فرائد الأصول - ج ٣

الشيخ مرتضى الأنصاري

فرائد الأصول - ج ٣

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


المحقق: لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: خاتم الأنبياء
الطبعة: ٩
ISBN: 964-5662-04-4
الصفحات: ٤٣٩

الرابع

مناط الاستصحاب بناء على كونه من باب التعبّد

أنّ المناط في اعتبار الاستصحاب على القول بكونه من باب التعبّد الظاهري (١) ، هو مجرّد عدم العلم بزوال الحالة السابقة.

ليس المناط الظنّ الشخصي بناء على كونه من باب الظنّ

وأمّا على القول بكونه من باب الظنّ ، فالمعهود من طريقة الفقهاء عدم اعتبار إفادة الظنّ في خصوص المقام ؛ كما يعلم ذلك من حكمهم بمقتضيات الاصول كلّية مع عدم اعتبارهم أن يكون العامل بها ظانّا ببقاء الحالة السابقة (٢) ، ويظهر ذلك بأدنى تتبّع (٣) في أحكام العبادات والمعاملات والمرافعات والسياسات.

كلام الشيخ البهائي في أن المناط الظن الشخصي

نعم ، ذكر شيخنا البهائي قدس‌سره في الحبل المتين ـ في باب الشكّ في الحدث بعد الطهارة ـ ما يظهر منه اعتبار الظنّ الشخصيّ ، حيث قال :

لا يخفى أنّ الظنّ الحاصل بالاستصحاب في من تيقّن الطهارة وشكّ في الحدث ، لا يبقى على نهج واحد ، بل يضعف بطول المدّة شيئا

__________________

(١) لم ترد «الظاهري» في (ظ).

(٢) انظر الجواهر ٢ : ٣٤٧.

(٣) كذا في (ه) و (ت) ، وفي غيرهما : «لأدنى متتبّع».

٢١

فشيئا ، بل قد يزول الرجحان ويتساوى الطرفان ، بل ربما يصير الراجح مرجوحا ، كما إذا توضّأ عند الصبح وذهل عن التحفّظ ، ثمّ شكّ عند المغرب في صدور الحدث منه ، ولم يكن من عادته البقاء على الطهارة إلى ذلك الوقت. والحاصل : أنّ المدار على الظنّ ، فما دام باقيا فالعمل عليه وإن ضعف (١). انتهى كلامه ، رفع في الخلد مقامه.

ظاهر شارح الدروس ارتضاؤه ذلك

ويظهر من شارح الدروس ارتضاؤه ؛ حيث قال بعد حكاية هذا الكلام :

ولا يخفى أنّ هذا إنّما يصحّ لو بنى المسألة على أنّ ما تيقّن بحصوله في وقت ولم يعلم أو يظنّ طروّ ما يزيله ، يحصل الظنّ ببقائه ، والشكّ في نقيضه لا يعارضه ؛ إذ الضعيف لا يعارض القويّ.

لكن ، هذا البناء ضعيف جدّا ، بل بناؤها على الروايات مؤيّدة بأصالة البراءة في بعض الموارد ، وهي تشمل الشكّ والظنّ معا ، فإخراج الظنّ منها (٢) ممّا لا وجه له أصلا (٣) ، انتهى كلامه.

استظهار ذلك من كلام الشهيد قدس‌سره في الذكرى

ويمكن استظهار ذلك من الشهيد قدس‌سره في الذكرى حيث ذكر أنّ :

قولنا : «اليقين لا ينقضه الشكّ» ، لا نعني به اجتماع اليقين والشكّ ، بل المراد أنّ اليقين الذي كان في الزمن الأوّل لا يخرج عن حكمه بالشكّ في الزمان الثاني ؛ لأصالة بقاء ما كان ، فيؤول إلى اجتماع الظنّ

__________________

(١) الحبل المتين : ٣٧.

(٢) كذا في (ر) ونسختي بدل (ت) و (ص) ، وهو الأصحّ ، وفي (ت) ، (ظ) و (ص) والمصدر بدل «منها» : «عنه».

(٣) مشارق الشموس : ١٤٢.

٢٢

والشكّ في الزمان الواحد ، فيرجّح الظنّ عليه ، كما هو مطّرد في العبادات (١) ، انتهى كلامه.

ومراده من الشكّ مجرّد الاحتمال ، بل ظاهر كلامه أنّ المناط في اعتبار الاستصحاب من باب (٢) أخبار عدم نقض اليقين بالشكّ ، هو الظنّ أيضا ، فتأمّل.

__________________

(١) الذكرى ١ : ٢٠٧ ، مع اختلاف في بعض الألفاظ.

(٢) لم ترد «اعتبار الاستصحاب من باب» في (ظ).

