فرائد الأصول - ج ٤

الشيخ مرتضى الأنصاري

فرائد الأصول - ج ٤

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


المحقق: لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: خاتم الأنبياء
الطبعة: ٩
ISBN: 964-5662-05-2
الصفحات: ٣٥٢

من صاحب المعالم رحمه‌الله في تقرير دليل الانسداد (١).

لو وقع التعادل للمجتهد في عمل نفسه أو للمفتي لأجل الإفتاء

ثمّ المحكيّ عن جماعة (٢) ـ بل قيل : إنّه ممّا لا خلاف فيه (٣) ـ :

أنّ التعادل إن وقع للمجتهد كان مخيّرا في عمل نفسه.

وإن وقع للمفتي لأجل الإفتاء فحكمه أن يخيّر المستفتي ، فيتخيّر في العمل كالمفتي.

ووجه الأوّل واضح.

وأمّا وجه الثاني ؛ فلأنّ نصب الشارع للأمارات وطريقيّتها يشمل المجتهد والمقلّد ، إلاّ أنّ المقلّد عاجز عن القيام بشروط العمل بالأدلّة من حيث تشخيص مقتضياتها ودفع موانعها ، فإذا أثبت ذلك المجتهد ، وأثبت (٤) جواز العمل لكلّ (٥) من الخبرين المتكافئين ، المشترك بين المقلّد والمجتهد ، تخيّر المقلّد كالمجتهد.

ولأنّ إيجاب مضمون أحد الخبرين على المقلّد لم يقم عليه دليل ، فهو تشريع.

ويحتمل أن يكون التخيير للمفتي ، فيفتي بما اختار ؛ لأنّه حكم

__________________

(١) انظر المعالم : ١٩٢.

(٢) حكاه السيّد المجاهد ـ في مفاتيح الاصول : ٦٨٢ ـ عن جماعة ، منهم العلاّمة في النهاية (مخطوط) : ٤٥٠ ، وتهذيب الوصول : ٩٨ ، ومبادئ الوصول : ٢٣١ ، والسيّد العميدي في منية اللبيب (مخطوط) : الورقة ١٦٩.

(٣) القائل هو السيد المجاهد في مفاتيح الاصول : ٦٨٢.

(٤) لم ترد «أثبت» في (ر) و (ت).

(٥) كذا في (ر) ، وفي غيرها : «بكلّ».

٤١

للمتحيّر ، وهو المجتهد. ولا يقاس هذا بالشكّ الحاصل للمجتهد في بقاء الحكم الشرعيّ ، مع أنّ حكمه ـ وهو البناء على الحالة السابقة ـ مشترك بينه وبين المقلّد ؛ لأنّ الشكّ هناك في نفس الحكم الفرعيّ المشترك وله حكم مشترك ، والتحيّر هنا في الطريق إلى الحكم ، فعلاجه بالتخيير مختصّ بمن يتصدّى لتعيين الطريق ، كما أنّ العلاج بالترجيح مختصّ (١) به.

فلو فرضنا أنّ راوي أحد الخبرين عند المقلّد أعدل وأوثق من الآخر ؛ لأنّه أخبر وأعرف به ، مع تساويهما عند المجتهد أو انعكاس الأمر عنده ، فلا عبرة بنظر المقلّد. وكذا لو فرضنا تكافؤ قولي اللغويين في معنى لفظ الرواية ، فالعبرة بتخيّر (٢) المجتهد ، لا تخيّر (٣) المقلّد بين حكم يتفرّع على أحد القولين وآخر يتفرّع على الآخر.

والمسألة محتاجة إلى التأمّل ، وإن كان وجه المشهور أقوى.

هذا حكم المفتي.

لو وقع التعادل للحاكم والقاضي فالظاهر التخيير

وأمّا الحاكم والقاضي ، فالظاهر ـ كما عن جماعة (٤) ـ : أنّه يتخيّر أحدهما فيقضي به ؛ لأنّ القضاء والحكم عمل له لا للغير فهو المخيّر ، ولما عن بعض (٥) : من أنّ تخيّر (٦) المتخاصمين لا يرتفع معه الخصومة.

__________________

(١) لم ترد «بمن يتصدّى ـ إلى ـ مختصّ» في (ظ).

(٢) في (ص) و (ظ) : «تخيير» ، وفي (ر) و (ه) : «تحيّر».

(٣) في (ص) و (ظ) : «تخيير» ، وفي (ر) و (ه) : «تحيّر».

(٤) حكاه عنهم السيّد المجاهد أيضا.

(٥) كالعلاّمة في النهاية (مخطوط) : ٤٥٠ ، والسيّد العميدي في منية اللبيب (مخطوط) : الورقة ١٦٩.

(٦) في (ظ) : «تخيير».

