فرائد الأصول - ج ٣

الشيخ مرتضى الأنصاري

فرائد الأصول - ج ٣

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


المحقق: لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: خاتم الأنبياء
الطبعة: ٩
ISBN: 964-5662-04-4
الصفحات: ٤٣٩

ما لو قال : بعتك بعبد ، فقال : بل بحرّ ، فراجع كتب الفاضلين (١) والشهيدين (٢).

وأمّا ما ذكره : من أنّ الظاهر إنّما يتمّ مع الاستكمال المذكور لا مطلقا ، فهو إنّما يتمّ إذا كان الشكّ من جهة بلوغ الفاعل ، ولم يكن هناك طرف آخر معلوم البلوغ يستلزم صحّة فعله صحّة فعل هذا الفاعل ، كما لو شكّ في أنّ الإبراء أو الوصيّة هل صدر منه حال البلوغ أم قبله؟ أمّا إذا كان الشكّ في ركن آخر من العقد ، كأحد العوضين ، أو في أهليّة أحد طرفي العقد ، فيمكن أن يقال : إنّ الظاهر من الفاعل في الأوّل ، ومن الطرف الآخر في الثاني ، أنّه لا يتصرّف فاسدا.

نعم ، مسألة الضمان يمكن أن يكون من الأوّل ، إذا فرض وقوعه بغير إذن من المديون ، ولا قبول من الغريم ؛ فإنّ الضمان حينئذ فعل واحد شكّ في صدوره من بالغ أو غيره ، وليس له طرف آخر ، فلا ظهور في عدم كون تصرّفه فاسدا.

لكنّ الظاهر : أنّ المحقّق لم يرد خصوص ما كان من هذا القبيل ، بل يشمل كلامه الصورتين الأخيرتين ، فراجع. نعم ، يحتمل ذلك في عبارة التذكرة.

__________________

(١) انظر شرائع الإسلام ٢ : ٣٣ ، وقواعد الأحكام ٢ : ٩٦.

(٢) انظر المسالك ٣ : ٢٦٧ ، ولكن لم نعثر عليه في ما بأيدينا من كتب الشهيد الأوّل. نعم ، حكاه صاحب الجواهر في الجواهر (٢٣ : ١٩٥) عن الحواشي المنسوبة للشهيد على القواعد. وفي (ظ) زيادة : «وسيأتي الكلام فيه إن شاء الله».

٣٦١

ثمّ إنّ تقديم قول منكر الشرط المفسد ليس لتقديم قول مدّعي الصحّة ، بل لأنّ القول قول منكر الشرط ، صحيحا كان أو فاسدا ؛ لأصالة عدم الاشتراط ، ولا دخل لهذا بحديث أصالة الصحّة وإن كان مؤدّاه صحّة العقد فيما كان الشرط المدّعى مفسدا. هذا ، ولا بدّ من التأمّل والتتبّع.

٣٦٢

الثالث

صحّة كلّ شيء بحسبه وباعتبار آثار نفسه

أنّ هذا الأصل إنّما يثبت صحّة الفعل إذا وقع الشكّ في بعض الامور المعتبرة شرعا في صحّته ، بمعنى ترتّب الأثر المقصود منه عليه ، فصحّة كلّ شيء بحسبه.

مثلا : صحّة الإيجاب عبارة عن كونه بحيث لو تعقّبه قبول صحيح لحصل أثر العقد ، في مقابل فاسده الذي لا يكون كذلك ، كالإيجاب بالفارسيّة بناء على القول باعتبار العربيّة. فلو تجرّد الإيجاب عن القبول لم يوجب ذلك فساد الإيجاب.

فإذا شكّ في تحقّق القبول من المشتري بعد العلم بصدور الإيجاب من البائع ، فلا يقضي (١) أصالة الصحّة في الإيجاب بوجود القبول ؛ لأنّ القبول معتبر في العقد لا في الإيجاب.

وكذا لو شكّ في تحقّق القبض في الهبة أو في الصرف أو السلم بعد العلم بتحقّق الإيجاب والقبول ، لم يحكم بتحقّقه من حيث أصالة صحّة العقد.

__________________

(١) في (ظ): «يقتضي».

