الشيخ مرتضى الأنصاري
المحقق: لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: خاتم الأنبياء
الطبعة: ٩
ISBN: 964-5662-04-4
الصفحات: ٤٣٩
على عدمه بحكم العادة ، بل العقل ، فغرض الكتابيّ إثبات حقّية دينه بأسهل الوجهين.
بعض الأجوبة عن استصحاب الكتابي ومناقشتها |
ثمّ إنّه قد اجيب عن استصحاب الكتابيّ المذكور بأجوبة :
منها : ما حكي (١) عن بعض الفضلاء المناظرين له :
١ ـ ما ذكره بعض الفضلاء |
وهو أنّا نؤمن ونعترف بنبوّة كلّ موسى وعيسى أقرّ بنبوّة نبيّنا صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وكافر (٢) بنبوّة كلّ من لم يقرّ بذلك. وهذا مضمون ما ذكره مولانا الرضا عليهالسلام في جواب الجاثليق (٣).
وهذا الجواب بظاهره مخدوش بما عن الكتابيّ : من أنّ موسى بن عمران أو عيسى بن مريم شخص واحد وجزئيّ حقيقيّ اعترف المسلمون وأهل الكتاب بنبوّته ، فعلى المسلمين نسخها.
وأمّا ما ذكره الإمام عليهالسلام (٤) ، فلعلّه أراد به غير ظاهره ، بقرينة ظاهرة بينه وبين الجاثليق. وسيأتي ما يمكن أن يؤوّل به.
٢ ـ ما ذكره الفاضل النراقي |
ومنها : ما ذكره بعض المعاصرين (٥) : من أنّ استصحاب النبوّة معارض باستصحاب عدمها الثابت قبل حدوث أصل النبوّة ؛ بناء على أصل فاسد تقدّم حكايته عنه ، وهو : أنّ الحكم الشرعيّ الموجود يقتصر فيه على القدر المتيقّن ، وبعده يتعارض استصحاب وجوده
__________________
(١) حكاه المحقّق القمي في القوانين ٢ : ٧٠.
(٢) كذا في النسخ ، والمناسب : «نكفر».
(٣) راجع عيون أخبار الرضا عليهالسلام ١ : ١٥٧ ، والاحتجاج ٢ : ٢٠٢.
(٤) في نسخة بدل (ص) زيادة : «في جواب الجاثليق».
(٥) هو الفاضل النراقي ، انظر مناهج الأحكام : ٢٣٧.
واستصحاب عدمه.
وقد أوضحنا فساده بما لا مزيد عليه (١).
٣ ـ ما ذكره المحقّق القمّي |
ومنها : ما ذكره في القوانين ـ بانيا له على ما تقدّم منه في الأمر الأوّل : من أنّ الاستصحاب مشروط بمعرفة استعداد المستصحب ، فلا يجوز استصحاب حياة الحيوان المردّد بين حيوانين مختلفين في الاستعداد بعد انقضاء مدّة استعداد أقلّهما استعدادا ـ قال :
إنّ موضوع الاستصحاب لا بدّ أن يكون متعيّنا حتّى يجري على منواله ، ولم يتعيّن هنا إلاّ النبوّة في الجملة ، وهي كلّيّ من حيث إنّها قابلة للنبوّة إلى آخر الأبد ، بأن يقول الله جلّ ذكره لموسى عليهالسلام : «أنت نبيّي وصاحب ديني إلى آخر الأبد». ولأن يكون إلى زمان محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم ، بأن يقول له : «أنت نبيّي ودينك باق إلى زمان محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم». ولأن يكون غير مغيّا بغاية ، بأن يقول : «أنت نبيّي» بدون أحد القيدين. فعلى الخصم أن يثبت : إمّا التصريح بالامتداد إلى آخر الأبد ، أو الإطلاق. ولا سبيل إلى الأوّل ، مع أنّه يخرج عن الاستصحاب. ولا إلى الثاني ؛ لأنّ الإطلاق في معنى القيد ، فلا بدّ من إثباته. ومن المعلوم أنّ مطلق النبوّة غير النبوّة المطلقة ، والذي يمكن استصحابه هو الثاني دون الأوّل ؛ إذ الكلّي لا يمكن استصحابه إلاّ بما يمكن من بقاء أقلّ أفراده (٢) ، انتهى موضع الحاجة.
وفيه :
__________________
(١) راجع الصفحة ٢٠٨ ـ ٢١٣.
(٢) القوانين ٢ : ٧٠.
أوّلا : ما تقدّم (١) ، من عدم توقّف جريان الاستصحاب على إحراز استعداد المستصحب.
وثانيا : أنّ ما ذكره ـ من أنّ الإطلاق غير ثابت ، لأنّه في معنى القيد ـ غير صحيح ؛ لأنّ عدم التقييد مطابق للأصل. نعم ، المخالف للأصل الإطلاق بمعنى العموم الراجع إلى الدوام.