٤٢

هل التخيير بدويّ أو استمراري؟

ولو حكم على طبق إحدى الأمارتين في واقعة ، فهل له الحكم على طبق الاخرى في واقعة اخرى؟

المحكيّ عن العلاّمة رحمه‌الله وغيره (١) : الجواز ، بل حكي نسبته إلى المحقّقين (٢) ؛ لما عن النهاية : من أنّه ليس في العقل ما يدلّ على خلاف ذلك ، ولا يستبعد وقوعه ـ كما لو تغيّر اجتهاده ـ إلاّ أن يدلّ دليل شرعيّ خارج على عدم جوازه ، كما روي أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لأبي بكر : «لا تقض في الشيء الواحد (٣) بحكمين مختلفين (٤)».

مختار المصنّف التخيير البدويّ

أقول : يشكل الجواز ؛ لعدم الدليل عليه ؛ لأنّ دليل التخيير إن كان الأخبار الدالّة عليه ، فالظاهر أنّها مسوقة لبيان وظيفة المتحيّر في ابتداء الأمر ، فلا إطلاق فيها بالنسبة إلى حال المتحيّر بعد الالتزام بأحدهما. وأمّا العقل الحاكم بعدم جواز طرح كليهما فهو ساكت من هذه الجهة أيضا (٥) ، والأصل عدم حجّيّة الآخر له (٦) بعد الالتزام

__________________

(١) حكاه أيضا السيّد المجاهد عن العلاّمة في النهاية والتهذيب ، وكذا عن السيّد العميدي في المنية.

(٢) نسبه إلى المحقّقين السيّد العميدي في منية اللبيب (مخطوط) : الورقة ٦٩ ، وحكاه عنه السيد المجاهد في مفاتيح الاصول.

(٣) في منية اللبيب زيادة : «لخصمين».

(٤) نهاية الوصول (مخطوط) : ٤٥٠ ، وحكاه عنه السيد المجاهد في مفاتيح الاصول ، ولفظ الحديث هكذا : «لا يقضي أحد في أمر بقضاءين» ، انظر كنز العمّال ٦ : ١٠٣ ، الحديث ١٥٠٤١.

(٥) «أيضا» من (ظ).

(٦) «له» من (ظ).

٤٣

بأحدهما ، كما تقرّر في دليل عدم جواز العدول عن فتوى (١) مجتهد إلى مثله.

نعم ، لو كان الحكم بالتخيير في المقام من باب تزاحم الواجبين كان الأقوى استمراره ؛ لأنّ المقتضي له في السابق موجود بعينه. بخلاف التخيير الظاهريّ في تعارض الطريقين ، فإنّ احتمال تعيين ما التزمه قائم ، بخلاف التخيير الواقعيّ ، فتأمّل (٢).

واستصحاب التخيير غير جار ؛ لأنّ الثابت سابقا ثبوت الاختيار لمن لم يتخيّر ، فإثباته لمن اختار والتزم إثبات للحكم في غير موضوعه (٣) الأوّل.

وبعض المعاصرين (٤) رحمه‌الله استجود هنا كلام العلاّمة رحمه‌الله ؛ مع أنّه منع من العدول عن أمارة إلى اخرى وعن مجتهد إلى آخر (٥) ، فتدبّر.

حكم التعادل في الأمارات المنصوبة في غير الأحكام

ثمّ إنّ حكم التعادل في الأمارات المنصوبة في غير الأحكام ـ كما في أقوال أهل اللغة وأهل الرجال ـ هو وجوب التوقّف ؛ لأنّ الظاهر اعتبارها من حيث الطريقيّة إلى الواقع ـ لا السببيّة المحضة ـ وإن لم يكن منوطا بالظنّ الفعليّ ، وقد عرفت أنّ اللازم في تعادل ما هو من هذا القبيل التوقّف والرجوع إلى ما يقتضيه الأصل في ذلك المقام.

__________________

(١) لم ترد «فتوى» في (ظ).

(٢) لم ترد «فتأمّل» في (ظ).

(٣) في (ت) و (ر) : «موضعه».

(٤) هو السيد المجاهد في مفاتيح الاصول : ٦٨٢.

(٥) راجع مفاتيح الاصول : ٦٨٦ و ٦١٦.

٤٤

إلاّ أنّه إن جعلنا الأصل من المرجّحات ـ كما هو المشهور وسيجيء (١) ـ لم يتحقّق التعادل بين الأمارتين إلاّ بعد عدم موافقة شيء منهما للأصل ، والمفروض عدم جواز الرجوع إلى الثالث ؛ لأنّه طرح للأمارتين ، فالأصل الذي يرجع إليه هو الأصل في المسألة المتفرّعة على مورد التعارض ، كما لو فرضنا تعادل أقوال أهل اللغة في معنى «الغناء» أو «الصعيد» أو «الجذع» من الشاة في الأضحية ، فإنّه يرجع إلى الأصل في المسألة الفرعيّة.