٣٦٣

وكذا (١) لو شكّ في إجازة المالك لبيع الفضوليّ ، لم يصحّ إحرازها بأصالة الصحّة.

وأولى بعدم الجريان ما لو كان العقد في نفسه لو خلّي وطبعه مبنيّا على الفساد ، بحيث يكون المصحّح طارئا عليه ، كما لو ادّعى بائع الوقف وجود المصحّح له ، وكذا الراهن أو المشتري من الفضوليّ إجازة المرتهن والمالك.

وممّا يتفرّع على ما ذكرنا

وممّا يتفرّع على ذلك أيضا : أنّه لو اختلف المرتهن الآذن في بيع الرهن والراهن البائع له ـ بعد اتّفاقهما على رجوع المرتهن عن إذنه ـ في تقدّم الرجوع على البيع فيفسد ، أو تأخّره فيصحّ ، فلا يمكن أن يقال ـ كما قيل (٢) ـ : من أنّ أصالة صحّة الإذن تقضي بوقوع البيع صحيحا ، ولا أنّ أصالة صحّة الرجوع تقضي بكون البيع فاسدا ؛ لأنّ الإذن والرجوع كليهما قد فرض وقوعهما على الوجه الصحيح ، وهو صدوره عمّن له أهليّة ذلك والتسلّط عليه. فمعنى ترتّب الأثر عليهما أنّه لو وقع فعل المأذون عقيب الإذن وقبل الرجوع ترتّب عليه الأثر ، ولو وقع فعله بعد الرجوع كان فاسدا ، أمّا لو لم يقع عقيب الإذن (٣) فعل ، بل وقع في زمان ارتفاعه ، ففساد هذا الواقع لا يخلّ بصحّة الإذن. وكذا لو فرض عدم وقوع الفعل عقيب الرجوع فانعقد صحيحا ، فليس هذا من جهة فساد الرجوع ، كما لا يخفى.

__________________

(١) في (ر): «ولذا».

(٢) لعلّه صاحب الجواهر ، كما سيأتي.

(٣) كذا في نسخة بدل (ت) ، وفي غيرها بدل «الإذن» : «الأوّل».

٣٦٤

نعم ، أصالة (١) بقاء الإذن إلى أن يقع البيع قد يقضي بصحّته ، وكذا أصالة عدم البيع قبل الرجوع ربما يقال : إنّها تقضي بفساده ، لكنّهما لو تمّا لم يكونا من أصالة صحّة الإذن ـ بناء على أنّ عدم وقوع البيع بعده يوجب لغويّته ـ ولا من أصالة صحّة (٢) الرجوع التي تمسّك بها (٣) بعض المعاصرين (٤).

والحقّ في المسألة ما هو المشهور (٥) : من الحكم بفساد البيع ، وعدم جريان أصالة الصحّة في المقام ، لا في البيع ـ كما استظهره الكركي (٦) ـ ولا في الإذن ، ولا في الرجوع.

أمّا في البيع ، فلأنّ الشكّ إنّما وقع في رضا من له الحقّ وهو المرتهن ، وقد تقدّم (٧) أنّ صحّة الإيجاب والقبول لا يقضي بتحقّق الرضا ممّن يعتبر رضاه ، سواء كان مالكا ـ كما في بيع الفضولي ـ أم كان له

__________________

(١) «أصالة» من (ص).

(٢) في (ص) بدل «أصالة صحة» : «أصالتي صحّتي الإذن».

ـ وفي (ظ) بدل «لم يكونا ـ إلى ـ ولا من أصالة صحة» : «يكونان من أصالة صحة الإذن و».

(٣) كذا في (خ) ، وفي غيره : «بهما» ، والصحيح ما أثبتناه ؛ إذ لم يتمسّك في الجواهر بأصالة صحّة الإذن.

(٤) هو صاحب الجواهر في الجواهر ٢٥ : ٢٦٧. وفي غير (ظ) زيادة : «تبعا لبعض».

(٥) انظر مفتاح الكرامة ٥ : ٢١٦.

(٦) كما تقدّم ، راجع الصفحة ٣٤٦.

(٧) في الصفحة ٣٦٣.

٣٦٥

حقّ في المبيع ، كالمرتهن.