والحاصل : أنّ هنا في الواقع ونفس الأمر نبوّة مستدامة إلى آخر الأبد ، ونبوّة مغيّاة إلى وقت خاصّ ، ولا ثالث لهما في الواقع ، فالنبوّة المطلقة ـ بمعنى غير المقيّدة ـ ومطلق النبوّة سيّان في التردّد بين الاستمرار والتوقيت ، فلا وجه لإجراء الاستصحاب على أحدهما دون الآخر. إلاّ أن يريد ـ بقرينة ما ذكره بعد ذلك ، من أنّ المراد من مطلقات كلّ شريعة بحكم الاستقراء الدوام والاستمرار إلى أن يثبت الرافع ـ أنّ المطلق في حكم الاستمرار ، فالشكّ فيه شكّ في الرافع ، بخلاف مطلق النبوّة ؛ فإنّ استعداده غير محرز عند الشكّ ، فهو من قبيل الحيوان المردّد بين مختلفي الاستعداد.
وثالثا : أنّ ما ذكره منقوض بالاستصحاب في الأحكام الشرعيّة ؛ لجريان ما ذكره في كثير منها ، بل في أكثرها.
وقد تفطّن لورود هذا عليه ، ودفعه بما لا يندفع به ، فقال :
كلام آخر للمحقق القمي |
إنّ التتبّع والاستقراء يحكمان بأنّ غالب الأحكام الشرعيّة ـ في غير ما ثبت في الشرع له حدّ ـ ليست بآنيّة ، ولا محدودة إلى حدّ معيّن ، وأنّ الشارع اكتفى فيها فيما ورد عنه مطلقا في استمراره ، ويظهر
__________________
(١) راجع الصفحة ١٩٤.
من الخارج أنّه أراد منه الاستمرار ؛ فإنّ من (١) تتبّع أكثر الموارد واستقرأها (٢) يحصّل الظنّ القويّ بأنّ مراده من تلك المطلقات هو الاستمرار إلى أن يثبت الرافع من دليل عقليّ أو نقليّ (٣) ، انتهى.
ولا يخفى ما فيه :
المناقشة في هذا الكلام أيضاً |
أمّا أوّلا : فلأنّ مورد النقض لا يختصّ بما شكّ في رفع الحكم الشرعيّ الكلّيّ ، بل قد يكون الشكّ لتبدّل ما يحتمل مدخليّته في بقاء الحكم ، كتغيّر الماء للنجاسة.
وأمّا ثانيا : فلأنّ الشكّ في رفع الحكم الشرعيّ إنّما هو بحسب ظاهر دليله الظاهر في الاستمرار ـ بنفسه أو بمعونة القرائن ، مثل الاستقراء الذي ذكره في المطلقات ـ لكنّ الحكم الشرعيّ الكلّي في الحقيقة إنّما يرتفع بتمام استعداده ، حتّى في النسخ ، فضلا عن نحو الخيار المردّد بين كونه على الفور أو التراخي ، والنسخ أيضا رفع صوريّ ، وحقيقته انتهاء استعداد الحكم ، فالشكّ في بقاء الحكم الشرعيّ لا يكون إلاّ من جهة الشكّ في مقدار استعداده ، نظير الحيوان المجهول استعداده.
وأمّا ثالثا : فلأنّ ما ذكره ـ من حصول الظنّ بإرادة الاستمرار من الإطلاق ـ لو تمّ ، يكون دليلا اجتهاديّا مغنيا عن التمسّك بالاستصحاب ؛ فإنّ التحقيق : أنّ الشكّ في نسخ الحكم المدلول عليه بدليل ظاهر ـ في
__________________
(١) لم ترد «من» في المصدر.
(٢) في المصدر : «استقراءها».
(٣) القوانين ٢ : ٧٣.
نفسه أو بمعونة دليل خارجيّ ـ في الاستمرار ، ليس موردا للاستصحاب ؛ لوجود الدليل الاجتهاديّ في مورد الشكّ ، وهو ظنّ الاستمرار. نعم ، هو من قبيل استصحاب حكم العامّ إلى أن يرد المخصّص ، وهو ليس استصحابا في حكم شرعيّ ، كما لا يخفى.
ما أورده المحقّق القمّي على نفسه وأجاب عنه |
ثمّ إنّه قدسسره أورد على ما ذكره ـ من قضاء التتبّع (١) بغلبة الاستمرار في ما ظاهره الإطلاق ـ : بأنّ النبوّة أيضا من تلك الأحكام.
ثمّ أجاب : بأنّ غالب النبوّات محدودة ، والذي ثبت علينا استمراره نبوّة نبيّنا صلىاللهعليهوآلهوسلم (٢).
ولا يخفى ما في هذا الجواب :
المناقشة في جوابه قدسسره |
أمّا أوّلا : فلأنّ نسخ أكثر النبوّات لا يستلزم تحديدها ، فللخصم أن يدّعي ظهور أدلّتها ـ في أنفسها أو بمعونة الاستقراء ـ في الاستمرار ، فانكشف نسخ ما نسخ وبقي ما لم يثبت نسخه.