لا بدّ من الفحص عن المرجّحات في المتعارضين

بقي هنا ما يجب التنبيه عليه خاتمة للتخيير ومقدّمة للترجيح ، وهو : أنّ الرجوع إلى التخيير غير جائز (٢) إلاّ بعد الفحص التامّ عن المرجّحات ؛ لأنّ مأخذ التخيير :

إن كان هو العقل الحاكم بأنّ عدم إمكان الجمع في العمل لا يوجب إلاّ طرح البعض ، فهو لا يستقلّ بالتخيير في المأخوذ والمطروح إلاّ بعد عدم مزيّة في أحدهما اعتبرها الشارع في العمل. والحكم بعدمها لا يمكن إلاّ بعد القطع بالعدم ، أو الظنّ المعتبر ، أو إجراء أصالة العدم التي لا تعتبر فيما له دخل في الأحكام الشرعيّة الكلّية إلاّ بعد الفحص التامّ ، مع أنّ أصالة العدم لا تجدي في استقلال العقل بالتخيير ، كما لا يخفى.

وإن كان مأخذه الأخبار ، فالمتراءى منها ـ من حيث سكوت بعضها عن جميع المرجّحات ـ وإن كان جواز الأخذ بالتخيير ابتداء ،

__________________

(١) في (ظ) زيادة : «الكلام فيه» ، انظر الصفحة ١٥١.

(٢) كذا في (ص) و (ظ) ، وفي غيرهما : «غير جار».

٤٥

إلاّ أنّه يكفي في تقييدها دلالة بعضها الآخر على وجوب الترجيح ببعض المرجّحات المذكورة فيها ، المتوقّف على الفحص عنها ، المتمّمة فيما لم يذكر فيها من المرجّحات المعتبرة بعدم القول بالفصل بينها.

هذا ، مضافا إلى لزوم الهرج والمرج ، نظير ما يلزم من العمل بالاصول العمليّة واللفظيّة قبل الفحص.

هذا ، مضافا إلى الإجماع القطعيّ ـ بل الضرورة ـ من كلّ من يرى وجوب العمل بالراجح من الأمارتين ؛ فإنّ الخلاف وإن وقع من جماعة (١) في وجوب العمل بالراجح من الأمارتين وعدم وجوبه لعدم اعتبار الظنّ في أحد الطرفين ، إلاّ أنّ من أوجب العمل بالراجح أوجب الفحص عنه ، ولم يجعله واجبا مشروطا بالاطّلاع عليه. وحينئذ ، فيجب على المجتهد الفحص التامّ عن وجود المرجّح لإحدى الأمارتين.

__________________

(١) سيأتي ذكرهم في الصفحة ٤٧ ـ ٤٨.

٤٦

المقام الثاني

في التراجيح

تعريف الترجيح

الترجيح : تقديم إحدى الأمارتين على الاخرى في العمل ؛ لمزيّة لها عليها بوجه من الوجوه.

وفيه مقامات :

الأوّل : في وجوب ترجيح أحد الخبرين بالمزيّة الداخليّة أو الخارجيّة الموجودة فيه.

الثاني : في ذكر المزايا المنصوصة ، والأخبار الواردة.

الثالث : في وجوب الاقتصار عليها أو التعدّي إلى غيرها.

الرابع : في بيان المرجّحات الداخليّة والخارجيّة.

أمّا المقام الأوّل

المشهور وجوب الترجيح والاستدلال عليه

فالمشهور فيه وجوب الترجيح (١). وحكي عن جماعة (٢) ـ منهم

__________________

(١) انظر مفاتيح الاصول : ٦٨٦.

(٢) انظر مفاتيح الاصول : ٦٨٦ ، وفواتح الرحموت المطبوع ذيل المستصفى ٢ : ١٨٩.

٤٧

الباقلاني والجبّائيان ـ عدم الاعتبار بالمزيّة وجريان حكم التعادل.

ويدلّ على المشهور ـ مضافا إلى الإجماع المحقّق والسيرة القطعيّة والمحكيّة عن الخلف والسلف (١) وتواتر الأخبار (٢) بذلك ـ : أنّ حكم المتعارضين (٣) من الأدلّة ـ على ما عرفت (٤) ـ بعد عدم جواز طرحهما معا ، إمّا التخيير لو كانت الحجّية من باب الموضوعيّة والسببيّة ، وإمّا التوقّف لو كانت من باب الطريقيّة ، ومرجع التوقّف أيضا إلى التخيير إذا لم نجعل الأصل من المرجّحات أو فرضنا الكلام في مخالفي الأصل ؛ إذ على تقدير الترجيح بالأصل يخرج صورة مطابقة أحدهما للأصل عن مورد التعادل. فالحكم بالتخيير ، على تقدير فقده أو كونه مرجعا ، بناء على أنّ الحكم في المتعادلين مطلقا التخيير ، لا الرجوع إلى (٥) الأصل المطابق لأحدهما (٦). والتخيير (٧) إمّا بالنقل وإمّا بالعقل ، أمّا النقل فقد قيّد فيه التخيير بفقد المرجّح ، وبه يقيّد ما اطلق فيه التخيير ، وأمّا العقل فلا يدلّ على التخيير بعد احتمال اعتبار الشارع للمزيّة وتعيين العمل بذيها.