٢٣

الخامس

تقوّم الاستصحاب بأمرين : اليقين بالحدوث ، والشكّ في البقاء

أنّ المستفاد من تعريفنا السابق (١) ـ الظاهر في استناد الحكم بالبقاء إلى مجرّد الوجود السابق ـ أنّ الاستصحاب يتقوّم بأمرين :

أحدهما : وجود الشيء في زمان ، سواء علم به في زمان وجوده أم لا. نعم ، لا بدّ من إحراز ذلك حين إرادة الحكم بالبقاء بالعلم أو الظنّ المعتبر ، وأمّا مجرّد الاعتقاد بوجود شيء في زمان مع زوال ذلك الاعتقاد في زمان آخر ، فلا يتحقّق معه الاستصحاب الاصطلاحي وإن توهّم بعضهم (٢) : جريان عموم (٣) «لا تنقض» فيه ، كما سننبّه عليه (٤).

الاستصحاب القهقري

والثاني : الشكّ في وجوده في زمان لاحق عليه ؛ فلو شكّ في زمان سابق عليه فلا استصحاب ، وقد يطلق عليه الاستصحاب القهقرى مجازا.

__________________

(١) وهو «إبقاء ما كان».

(٢) هو المحقّق السبزواري في ذخيرة المعاد : ٤٤.

(٣) لم ترد «عموم» في (ظ) ، وشطب عليها في (ت) و (ه).

(٤) انظر الصفحة ٣٠٣.

٢٤

المعتبر هو الشكّ الفعليّ

ثمّ المعتبر هو الشكّ الفعليّ الموجود حال الالتفات إليه ، أمّا لو لم يلتفت (١) فلا استصحاب وإن فرض الشكّ فيه على فرض الالتفات.

فالمتيقّن للحدث إذا التفت إلى حاله في اللاحق فشكّ ، جرى الاستصحاب في حقّه ، فلو غفل عن ذلك وصلّى بطلت صلاته ؛ لسبق الأمر بالطهارة (٢) ، ولا يجري في حقّه حكم الشكّ في الصحّة بعد الفراغ عن العمل ؛ لأنّ مجراه الشكّ الحادث بعد الفراغ ، لا الموجود من قبل (٣).

نعم (٤) ، لو غفل عن حاله بعد اليقين بالحدث وصلّى ، ثمّ التفت وشكّ في كونه محدثا حال الصلاة أو متطهّرا ، جرى في حقّه قاعدة الشكّ بعد الفراغ ؛ لحدوث الشكّ بعد العمل وعدم وجوده قبله حتّى يوجب الأمر بالطهارة والنهي عن الدخول فيه بدونها.

نعم ، هذا الشكّ اللاحق يوجب الإعادة بحكم استصحاب عدم الطهارة ، لو لا حكومة قاعدة الشكّ بعد الفراغ عليه ، فافهم (٥).

__________________

(١) في (ظ) و (ه) زيادة : «إليه».

(٢) لم ترد «لسبق الأمر بالطهارة» في (ظ).

(٣) لم ترد «لأنّ مجراه الشكّ الحادث بعد الفراغ لا الموجود من قبل» في (ظ).

(٤) في (ت) ، (ظ) و (ه) بدل «نعم» : «و».

(٥) في (ظ) بدل «لحدوث ـ إلى ـ فافهم» ما يلي : «ولا يجري الاستصحاب ؛ لأنّ الاستصحاب قبل دخوله في العمل لم ينعقد ؛ لعدم الشكّ الفعلي وإن كان غير عالم بالحال ، وبعد الفراغ غير معتبر ؛ لورود قاعدة الصحّة عليه ، فافهم».

٢٥

السادس

تقسيم الاستصحاب من وجوه :

في تقسيم الاستصحاب إلى أقسام ؛ ليعرف أنّ الخلاف في مسألة الاستصحاب في كلّها أو في بعضها ، فنقول :

إنّ له تقسيما باعتبار المستصحب.

وآخر باعتبار الدليل الدالّ عليه.

وثالثا باعتبار الشكّ المأخوذ فيه.

[١ ـ تقسيم الاستصحاب باعتبار المستصحب](١)

أمّا بالاعتبار الأوّل فمن وجوه :

الوجه الأوّل

المستصحب إمّا وجوديّ وإمّا عدميّ

من حيث إنّ المستصحب قد يكون أمرا وجوديّا ـ كوجوب (٢) شيء

__________________

(١) العنوان منّا.

(٢) في (ظ): «كوجود».

٢٦

أو طهارة شيء أو رطوبة ثوب (١) أو نحو ذلك ـ وقد يكون عدميّا. وهو على قسمين :

أحدهما : عدم اشتغال الذمّة بتكليف شرعيّ ، ويسمّى عند بعضهم (٢) ب : «البراءة الأصليّة» و «أصالة النفي».

