّهتها الذئاب وبنات آوى ومزّقتها شرّ ممزّق. فوصل خبرها إلى المير نفسه ، وأمر بإجراء التحريات المعتادة جميعها لكن القتلة لم يتوصل أحد إلى معرفتهم.

وحينما سئل القرويون عن جلية الأمر ألقوا اللوم على ذئاب الغابة المجاورة التي سبق أن التهمت القسم الأكبر من الجثة. فأمر المير بإحضار الذئاب ، وعند ذاك خرجت القرية كلها للقبض على الذئاب لأن سكانها كانوا على علم بالعاقبة الوخيمة التي تنتظرهم فيما لو عجزوا عن ذلك. وحينما جيء ببعض الذئاب إلى الرجل العظيم أمر بتعذيبها وقتلها قتلا فظيعا أخذت ترتجف لهو له أوصال القرويين الذين شاهدوها ، حتى أجهدوا أنفسهم في اكتشاف القتلة وتسليمهم إلى العدالة لإنقاذ أنفسهم من المصير المرعب الذي كان يدل عليه ما حدث للذئاب المسكينة. وهذه القصة وإن تكن بعيدة الوقوع ، فإنها تدل على الضوء الذي يجب أن ينظر فيه إلى أعمال هذا الرجل.

ولأجل أن يتسنّى لي وصف أمير كتب له على ما يظهر أن يؤثر تأثيرا مهمّا في جزء كبير من هذه البلاد الطريفة جدا أراني مضطرا للانتفاع ببعض النبذ المستمدة من يوميات الدكتور روص طبيب المقيمية البريطانية ببغداد الذي أسعفه الحظ فتسنى له أن يقوم برحلة في هذه البلاد المخطرة بدعوة من المير نفسه. فإن المير مصطفى والد مير راوندوز كان رجلا أعمى على ما يبدو ،

١٦

ويأمل أن يرد بصره إليه اتصل المير بالكولونيل تايلور (المقيم) ورجاه بأن يوفد له طبيبا إنكليزيا يجرّب فيه ما عنده من مهارة. فاغتنم الكولونيل تايلور هذه الفرصة لتنمية العلاقات مع هذا الرجل العجيب في الحال ، وكلّف الدكتور روص بهذه المهمة الطريفة. فتوجّه إلى بلاد المير في قافلة يرأسها عمّه بايزيد بك الذي كان قد أرسل إلى بغداد للاتصال بالمقيم البريطاني حول القضية.

على أنه من الضروري أن أخبركم أولا بأن المير ، علاوة على جميع فتوحات فيما بين النهرين والقسم الأسفل من بلاد آشور ، كان في ذلك الوقت قد امتدت يده إلى بلاد العمادية ، الخصبة الواسعة على كونها جبلية وعرة ، التي تقع في شمال غرب راوندوز وشمالي الموصل أيضا. وقد كانت هذه الدويلة ، أو الباشوية لأنها كانت في حكم أحد الباشوات ، موضع ثناء الجميع ومدحهم لخصبها وجمالها ولكثافة السكان فيها. فقد أجمع عدة رجال محترمين في تصريحهم لي على أنها تحتوي على اثني عشر ألف قرية ، غير صغيرة ، تتألف كل منها من عدد من الأسر (أو البيوت) يتراوح بين المئتين والثلاثمائة. وهذا قول لا بد أن يكون بعيدا كل البعد عن الواقع ، لأننا إذا اعتبرنا أن القرية الواحدة تحتوي على مئة وخمسين بيتا فقط ، وإذا افترضنا أن كل بيت يضم خمسة أنفس لا غير نجد أن المجموع يبلغ تسعة ملايين نسمة ، وهو عدد يتجاوز عدد الموجود من السكان في إيران كلها. ولذلك لا بد أن يؤخذ الرقم هذا ليدل على أن العمادية كثيرة السكان لا غير.