__________________

(١) انظر غاية البادئ (مخطوط) : ٢٧٩ ، وغاية المأمول (مخطوط) : الورقة ٢١٨.

(٢) أي : أخبار الترجيح الآتية في الصفحة ٥٧ ـ ٦٧.

(٣) في (ظ) : «المتعادلين».

(٤) راجع الصفحة ٣٧ ـ ٣٨.

(٥) «الرجوع إلى» من (ت) و (ه).

(٦) لم ترد «إذ على تقدير ـ إلى ـ المطابق لأحدهما» في (ظ).

(٧) شطب على «التخيير» في (ه) ، وفي (ت) كتب فوقه : «زائد».

٤٨

ولا يندفع هذا الاحتمال بإطلاق أدلّة العمل بالأخبار ؛ لأنّها في مقام تعيين العمل بكلّ من المتعارضين مع الإمكان ، لكن صورة التعارض ليست من صور إمكان العمل بكلّ منهما ، وإلاّ لتعيّن العمل بكليهما. والعقل إنّما يستفيد من ذلك الحكم المعلّق بالإمكان عدم جواز طرح كليهما (١) ، لا التخيير بينهما ، وإنّما يحكم بالتخيير بضميمة أنّ تعيين أحدهما ترجيح بلا مرجّح ، فإن استقلّ بعدم المرجّح حكم بالتخيير ؛ لأنّه نتيجة عدم إمكان الجمع وعدم جواز الطرح وعدم وجود المرجّح لأحدهما ، وإن لم يستقلّ بالمقدّمة الثالثة توقّف عن التخيير ، فيكون العمل بالراجح معلوم الجواز والعمل بالمرجوح مشكوكا.

المناقشة في وجوب الترجيح

فإن قلت :

أوّلا : إنّ كون الشيء مرجّحا ـ مثل كون الشيء دليلا ـ يحتاج إلى دليل ؛ لأنّ التعبّد بخصوص الراجح إذا لم يعلم من الشارع كان الأصل عدمه ، بل العمل به مع الشكّ يكون تشريعا ، كالتعبّد بما لم يعلم حجّيته.

وثانيا : إذا دار الأمر بين وجوب أحدهما على التعيين وأحدهما على البدل ، فالأصل براءة الذمّة عن خصوص الواحد المعيّن ، كما هو مذهب جماعة في مسألة دوران الأمر بين التخيير والتعيين (٢).

الجواب عن المناقشة

قلت : إنّ كون الترجيح كالحجّية أمرا يجب ورود التعبّد به من الشارع مسلّم ، إلاّ أنّ الالتزام بالعمل بما علم جواز العمل به من

__________________

(١) في (ظ) زيادة : «مع إمكان الأخذ بأحدهما».

(٢) راجع مبحث البراءة ٢ : ٣٥٧.

٤٩

الشارع من دون استناد الالتزام (١) إلى إلزام الشارع (٢) ، احتياط لا يجري فيه ما تقرّر في وجه حرمة العمل بما وراء العلم ، فراجع (٣). نظير الاحتياط بالتزام ما دلّ أمارة غير معتبرة على وجوبه مع عدم (٤) احتمال الحرمة أو العكس (٥).

عدم اندراج المسألة في مسألة «دوران الأمر بين التعيين والتخيير»

وأمّا إدراج المسألة في مسألة دوران المكلّف به بين أحدهما المعيّن وأحدهما على البدل ، ففيه : أنّه لا ينفع بعد ما اخترنا في تلك المسألة وجوب الاحتياط وعدم جريان قاعدة البراءة.

والأولى منع اندراجها في تلك المسألة ؛ لأنّ مرجع الشكّ في المقام إلى الشكّ في جواز العمل بالمرجوح ، ولا ريب أنّ مقتضى القاعدة المنع عمّا لم يعلم جواز العمل به من الأمارات ، وهي ليست مختصّة بما إذا شكّ في أصل الحجّية ابتداء ، بل تشمل ما إذا شكّ في الحجّية الفعليّة مع إحراز الحجّية الشأنيّة ، فإنّ المرجوح وإن كان حجّة في نفسه ، إلاّ أنّ حجّيته فعلا مع معارضة الراجح ـ بمعنى جواز العمل به فعلا ـ غير معلوم ، فالأخذ به والفتوى بمؤدّاه تشريع محرّم بالأدلّة الأربعة.

التحقيق في المسألة

هذا ، والتحقيق : أنّا إن قلنا بأنّ العمل بأحد المتعارضين في الجملة

__________________

(١) لم ترد «الالتزام» في (ص).

(٢) لم ترد «من دون استناد الالتزام إلى إلزام الشارع» في (ر).

(٣) في (ظ) بدل «احتياط ـ إلى ـ فراجع» : «ليس أمرا تعبّديا فلا التزام بالعمل بالراجح» ، وراجع مبحث الظنّ ١ : ١٢٦.