وأمّا في الإذن ، فلما عرفت : من أنّ صحّته تقضي بصحّة البيع إذا فرض وقوعه عقيبه لا بوقوعه عقيبه ، كما أنّ صحّة الرجوع تقضي بفساد ما يفرض وقوعه بعده ، لا أنّ البيع وقع بعده.

والمسألة بعد محتاجة إلى التأمّل بعد التتبّع في كلمات الأصحاب.

٣٦٦

الرابع

اعتبار إحراز أصل العمل في أصالة الصحّة

أنّ مقتضى الأصل ترتيب الشاكّ جميع ما هو من آثار الفعل الصحيح عنده. فلو صلّى شخص على ميّت سقط عنه ، ولو غسل ثوبا بعنوان التطهير حكم بطهارته وإن شكّ في شروط الغسل ـ من إطلاق الماء ، ووروده على النجاسة ـ لا إن علم بمجرّد غسله ؛ فإنّ الغسل من حيث هو ليس فيه صحيح وفاسد ؛ ولذا لو شوهد من يأتي بصورة عمل من صلاة أو طهارة أو نسك حجّ ، ولم يعلم قصده تحقّق (١) هذه العبادات ، لم يحمل على ذلك. نعم ، لو أخبر بأنّه كان بعنوان تحقّقه (٢) أمكن قبول قوله ، من حيث إنّه مخبر عادل ، أو من حيثيّة اخرى.

الإشكال في الفرق بين صلاة الغير على الميّت وبين الصلاة عن الميت تبرّعا أو بالإجارة

وقد يشكل الفرق بين ما ذكر من الاكتفاء بصلاة الغير على الميّت بحمله على الصحيح ، وبين الصلاة عن الميّت تبرّعا أو بالإجارة ، فإنّ المشهور عدم الاكتفاء بها إلاّ أن يكون عادلا.

ولو فرّق بينهما بأنّا لا نعلم وقوع الصلاة من النائب في مقام

__________________

(١) في (ظ) بدل «تحقّق» : «لحقيقة».

(٢) في (ظ) بدل «تحقّقه» : «الحقيقة».

٣٦٧

إبراء الذمّة وإتيان الصلاة على أنّها صلاة ؛ لاحتمال تركه لها بالمرّة ، أو إتيانه بمجرّد الصورة لا بعنوان أنّها صلاة عنه ، اختصّ الإشكال بما إذا علم من حاله كونه في مقام الصلاة وإبراء ذمّة الميّت ، إلاّ أنّه يحتمل عدم مبالاته بما يخلّ بالصلاة ، كما يحتمل ذلك في الصلاة على الميّت ، إلاّ أن يلتزم بالحمل على الصحّة في هذه الصورة.

و (١) قد حكم بعضهم (٢) باشتراط العدالة فيمن يوضّئ العاجز عن الوضوء إذا لم يعلم العاجز بصدور الفعل عن الموضّئ صحيحا ؛ ولعلّه لعدم إحراز كونه في مقام إبراء ذمّة العاجز ، لا لمجرّد احتمال عدم مبالاته في الأجزاء والشرائط ، كما قد لا يبالي في وضوء نفسه.

توجيه الفرق

ويمكن أن يقال ـ فيما إذا كان الفعل الصادر عن المسلم على وجه النيابة عن الغير المكلّف بالعمل أوّلا وبالذات ، كالعاجز عن الحجّ ـ : إنّ لفعل النائب عنوانين :

أحدهما : من حيث إنّه فعل من أفعال النائب ، ولذا يجب عليه مراعاة الأجزاء والشروط المعتبرة في المباشر (٣) ، وبهذا الاعتبار يترتّب عليه جميع آثار صدور الفعل الصحيح منه ، مثل : استحقاق الاجرة ، وجواز استيجاره ثانيا بناء على اشتراط فراغ ذمّة الأجير في صحّة استيجاره ثانيا.

__________________

(١) في نسخة بدل (ص) زيادة : «لهذا يجب عليه مراعاة الأجزاء والشروط المعتبرة في المباشر ؛ ولهذا الاعتبار».

(٢) لم نقف عليه.

(٣) لم ترد «المعتبرة في المباشر» في (ر) ، وفي (ص) كتب عليها : «نسخة» ، وفي (ه) بدل «المباشر» : «المباشرة».