والثاني : غيره ، كعدم نقل اللفظ عن معناه ، وعدم القرينة ، وعدم موت زيد ورطوبة الثوب وحدوث موجب الوضوء أو الغسل ، ونحو ذلك.

ولا خلاف في كون الوجوديّ محلّ النزاع.

كلام شريف العلماء في خروج العدميّات عن محلّ النزاع

وأمّا العدمي ، فقد مال الاستاذ (٣) قدس‌سره إلى عدم الخلاف فيه ، تبعا لما حكاه عن استاذه السيّد صاحب الرياض ; : من دعوى الإجماع على اعتباره في العدميّات. واستشهد على ذلك ـ بعد نقل الإجماع المذكور ـ باستقرار سيرة العلماء على التمسّك بالاصول العدميّة ، مثل : أصالة عدم القرينة والنقل والاشتراك وغير ذلك ، وببنائهم هذه المسألة على كفاية العلّة المحدثة للإبقاء.

__________________

(١) في (ر) بدل «طهارة شيء أو رطوبة ثوب» : «طهارته أو رطوبته» ، وفي (ت) ، (ص) و (ه): «طهارته أو رطوبة ثوب».

(٢) مثل المحقّق في المعتبر ١ : ٣٢ ، والشهيد الأوّل في القواعد والفوائد ١ : ١٣٢ ، والشهيد الثاني في تمهيد القواعد : ٢٧١ ، والفاضل الجواد في غاية المأمول (مخطوط) : الورقة ١٢٨ ، والمحدّث البحراني في الدرر النجفيّة : ٣٤ ، والحدائق ١ : ٥١.

(٣) هو المحقّق شريف العلماء المازندراني ، انظر تقريرات درسه في ضوابط الاصول : ٣٥١.

٢٧

المناقشة فيما أفاده شريف العلماء

أقول : ما استظهره قدس‌سره لا يخلو عن تأمّل (١) :

أمّا دعوى الإجماع ، فلا مسرح لها في المقام مع ما سيمرّ بك من تصريحات كثير (٢) بخلافها ، وإن كان يشهد لها ظاهر التفتازاني في شرح الشرح ؛ حيث قال :

«إنّ خلاف الحنفيّة المنكرين للاستصحاب إنّما هو في الإثبات دون النفي الأصليّ» (٣).

قيام السيرة على التمسّك بالاصول الوجوديّة والعدميّة في باب الألفاظ

وأمّا سيرة العلماء ، فقد استقرّت في باب الألفاظ على التمسّك بالاصول الوجوديّة والعدميّة كلتيهما.

قال الوحيد البهبهاني في رسالته الاستصحابيّة ـ بعد نقل القول بإنكار اعتبار الاستصحاب مطلقا عن بعض ، وإثباته عن بعض ، والتفصيل عن بعض آخر ـ ما هذا لفظه :

كلام الوحيد البهبهاني في ذلك

لكنّ الذي نجد من الجميع ـ حتّى من المنكر مطلقا ـ أنّهم يستدلّون بأصالة عدم النقل ، فيقولون : الأمر حقيقة في الوجوب عرفا ، فكذا لغة ؛ لأصالة عدم النقل ، ويستدلّون بأصالة بقاء المعنى اللغويّ ، فينكرون الحقيقة الشرعيّة ، إلى غير ذلك ، كما لا يخفى على المتتبّع (٤) ، انتهى.

__________________

(١) في (ر) و (ص) بدل «تأمّل» : «خفاء».

(٢) في (ر): «كثيرة».

(٣) حاشية شرح مختصر الاصول ٢ : ٢٨٤ ، ونقل المصنّف قدس‌سره عبارة الشرح في حاشيته على استصحاب القوانين : ٥١.

(٤) الرسائل الاصوليّة : ٤٢٤ ـ ٤٢٥.

٢٨

وحينئذ ، فلا شهادة في السيرة الجارية في باب الألفاظ على خروج العدميّات.

ما يظهر منه الاختصاص بالوجوديّات ومناقشته

وأمّا استدلالهم على إثبات الاستصحاب باستغناء الباقي عن المؤثّر الظاهر الاختصاص بالوجوديّ ـ فمع أنّه معارض باختصاص بعض أدلّتهم الآتي بالعدمي (١) ، وبأنّه يقتضي أن يكون النزاع مختصّا بالشكّ من حيث المقتضي لا من حيث الرافع ـ يمكن توجيهه (٢) : بأنّ الغرض الأصليّ هنا لمّا كان هو التكلّم في الاستصحاب الذي هو من أدلّة الأحكام الشرعيّة ، اكتفوا بذكر ما يثبت الاستصحاب الوجوديّ. مع أنّه يمكن أن يكون الغرض تتميم المطلب في العدميّ بالإجماع المركّب ، بل الأولويّة ؛ لأنّ الموجود إذا لم يحتج في بقائه إلى المؤثّر فالمعدوم كذلك بالطريق الأولى.