وأمّا ثانيا : فلأنّ غلبة التحديد في النبوّات غير مجدية ؛ للقطع بكون إحداها (٣) مستمرّة ، فليس ما وقع الكلام في استمراره أمرا ثالثا يتردّد بين إلحاقه بالغالب وإلحاقه بالنادر ، بل يشكّ في أنّه الفرد النادر أو النادر غيره ، فيكون هذا ملحقا بالغالب.
والحاصل : أنّ هنا أفرادا غالبة وفردا نادرا ، وليس هنا مشكوك قابل اللحوق بأحدهما ، بل الأمر يدور بين كون هذا الفرد هو الأخير
__________________
(١) في (ظ) ونسخة بدل (ص) بدل «قضاء التتبّع» : «اكتفاء الشارع».
(٢) القوانين ٢ : ٧٣.
(٣) في (ظ) و (ه): «إحداهما».
النادر ، أو ما قبله الغالب ، بل قد يثبت بأصالة عدم ما عداه (١) كون هذا هو الأخير المغاير للباقي.
ما أورده على نفسه ثانياً وأجابعنه |
ثمّ أورد قدسسره على نفسه : بجواز استصحاب أحكام الشريعة السابقة المطلقة.
وأجاب : بأنّ إطلاق الأحكام مع اقترانها ببشارة مجيء نبيّنا صلىاللهعليهوآلهوسلم لا ينفعهم (٢).
الإيراد على جوابه قدسسره |
وربما يورد عليه : أنّ الكتابيّ لا يسلّم البشارة المذكورة حتّى يضرّه في التمسّك بالاستصحاب أو لا ينفعه.
توجيه كلامه قدسسره |
ويمكن توجيه كلامه : بأنّ المراد أنّه إذا (٣) لم ينفع الإطلاق مع اقترانها بالبشارة ، فإذا فرض قضيّة نبوّته مهملة غير دالّة إلاّ على مطلق النبوّة ، فلا ينفع الإطلاق بعد العلم بتبعيّة تلك الأحكام لمدّة النبوّة ؛ فإنّها تصير أيضا حينئذ مهملة.
الجواب عن استصحاب الكتابي بوجوه أخر |
ثمّ إنّه يمكن الجواب عن الاستصحاب المذكور بوجوه :
الوجه الأوّل : أنّ المقصود من التمسّك به :
الوجه الأوّل |
إن كان الاقتناع به في العمل عند الشكّ ، فهو ـ مع مخالفته للمحكيّ عنه من قوله : «فعليكم كذا وكذا» ؛ فإنّه ظاهر في أنّ غرضه الإسكات والإلزام ـ فاسد جدّا ؛ لأنّ العمل به على تقدير تسليم جوازه غير جائز إلاّ بعد الفحص والبحث ، وحينئذ يحصل العلم بأحد الطرفين
__________________
(١) في (ظ) و (ص) بدل «ما عداه» : «ما عدا غيرهم».
(٢) القوانين ٢ : ٧٤.
(٣) شطب في (ت) على : «إذا».
بناء على ما ثبت : من انفتاح باب العلم في مثل هذه المسألة ، كما يدلّ عليه النصّ الدالّ على تعذيب الكفّار (١) ، والإجماع المدّعى (٢) على عدم معذوريّة الجاهل (٣) ، خصوصا في هذه المسألة ، خصوصا من مثل هذا الشخص الناشئ في بلاد الإسلام. وكيف كان ، فلا يبقى مجال للتمسّك بالاستصحاب.
وإن أراد به الإسكات والإلزام ، ففيه : أنّ الاستصحاب ليس دليلا إسكاتيّا ؛ لأنّه فرع الشكّ ، وهو أمر وجدانيّ ـ كالقطع ـ لا يلزم (٤) به أحد.
وإن أراد بيان أنّ مدّعي ارتفاع الشريعة السابقة ونسخها محتاج إلى الاستدلال ، فهو غلط ؛ لأنّ مدّعي البقاء في مثل المسألة ـ أيضا ـ يحتاج إلى الاستدلال عليه.
الوجه الثاني |
الوجه الثاني : أنّ اعتبار الاستصحاب إن كان من باب الأخبار ، فلا ينفع الكتابيّ التمسّك به ؛ لأنّ ثبوته في شرعنا مانع عن استصحاب النبوّة ، وثبوته في شرعهم غير معلوم. نعم ، لو ثبت ذلك من شريعتهم أمكن التمسّك به ؛ لصيرورته حكما إلهيّا (٥) غير منسوخ يجب تعبّد
__________________
(١) فصّلت : ٦.
(٢) انظر شرح الألفيّة (رسائل المحقّق الكركي) ٣ : ٣٠٣ ، ومفتاح الكرامة ٣ : ٢٨٣.
(٣) تقدّم الكلام عن عدم معذوريّة الجاهل في مبحث البراءة ٢ : ٤١٢.
(٤) في غير (ظ) بدل «لا يلزم» : «لا يلتزم».
(٥) لم ترد «إلهيّا» في (ظ).
الفريقين به.