٣٦٨

والثاني : من حيث إنّه فعل للمنوب عنه ، حيث إنّه بمنزلة الفاعل بالتسبيب أو الآلة ، وكان الفعل بعد قصد النيابة والبدليّة قائما بالمنوب عنه ، وبهذا الاعتبار يراعى فيه القصر والإتمام في الصلاة ، والتمتّع والقران في الحجّ ، والترتيب في الفوائت.

والصحّة من الحيثيّة الاولى لا تثبت الصحّة من هذه الحيثيّة الثانية ، بل لا بدّ من إحراز صدور الفعل الصحيح عنه على وجه التسبيب.

وبعبارة اخرى : إن كان فعل الغير يسقط التكليف عنه ، من حيث إنّه فعل الغير ، كفت أصالة الصحّة في السقوط ، كما في الصلاة على الميّت (١).

وإن كان إنّما يسقط التكليف عنه من حيث اعتبار كونه فعلا له ولو على وجه التسبيب ـ كما إذا كلّف بتحصيل فعل بنفسه أو ببدن (٢) غيره ، كما في استنابة (٣) العاجز للحجّ (٤) ـ لم تنفع أصالة الصحّة في سقوطه ، بل يجب التفكيك بين أثري الفعل من الحيثيّتين ، فيحكم باستحقاق النائب (٥) الاجرة ، وعدم براءة ذمّة المنوب عنه من الفعل.

__________________

(١) في (ظ) زيادة : «وكما في فعل الوكيل والأجير الذي لا يعتبر فيه قصد النيابة».

(٢) في (ه): «ببدل».

(٣) لم ترد «استنابة» في (ت) ، وورد بدلها في (ه): «استيجار».

(٤) لم ترد «ولو على وجه ـ إلى ـ للحجّ» في (ظ).

(٥) في (ر) و (ه) ونسختي بدل (ت) و (ص) بدل «النائب» : «الفاعل».

٣٦٩

وكما في استيجار الوليّ للعمل عن الميّت (١).

لكن يبقى الإشكال في استيجار الوليّ للعمل عن الميّت ؛ إذ لا يعتبر فيه قصد النيابة عن الوليّ. وبراءة ذمّة الميّت من آثار صحّة فعل الغير من حيث هو فعله ، لا من حيث اعتباره فعلا للوليّ ، فلا بدّ أن يكتفى فيه بإحراز إتيان صورة الفعل بقصد إبراء ذمّة الميّت ، ويحمل على الصحيح من حيث الاحتمالات الأخر.

ولا بدّ من التأمّل في هذا المقام أيضا بعد التتبّع التامّ في كلمات الأعلام.

__________________

(١) انظر الفصول : ٣٦٢.

٣٧٠

الخامس

عدم جواز الأخذ باللوازم في أصالة الصحّة

أنّ الثابت من القاعدة المذكورة الحكم بوقوع الفعل بحيث يترتّب عليه الآثار الشرعيّة المترتّبة على العمل الصحيح ، أمّا ما يلازم الصحّة من الامور الخارجة عن حقيقة الصحيح فلا دليل على ترتّبها عليه. فلو شكّ في أنّ الشراء الصادر من الغير كان بما لا يملك ـ كالخمر والخنزير ـ أو بعين من أعيان ماله ، فلا يحكم بخروج تلك العين من تركته ، بل يحكم بصحّة الشراء وعدم انتقال شيء من تركته إلى البائع لأصالة عدمه.

وهذا نظير ما ذكرنا سابقا (١) : من أنّه لو شكّ في صلاة العصر أنّه صلّى الظهر أم لا ، يحكم بفعل الظهر من حيث كونه شرطا لصلاة العصر ، لا فعل الظهر من حيث هو حتّى لا يجب إتيانه ثانيا (٢).

قال العلاّمة في القواعد ، في آخر كتاب الإجارة :

__________________

(١) راجع الصفحة ٣٤٠.

(٢) في (ت) ، (ر) و (ص) زيادة : «إلاّ أن يجري قاعدة الشكّ في الشيء بعد التجاوز عنه» ، لكن شطب عليها في (ت).