نعم ، ظاهر عنوانهم للمسألة ب «استصحاب الحال» ، وتعريفهم له ، ظاهر (٣) الاختصاص بالوجوديّ ، إلاّ أنّ الوجه فيه : بيان الاستصحاب الذي هو من الأدلّة الشرعيّة للأحكام ؛ ولذا عنونه بعضهم ـ بل الأكثر ـ ب «استصحاب حال الشرع».

وممّا ذكرنا يظهر عدم جواز الاستشهاد (٤) على اختصاص محلّ النزاع بظهور (٥) قولهم في عنوان المسألة : «استصحاب الحال» ، في

__________________

(١) انظر الصفحة الآتية.

(٢) في (ر) و (ص) زيادة : «أيضا».

(٣) كذا في النسخ ، ولا يخفى زيادة لفظة «ظاهر» في أحد الموضعين.

(٤) الاستشهاد من ضوابط الاصول : ٣٥١.

(٥) في (ر) و (ص) بدل «بظهور» : «بظاهر».

٢٩

الوجوديّ ؛ وإلاّ لدلّ تقييد كثير منهم العنوان ب «استصحاب حال الشرع» ، على اختصاص النزاع بغير الامور الخارجيّة.

وممّن يظهر منه دخول العدميّات في محلّ الخلاف الوحيد البهبهاني فيما تقدّم منه (١) ، بل لعلّه صريح في ذلك بملاحظة ما ذكره قبل ذلك في تقسيم الاستصحاب (٢).

وأصرح من ذلك في عموم محلّ النزاع ، استدلال النافين في كتب الخاصّة (٣) والعامّة (٤) : بأنّه لو كان الاستصحاب معتبرا لزم ترجيح بيّنة النافي ؛ لاعتضاده (٥) بالاستصحاب ، واستدلال المثبتين ـ كما في المنية ـ : بأنّه لو لم يعتبر الاستصحاب لا نسدّ باب استنباط الأحكام من الأدلّة ؛ لتطرّق احتمالات فيها لا تندفع إلاّ بالاستصحاب (٦).

وممّن أنكر الاستصحاب في العدميّات صاحب المدارك ؛ حيث أنكر اعتبار استصحاب عدم التذكية الذي تمسّك به الأكثر لنجاسة الجلد المطروح (٧).

التتبّع يشهد بعدم خروج العدميّات عن محلّ النزاع

وبالجملة : فالظاهر أنّ التتبّع يشهد بأنّ العدميّات ليست خارجة

__________________

(١) راجع الصفحة ٢٨.

(٢) انظر الرسائل الاصوليّة : ٤٢٣.

(٣) انظر ما نقله العلاّمة في نهاية الوصول (مخطوط) : ٤٠٧.

(٤) انظر ما نقله العضدي في شرح مختصر الاصول ٢ : ٤٥٤.

(٥) كذا في النسخ ، والمناسب : «لاعتضادها» ؛ لرجوع الضمير إلى البيّنة.

(٦) منية اللبيب ؛ للعميدي (مخطوط) : الورقة ١٨١.

(٧) انظر المدارك ٢ : ٣٨٧.

٣٠

عن محلّ النزاع ، بل سيجيء ـ عند بيان أدلّة الأقوال ـ أنّ القول بالتفصيل بين العدميّ والوجوديّ ـ بناء على اعتبار الاستصحاب من باب الظنّ ـ وجوده بين العلماء لا يخلو من إشكال ، فضلا عن اتّفاق النافين عليه ؛ إذ ما من استصحاب وجوديّ إلاّ ويمكن معه فرض استصحاب عدميّ يلزم من الظنّ به الظنّ بذلك المستصحب الوجوديّ ، فيسقط فائدة نفي اعتبار الاستصحابات الوجوديّة. وانتظر لتمام الكلام (١).

وممّا يشهد بعدم الاتّفاق في العدميّات : اختلافهم في أنّ النافي يحتاج إلى دليل أم لا؟ فلاحظ ذلك العنوان (٢) تجده شاهد صدق على ما ادّعيناه.