وقد كان يحكمها باشا ينتمي إلى أسرة كردية معروفة ، بتنصيب من الباب العالي. لكن سوء حكمه ، والحسد الذي قوبل به من الآخرين ، والنزعات المحلية ، قد أدّت كلها إلى إسقاطه عنه. فأصبحت البلاد منقسمة إلى عدة رئاسات محلية صغيرة لا تلتفت بشيء إلى الباشا الحاكم الذي كان رجلا ضعيفا أحمق ، أضاع سلطته وسطوته على الناس وحبس نفسه في قصره المنيع الموجود في العمادية ، بينما كان المير يكتسح البلاد ويقضي على هذه الرئاسات الشخصية واحدة بعد أخرى. وباستغلال الضغائن العائلية والخيانة دفع المير الرشوات المناسبة ودخل تلك القلعة المهمة ، ومن هناك أخذ يوجه

١٧

جهوده بمزيد من الحيوية للقضاء على ما تبقى من القلاع في تلك البلاد. على أن العمادية لم تكن قد سقطت بعد حينما زار البلاد الدكتور روص ، وكان المير منهمكا في محاصرة عقرة ، إحدى القلاع الحصينة جدا الواقعة على الزاب ، والتي تبعد مسيرة أربع عشرة ساعة من شمال أربيل.

وكان الدكتور روص قد غادر بغداد في منتصف مايس ١٨٣٣ م ، وبين الملاحظات الأولى التي دوّنها عن الرحلة التباين الكبير الموجود ما بين المناطق التركية والكردية من حيث السكان والشؤون الزراعية. فقد كانت جميع القرى في المناطق التركية مهجورة ، لأن السكان قد فرّوا منها لتحاشي ما كانت تفرضه الحكومة عليهم. وكل من بقي فيها كان يلهج بالتذمر من باشا بغداد ، علي باشا ، وحالما كان يظهر في الأفق رجل من رجال الحكومة كان الناس يفرّون من وجهه ليخفوا أنفسهم عنه. غير أن قافلة الدكتور ما إن وصلت لآلتون كوبري حتى تقاطر الناس عليها لاستقبال بايزيد بك ، وهم يضعون الزهور فوق رؤوسهم كما يفعلون في أيام العطل والمناسبات ، وتزاحموا على تقبيل يده ، ثم هتفوا له حينما مرّ أمامهم.

وقد كان السهل الممتد ما بين آلتون كوبري وأربيل مكسوّا بالأزهار المختلطة بأوفر أنواع الخضرة وأبهجها ، كما كانت البلاد تعج بالسكان. ويصف الدكتور روص استقبال بايزيد بك في آخر مكان بكونه على غاية ما يكون من الجمال والروعة ، من ناحية الملابس والأزياء والروح الودية التي كانت تبعث الحياة في تلك المناظر الخلابة.

وفي التاسع عشر من مايس ترك الدكتور روص أربيل متوجها إلى راوندوز التي كان يقيم بالقرب منها مصطفى بك العجوز ، هدف الناحية المهنية من سفرته. وبعد أن اجتازوا بلادا جبلية مخصبة ، مغطاة بالكثير من أشجار البلوط القصيرة ، وارتقوا عددا من الممرات المنحدرة ، وصلوا إلى دمدم محل إقامة الرجل العجوز الذي كانوا يشرفون منه على وادي راوندوز وقلعتها ، حيث كانت الأخيرة على بعد مسافة لا تزيد على ساعة ركوب واحدة. ودمدم قلعة صغيرة مشيدة فوق قمة صخرية شاهقة يبلغ ارتفاعها مئة قدم ، وتشرف

١٨

على بلدة صغيرة تتألف من مئة دار حقيرة تنتشر بين غابة كثيفة من البساتين الحاوية لكل نوع من أنواع الأشجار المثمرة. وكانت بلدة راوندوز تتألف ، على ما يبدو من هذا الموقع ، من حوالي ألفي دار متواضعة مع شيء يشبه القلعة يقع ما بين الجبال على الضفة الجنوبية من الزاب الكبير ، الذي كان يمتد من فوقه جسر من جذوع الأشجار المستندة على دعامتين حجريتين والمغطاة بشيء من الأغصان والتراب. وقد كان النهر ضيّقا سريع الجريان ، جائشا عميقا ، لكن الأكلاك على بعد ثماني ساعات من أسفل هذا الموقع كان من الممكن لها أن تعبره. ولم يسمح للدكتور بزيارة راوندوز ، ولا بالتجوال الكثير في المنطقة ، لكنه يذكر بين ما سمع من الأشياء التي تلفت النظر شيئا واحدا على الأخص. فقد ذكر شيئا عن عمود من الرخام يقوم فوق قاعدة مضلعة ويبلغ طوله كله حوالي ثلاثة رماح (ثلاثون إلى خمسة وثلاثين قدما) ، وهو مغطى بالكتابات المنحوتة فيه ، وقد أبدى عدد من الأوربيين من قبل رغبة في مشاهدته في مختلف الأوقات ، لكنهم لم يسمح لهم كلهم بذلك. ومما قيل في هذا الشأن أن العمود يبعد عن دمدم مسيرة يومين ، والمعتقد أن الملكة سميراميس هي التي أقامته هناك.