٣٧١

لو قال : آجرتك كلّ شهر بدرهم من غير تعيين ، فقال : بل سنة بدينار ، ففي تقديم قول المستأجر نظر ، فإن قدّمنا قول المالك فالأقوى صحّة العقد في الشهر الأوّل. وكذا الإشكال في تقديم قول المستأجر لو ادّعى اجرة مدّة معلومة أو عوضا معيّنا ، وأنكر المالك التعيين فيهما. والأقوى التقديم فيما لم يتضمّن دعوى (١) ، انتهى.

__________________

(١) قواعد الأحكام ٢ : ٣١٠.

٣٧٢

السادس

وجه تقديم أصالة الصحّة على استصحاب الفساد

في بيان ورود هذا الأصل على الاستصحاب ، فنقول :

أمّا تقديمه على استصحاب الفساد وما في معناه (١) فواضح ؛ لأنّ الشكّ في بقاء الحالة السابقة على الفعل المشكوك أو ارتفاعها ، ناش عن الشكّ في سببيّة هذا الفعل وتأثيره ، فإذا حكم بتأثيره فلا حكم لذلك الشكّ ، خصوصا إذا جعلنا هذا الأصل من الظواهر المعتبرة ، فيكون نظير حكم الشارع بكون الخارج قبل الاستبراء بولا ، الحاكم على أصالة بقاء الطهارة (٢).

وأمّا تقديمه على الاستصحابات الموضوعيّة المترتّب عليها الفساد

__________________

(١) في (ت) و (ه) بدل «ما في معناه» : «نحوه».

(٢) لم ترد «لأنّ الشكّ ـ إلى ـ بقاء الطهارة» في (ظ) ، وفي (ت) كتب عليها : «نسخة» ، وورد بدلها فيها : «لأنّ هذا الأصل إن كان من الظواهر المعتبرة فهو كاليد دليل اجتهادي لا يقاومه الاستصحاب ، وإن كان أصلا تعبّديّا فهو حاكم على أصالة الفساد ؛ لأنّ مرجعها إلى استصحاب عدم تحقّق الأثر عقيب الفعل المشكوك في تأثيره فإذا ثبت التأثير شرعا بهذا الأصل فيترك العدم السابق».

٣٧٣

اضطراب كلمات الأصحاب في تقديم أصالة الصحّة على الاستصحابات الموضوعيّة

ـ كأصالة عدم البلوغ ، وعدم اختبار المبيع بالرؤية أو الكيل أو الوزن ـ فقد اضطربت فيه كلمات الأصحاب ، خصوصا العلاّمة (١) وبعض من تأخّر عنه (٢).

التحقيق في المسألة

والتحقيق : أنّه إن جعلنا هذا الأصل من الظواهر ـ كما هو ظاهر كلمات جماعة بل الأكثر (٣) ـ فلا إشكال في تقديمه على تلك الاستصحابات.

وإن جعلناه من الاصول :

فإن اريد بالصحّة في قولهم : «إنّ الأصل الصحّة» نفس ترتّب الأثر ، فلا إشكال في تقديم الاستصحاب الموضوعيّ عليها ؛ لأنّه مزيل بالنسبة إليها.

__________________

(١) فقد صرّح في باب البيع بالرجوع إلى أصالة الصحّة في مسألة الاختلاف في البيع بالحرّ أو العبد ، انظر قواعد الأحكام ٢ : ٩٦ ، وبالتوقّف في مسألة ما لو ادّعى الصغر أو الجنون ، انظر نفس المصدر ، وبتقدّم أصالة عدم البلوغ على أصالة الصحّة في باب الضمان ، كما تقدّم في الصفحة ٣٥٨ ـ ٣٥٩ ، وبتعارضهما والرجوع إلى أصالة البراءة في بعض كلماته ، على ما حكى عنه القطب ، كما تقدّم في الصفحة ٣٥٩ ـ ٣٦٠.

(٢) مثل : المحقّق الثاني ، حيث حكم بأصالة الصحّة في باب البيع في مسألتي الاختلاف في البيع بالحرّ أو العبد ، وما لو ادّعى الصغر أو الجنون ، كما تقدّم في الصفحة ٣٥٩ ، وبالتفصيل بين استكمال الأركان وعدمه في بابي الضمان والإجارة ، كما تقدّم في الصفحة ٣٥٧ ـ ٣٥٨ ، وبالتوقّف في باب الإقرار في مسألة الاختلاف في البلوغ ، انظر جامع المقاصد ٩ : ٢٠٢ و ٢٠٣.