ظاهر جماعة خروج بعض العدميّات عن محلّ النزاع

نعم ، ربما يظهر من بعضهم خروج بعض الأقسام من العدميّات من محلّ النزاع ، كاستصحاب النفي المسمّى ب «البراءة الأصليّة» ؛ فإنّ المصرّح به في كلام جماعة ـ كالمحقّق (٣) والعلاّمة (٤) والفاضل الجواد (٥) ـ : الإطباق على العمل عليه. وكاستصحاب عدم النسخ ؛ فإنّ المصرّح به في كلام غير واحد ـ كالمحدّث الأسترابادي والمحدّث البحراني ـ : عدم الخلاف فيه ، بل مال الأوّل إلى كونه من ضروريات الدين (٦) ، وألحق

__________________

(١) انظر الصفحة ١٠٣.

(٢) انظر الذريعة ٢ : ٨٢٧ ، والعدّة ٢ : ٧٥٢ ، والمعارج : ٢١٠ ، ومبادئ الوصول : ٢٥١.

(٣) المعارج : ٢٠٨.

(٤) انظر نهاية الوصول (مخطوط) : ٤٢٤.

(٥) غاية المأمول (مخطوط) : الورقة ١٢٨.

(٦) الفوائد المدنيّة : ١٤٣.

٣١

الثاني بذلك استصحاب عدم المخصّص والمقيّد (١).

والتحقيق : أنّ اعتبار الاستصحاب ـ بمعنى التعويل في تحقّق شيء في الزمان الثاني على تحقّقه في الزمان السابق عليه ـ مختلف فيه ، من غير فرق بين الوجوديّ والعدميّ. نعم ، قد يتحقّق في بعض الموارد قاعدة اخرى توجب الأخذ بمقتضى الحالة السابقة ، ك «قاعدة قبح التكليف من غير بيان» ، أو «عدم الدليل دليل العدم» ، أو «ظهور الدليل الدالّ على الحكم في استمراره أو عمومه أو إطلاقه» ، أو غير ذلك ، وهذا لا ربط له باعتبار الاستصحاب.

ثمّ إنّا لم نجد في أصحابنا من فرّق بين الوجوديّ والعدميّ. نعم ، حكى شارح الشرح (٢) هذا التفصيل عن الحنفيّة.

الوجه الثاني :

المستصحب إمّا حكم شرعيّ وإمّا من الامور الخارجيّة

أنّ المستصحب قد يكون حكما شرعيّا ، كالطهارة المستصحبة بعد خروج المذي ، والنجاسة المستصحبة بعد زوال تغيّر المتغيّر بنفسه ، وقد يكون غيره ، كاستصحاب الكرّية ، والرطوبة ، والوضع الأوّل عند الشكّ في حدوث النقل أو في تأريخه.

وقوع الخلاف في كليهما

والظاهر بل صريح جماعة وقوع الخلاف في كلا القسمين.

نعم ، نسب إلى بعض التفصيل بينهما بإنكار الأوّل والاعتراف

__________________

(١) في (ظ): «عدم التخصيص والتقييد» ، وانظر الحدائق ١ : ٥٢ ، والدرر النجفيّة : ٣٤.

(٢) أي التفتازاني ، وقد تقدّم كلامه في الصفحة ٢٨.

٣٢

بالثاني ، ونسب إلى آخر العكس ، حكاهما الفاضل القمّي في القوانين (١).

للحكم الشرعي إطلاقان : ١ ـ الحكم الكلّي ٢ ـ ما يعمّ الحكم الجزئي

وفيه نظر ، يظهر بتوضيح المراد من الحكم الشرعي وغيره ، فنقول : الحكم الشرعيّ يراد به تارة الحكم الكلّي الذي من شأنه أن يؤخذ من الشارع ، كطهارة من خرج منه المذي أو نجاسة ما زال تغيّره بنفسه ، واخرى يراد به ما يعمّ الحكم الجزئي الخاصّ في الموضوع الخاصّ ، كطهارة هذا الثوب ونجاسته ؛ فإنّ الحكم بهما ـ من جهة عدم ملاقاته للنجس أو ملاقاته ـ ليس وظيفة للشارع. نعم ، وظيفته إثبات الطهارة كلّية (٢) لكلّ شيء شكّ في ملاقاته للنجس وعدمها.

إنكار الأخباريين جريان الاستصحاب في الحكم بالإطلاق الأوّل

وعلى الإطلاق الأوّل جرى الأخباريّون ؛ حيث أنكروا اعتبار الاستصحاب في نفس أحكام الله تعالى ، وجعله الأسترابادي من أغلاط من تأخّر عن المفيد ، مع اعترافه باعتبار الاستصحاب في مثل طهارة الثوب ونجاسته (٣) وغيرهما ممّا شكّ فيه من الأحكام الجزئيّة لأجل الاشتباه في الامور الخارجيّة (٤).