(٤) «عدم» من (ت).

(٥) لم ترد «مع عدم احتمال الحرمة أو العكس» في (ظ).

٥٠

مستفاد من حكم الشارع به بدليل الإجماع والأخبار العلاجيّة ، كان اللازم الالتزام بالراجح وطرح المرجوح وإن قلنا بأصالة البراءة عند دوران الأمر في المكلّف به بين التعيين والتخيير ؛ لما عرفت : من أنّ الشكّ في جواز العمل بالمرجوح فعلا ، ولا ينفع وجوب العمل به عينا في نفسه مع قطع النظر عن المعارض ، فهو كأمارة لم يثبت حجّيتها أصلا.

وإن لم نقل بذلك ، بل قلنا باستفادة العمل بأحد المتعارضين من نفس أدلّة العمل بالأخبار (١) :

فإن قلنا بما اخترناه : من أنّ الأصل التوقّف ـ بناء على اعتبار الأخبار من باب الطريقيّة والكشف الغالبي عن الواقع ـ فلا دليل على وجوب الترجيح بمجرّد قوّة في أحد الخبرين ؛ لأنّ كلاّ منهما جامع لشرائط الطريقيّة ، والتمانع يحصل بمجرّد ذلك ، فيجب الرجوع إلى الاصول الموجودة في تلك المسألة إذا لم تخالف كلا المتعارضين ، فرفع اليد عن مقتضى الأصل المحكّم في كلّ (٢) ما لم يكن طريق فعليّ على خلافه ، بمجرّد مزيّة لم يعلم اعتبارها ، لا وجه له ؛ لأنّ المعارض المخالف بمجرّده ليس طريقا فعليّا ؛ لابتلائه بالمعارض الموافق للأصل ، والمزيّة الموجودة لم يثبت تأثيرها في دفع (٣) المعارض.

وتوهّم : استقلال العقل بوجوب العمل بأقرب الطريقين إلى الواقع ، وهو الراجح.

__________________

(١) لم ترد «بل قلنا ـ إلى ـ بالأخبار» في (ظ).

(٢) لم ترد «كلّ» في (ظ).

(٣) في (ر) : «رفع».

٥١

مدفوع : بأنّ ذلك إنّما هو فيما كان بنفسه طريقا ـ كالأمارات المعتبرة لمجرّد إفادة الظنّ ـ وأمّا (١) الطرق المعتبرة شرعا من حيث إفادة نوعها الظنّ وليس اعتبارها منوطا بالظنّ ، فالمتعارضان المفيدان منها بالنوع للظنّ في نظر الشارع سواء. وما نحن فيه من هذا القبيل ؛ لأنّ المفروض أنّ المعارض المرجوح لم يسقط من الحجّيّة الشأنيّة ، كما يخرج الأمارة المعتبرة بوصف الظنّ عن الحجّيّة إذا كان معارضها أقوى.

وبالجملة : فاعتبار قوّة الظنّ في الترجيح في تعارض ما لم ينط اعتباره بإفادة الظنّ أو بعدم الظنّ على الخلاف لا دليل عليه.

وإن قلنا بالتخيير ـ بناء على اعتبار الأخبار من باب السببيّة والموضوعيّة ـ فالمستفاد بحكم العقل من دليل وجوب العمل بكلّ من المتعارضين مع الإمكان ، كون وجوب العمل بكلّ منهما عينا مانعا عن وجوب العمل بالآخر كذلك ، ولا تفاوت بين الوجوبين في المانعيّة قطعا. ومجرّد مزيّة أحدهما على الآخر بما يرجع إلى أقربيّته إلى الواقع لا يوجب كون وجوب العمل بالراجح مانعا عن العمل بالمرجوح دون العكس ؛ لأنّ المانع بحكم العقل هو مجرّد الوجوب ، والمفروض وجوده في المرجوح. وليس في هذا الحكم العقليّ إهمال وإجمال وواقع مجهول حتّى يحتمل تعيين الراجح ووجوب طرح المرجوح.

وبالجملة : فحكم العقل بالتخيير نتيجة وجوب العمل بكلّ منهما في حدّ ذاته ، وهذا الكلام مطّرد في كلّ واجبين متزاحمين.

نعم ، لو كان الوجوب في أحدها آكد والمطلوبيّة فيه أشدّ ، استقلّ

__________________

(١) في (ظ) بدل «وأمّا» : «لا».

٥٢

العقل عند التزاحم بوجوب ترك غيره ، وكون وجوب الأهمّ مزاحما لوجوب غيره من دون عكس. وكذا لو احتمل الأهميّة في أحدهما دون الآخر. وما نحن فيه ليس كذلك قطعا ؛ فإنّ وجوب العمل بالراجح من الخبرين ليس آكد من وجوب العمل بغيره.