(٣) كما تقدّم في الصفحة ٣٥٥.

٣٧٤

وإن اريد بها كون الفعل بحيث (١) يترتّب عليه الأثر ـ بأن يكون الأصل مشخّصا للموضوع من حيث ثبوت الصحّة له ، لا مطلقا ـ ففي تقديمه على الاستصحاب الموضوعيّ نظر (٢) :

من أنّ أصالة عدم بلوغ البائع تثبت كون الواقع في الخارج بيعا صادرا عن غير بالغ ، فيترتّب عليه الفساد ، كما في نظائره من القيود العدميّة المأخوذة في الموضوعات الوجوديّة.

وأصالة الحمل على الصحيح تثبت كون الواقع بيعا صادرا عن بالغ ، فيترتّب عليه الصحّة ، فتتعارضان.

لكن التحقيق : أنّ (٣) الحمل على الصحيح يقتضي كون الواقع البيع الصادر عن بالغ ، وهو سبب شرعي في ارتفاع الحالة السابقة على العقد ، وأصالة عدم البلوغ لا توجب بقاء الحالة السابقة على العقد من حيث إحراز البيع الصادر عن غير بالغ بحكم الاستصحاب ؛ لأنّه لا يوجب الرجوع إلى الحالة السابقة على هذا العقد ؛ فإنّه ليس ممّا يترتّب عليه وإن فرضنا أنّه يترتّب عليه آثار أخر ؛ لأنّ عدم المسبّب من آثار عدم

__________________

(١) في (ص) بدل «بحيث» : «على وجه».

(٢) لم ترد «فإن اريد بالصحّة ـ إلى ـ نظر» في (ر) ، وفي (ت) كتب عليها : «نسخة بدل».

(٣) في (ر) ، (ص) و (ه) زيادة : «أصالة عدم البلوغ يوجب الفساد لا من حيث الحكم شرعا بصدور العقد من غير بالغ ، بل من حيث الحكم بعدم صدور عقد من بالغ ، فإنّ بقاء الآثار السابقة للعوضين مستند إلى عدم السبب الشرعي ، فالحمل ... الخ» ، وكتب عليها في (ه): «زائد».

٣٧٥

السبب لا من آثار ضدّه ، فنقول حينئذ : الأصل عدم وجود السبب ما لم يدلّ دليل شرعي على وجوده.

وبالجملة : البقاء على الحالة السابقة على هذا البيع مستند إلى عدم السبب الشرعي ، فإذا شكّ فيه بني على البقاء وعدم وجود المسبّب ، ما لم يدلّ دليل على كون الموجود المردّد بين السبب وغيره هو السبب ، فإذن لا منافاة بين الحكم بترتّب الآثار المترتّبة على البيع الصادر عن غير بالغ ، وترتّب الآثار المترتّبة على البيع الصادر عن بالغ ؛ لأنّ الثاني يقتضي انتقال المال عن البائع ، والأوّل لا يقتضيه ، لا أنّه يقتضي عدمه (١).

__________________

(١) لم ترد «فإن اريد بالصحّة في قولهم ـ إلى ـ يقتضي عدمه» في (ظ) ، وورد بدلها ما يلي : «وإن جعلناه من الاصول التعبديّة ، فإن استفدنا من ادلتها إثبات مجرّد صفة الصحّة للفعل المشكوك ، فهي معارضة لأصالة الفساد ؛ لأنّها تحقّق عدم ترتب الأثر. لكن الشك في الفساد لمّا كان مسبّبا دائما عن الشك في تحقق سبب الصحة ، أو أمر خارجيّ له دخل فيها ، كان أصالة عدم السبب أو عدم ذلك الأمر حاكمة على أصالة الصحة ؛ لأنّها مزيلة للشكّ في مجراها.

هذا بحسب ملاحظة أصالتي الصحّة والفساد ، إلاّ أنّ دليل أصالة الصحة لمّا كان أخصّ من دليل أصالة الفساد ـ أعني الاستصحاب ـ وكان اللازم من العمل بعموم الاستصحاب مع الشكّ في الفساد إلغاء دليل اصالة الصحة رأسا تعيّن تخصيص عموم الاستصحاب بدليل أصالة الصحّة.