وإن كان من باب الظنّ ، فقد عرفت ـ في صدر المبحث ـ أنّ حصول الظنّ ببقاء الحكم الشرعيّ الكلّيّ ممنوع جدّا ، وعلى تقديره فالعمل بهذا الظنّ في مسألة النبوّة ممنوع. وإرجاع الظنّ بها إلى الظنّ بالأحكام الكلّيّة الثابتة في تلك الشريعة أيضا لا يجدي ؛ لمنع الدليل على العمل بالظنّ ، عدا دليل الانسداد الغير الجاري في المقام مع التمكّن من التوقّف والاحتياط في العمل. ونفي الحرج لا دليل عليه في الشريعة السابقة ، خصوصا بالنسبة إلى قليل من الناس ممّن لم يحصل له العلم بعد الفحص والبحث.
ودعوى : قيام الدليل الخاصّ على اعتبار هذا الظنّ ؛ بالتقريب الذي ذكره بعض المعاصرين (١) : من أنّ شرائع الأنبياء السلف وإن كانت لم تثبت على سبيل الاستمرار ، لكنّها في الظاهر لم تكن محدودة بزمن معيّن ، بل بمجيء النبيّ اللاحق ، ولا ريب أنّها تستصحب ما لم تثبت نبوّة اللاحق ، ولو لا ذلك لاختلّ على الامم السابقة نظام شرائعهم ؛ من حيث تجويزهم في كلّ زمان ظهور نبيّ ولو في الأماكن البعيدة ، فلا يستقرّ لهم البناء على أحكامهم.
مدفوعة : بأنّ استقرار الشرائع لم يكن بالاستصحاب قطعا ؛ وإلاّ لزم كونهم شاكّين في حقّيّة شريعتهم ونبوّة نبيّهم (٢) في أكثر الأوقات لما تقدّم (٣) : من أنّ الاستصحاب بناء على كونه من باب الظنّ لا يفيد
__________________
(١) هو صاحب الفصول في الفصول : ٣٨٠.
(٢) لم ترد «نبوّة نبيّهم» في (ظ) ، وشطب عليها في (ت) و (ه).
(٣) راجع الصفحة ٨٧ ـ ٨٨.
الظنّ الشخصيّ في كلّ مورد. وغاية ما يستفاد من بناء العقلاء في الاستصحاب ، هي ترتيب الأعمال المترتّبة على الدين السابق دون حقّيّة دينهم ونبوّة نبيّهم التي هي من اصول الدين.
فالأظهر أن يقال : إنّهم كانوا قاطعين بحقيّة دينهم ؛ من جهة بعض العلامات التي أخبرهم بها النبيّ السابق. نعم ، بعد ظهور النبيّ الجديد ، الظاهر كونهم شاكّين في دينهم مع بقائهم على الأعمال ، وحينئذ فللمسلمين أيضا أن يطالبوا اليهود بإثبات حقيّة دينهم ؛ لعدم الدليل لهم عليها وإن كان لهم الدليل على البقاء على الأعمال في الظاهر (١).
الوجه الثالث |
الثالث : أنّا لم نجزم بالمستصحب ـ وهي نبوّة موسى أو عيسى عليهماالسلام ـ إلاّ بإخبار نبيّنا صلىاللهعليهوآلهوسلم ونصّ القرآن ؛ وحينئذ فلا معنى للاستصحاب.
ودعوى : أنّ النبوّة موقوفة على صدق نبيّنا صلىاللهعليهوآلهوسلم لا على نبوّته ، مدفوعة : بأنّا لم نعرف صدقه إلاّ من حيث نبوّته.
والحاصل : أنّ الاستصحاب موقوف على تسالم المسلمين وغيرهم عليه ، لا من جهة النصّ عليه في هذه الشريعة. وهو مشكل ، خصوصا بالنسبة إلى عيسى عليهالسلام ؛ لإمكان معارضة قول النصارى بتكذيب اليهود (٢).
الوجه الرابع |
الرابع : أنّ مرجع النبوّة المستصحبة ليس إلاّ إلى وجوب التديّن بجميع ما جاء به ذلك النبيّ ، وإلاّ فأصل صفة النبوّة أمر قائم بنفس النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ، لا معنى لاستصحابه ؛ لعدم قابليّته للارتفاع أبدا. ولا ريب
__________________
(١) في (ص) و (ظ) زيادة : «فتأمّل».
(٢) في (ت) و (ه) زيادة : «به».
أنّا قاطعون بأنّ من أعظم ما جاء به النبيّ السابق الإخبار بنبوّة نبيّنا صلىاللهعليهوآلهوسلم ، كما يشهد به الاهتمام بشأنه في قوله تعالى ـ حكاية عن عيسى ـ : (إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ)(١) فكلّ ما جاء به من الأحكام فهو في الحقيقة مغيّا بمجيء نبيّنا صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فدين عيسى عليهالسلام المختصّ به عبارة عن مجموع أحكام مغيّاة إجمالا بمجيء نبيّنا صلىاللهعليهوآلهوسلم ، ومن المعلوم أنّ الاعتراف ببقاء ذلك الدين لا يضرّ المسلمين فضلا عن استصحابه.