وصرّح المحدّث الحرّ العاملي : بأنّ أخبار الاستصحاب لا تدلّ على اعتباره في نفس الحكم الشرعيّ ، وإنّما تدلّ على اعتباره في موضوعاته ومتعلّقاته (٥).

__________________

(١) القوانين ٢ : ٥٧.

(٢) في (ت) و (ر): «الكلّية».

(٣) الفوائد المدنيّة : ١٤٣.

(٤) الفوائد المدنيّة : ١٤٨.

(٥) الفوائد الطوسيّة : ٢٠٨ ، والفصول المهمّة في اصول الأئمّة : ٢٥٠.

٣٣

والأصل في ذلك عندهم : أنّ الشبهة في الحكم الكلّي لا مرجع فيها إلاّ الاحتياط دون البراءة أو الاستصحاب ؛ فإنّهما عندهم مختصّان بالشبهة في الموضوع.

وعلى الإطلاق الثاني جرى بعض آخر.

قال المحقّق الخوانساري في مسألة الاستنجاء بالأحجار :

تقسيم المحقّق الخوانساري الاستحصاب في الحكم بالإطلاق الثاني

وينقسم الاستصحاب إلى قسمين ، باعتبار [انقسام](١) الحكم المأخوذ فيه إلى شرعي وغيره. ومثّل للأوّل بنجاسة الثوب أو البدن ، وللثاني برطوبته ، ثمّ قال : ذهب بعضهم إلى حجّيته بقسميه ، وبعضهم إلى حجّية القسم الأوّل فقط (٢) ، انتهى.

إذا عرفت ما ذكرناه ، ظهر (٣) أنّ عدّ القول بالتفصيل بين الأحكام الشرعيّة والامور الخارجيّة قولين متعاكسين ليس على ما ينبغي ؛ لأنّ المراد بالحكم الشرعيّ :

إن كان هو الحكم الكلّي الذي أنكره الأخباريّون فليس هنا من يقول باعتبار الاستصحاب فيه ونفيه في غيره ؛ فإنّ ما حكاه المحقّق الخوانساري (٤) واستظهره السبزواري (٥) هو اعتباره في الحكم الشرعي بالإطلاق الثاني الذي هو أعمّ من الأوّل.

__________________

(١) ما بين المعقوفتين من المصدر.

(٢) مشارق الشموس : ٧٦.

(٣) هذا وجه ما ذكره من النظر في كلام المحقّق القمي ، المتقدّم في الصفحة السابقة.

(٤) مشارق الشموس : ٧٦.

(٥) ذخيرة المعاد : ١١٥ و ١١٦.

٣٤

وإن اريد بالحكم الشرعيّ الإطلاق الثاني الأعمّ ، فلم يقل أحد باعتباره في غير الحكم الشرعيّ وعدمه في الحكم الشرعيّ ؛ لأنّ الأخباريّين لا ينكرون الاستصحاب في الأحكام الجزئيّة.

الأقوى في حجّية الاستصحاب من حيث هذا التقسيم

ثمّ إنّ المحصّل من القول بالتفصيل بين القسمين المذكورين في هذا التقسيم ثلاثة :

الأوّل : اعتبار الاستصحاب في الحكم الشرعيّ مطلقا ـ جزئيّا كان كنجاسة الثوب ، أو كلّيا كنجاسة الماء المتغيّر بعد زوال التغيّر ـ وهو الظاهر ممّا حكاه المحقّق الخوانساري (١).

الثاني : اعتباره في ما عدا الحكم الشرعيّ الكلّي وإن كان حكما جزئيا ، وهو الذي حكاه في الرسالة الاستصحابيّة عن الأخباريّين (٢).

الثالث : اعتباره في الحكم الجزئيّ دون الكلّي ودون الامور الخارجيّة ، وهو الذي ربما يستظهر ممّا حكاه السيّد شارح الوافية عن المحقّق الخوانساري في حاشية له على قول الشهيد قدس‌سره في تحريم استعمال الماء النجس والمشتبه (٣).

الوجه الثالث :

المستصحب إمّا حكم تكليفي وإمّا حكم وضعي

من حيث إنّ المستصحب قد يكون حكما تكليفيّا ، وقد يكون

__________________

(١) تقدّم كلامه في الصفحة السابقة.

(٢) الرسائل الاصوليّة : ٤٢٥.

(٣) شرح الوافية (مخطوط) : ٣٣٩ ، ولكن لم نقف على هذه الحاشية في الموضع المذكور فيما عندنا من نسخة مشارق الشموس ، انظر المشارق : ٢٨١.

٣٥

وضعيّا شرعيّا (١) كالأسباب والشروط والموانع.