ولم يكتب الدكتور روص عن دمدم وسكانها بلهجة مشجعة. فقد كتب يقول عن السكان «إنهم على ما يبدو لا يعرفون شيئا عما هو حسن في العالم. وهم يلبسون ألبسة خلقة ، وبيوتهم أشبه بأقنان الخنازير لا غير. يضاف إلى ذلك أنهم وحوش متجهمو الخلقة ، لا يعطون حتى ولا جرعة واحدة من الحليب من دون تذمر وصخب ، وكل شيء آخر لا بدّ أن ينتزع منهم بالقوة. وحينما أعطيتهم بعض الأدوية أخذوا يدمدمون لأني لأني لم أزودهم بالقناني اللازمة لحفظها بها». على أن لباس الموسرين منهم كان يشبه لباس البغداديين. أما الفقراء فقد كانوا يرتدون سترة قصيرة ، وسراويل صوفية فضفاضة ، وصديريا من اللباد لا أردان له ، مع أحذية قطنية ، وجوارب صوفية. كما كانوا يضعون فوق رؤوسهم العمامة الكردية الخاصة. ويلبس النساء ثوبا أزرق ، مع سراويل فضفاضة مشدودة من أسفل حول رسغ الرجلين ، وعباءة

١٩

مربعة تشد من زاويتين بحيث تصبح مدلاة من فوق الظهر. أما في الرأس فيلبس قطعة مدورة من الفضة تتدلّى منها دلايات كبيرة تعلّق في كل منها قطع من العملة حول الرأس والرقبة ، مصنوعة كلها من الفضة. وتعدّ طريقة التحية عندهم شيئا مستغربا ، إذ يمسك أحد المتسالمين الآخر من المعصم الأيمن ويقبّل ذراعه. وفي كل مساء كان ستة أو ثمانية من القرويين يتناولون العشاء في بيت المير ، مع عدد من المحاربين القدماء من أصدقاء شبابه. ومما لا حظه الدكتور هنا انتشار الرمد بين الناس.

وقد تبيّن أن المير العجوز (مصطفى) أعمى لا يرجى له شفاء. وسبب ذلك ، على ما يرويه هو نفسه ، أنه أصيب بالرمد ذات يوم لأنه وضع الثلج فوق رأسه حينما اشتد عليه الحر أثناء تسلقه الجبل الذي وجد فوقه طبقة سميكة منه. على أن بعض الروايات تزعم أن عينيه قد سملتا بأمر من ابنه ، وتم ذلك بواسطة «ميل» ساخن إلى حد الاحمرار لكن الدكتور روص يؤكد بأن هذا خطأ محض. أما سبب تنازله عن الحكم لابنه فهو على جانب أكبر من الشك وعدم التأكد. إذ يزعم البعض أن تنحيته كانت بالقوة ، بينما كان يقول آخرون إنه اقتنع بأن ابنه سيكون أعظم منه فتنازل له عن الحكم طوعا لا كرها.

وللمير محمد ، أو الباشا ، أربعة إخوة على قيد الحياة. غير أن اثنين منهم ، وهما تيمور خان وسليمان بك ، قد سجنا (١) في قلعة تقع على بعد خمس ساعات من راوندوز. وكان الأخ الثالث أحمد بك يتولى حاكمية أربيل ، بينما كان الرابع وهو رسول بك يتولى شؤون الجيش. يضاف إلى ذلك أن المير له ثلاث زوجات من دون ذرية ، وليس من المؤمل وهو في الخامسة

__________________

(١) جاء في (أربعة قرون من تاريخ العراق الحديث) في هذا الشأن : «.. وكان دويلة راوندوز الصغيرة قد انتقلت في حدود عام ١٨١٠ م من يد أغوز بك إلى مصطفى بك وهذا ، بعد أن حارب البابانيين حربا غير منقطعة ، تزوج منهم زواج حلف وانصرف إلى توحيد مملكته فوحدها. وحكمها بحكمة ، وأخذ الحكومة محمد بك ـ أي المير محمد ـ من يدي والده الواهنتين قبل وفاته. ومات مصطفى في ١٨٢٦ م ، وتبعه محمد فقتل عميه في الحال».

٢٠