فإن أراد الكتابيّ دينا غير هذه الجملة المغيّاة إجمالا بالبشارة المذكورة ، فنحن منكرون له ، وإن أراد هذه الجملة ، فهو عين مذهب المسلمين ، وفي الحقيقة بعد كون أحكامهم مغيّاة لا رفع حقيقة ، ومعنى النسخ انتهاء مدّة الحكم المعلومة (٢) إجمالا.
فإن قلت : لعلّ مناظرة الكتابيّ ، في تحقّق الغاية المعلومة ، وأنّ الشخص الجائي هو المبشّر به أم لا ، فيصحّ تمسّكه بالاستصحاب.
قلت : المسلّم هو الدين المغيّا بمجيء هذا الشخص الخاصّ ، لا بمجيء موصوف كلّيّ حتّى يتكلّم في انطباقه على هذا الشخص ، ويتمسّك بالاستصحاب.
الوجه الخامس |
الخامس : أن يقال : إنّا ـ معاشر المسلمين ـ لمّا علمنا أنّ النبيّ السالف أخبر بمجيء نبيّنا صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وأنّ ذلك كان واجبا عليه ، ووجوب الإقرار به والإيمان به متوقّف على تبليغ ذلك إلى رعيّته ، صحّ لنا أن
__________________
(١) الصفّ : ٦.
(٢) في (ر): «المعلوم».
نقول : إنّ المسلّم نبوّة النبيّ السالف على تقدير تبليغ نبوّة نبيّنا صلىاللهعليهوآلهوسلم ، والنبوّة التقديريّة لا يضرّنا ولا ينفعهم في بقاء شريعتهم.
كلام الإمام الرضا عليهالسلام في جواب الجاثليق |
ولعلّ هذا الجواب يرجع إلى ما ذكره الإمام أبو الحسن الرضا صلوات الله عليه في جواب الجاثليق ، حيث قال له عليهالسلام :
ما تقول في نبوّة عيسى وكتابه ، هل تنكر منهما شيئا؟
قال عليهالسلام : أنا مقرّ بنبوّة عيسى وكتابه وما بشّر به أمّته وأقرّت به الحواريّون ، وكافر بنبوّة كلّ عيسى لم يقرّ بنبوّة محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم وكتابه ولم يبشّر به أمّته.
ثمّ قال الجاثليق : أليس تقطع الأحكام بشاهدي عدل؟
قال عليهالسلام : بلى.
قال الجاثليق : فأقم شاهدين عدلين (١) ـ من غير أهل ملّتك ـ على نبوّة محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم ممّن لا تنكره النصرانيّة ، وسلنا مثل ذلك من غير أهل ملّتنا.
قال عليهالسلام : الآن جئت بالنّصفة يا نصرانيّ.
ثمّ ذكر عليهالسلام إخبار خواصّ عيسى عليهالسلام بنبوّة محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم (٢).
ولا يخفى : أنّ الإقرار بنبوّة عيسى عليهالسلام وكتابه وما بشّر به أمّته لا يكون حاسما لكلام الجاثليق ، إلاّ إذا اريد المجموع من حيث المجموع ، بجعل الإقرار بعيسى عليهالسلام مرتبطا بتقدير بشارته المذكورة.
ويشهد له قوله عليهالسلام بعد ذلك : «كافر بنبوّة كلّ عيسى لم يقرّ ولم
__________________
(١) لم ترد «عدلين» في المصدر.
(٢) عيون أخبار الرضا عليهالسلام ١ : ١٥٦ و ١٥٧ ، والاحتجاج ٢ : ٢٠٢.
يبشّر» ؛ فإنّ هذا في قوّة مفهوم التعليق المستفاد من الكلام السابق.
وأمّا التزامه عليهالسلام بالبيّنة على دعواه ، فلا يدلّ على تسليمه الاستصحاب وصيرورته مثبتا بمجرّد ذلك ، بل لأنّه عليهالسلام من أوّل المناظرة ملتزم بالإثبات ، وإلاّ فالظاهر المؤيّد بقول الجاثليق : «وسلنا مثل ذلك» كون كلّ منهما مدّعيا ، إلاّ أن يريد الجاثليق ببيّنته نفس الإمام وغيره من المسلمين المعترفين بنبوّة عيسى عليهالسلام ؛ إذ لا بيّنة له ممّن لا ينكره المسلمون سوى ذلك ، فافهم.
الأمر العاشر
دوران الأمر بين التمسّك بالعامّ أو استصحاب حكم المخصّص |
أنّ الدليل الدالّ على الحكم في الزمان السابق :
إمّا أن يكون مبيّنا لثبوت الحكم في الزمان الثاني ، كقوله : «أكرم العلماء في كلّ زمان» ، وكقوله : «لا تهن فقيرا» ؛ حيث إنّ النهي للدوام.
الدليل الدالّ على الحكم في الزمان السابق على ثلاثة أنحاء |
وإمّا أن يكون مبيّنا لعدمه ، نحو : «أكرم العلماء إلى أن يفسقوا» ؛ بناء على مفهوم الغاية.
وإمّا أن يكون غير مبيّن لحال الحكم في الزمان الثاني نفيا وإثباتا : إمّا لإجماله ، كما إذا أمر بالجلوس إلى الليل ، مع تردّد الليل بين استتار القرص وذهاب الحمرة.