القول بالتفصيل بين التكليفي وغيره

وقد وقع الخلاف من هذه الجهة ، ففصّل صاحب الوافية بين التكليفيّ وغيره ، بالإنكار في الأوّل دون الثاني (٢).

وإنّما لم ندرج هذا التقسيم في التقسيم الثاني مع أنّه تقسيم لأحد قسميه ؛ لأنّ ظاهر كلام المفصّل المذكور وإن كان هو التفصيل بين الحكم التكليفيّ والوضعيّ ، إلاّ أنّ آخر كلامه ظاهر في إجراء الاستصحاب في نفس الأسباب والشروط والموانع ، دون السببيّة والشرطيّة والمانعيّة ، وسيتّضح ذلك عند نقل عبارته عند التعرّض لأدلّة الأقوال (٣).

__________________

(١) لم ترد «شرعيا» في (ت).

(٢) الوافية : ٢٠٢.

(٣) انظر الصفحة ١٢١ ـ ١٢٤.

٣٦

[تقسيم الاستصحاب باعتبار دليل المستصحب](١)

وأمّا بالاعتبار الثاني ، فمن وجوه أيضا :

أحدها :

دليل المستصحب إمّا الإجماع وإمّا غيره

من حيث إنّ الدليل المثبت للمستصحب إمّا أن يكون هو الإجماع ، وإمّا أن يكون غيره. وقد فصّل بين هذين القسمين الغزالي ، فأنكر الاستصحاب في الأوّل (٢). وربما يظهر من صاحب الحدائق ـ فيما حكي عنه في الدرر النجفيّة ـ أنّ محلّ النزاع في الاستصحاب منحصر في استصحاب حال الإجماع (٣). وسيأتي تفصيل ذلك عند نقل أدلّة الأقوال إن شاء الله.

الثاني :

المستصحب إمّا يثبت بالدليل العقلي وإمّا بالدليل الشرعي

من حيث إنّه قد يثبت بالدليل الشرعيّ ، وقد يثبت بالدليل العقليّ. ولم أجد من فصّل بينهما ، إلاّ أنّ في تحقّق الاستصحاب مع ثبوت الحكم بالدليل العقليّ ـ وهو الحكم العقليّ المتوصّل به إلى حكم شرعي ـ تأمّلا ؛ نظرا إلى أنّ الأحكام العقليّة كلّها مبيّنة مفصّلة من حيث مناط الحكم (٤) ، والشكّ في بقاء المستصحب وعدمه لا بدّ وأن

__________________

(١) العنوان منّا.

(٢) المستصفى ١ : ١٢٨.

(٣) الدرر النجفيّة : ٣٤.

(٤) في (ر) و (ص) زيادة : «الشرعي».

٣٧

الإشكال في الاستصحاب مع ثبوت الحكم بالدليل العقلي

يرجع إلى الشكّ في موضوع الحكم ؛ لأنّ الجهات المقتضية للحكم العقليّ بالحسن والقبح كلّها راجعة إلى قيود فعل المكلّف ، الذي هو الموضوع. فالشكّ في حكم العقل حتّى لأجل وجود الرافع لا يكون إلاّ للشكّ في موضوعه ، والموضوع لا بدّ أن يكون محرزا معلوم البقاء في الاستصحاب ، كما سيجيء (١).

ولا فرق فيما ذكرنا ، بين أن يكون الشكّ من جهة الشكّ في وجود الرافع ، وبين أن يكون لأجل الشكّ في استعداد الحكم ؛ لأنّ ارتفاع الحكم العقليّ لا يكون إلاّ بارتفاع موضوعه ، فيرجع الأمر بالأخرة إلى تبدّل العنوان ؛ ألا ترى أنّ العقل إذا حكم بقبح الصدق الضارّ ، فحكمه يرجع إلى أنّ الضارّ من حيث إنّه ضارّ حرام ، ومعلوم أنّ هذه القضيّة غير قابلة للاستصحاب عند الشكّ في الضرر مع العلم بتحقّقه سابقا ؛ لأنّ قولنا : «المضرّ قبيح» حكم دائميّ لا يحتمل ارتفاعه أبدا ، ولا ينفع في إثبات القبح عند الشكّ في بقاء الضرر.

ولا يجوز أن يقال : إنّ هذا الصدق كان قبيحا سابقا فيستصحب قبحه ؛ لأنّ الموضوع في حكم العقل بالقبح ليس هذا الصدق ، بل عنوان المضرّ ، والحكم له مقطوع البقاء ، وهذا بخلاف الأحكام الشرعيّة ؛ فإنّه قد يحكم الشارع على الصدق بكونه حراما ، ولا يعلم أنّ المناط الحقيقيّ (٢) فيه باق في زمان الشكّ أو مرتفع ـ إمّا من جهة جهل المناط أو من جهة الجهل ببقائه مع معرفته (٣) ـ فيستصحب الحكم الشرعيّ.