وإن استفدنا من أدلّتها إثبات الفعل الموصوف بالصحة ، بأن جعلناها من الاصول الموضوعية ومن مشخّصات الفعل المشكوك في وقوعه على وجه يحكم عليه بالصحة ، فهي بالنسبة إلى أصالة الفساد ـ إذا كان الشك من جهة الشك في

٣٧٦

__________________

تحقق سبب الصحّة ـ حاكمة مزيلة ، كما إذا شككنا في كون العقد الواقع عربيا أو فارسيا أو بصيغة الماضي أو العقد الواقع على النقدين من دون تقابض بيعا حتّى يفسد أو صلحا حتّى يصح ؛ فإنّ المقتضي للحكم بعدم تحقق الأثر وهو أصالة عدم تحقق سبب الصحّة وهو العقد العربي بصيغة الماضي أو الصلح ، والشك في ذلك كلّه مسبّب عن الشك في كون السبب الواقع سببا أو لا؟ ، فإذا حكم الشارع بكونه سببا فقد ارتفع الشك في تحقّق الأثر وتحقّق سببه ، وأصالة عدم تحقّق سببه وأصالة عدم تحقّق السبب لا يقتضي عدم كون هذا العقد سببا ولا كونه واقعا على وجه الفساد.

وأمّا إذا كان الشك في شرط من شروط صحة العمل كبلوغ العاقد ورؤية المبيع ونحو ذلك ، فقد يتوهم : حكومة أصالة عدم الشرط على أصالة الحمل على الصحيح ؛ لأنّ الشك في كون الواقع هو الفرد الصحيح مسبّب عن الشك في تحقق الشرط ، فإذا احرز عدمه بالأصل ترتب عليه كون الفعل فاسدا.

ويندفع : بأنّ أصالة عدم البلوغ لا يثبت كون الواقع هو الفرد الفاسد ، حتّى يتبيّن مجرى أصالة الصحة أعني الشك في كون الواقع هو الفرد الصحيح أو الفاسد ، وإنّما يثبت كون الواقع فاسدا ، وهذا ليس مجرى أصالة الصحة ، وإنّما هو الأثر المترتب على حكم الشارع في مجراها ، لوجوب حمل الفعل المشكوك على فرده الصحيح ، فكلّ منهما أصل موضوعي مجراه الموضوع الخارجي ، وهو بلوغ العاقد أو عدمه ، والمترتّب على الأوّل كون العقد فاسدا ، والمترتب على الثاني كون العقد صحيحا ، فيتعارضان. والموضوع الخارجي الثاني وإن كان الشك فيه مسبّبا عن الشك في الموضوع الأوّل ، إلاّ أنّ خلافه ليس ممّا يترتّب بنفسه على إجراء الأصل في الأوّل نظير نجاسة الثوب المغسول بالماء المستصحب الطهارة المترتب خلافها على استصحاب طهارة الماء ، إلاّ أنّ إجراء الأصل في السبب

٣٧٧

__________________

لا يبيّن مجرى الأصل الثاني ؛ لأنّه من الموضوعات الخارجية الغير المترتبة بأنفسها على استصحاب أسبابها. والأصل في السبب إنّما يقدّم على الأصل الخارجي في المسبب إذا كان المسبّب بنفسه من مجعولات الشارع ، كنجاسة الثوب المغسول بالماء المستصحب الطهارة ؛ فإنّ استعمال طهارة الماء مبيّن لعدم نجاسة الثوب المستصحبة في نفسها.

نعم ، لو قلنا بالأصل المثبت كانت أصالة عدم البلوغ مبيّنة لكون العقد هو الفرد الفاسد.

وبالجملة : ففي المقام أصلان موضوعان رتّب الشارع عليهما أثرين متنافيين وهما كون العقد الواقع صحيحا فاسدا ، وستعرف أنّ مقتضى القاعدة في تعارض الأصلين التعبّديين التساقط ، فاللازم في المقام الرجوع إلى أصالة عدم ترتب الأثر ، فحينئذ يختص أصالة الصحة بما إذا كان الشك في تحقق أصل السبب من جهة دوران الفعل الواقع بين السبب وغيره ، كما تقدم إلاّ أن يثبت إجماع مركب بين الشك في نفس السبب والشك في الشرط ، أو يقال تخصيص القاعدة بما عدا الشك في الشروط يوجب قلّة فائدتها ، أو يقال إنّ المثبت مقدم على الثاني.