هذا ، وقد عرفت فيما تقدّم (١) : أنّا لا نقول بأصالة التخيير في تعارض الأخبار ، بل ولا غيرها من الأدلّة ؛ بناء على أنّ الظاهر من أدلّتها وأدلّة حكم تعارضها كونها من باب الطريقيّة ، ولازمه التوقّف والرجوع إلى الأصل المطابق لأحدهما أو أحدهما المطابق للأصل ، إلاّ أنّ الدليل الشرعيّ دلّ على وجوب العمل بأحد المتعارضين في الجملة ، وحيث كان ذلك بحكم الشرع فالمتيقّن من التخيير هو صورة تكافؤ الخبرين.

الأصل وجوب العمل بالمرجّح ، بل ما يحتمل كونه مرجّحا

أمّا مع مزيّة أحدهما على الآخر من بعض الجهات فالمتيقّن هو جواز العمل بالراجح ، وأمّا العمل بالمرجوح فلم يثبت ، فلا يجوز الالتزام به (٢) ، فصار الأصل وجوب العمل بالراجح ، وهو أصل ثانوي ، بل الأصل فيما يحتمل كونه مرجّحا الترجيح به ، إلاّ أن يرد عليه إطلاقات التخيير ؛ بناء على وجوب الاقتصار في تقييدها على ما علم كونه مرجّحا.

استدلال آخر على وجوب الترجيح والمناقشة فيه

وقد يستدلّ على وجوب الترجيح (٣) : بأنّه لو لا ذلك لاختلّ نظم

__________________

(١) راجع الصفحة ٣٨.

(٢) «به» من (ت).

(٣) انظر مفاتيح الاصول : ٦٨٧.

٥٣

الاجتهاد ، بل نظام الفقه ؛ من حيث لزوم التخيير بين الخاصّ والعامّ والمطلق والمقيّد وغيرهما من الظاهر والنصّ المتعارضين.

وفيه : أنّ الظاهر خروج مثل هذه المعارضات عن محلّ النزاع ؛ فإنّ الظاهر لا يعدّ معارضا للنصّ ، إمّا لأنّ العمل به لأصالة عدم الصارف المندفعة بوجود النصّ ، وإمّا لأنّ ذلك لا يعدّ تعارضا في العرف. ومحلّ النزاع في غير ذلك.

ضعف القول بعدم وجوب الترجيح وضعف دليله

وكيف كان ، فقد ظهر ضعف القول المزبور وضعف دليله المذكور (١) ، وهو : عدم الدليل على الترجيح بقوّة الظنّ.

وأضعفيّة دليله الآخر

وأضعف من ذلك ما حكي عن النهاية ، من احتجاجه : بأنّه لو وجب الترجيح بين الأمارات في الأحكام لوجب عند تعارض البيّنات ، والتالي باطل ؛ لعدم تقديم شهادة الأربعة على الاثنين (٢).

جواب العلّامة عن هذا الدليل

وأجاب عنه في محكيّ النهاية والمنية : بمنع بطلان التالي ، وأنّه يقدّم شهادة الأربعة على الاثنين. سلّمنا ، لكن عدم الترجيح في الشهادة ربما كان مذهب أكثر الصحابة ، والترجيح هنا مذهب الجميع (٣) ، انتهى.

المناقشة في جواب العلّامة قدس‌سره

ومرجع الأخير إلى أنّه لو لا الإجماع حكمنا بالترجيح في البيّنات أيضا.

__________________

(١) في (ر) و (ه) زيادة : «له».

(٢) نهاية الوصول (مخطوط) : ٤٥١ ـ ٤٥٢ ، وحكاه عنه في مفاتيح الاصول : ٦٨٨.

(٣) نهاية الوصول (مخطوط) : ٤٥٢ ، ومنية اللبيب (مخطوط) : الورقة ١٦٩ ، وحكاه عنهما السيد المجاهد في مفاتيح الاصول : ٦٨٨.

٥٤

ويظهر ما فيه ممّا ذكرنا سابقا (١) ؛ فإنّا لو بنينا على أنّ حجّيّة البيّنة من باب الطريقيّة ، فاللازم مع التعارض التوقّف والرجوع إلى ما يقتضيه الاصول في ذلك المورد : من التحالف ، أو القرعة ، أو غير ذلك.

ولو بني على حجّيّتها من باب السببيّة والموضوعيّة ، فقد ذكرنا : أنّه لا وجه للترجيح بمجرّد أقربيّة أحدهما إلى الواقع ؛ لعدم تفاوت الراجح والمرجوح في الدخول فيما دلّ على كون البيّنة سببا للحكم على طبقها ، وتمانعهما مستند إلى مجرّد سببيّة كلّ منهما ، كما هو المفروض. فجعل أحدهما مانعا دون الآخر لا يحتمله العقل.