__________________

(١) انظر الصفحة ٢٩١.

(٢) لم ترد «الحقيقي» في (ظ).

(٣) لم ترد «إمّا من ـ إلى ـ معرفته» في (ت) ، (ر) و (ه).

٣٨

فإن قلت : على القول بكون الأحكام الشرعيّة تابعة للأحكام العقليّة ، فما هو مناط الحكم وموضوعه في الحكم العقليّ بقبح هذا الصدق فهو المناط والموضوع في حكم الشرع بحرمته ؛ إذ المفروض بقاعدة التطابق ، أنّ موضوع الحرمة ومناطها هو بعينه موضوع القبح ومناطه.

قلت : هذا مسلّم ، لكنّه مانع عن الفرق بين الحكم الشرعيّ والعقليّ من حيث الظنّ بالبقاء في الآن اللاحق ، لا من حيث جريان أخبار الاستصحاب وعدمه ؛ فإنّه تابع لتحقّق موضوع المستصحب ومعروضه بحكم العرف ، فإذا حكم الشارع بحرمة شيء في زمان ، وشكّ في الزمان الثاني ، ولم يعلم أنّ المناط الحقيقي واقعا ـ الذي هو المناط والموضوع (١) في حكم العقل ـ باق هنا أم لا ، فيصدق هنا أنّ الحكم الشرعيّ الثابت لما هو الموضوع له في الأدلّة الشرعيّة كان موجودا سابقا وشكّ في بقائه ، ويجري فيه أخبار الاستصحاب. نعم ، لو علم مناط هذا الحكم وموضوعه (٢) المعلّق عليه في حكم العقل لم يجر الاستصحاب ؛ لما ذكرنا من عدم إحراز الموضوع.

عدم جريان الاستصحاب في الأحكام العقليّة ولا في الأحكام الشرعيّة المستندة إليها

وممّا ذكرنا يظهر : أنّ الاستصحاب لا يجري في الأحكام العقليّة ، ولا في الأحكام الشرعيّة المستندة إليها ، سواء كانت وجوديّة أم عدميّة ، إذا كان العدم مستندا إلى القضيّة العقليّة ، كعدم وجوب الصلاة مع السورة على ناسيها ، فإنّه لا يجوز استصحابه بعد الالتفات ، كما صدر

__________________

(١) في (ه): «وعنوان الموضوع» ، وفي (ر) و (ص): «الذي هو عنوان الموضوع».

(٢) في (ر) و (ص) بدل «موضوعه» : «عنوانه».

٣٩

من بعض (١) من مال إلى الحكم بالإجزاء في هذه الصورة وأمثالها من موارد الأعذار العقليّة الرافعة للتكليف مع قيام مقتضيه.

وأمّا إذا لم يكن العدم مستندا إلى القضيّة العقليّة ، بل كان لعدم المقتضي وإن كان القضيّة العقليّة موجودة أيضا ، فلا بأس باستصحاب العدم المطلق بعد ارتفاع القضيّة العقليّة.

استصحاب حال العقل لا يستند إلى القضيّة العقليّة

ومن هذا الباب استصحاب حال العقل ، المراد به في اصطلاحهم استصحاب البراءة والنفي ، فالمراد استصحاب الحال التي يحكم العقل على طبقها ـ وهو عدم التكليف ـ لا الحال المستندة إلى العقل ، حتّى يقال : إنّ مقتضى ما تقدّم هو عدم جواز استصحاب عدم التكليف عند ارتفاع القضيّة العقليّة ، وهي قبح تكليف غير المميّز أو المعدوم.

وممّا ذكرنا ظهر أنّه لا وجه للاعتراض (٢) على القوم ـ في تخصيص استصحاب حال العقل باستصحاب النفي والبراءة ـ بأنّ الثابت بالعقل قد يكون (٣) عدميّا وقد يكون وجوديّا ، فلا وجه للتخصيص ؛ وذلك لما عرفت : من أنّ الحال المستند إلى العقل المنوط بالقضيّة العقليّة لا يجري فيه (٤) الاستصحاب وجوديّا كان أو عدميّا ، وما ذكره من الأمثلة يظهر الحال فيها ممّا تقدّم.

__________________

(١) لم نعثر عليه ، وقيل : إنّه المحقّق القمّي ، انظر أوثق الوسائل : ٤٤٥.

(٢) المعترض هو صاحب الفصول في الفصول : ٣٦٦.

(٣) في (ت) و (ه) زيادة : «أمرا».

(٤) في (ت) ، (ر) و (ص): «فيها».

٤٠