وإمّا لقصور دلالته ، كما إذا قال : «إذا تغيّر الماء نجس» ؛ فإنّه لا يدلّ على أزيد من حدوث النجاسة في الماء ، ومثل الإجماع المنعقد على حكم في زمان ؛ فإنّ الإجماع لا يشمل ما (١) بعد ذلك الزمان.
ولا إشكال في جريان الاستصحاب في هذا القسم الثالث.
وأمّا القسم الثاني ، فلا إشكال في عدم جريان الاستصحاب فيه ؛
__________________
(١) «ما» من (ه) و (ت).
لوجود الدليل على ارتفاع الحكم في الزمان الثاني.
وكذلك القسم الأوّل ؛ لأنّ عموم اللفظ للزمان اللاحق كاف ومغن عن الاستصحاب ، بل مانع عنه ؛ إذ المعتبر في الاستصحاب عدم الدليل ولو على طبق الحالة السابقة.
هل يجري استصحاب حكم المخصّص مع العموم الأزماني أم لا؟ |
ثمّ إذا فرض خروج بعض الأفراد في بعض الأزمنة عن هذا العموم ، فشكّ فيما بعد ذلك الزمان المخرج ، بالنسبة إلى ذلك الفرد ، هل هو ملحق به في الحكم أو ملحق بما قبله؟
الحقّ : هو التفصيل في المقام ، بأن يقال :
إذا كان العموم الأزماني أفراديّا |
إن اخذ فيه عموم الأزمان أفراديّا ، بأن اخذ كلّ زمان موضوعا مستقلا لحكم مستقلّ ؛ لينحلّ العموم إلى أحكام متعدّدة بتعدّد الأزمان (١) ، كقوله : «أكرم العلماء كلّ يوم» فقام الإجماع على حرمة إكرام زيد العالم يوم الجمعة. ومثله ما لو قال : «أكرم العلماء» ، ثمّ قال : «لا تكرم زيدا يوم الجمعة» إذا فرض (٢) الاستثناء قرينة على أخذ كلّ زمان فردا مستقلا ، فحينئذ يعمل عند الشكّ بالعموم ، ولا يجري الاستصحاب ، بل لو لم يكن عموم وجب الرجوع إلى سائر الاصول ؛ لعدم قابليّة المورد للاستصحاب.
إذا كان العموم الأزماني استمراريّا |
وإن اخذ لبيان الاستمرار ، كقوله : «أكرم العلماء دائما» ، ثمّ خرج فرد في زمان ، وشكّ في حكم ذلك الفرد بعد ذلك الزمان ، فالظاهر جريان الاستصحاب ؛ إذ لا يلزم من ثبوت ذلك الحكم للفرد بعد ذلك الزمان تخصيص زائد على التخصيص المعلوم ؛ لأنّ مورد التخصيص
__________________
(١) لم ترد «موضوعا ـ إلى ـ الأزمان» في (ظ) ، وورد بدلها : «فردا».
(٢) في (ظ) بدل «إذا فرض» : «فإنّ».
الأفراد دون الأزمنة ، بخلاف القسم الأوّل ، بل لو لم يكن هنا استصحاب لم يرجع إلى العموم ، بل إلى الاصول الأخر.
ولا فرق بين استفادة الاستمرار من اللفظ ، كالمثال المتقدّم ، أو من الإطلاق ، كقوله : «تواضع للناس» ـ بناء على استفادة الاستمرار منه ـ فإنّه إذا خرج منه التواضع في بعض الأزمنة ، على وجه لا يفهم من التخصيص ملاحظة المتكلّم كلّ زمان فردا مستقلا لمتعلّق الحكم ، استصحب حكمه بعد الخروج ، وليس هذا من باب تخصيص العامّ بالاستصحاب.
المخالفة لما ذكرنا في موضعين |
وقد صدر خلاف ما ذكرنا ـ من أنّ مثل هذا من مورد (١) الاستصحاب ، وأنّ هذا ليس من تخصيص العامّ به ـ في موضعين :
١ ـ ما ذكره المحقّق الثاني في مسألة خيار الغبن وما يرد عليه |
أحدهما : ما ذكره المحقّق الثاني ; في مسألة خيار الغبن في باب تلقّي الركبان : من أنّه فوريّ ؛ لأنّ عموم الوفاء بالعقود من حيث الأفراد ، يستتبع عموم الأزمان (٢).
وحاصله : منع جريان الاستصحاب ؛ لأجل عموم وجوب الوفاء ، خرج منه أوّل زمان الاطّلاع على الغبن وبقي الباقي.
وظاهر الشهيد الثاني في المسالك إجراء الاستصحاب في هذا الخيار. وهو الأقوى ؛ بناء على أنّه لا يستفاد من إطلاق وجوب الوفاء إلاّ كون الحكم مستمرّا ، لا أنّ الوفاء في كلّ زمان موضوع مستقلّ محكوم بوجوب مستقلّ ، حتّى يقتصر في تخصيصه على ما ثبت من جواز نقض العقد في جزء من الزمان وبقي الباقي.