حمل أخبار الترجيح على الاستحباب في كلام السيّد الصدر

ثمّ إنّه يظهر من السيّد الصدر ـ الشارح للوافية ـ الرجوع في المتعارضين من الأخبار إلى التخيير أو التوقّف (٢) والاحتياط ، وحمل أخبار الترجيح على الاستحباب ، حيث قال ـ بعد إيراد إشكالات على العمل بظاهر الأخبار ـ :

«إنّ الجواب عن الكلّ ما أشرنا إليه : من أنّ الأصل التوقّف في الفتوى والتخيير في العمل إن لم يحصل من دليل آخر العلم بعدم مطابقة أحد الخبرين للواقع ، وأنّ الترجيح هو الفضل والأولى» (٣).

المناقشة في ما أفاده السيّد الصدر

ولا يخفى بعده عن مدلول أخبار الترجيح. وكيف يحمل الأمر بالأخذ بما يخالف (٤) العامّة وطرح ما وافقهم على الاستحباب ، خصوصا

__________________

(١) راجع الصفحة ٣٨.

(٢) كذا في النسخ ، والمناسب : «والتوقّف» ، كما هو مفاد كلام السيّد الصدر.

(٣) شرح الوافية (مخطوط) : ٥٠٠.

(٤) كذا في (ص) ، وفي غيرها : «بمخالف».

٥٥

مع التعليل ب «أنّ الرشد في خلافهم» ، و «أنّ قولهم في المسائل مبنيّ على مخالفة أمير المؤمنين عليه‌السلام فيما يسمعونه منه». وكذا الأمر بطرح الشاذّ النادر ، وبعدم الاعتناء والالتفات إلى حكم غير الأعدل والأفقه من الحكمين.

مع أنّ في سياق تلك المرجّحات موافقة الكتاب والسنّة ومخالفتهما ، ولا يمكن حمله على الاستحباب ، فلو حمل غيره عليه لزم التفكيك ، فتأمّل.

وكيف كان ، فلا شكّ أنّ التفصّي عن الإشكالات الداعية له إلى ذلك ، أهون من هذا الحمل (١).

ثمّ لو سلّمنا دوران الأمر بين تقييد أخبار التخيير وبين حمل أخبار الترجيح على الاستحباب ، فلو لم يكن الأوّل أقوى وجب التوقّف ، فيجب العمل بالترجيح ؛ لما عرفت (٢) : من أنّ حكم الشارع بأحد المتعارضين إذا كان مردّدا بين التخيير والتعيين وجب التزام ما احتمل تعيينه.

__________________

(١) في (ر) ، (ه) و (ص) زيادة : «لما عرفت من عدم جواز الحمل على الاستحباب».

(٢) راجع الصفحة ٥٠.

٥٦

المقام الثاني

الأخبار العلاجيّة

في ذكر الأخبار الواردة في أحكام المتعارضين ، وهي أخبار :

١ ـ مقبولة عمر بن حنظلة

الأوّل : ما رواه المشايخ الثلاثة (١) بإسنادهم عن (٢) عمر بن حنظلة :

«قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجلين من أصحابنا ، يكون بينهما منازعة في دين أو ميراث ، فتحاكما إلى السلطان أو إلى القضاة ، أيحلّ ذلك؟

قال عليه‌السلام : من تحاكم إليهم في حقّ أو باطل ، فإنّما تحاكم إلى الطاغوت ، وما يحكم له فإنّما يأخذه سحتا وإن كان حقّه ثابتا ؛ لأنّه أخذ (٣) بحكم الطاغوت ، وإنّما أمر الله أن يكفر به. قال الله تعالى : (يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ)(٤).

قلت : فكيف يصنعان؟

قال : ينظران إلى من كان منكم ممّن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا ، فليرضوا به حكما ، فإنّي قد جعلته عليكم حاكما. فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل (٥) منه ، فإنّما بحكم الله

__________________

(١) وهم الكليني والصدوق والشيخ قدّس الله أسرارهم.

(٢) في (ر) بدل «عن» : «إلى».

(٣) في (ص) و (ظ) والكافي : «أخذه».

(٤) النساء : ٦٠.

(٥) في المصادر : «فلم يقبله».

٥٧

استخفّ وعلينا قد ردّ ، والرادّ علينا الرادّ على الله ، وهو على حدّ الشرك بالله.

قلت : فإن كان كلّ رجل يختار رجلا من أصحابنا ، فرضيا أن يكونا الناظرين في حقّهما ، فاختلفا في ما حكما ، وكلاهما اختلفا في حديثكم؟

قال : الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما. ولا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر.

قلت : فإنّهما عدلان مرضيّان عند أصحابنا ، لا يفضل واحد منهما على الآخر؟

قال : ينظر إلى ما كان من روايتهم (١) عنّا في ذلك الذي حكما به المجمع عليه بين أصحابك ، فيؤخذ به من حكمهما (٢) ويترك الشاذّ الذي ليس بمشهور عند أصحابك ؛ فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه ، وإنّما الامور ثلاثة : أمر بيّن رشده فيتّبع ، وأمر بيّن غيّه فيجتنب ، وأمر مشكل يردّ حكمه إلى الله (٣). قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : حلال بيّن وحرام بيّن وشبهات بين ذلك ، فمن ترك الشبهات نجا من المحرّمات ، ومن أخذ بالشبهات وقع في المحرّمات (٤) وهلك من حيث لا يعلم.