وكيف كان ، فدفع التنافي بين الاصلين وإثبات حكومة أحدهما على الآخر في غاية الإشكال. والله العالم».

ـ وقد وردت في (ت) زيادة كتب عليها : «خ ل زائد» ، وهي ما يلي : «لأنّه إذا شكّ في بلوغ البائع فالشكّ في كون الواقع البيع الصحيح بمعنى كونه بحيث يترتّب عليه الأثر شك في كون البيع صادرا من بالغ أو غيره ، هذا مرجعه إلى الشك في بلوغ البائع. فالشك في كون البيع الصادر من شخص صادرا من بالغ الذي هو مجرى أصالة الصحة ، والشك في بلوغ الشخص الصادر منه العقد الذي هو مجرى الاستصحاب ، مرجعهما إلى أمر واحد ، وليس الأوّل

٣٧٨

__________________

مسبّبا عن الثاني ؛ فإنّ الشك في المقيّد باعتبار القيد شك في القيد. فمقتضى الاستصحاب ترتّب أحكام العقد الصادر من غير بالغ ، ومقتضى هذا الأصل ترتّب حكم الصادر من بالغ ، فكما أنّ الأصل معيّن ظاهري للموضوع وطريق جعلي إليه ، فكذلك استصحاب عدم البلوغ طريق ظاهري للموضوع ؛ فإنّ أحكام العقد الصادر من غير البالغ لا يترتّب عند الشك في البلوغ إلاّ بواسطة ثبوت موضوعها بحكم الاستصحاب.

نعم ، لو قيل بتقديم المثبت على النافي عند تعارض الأصلين تعيّن ترجيح أصالة الصحة لكنّه محلّ تأمّل.

ويمكن أن يقال هنا : إنّ أصالة عدم البلوغ توجب الفساد لا من حيث الحكم شرعا بصدور العقد من غير بالغ ، بل من حيث الحكم بعدم صدور عقد من بالغ ؛ فإنّ بقاء الآثار السابقة مستند إلى عدم السبب الشرعي لا إلى عدم السببية شرعا فيما وقع.

نعم ، لمّا كان المفروض انحصار الواقع فيما حكم شرعا بعدم سببيّة تحقق البقاء ، فعدم سببيّة هذا العقد للأثر الذي هو مقتضى الاستصحاب لا يترتب عليه عدم الأثر ، وإنّما يترتب على عدم وقوع السبب المقارن لهذا العقد ، فلا أثر لأصالة عدم البلوغ المقتضية لعدم سببية العقد المذكور حتى يعارض أصالة الصحّة المقتضية لسببيّته ، وأصالة الصحة تثبت تحقق العقد الصادر من بالغ ، ولا معارضة في الظاهر بين عدم سببية هذا العقد الذي هو مقتضى الاستصحاب ، وبين وقوع العقد الصادر عن بالغ الذي يقتضيه أصالة الصحة ؛ لأنّ وجود السبب ظاهرا لا يعارضه عدم سببية شيء وإن امتنع اجتماعهما في الواقع من حيث إنّ الصادر شيء واحد.

لكن يدفع هذا : أن مقتضى أصالة الصحّة ليس وقوع فعل صحيح في

٣٧٩

__________________

الواقع ، بل يقتضي كون الواقع هو الفرد الصحيح. فإذا فرض نفي السببية عن هذا الواقع بحكم الاستصحاب حصل التنافي.

وإن قيل : إنّ الاستصحاب لا يقتضي نفي السببية ؛ لأنّ السببية ليست من المجعولات بل يثبت بقاء الآثار السابقة.

قلنا : كذلك أصالة الصحة لا تثبت وقوع السبب وإنّما تثبت حدوث آثار السبب.

وكيف كان ، فدفع التنافي بين الأصلين وإثبات حكومة أحدهما على الآخر في غاية الإشكال».

٣٨٠