__________________
(١) في (ص): «من موارد».
(٢) جامع المقاصد ٤ : ٣٨.
نعم لو استظهر من وجوب الوفاء بالعقد عموم لا ينتقض بجواز نقضه في زمان ، بالإضافة إلى غيره من الأزمنة ، صحّ ما ادّعاه المحقّق قدسسره.
لكنّه بعيد ؛ ولهذا رجع إلى الاستصحاب في المسألة جماعة من متأخّري المتأخّرين (١) تبعا للمسالك (٢).
إلاّ أنّ بعضهم (٣) قيّده بكون مدرك الخيار في الزمان الأوّل هو الإجماع ، لا أدلّة نفي الضرر ؛ لاندفاع الضرر بثبوت الخيار في الزمن الأوّل.
ولا أجد وجها لهذا التفصيل ؛ لأنّ نفي الضرر إنّما نفى لزوم العقد ، ولم يحدّد زمان الجواز ، فإن كان عموم أزمنة وجوب الوفاء يقتصر في تخصيصه على ما يندفع به الضرر ، ويرجع في الزائد (٤) إلى العموم ، فالإجماع أيضا كذلك ، يقتصر فيه على معقده.
٢ ـ ما ذكره السيّد بحر العلوم قدسسره |
والثاني : ما ذكره بعض من قارب عصرنا من الفحول (٥) : من أنّ الاستصحاب المخالف للأصل دليل شرعيّ مخصّص للعمومات ، ولا ينافيه عموم أدلّة حجّيّته ، من أخبار الباب الدالّة على عدم جواز نقض اليقين بغير اليقين ؛ إذ ليس العبرة في العموم والخصوص بدليل الدليل ، وإلاّ لم
__________________
(١) كالمحدّث البحراني في الحدائق ١٩ : ٤٣ ، وصاحب الجواهر في الجواهر ٢٢ : ٤٧٦ ، و ٢٣ : ٤٣.
(٢) المسالك ٣ : ١٩٠.
(٣) هو صاحب الرياض على ما نقله المصنّف في خيارات المكاسب (طبعة الشهيدي) : ٢٤٢ ، وانظر الرياض (الطبعة الحجرية) ١ : ٥٢١ و ٥٢٥.
(٤) في (ص) زيادة : «عليه».
(٥) هو السيّد بحر العلوم.
يتحقّق لنا في الأدلّة دليل خاصّ ؛ لانتهاء (١) كلّ دليل إلى أدلّة عامّة ، بل العبرة بنفس الدليل.
ولا ريب أنّ الاستصحاب الجاري في كلّ مورد خاصّ به (٢) ، لا يتعدّاه إلى غيره ، فيقدّم على العامّ ، كما يقدّم غيره من الأدلّة عليه ؛ ولذا ترى الفقهاء يستدلّون على الشغل والنجاسة والتحريم بالاستصحاب ، في مقابلة ما دلّ على البراءة الأصليّة وطهارة الأشياء وحلّيّتها. ومن ذلك : استنادهم إلى استصحاب النجاسة والتحريم في صورة الشكّ في ذهاب ثلثي العصير ، وفي كون التحديد تحقيقيّا أو تقريبيّا ، وفي (٣) صيرورته قبل ذهاب الثلثين دبسا ، إلى غير ذلك (٤). انتهى كلامه ، على ما لخّصه بعض المعاصرين (٥).
المناقشة في ما أفاده بحر العلوم |
ولا يخفى ما في ظاهره ؛ لما عرفت : من أنّ مورد جريان العموم لا يجري الاستصحاب حتّى لو لم يكن عموم ، ومورد جريان الاستصحاب لا يرجع إلى العموم ولو لم يكن استصحاب.
ثمّ ما ذكره من الأمثلة خارج عن مسألة تخصيص الاستصحاب للعمومات ؛ لأنّ الاصول المذكورة بالنسبة إلى الاستصحاب ليست من قبيل العامّ بالنسبة إلى الخاصّ ، كما سيجيء في تعارض الاستصحاب مع
__________________
(١) في المصدر زيادة : «حجّيّة».
(٢) «به» من المصدر.
(٣) في المصدر زيادة : «صورة».
(٤) انظر فوائد السيد بحر العلوم : ١١٦ ـ ١١٧.
(٥) هو صاحب الفصول في الفصول : ٢١٤.
غيره من الاصول (١). نعم ، لو فرض الاستناد في أصالة الحلّية إلى عموم «حلّ الطيّبات» و «حلّ الانتفاع بما في الأرض» ، كان استصحاب حرمة العصير في (٢) المثالين الأخيرين مثالا لمطلبه ، دون المثال الأوّل ؛ لأنّه من قبيل الشكّ في موضوع الحكم الشرعيّ ، لا في نفسه. ففي الأوّل يستصحب عنوان الخاصّ ، وفي الثاني يستصحب حكمه ، وهو الذي يتوهّم كونه مخصّصا للعموم دون الأوّل.