قال : قلت : فإن كان الخبران عنكم مشهورين ، قد رواهما الثّقات عنكم؟

__________________

(١) كذا في النسخ والكافي ، وفي سائر المصادر : «روايتهما».

(٢) في المصادر : «من حكمنا».

(٣) في التهذيب والفقيه زيادة : «عزّ وجلّ» وفي الكافي زيادة : «وإلى رسوله» ، وفي التهذيب : «وإلى الرسول».

(٤) في المصادر : «ارتكب المحرّمات».

٥٨

قال : ينظر ، فما (١) وافق حكمه حكم الكتاب والسنّة وخالف العامّة فيؤخذ به ، ويترك ما خالف الكتاب والسنّة ووافق العامّة.

قلت : جعلت فداك ، أرأيت إن كان الفقيهان عرفا حكمه من الكتاب والسنّة ، فوجدنا أحد الخبرين موافقا للعامّة والآخر مخالفا (٢) ، بأيّ الخبرين يؤخذ؟

قال : ما خالف العامّة ففيه الرشاد.

فقلت (٣) : جعلت فداك ، فإن وافقهم (٤) الخبران جميعا.

قال : ينظر إلى ما هم إليه أميل ، حكّامهم وقضاتهم ، فيترك ويؤخذ بالآخر.

قلت : فإن وافق حكّامهم الخبرين جميعا.

قال : إذا كان كذلك (٥) فأرجه (٦) حتّى تلقى إمامك ؛ فإنّ الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات» (٧).

ظهور المقبولة في وجوب الترجيح بالمرجّحات

وهذه الرواية الشريفة وإن لم تخل عن الإشكال بل الإشكالات

__________________

(١) في التهذيب : «فيما».

(٢) في الفقيه زيادة : «لها» ، وفي غيره : «لهم».

(٣) في (ظ) والتهذيب والفقيه : «قلت».

(٤) في (ت) ، (ر) ، (ه) ونسخة بدل (ص) : «وافقها» ، وفي المصادر : «وافقهما».

(٥) كذا في (ص) و (ظ) والفقيه ، وفي غيرها : «ذلك».

(٦) في الوسائل : «فأرجئه».

(٧) الكافي ١ : ٦٧ و ٦٨ ، الحديث ١٠ ، والتهذيب ٦ : ٣٠١ ، و ٣٠٢ ، الحديث ٨٤٥ ، والفقيه ٣ : ٨ ـ ١١ ، الحديث ٣٢٣٣ ، والوسائل ١٨ : ٧٥ و ٧٦ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث الأوّل.

٥٩

ـ من حيث ظهور صدرها في التحكيم لأجل فصل الخصومة وقطع المنازعة ، فلا يناسبها التعدّد ، ولا غفلة كلّ من الحكمين عن المعارض الواضح لمدرك حكمه ، ولا اجتهاد المترافعين وتحرّيهما في ترجيح مستند أحد الحكمين على الآخر ، ولا جواز الحكم من أحدهما بعد حكم الآخر مع بعد فرض وقوعهما دفعة ، مع أنّ الظاهر حينئذ تساقطهما والحاجة إلى حكم ثالث ـ ظاهرة بل صريحة في وجوب الترجيح بهذه المرجّحات بين الأخبار المتعارضة (١) ، فإنّ تلك الإشكالات لا تدفع هذا الظهور ، بل الصراحة.

بعض الإشكالات في ترتّب المرجّحات في المقبولة

نعم يرد عليه بعض الإشكالات في ترتّب المرجّحات ؛ فإنّ ظاهر الرواية تقديم الترجيح من حيث صفات الراوي على الترجيح بالشهرة والشذوذ ، مع أنّ عمل العلماء قديما وحديثا على العكس ـ على ما يدلّ عليه المرفوعة الآتية (٢) ـ فإنّهم (٣) لا ينظرون عند تعارض المشهور والشاذّ إلى صفات الراوي أصلا.

اللهمّ إلاّ أن يمنع ذلك ؛ فإنّ الراوي إذا فرض كونه أفقه وأصدق وأورع ، لم يبعد ترجيح روايته ـ وإن انفرد بها ـ على الرواية المشهورة بين الرواة ؛ لكشف اختياره إيّاها مع فقهه وورعه عن اطّلاعه على قدح في الرواية المشهورة ـ مثل صدورها تقيّة ـ أو تأويل لم يطّلع عليه غيره ؛ لكمال فقاهته وتنبّهه لدقائق الامور وجهات الصدور. نعم ، مجرّد

__________________

(١) في غير (ت) و (ر) بدل «الأخبار المتعارضة» : «المتعارضين».

(٢) تأتي في الصفحة ٦٢.

(٣) في (ر) ونسخة بدل (ص) : «فإنّ العلماء».

٦٠