توجيه كلام بحر العلوم |
ويمكن توجيه كلامه قدسسره : بأنّ مراده من العمومات ـ بقرينة تخصيصه الكلام بالاستصحاب المخالف ـ هي عمومات الاصول ، ومراده بالتخصيص للعمومات (٣) ما يعمّ الحكومة ـ كما ذكرنا في أوّل أصالة البراءة (٤) ـ وغرضه : أنّ مؤدّى الاستصحاب في كلّ مستصحب إجراء حكم دليل المستصحب في صورة الشكّ ، فلمّا كان (٥) دليل المستصحب أخصّ من الاصول سمّي تقدّمه عليها تخصيصا ، فالاستصحاب في ذلك متمّم لحكم ذلك الدليل ومجريه في الزمان اللاحق. وكذلك الاستصحاب بالنسبة إلى العمومات الاجتهاديّة ؛ فإنّه إذا خرج المستصحب من العموم بدليله ـ والمفروض أنّ الاستصحاب مجر لحكم ذلك الدليل في اللاحق ـ فكأنّه أيضا مخصّص ، يعني موجب للخروج عن حكم العامّ ، فافهم.
__________________
(١) انظر الصفحة ٣٨٧.
(٢) في (ت) كتب على «كان استصحاب حرمة العصير في» : «نسخة» ، وفي (ه) كتب عليها : «زائد» ، وورد بدلها فيهما : «أمكن جعل».
(٣) لم ترد «للعمومات» في (ظ).
(٤) راجع مبحث البراءة ٢ : ١١ ـ ١٣.
(٥) كذا في (ف) ، وفي غيرها بدل «فلمّا كان» : «فكما أنّ».
الأمر الحادي عشر
لو تعذّر بعض المأمور به فهل يستصحب وجوب الباقي؟ |
قد أجرى بعضهم (١) الاستصحاب في ما إذا تعذّر بعض أجزاء المركّب ، فيستصحب وجوب الباقي الممكن.
الإشكال في هذا الاستصحاب |
وهو بظاهره ـ كما صرّح به بعض المحقّقين (٢) ـ غير صحيح ؛ لأنّ الثابت سابقا ـ قبل تعذّر بعض الأجزاء ـ وجوب هذه الأجزاء الباقية ، تبعا لوجوب الكلّ ومن باب المقدّمة ، وهو مرتفع قطعا ، والذي يراد ثبوته بعد تعذّر البعض هو الوجوب النفسيّ الاستقلاليّ ، وهو معلوم الانتفاء سابقا.
توجيه الاستصحاب بوجوه ثلاثة |
ويمكن توجيهه ـ بناء على ما عرفت (٣) ، من جواز إبقاء القدر
__________________
(١) كالسيّد العاملي في المدارك ١ : ٢٠٥ ، وصاحب الجواهر في الجواهر ٢ : ١٦٣.
(٢) مثل المحدّث البحراني في الحدائق ٢ : ٢٤٥ ، والمحقّق الخوانساري في مشارق الشموس : ١١٠ ، والفاضل النراقي في مستند الشيعة ٢ : ١٠٣ ، وشريف العلماء في ضوابط الاصول : ٣٧٤.
(٣) راجع الصفحة ١٩٦.
المشترك في بعض الموارد ولو علم بانتفاء الفرد المشخّص له سابقا ـ : بأنّ المستصحب هو مطلق المطلوبيّة المتحقّقة سابقا لهذا الجزء ولو في ضمن مطلوبيّة الكلّ ، إلاّ أنّ العرف لا يرونها مغايرة في الخارج لمطلوبيّة الجزء في نفسه (١).
ويمكن توجيهه بوجه آخر ـ يستصحب معه الوجوب النفسيّ ـ بأن يقال : إنّ معروض الوجوب سابقا ، والمشار إليه بقولنا : «هذا الفعل كان واجبا» هو الباقي ، إلاّ أنّه يشكّ في مدخليّة الجزء المفقود في اتصافه بالوجوب النفسيّ مطلقا ، أو اختصاص المدخليّة بحال الاختيار ، فيكون محلّ الوجوب النفسيّ هو الباقي (٢) ، ووجود ذلك الجزء المفقود وعدمه عند العرف في حكم الحالات المتبادلة لذلك الواجب المشكوك في مدخليّتها. وهذا نظير استصحاب الكرّيّة في ماء نقص منه مقدار فشكّ في بقائه على الكرّيّة ، فيقال : «هذا الماء كان كرّا ، والأصل بقاء كرّيته» مع أنّ هذا الشخص الموجود الباقي لم يعلم بكرّيّته. وكذا استصحاب القلّة في ماء زيد عليه مقدار.
وهنا توجيه ثالث ، وهو : استصحاب الوجوب النفسيّ المردّد بين تعلّقه سابقا بالمركّب على أن يكون المفقود جزءا له مطلقا فيسقط الوجوب بتعذّره ، وبين تعلّقه بالمركّب على أن يكون الجزء جزءا اختياريّا (٣) يبقى التكليف بعد تعذّره ، والأصل بقاؤه ، فيثبت به تعلّقه
__________________
(١) في (ص) زيادة : «فتأمّل».
(٢) في (ظ) زيادة : «ولو مسامحة».
(٣) في (ر) و (ه): «اختيارا».